عهد بسكال وديكارت
ولم ينتهِ ذلك القرن حتى ظهر بسكال (١٦٢٣–١٦٦٢) وديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠)، ولم يكن ديكارت أديبًا ولا نقَّادًا ولا فنانًا ولا شاعرًا، بل كان عالمًا رياضيًّا طبيعيًّا، ولم يضع قاعدة للانتقاد الأدبي، ولكن فلسفته تسربت إلى الأدب. وكان مذهبه يقتضي التجرد من كل المعلومات السابقة والبناء من جديد، وكان بدأ بالشك في الوجود، ثم انتهى باليقين لقوله: «إنَّ آلة الشك هي الفكر، فالفكر إذن موجود والمفكر موجود. أنا أفكر إذن أنا موجود.» وخلاصة فلسفته التي تسربت إلى الأدب هي الاهتمام بالأفكار دون الصناعة اللفظية، فجعل للفكر المنزلة الأولى، وقال إنَّ الإتقان والإبداع هما في متانة الموضوع، وفي الأحوال العامة التي تولِّد في نفس القرَّاء أنواعًا من السرور والارتياح لما يقرءون.
وقد زج هذا المذهب بالأدب في مضايق الفلسفة، وجعل مأرب الأدب البحث عن الحقائق دون البحث عن مظاهر الجمال في القول، وعلى ذلك فلا يكون هناك فرق بين فنون الأدب والفلسفة ولا بين الشاعر والفيلسوف؛ لأن كلًّا منهما في المذهب الكارتيزي — نسبة إلى ديكارت — يقرر الحقائق، غير أنَّ أسلوب الفيلسوف يكون جافًّا، ويكون أسلوب الأديب هيِّنًا سهلًا. وكان يترتب على ذلك أن يكون الأدب المبني على مثل هذا المذهب الفلسفي المحض بعيدًا عن معاني الجمال القائم بالفنون وسبب شرفها ورفعة قدرها، وفي هذا — على حد قول لانسون مؤرخ آداب اللغة الفرنسوية — ما يلائم الأدعياء الذين لم يدركوا معنى الأدب وجمال البلاغة، ولم ينظروا إليهما إلا من حيث أنهما يعبران عن الحقائق، ولكن الذوق الأدبي في فرنسا كان قد هذبته الآداب القديمة، وصقلته يد الجمال الإغريقي العريق، فبقيت الآداب فنًّا من الفنون، ولم تتغلب طريقة ديكارت على الآداب كما ادعى مؤلف الشعر الجاهلي فتمحو مجدها التالد والطريف وهو الجمال في القول والحسن في التعبير، غير أنَّ هذا الذوق العريق في حب الجمال لم يمنع من مزج الحقيقة العلمية بالحقيقة الفنية، فسلك الباحثون عن الحقيقة سبيل الجمال، ولم يستطع مذهب ديكارت على خطورة شأنه أن يزعزع أركان الفنون، ولم يغيِّر من أثر الجمال والأدب، وأمست الآداب القديمة قانعة بالتوفيق بين الجمال وصنعة الكتابة وبين الآراء السليمة والحقائق القيمة، وصارت قاعدة الرواية أو الوصف أو المدح أو الغزل هي الصدق وعدم الخروج عن المعقول؛ لأن غاية الغايات في تحديد الجمال هي نظر العاقل إلى الطبيعة نظرة صدق، فتبيحه أسرارها، وتمنحه أنوارها، وبهذا النظر الصادق يمتاز الأفراد العقلاء والأفذاذ الراشدون عن العامة والدهماء.