الفصل الخامس

النقد الفرنسوي في العصر الحديث

على أنَّ الحركة العلمية لم تقف عند ديكارت وبسكال كما ادَّعى مؤلف الشعر الجاهلي؛ لأنه لا ثبات للعلم والأدب والفنون، فإنها جميعًا عرضة للتغيير والتحويل مع الخضوع لحالات الزمان والمكان، فقد نشأ بعدهما جيل من الفلاسفة والعلماء والأدباء والنقاد، رأوا أن يتعمقوا في النقد والبحث عن الأسباب التي حملت القاصَّ على وضع قصته أو الشاعر على نَظْمِ قصيدته وعن تاريخ وقوع حوادثها، فوجد علم التاريخ من فن النقد معينًا على التدقيق والتمحيص، فظهر الفيلسوف فيكتور كوزان سلف جول سيمون في تدريس الفلسفة في كوليج دي فرانس، فصرف بعض همه لنقد كتب الأدب المنثور والمنظوم، ومنها قطع راسين التمثيلية ومؤلفات باسكال في الأدب والحكمة، وقد تعمد أن يدقق في نقده تدقيقًا دونه تدقيق علماء الفيلولوجيا؛ أي البحث في أصول اللغات.

ثم خلفه سانت بيف أستاذ الناقدين في القرن التاسع عشر، وأعلاهم كعبًا، وأبعدهم غورًا (١٨٠٤–١٨٦٩)، فقد دفع بالنقد في طريق جديدة، وأخذ يبحث عن الصلة التي توجد حتمًا بين الكاتب وبين ثمرة فكره وصفاته النفسية والعقلية، فلم يكتفِ بالبحث عما في الألفاظ من المعاني، بل بحث في الكاتب والشاعر، وشرح مذاهبهما، واجتهد في تفهم أسرار خلقهما ومكنونات النفس والعقل والضمير، وكان رأيه أنه لا يوجد فن خارج عن النفس، وكل من يظن أنه يضع في كتابه شيئًا غير روحه فإنه في ضلال. وقد ذاق سانت بيف لذة الاستمتاع بكل حسن، والتأمل في كل سر، والتفهُّم لكل ما تكوَّن منه هذا التاريخ البشري العابس المتجلي في مظهر الجلال، فتحول فن النقد، وصار أداة تساعد العلم والتاريخ على كشف حقائق النفوس والعقول، بل صار النقد فصلًا من كتاب علم النفس، فتعلم الناس قراءة الأسرار في مواضع من الكتب، لا يدور في خلد الكاتب أن قد كشف عنها لجمهور قرائه.

ولما بلغ فن النقد إلى هذا الحد من الاستكشاف والاستنتاج، اتسعت دائرة الفكر البشري، ووصل سانت بيف إلى تقسيم العقول فصائل ومراتب، فمنها القوي والضعيف، ومنها العقل العلمي والعقل الخيالي، والصحيح والسقيم. ومذهب سانت بيف — كما يرى القارئ — من أصدق المذاهب وأصحها في النقد؛ فقد علم الإنسان كيف يقرأ ويفهم. على أنَّ هذا العالِم لم يرتبط بفكرة سابقة، ولم يتشيع لرأي ثابت، ولم يتعصب لعاطفة مما يستهوي الكتَّاب ويأسرهم على الرغم من حسن ظنهم بأنفسهم.

ومن جوامع كَلِمه: «إنَّ الإنسان في حاجة دائمة لتجديد معرفته وتهويتها وإنعاش ملاحظاته ونظره في الرجال ووصفهم وصفًا تامًّا ليقف على حقيقتهم، وإلا فقد استهدف للخطأ، وأوقع بغيره في مهاوي الغلط. وليس لإنسان أن يدَّعي العلم بالرجال علمًا لا مزيد عليه، فيقول: عرفت سائر أنواعهم، بل له أن يقول إنه يسعى في التعرف عليهم.» هذه خلاصة مذهب سانت بيف الانتقادية، ولا يجلوها لذهن القارئ شيء مثل مطالعة أحاديث أيام الاثنين التي كان يلقيها على جموع حاشدة من الطلاب والمتأدبين والمريدين.

وممن ظهروا في عهد سانت بيف ثلاثة من فحول العلماء، اتخذوا النقد العلمي من وسائل الدرس والبحث، وكانوا متعاصرين أندادًا، وهم: هيبوليت تين، وأوجست كونت، وأرنست رينان. وقد شاد هؤلاء الثلاثة مذهب الفلسفة الوضعية أو الإيجابية، وخلاصة هذا المذهب أنه لا توجد معلومات صحيحة بدون برهان علمي، وأنَّ كل شيء في الكون يمكن رده إلى علة علمية معقولة، وأنكروا ما وراء المادة؛ أي ما يؤمن به المرء بالغيب. وقد انتشر مذهب هؤلاء الثلاثة في سائر الأقطار، وكان له أثره الفعال في العلم والأدب والاجتماع والفلسفة إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. أما أساس مذهب تين في النقد فهو أنَّ لكل جنس من البشر خواص، وأنَّ لتلك الخواص أثرًا في حياة الأمة، واختلاف الأمم بعضها عن بعض بسبب اختلاف البيئات والأجناس، وأنَّ الفرد يتكون من ثلاثة عناصر أصلية: الجنس، والمحيط الطبيعي والاجتماعي، ثم الزمن الذي تكونت فيه حياته العقلية. ومذهب تين من أنفع الوسائل وأصلحها؛ لأنه يضطر الناقد لدرس أحوال الأمة التي نشأ فيها الكاتب والشاعر، ووصف وطنه، وتحليل عيشته والمدنية المحيطة به على النمط الذي أشرنا إليه عند درس الشعر الجاهلي، وقد يزيد تين ضرورة الانتقال للمكان بعينه أو «المعاينة القانونية»، ولا يستغرب مثل هذا الرأي، فإن رفيقه رينان لما عزم على تدوين «تاريخ بني إسرائيل» و«حياة يسوع» وأصول النصرانية، وغيرها من التآليف التي أحدثت ثورة عظيمة في الأفكار (١٨٢٣–١٨٩٢) حذق اللغات السامية، وشد رحاله في صحبة أخته العانس هنريت، وقضى عدة سنين متنقلًا بين الأماكن التي شهدت حوادث كتبه، وعاش فيها أبطال مؤلفاته، وكانت تتألق على كلامه ديباجة الأولين، تقرأ له ما لا يتناهى في الحلاوة والطلاوة، فإذا دنوت منها تدقق فيها لم تجد إلا السهولة التامة، إنما هي السهولة التي لا تدرك ولا تحدد، وكان رينان كما تشهد بذلك كتبه يحب الجمال، ويعتقد بسلطان العقل المبين، وقد أدار بكأس فصاحته من سلافة عصره على معاصريه شراب الحقائق الحسية مع شدة تمسكه بأحكام العقل — كما قدمنا — وكان كاتبًا سحَّارًا ومؤرخًا بلغ ما لم يبلغه غيره من الإحاطة، فانفرد بنظريات جريئة، وصار في وقته نسيجَ وحدِهِ. وقد حفظنا جميعًا عن ظهر قلب كثيرًا من فِقَر دعائه على الأكروبول الذي هو غاية الغايات في المؤاتاة والتناسب وحسن النسق.

أما رأي هيبوليت تين فهو أنَّ الحواس والإلهام — والمقصود به الإلهام العلمي والأدبي لا الوحي — هي وحدها وسائل الوصول إلى الحقيقة دون غيرها، وقد أدخل تين فنون الأدب في دائرة بحثه العلمي، وأراد أن يجعل الشعر والنثر والقصص نوعًا من التجارب العلمية ليصل بها إلى الحكم على الأفراد والجماعات فقال: «إنَّ الدماغ مكون لحفظ الحقائق، كما أنَّ البصر مسخر لإدراك المرئيات، وأنَّ اكتراث العقول لغير الحقائق بسبب إصابتها بالأدواء فتضطرب، ولا سلامة للعقل بغير إدراك الحقيقة والتمسك بها.» ولم تكن غاية تين قراءة الكتب لذاتها، بل لأنها وسيلة لمعرفة أحوال الأمم، وقد طبق تين طريقته فعلًا، فألف كتاب «تاريخ آداب اللغة الإنجليزية»، وفي هذا الكتاب أحكام صحيحة على الجنس السكسوني مستنبطة من بلاغة كُتَّابه وشعرائه.

أما أوغست كونت فقد حصر بحثه في تقسيم حياة الإنسانية إلى أدوار متعاقبة كالعصر الديني والعصر العلمي، وقسَّم العلوم ووضع أساسًا لنظام اجتماعي جديد بعد أن درس الجاهلية الإنسانية، أو العصور القدموس على الطريقة التي ابتدعها لنفسه.

هؤلاء الثلاثة هم مع من ذكرنا أكابر النقاد الذين طبقوا العلم على التاريخ، وأوجدوا الانتقاد العلمي الصحيح ومحصوا الحقائق، وقواعد الانتقاد مثبتة في تواليفهم، واضحة جلية جديرة بأن يُقتدى بها لتكون نبراسًا للباحثين.

وقد ظهر — غير من ذكرنا من نقاد فن الأدب — فيلمان ونيزار وشيرير وبرونتيير وجول لمتر وفاجيه وفرومنتان وسارسي وبول سوداي، وكلهم ينتسبون قليلًا أو كثيرًا إلى من ذكرنا، وأعظمهم برونتيير الذي كان مذهبه تطبيق مبدأ النشوء والارتقاء على فنون الأدب، وقد دعته تلك الغاية إلى قراءة كل مطبوع، فاشتغل بذلك حتى أنَّ النار شبَّت في بيته يومًا، فلما أخبروه وهو غارق في المطالعة قال لمخبره: «عليك بمدام برونتيير، فإن هذا الأمر ليس من اختصاصي.» وقد قضى عام ١٩٠٦، وعقبه جول لميتر المتوفى سنة ١٩١٤، وكان حر الفكر في بداية عهده، وكان ابتداء شهرته مقال جيد في مؤلفات رينان، ثم انقلب في عقيدته، وارتد خصمًا لدودًا لكل جديد، وموريس باريس وكان متعصبًا لجنسه ومعتقده وقومه وعدوًّا لكل غريب، وأولهما صاحب مذهب التأثر بالحواس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤