مذهب ديكارت على حقيقته
لقد كان لاسم ديكارت ومنهجه شأن يذكر في الجدل الذي قام بين المؤلف وبعض الأساتذة من الذين أُطْلِق عليهم اسم «أنصار القديم»، وصوَّب إليهم سهام نقده لقوله بأنهم جهلوا اسم ديكارت وفلسفته، واصطنع لهم قصة خرافية وضع فيها ديكارت موضع المتصوفين أرباب الكرامات القادرين على خوارق العادات بِسِرِّ شيوخهم، إلى آخر ما أنتج خياله ذو التربة الخصبة. على أنه لا يوجد عالِمٌ أو مفكرٌ يلوم مؤلفًا على طريق البحث التي ينتهجها، ولكن للناقد أن ينظر مليًّا في طريق البحث ليرى لون الضياء الذي تلقيه تلك الطريقة على ثمرة عمله، وهل هذه الطريقة واجبة التطبيق ومثمرة، أم هي اتُّبِعَت أو انتُحِلَت لمجرد القول بتطبيقها، مع أنها لم تطبق، أو أنها طُبِّقت في غير صواب؟!
وكان ديكارت يعتقد بذات واجب الوجود، وأنها المنبع الأول للحقيقة، ولكن شيطانًا شديد الخبث والخداع وشديد البطش أيضًا قد استعمل كل قوته وحذقه ودهائه للتمكن من خديعته — أي خديعة ديكارت نفسه — وهذه العبارة واردة بنصها في استهلال تأملات هذا الفيلسوف العجيب!
حقًّا لقد غالى المؤلف في السخرية من خصومه الذين وصفهم بأنصار القديم، ولكنه أحسن الإحسان كله من الوجهة الفنية الخيالية في تنسيق القصة الخرافية، التي جعل فيها ديكارت يُحمَل على قِدر من الفخار، ويطير في الجو، ويطعم من علبة من ذهب مرصعة يحملها له بربيش، وهو الطير الخادم لسر شيخه من بعده، وقد أخبرنا أحد أكابر الأدباء أنه يعتبر هذه القصة الخرافية أبلغ وألطف ما دبجته يراعة مؤلف الشعر الجاهلي منذ بدأ بالتحرير والتأليف إلى الآن. ولكن هل غاب عن ذهن المؤلف الذي أوحت إليه شخصية ديكارت هذه التحفة الفنية أنَّ ديكارت هذا كان شخصًا شاذًّا، وأنه كان يسمل عيون الحيوان، ويعذب صغارها بوخز الإبر تارة والخنق طورًا، فلما اعترضوا عليه، أجاب بأن الحيوانات ما هي إلا أدوات ميكانيكية لا تحس ولا تشعر بالألم، وقد جاء هذا بالتفصيل في عرض ترجمته وشرح فلسفته، تأليف المحقق باييه، طبع ليون في مجلدين، ومنه نسخة في دار الكتب المصرية.
وقد أثبتت مباحث جميع علماء الحيوان عكس ذلك، فدلل داروين في الجزء الثاني من كتاب تسلسل الإنسان أنَّ الحيوان يتألم ماديًّا ومعنويًّا، وأنَّ إحساس الألم لديه لا يقل عنه لدى الإنسان العاقل، غير أنَّ من الحيوان ما يعد أكثر مروءة وأطول أناة وصبرًا، وأفضل ظنًّا بمن يعذبه من بني آدم، فروى داروين قصة الكلب الذي شق مولاه قلبه حيًّا في سبيل تجربة علمية، والكلب لا يكف عن لعق اليد التي تمزق فؤاده، وقد أثبت علماء أمثال جون فابر تألم الحشرات وإحساسها، وأثبت عالم هندي تأثر النبات — جغادير بوز — أفلا يحق بعد هذا لخصوم ديكارت أو أنصار القديم، سواء أعلموا باسم ديكارت وفلسفته أم لم يعلموا، أن يشكُّوا هم أيضًا في صدق الطريقة التي ابتدعها رجل بدأ حياته العلمية برؤيا خيالية — كما أسلفنا — وختمها بإنكار الإحساس على كائنات حية مدركة ولو بعض الإدراك؟!