الفصل الثامن

كيف طبق المؤلف مذهب ديكارت؟

لقد ذكر مؤلف الشعر الجاهلي أنَّ نظريته في الشعر الجاهلي ليست سرًّا، وأنه شرحها لتلاميذه وأذاعها بينهم، وهم يزيدون على مائتين، غير حافل بسخط الساخط، ولا مكترث بازورار المُزوَرِّ، فهو إنما أراد بنشرها في كتاب توسيع دائرة الذيوع والانتشار غير مبالٍ بالسخط والازورار. ومن الطبيعي أن يُدْهَش القارئ الخالي الذهن من تقديم فكرة السخط والازورار في بحث علمي محض خاص بتاريخ الشعر الجاهلي؛ لأن هذا البحث إذا كان يرمي إلى جلاء أمور غامضة، أو حل لغز من ألغاز الأدب القديم، فلا يمكن أن يهيج سخطًا، أو يسبب ازورارًا، لا سيما أنَّ المؤلف قد وضع نفسه على رأس المجددين، ونحن من أنصار كل جديد يوافق العقل والحقيقة، وأعداء كل قديم حاكت عليه السخافة نسيجًا من الأكاذيب والخرافات الملفقة، ونحب الثورة الأدبية التي تنتج النور، وتؤدي إلى سعادة الأفراد والجماعات، ولكنا لا نعرف أنَّ أنصار الجديد الذين وضع المؤلف نفسه على رأسهم ليعلن حربًا على أنصار القديم، ينطبق عليهم قول المؤلف في ص٦: «وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرونه يقينًا، وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه.» فهل يُفْهَم من هذه العبارة أنَّ الشَّكَّ والجحودَ صفتان اتخذناهما — نحن أنصار الجديد — لمجرد إجماع الناس على أنَّ بعض المسائل حق لا شك فيه؟

لقد أعطى مؤلف الشعر الجاهلي على نفسه عهدًا في صحيفة ٧ فقال: «ولأحدثك بما أحب أحدثك به في صراحة وأمانة وصدق.» وقد وددنا أن يفي المؤلف بهذا الوعد في جميع ما كتب، فكان أول ما لقينا من وفائه لهذا العهد قوله ص٦: «لست أتمدح بأني أحب أن أتعرض للأذى، وربما كان الحق أني أحب الحياة الهادئة المطمئنة، وأريد أن أتذوق العيش في دعة ورضًى.» فهذه فلسفة أبيقور قد ظهر بها مؤلف الشعر الجاهلي في وصف نفسه في صراحة وأمانة وصدق، فإن المفهوم من هذه النبذة هو أنَّ اللذة ينبغي أن تكون هدف الإنسان من هذه الدنيا. وليسمح لنا مؤلف الشعر الجاهلي أن نطبق ولو قليلًا بعض مبادئ أئمة الإفرنج على ما جاء في كتابه، فإنَّ نقادًا مثل سانت بيف يستبين من هذه الجملة أنَّ صاحبها لا يحب أن يتعرض للأذى؛ أي إنه يتَّقي مواطن الضرر والخطر ما أمكنه، وأنه يريد التمتع على مهل بالعيش في دعة ورضى، والمقصود بالعيش طيبات العيشة الراضية، وعلى الرغم من أنَّ أبيقور كتب إلى منيسي يقول: «إننا عندما نقول إنَّ سعادة الحياة ينبغي أن تكون مرمى همة المرء، لا نريد بهذه السعادة لذة البدن، كما يظن بعض من لم يفهموا طريقتنا.» فالشائع عن مذهب أبيقور هو متابعة اللذة أينما كانت، وعدم الامتناع عنها إلا إذا خيف من الإفراط فيها الوقوع في الحرمان منها. لأجل هذا ترى مؤلف الشعر الجاهلي في ص٧ يحسب حسابًا لحفيظة قوم إذا هاجم شيئًا عزيزًا عليهم لظنه أنه «يجد مقاومة الأفراد، ثم الجماعات، ثم مقاومة الدولة نفسها تمثلها النيابة والقضاء؛ ذلك لأنه يهاجم أشياء ممثلة في مصر …» إلى آخر ما جاء في تلك الصحيفة. إذن ما هي تلك الحقائق الخطيرة التي وصل المؤلف إليها ويخشى أن يلقى في سبيلها ما يلقى مما قد يجرح أبيقوريته العزيزة عليه؟

الجواب بسيط وصريح في صحيفة ٨: «إنَّ الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي مُنتحَلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم (ص٧) … وإنَّ ما تقرؤه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء في شيء، وإنما هو انتحال الرواة … أو اختراع المفسرين والمحدِّثين والمتكلمين.»

هذا هو الفرض أو النظرية التي طرحها المؤلف على جمهور قراء العربية بعد أن طرحها على جمهور طلابه، وهذه هي النظرية التي انتهج لها طريقة ديكارت، والتي وعد أن يشرحها ويؤيدها ويثبتها بصراحة وصدق وأمانة، وهي ذاتها التي حاطها قبل الهجوم على العلم بإثباتها بالمعوذة الآتية في ص١٠: «وأنا أعترف منذ الآن بأن هذا البحث عسير كل العسر، وبأني أشك شكًّا شديدًا في أنه قد ينتهي بنا إلى نتيجة مرضية، ومع ذلك فسنحاوله.»

وقد آلينا على نفسنا أن نتمشى مع المؤلف في بحثه جامعين بين فصاحة القرائح الفطرية، ودقة المباحث العلمية، والقسط كل القسط في هذه المسألة أن نعض بالنواجذ على مبادئ الحق والصدق والعلم الصحيح من جهة المحافظة على لغتنا وآدابها، فإنَّ في خزائن التأليف العربي ثمرة بيانية من شعر ونثر لا يزال الشرق والغرب ينفقان منها إلى يومنا هذا، ولا يوجد في العالم أمة ترضى بأن تكون آدابها فوضى بلا نصاب ترجع إليه، ولسانها خليطيًّا يضم كل ما وقع عليه.

ولا جناح علينا إذا شرحنا طريقة المؤلف على حقيقتها، فمن العادة أنَّ المرء لا يعرف نفسه ونحن لا نعيب عليه شكه، فإنه إذا كان ثمة شك، فإن الشك لا يتمشى إلا مع التمسك المتين بالعادات والاصطلاحات، إنما المتشككون هم الذين يجمعون بين الآداب والواجبات الوطنية، ولن نسلك في سبيل النقد سوى سبيل التسامح، فإن التسامح والتساهل وحرمة المرء لنفسه وغيره، هي من الفضائل التي تحيا بها الأفراد والجماعات، ولن نتخذ عن مؤلف الشعر الجاهلي تلك الحرارة والشدة اللتين ظهرتا منه على اعتقاد أنَّ محو الشعر الجاهلي من الآداب العربية هو نصرة العلم والفكر الناضج، وعندنا أنَّ مؤلف الشعر الجاهلي قد يرى أنَّ التقدم في الغلو ضروري لمقابلة التأخر بالتلو، ولا يمكن أن يكون اعتقد بحقيق هاتيك المزاعم، وإنما اتخذ نظرية انتحال الشعر الجاهلي وحمله واسطة للتعديل والموازنة، فإن هذا المؤلف سريع الانفعال قريب الانطباع، يتلقى الشيء وضده، وإذا عنَّت له فكرة لم تذهب بدون أن تجذبه إلى ناحية في أثناء طريقه، فإنه تارة يؤمن بشيء، وتارة يزرع الشك حواليه. وكنا نود أنَّ يكون مؤلف الشعر الجاهلي من الذين لا تعتريهم إلا شكوك المفكرين الذين لا ينزلون إلا على حكم العقل، وهو الشك الأصولي، ولكنَّ لله في خلقه شئونًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤