الفصل الأول

منهج البحث اللغوي

يظهر لقارئ الكتاب أنَّ المؤلف قد استنفد مجهوده مذ ختم الفصل الثالث الخاص بمرآة الحياة الجاهلية، وأنَّ إملاء الصحف الأولى قد استنزف كل ما كان مدخرًا في خزائنه من مناهج وبراهين ومقابلات ومناقضات. وكان الإملاء في الفصول الأولى هينًا عليه؛ لأنها فاتحة البحث، وتشمل مسائل عامة يسهل فيها الأخذ والرد، ويستطاع التمويه والتعمية في ثناياها. ولكن مذ طرق المؤلف بحث اللغة في الفصل الرابع وهو من أجلِّ الأبحاث شأنًا وأكبرها خطورة بالنسبة لموضوع الكتاب، بل إنه مركز دائرة البحث، فقد ظهر خور المؤلف وضعف طريقته العقيمة التي تتبنى ولا تلد، واضمحلال بنيته العلمية واضطراب النسق التاريخي فيما وضع، فأضل الحجة وجهل بموضع الشبهة فتابع على غير نظر.

وكنا نحسب أنَّ هذا المؤلف الذي طنطن بآرائه في المقدمة والفصول الأولى يعلم كثيرًا أو قليلًا من علم اللغات «فيلولوجيا»، وأنَّ لديه القول الفصل والأدلة الحاسمة والحجج الدامغة التي لا تُدحض والبراهين الناهضة التي لا تُنقض، وأنه عثر على عجائب ومعجزات لغوية تؤيد رأيه أو أنه على الأقل درس آراء العلماء الذين أتقنوا هذا العلم، فألم بها واستفادها واستشهد بما شاء مما ورد عنهم في هذا الباب. والقارئ معذور في مثل هذا الوهم؛ لأن التهويل والتضخيم والتفخيم والإيهام التي ساقها المؤلف في البداية خليقة أن يصحبها حسن ظن القارئ بصاحبها، وبما سوف يكتبه في الوسط والنهاية. ولكن ما لبث القارئ أن عض بنان الندم وقذف بدلوه فارغًا بعد أن ألقاه في هذه البئر الخربة، ولا ينفرد القارئ المدرك المتميز بشعور الحسرة إذ تجلت له تلك الحقيقة المرة بفقر المؤلف اللغوي وفاقته العلمية، بل إفلاسه الفني، إنما الطالب المبتدئ والمتأدب الوسط لا محالة يشعران بخيبة الأمل، إذ يقلبان أجفانهما الكليلة في تلك الصفحات القاحلة الجدباء المقفرة من كل ما يغذي النفس أو يلذ لها. وإليك أقوال المؤلف في ذلك الفصل من صفحة ٢٤ إلى صفحة ٣٠، قال: «فهذا الشعر — يقصد الشعر الجاهلي — بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه.

نريد باللغة العربية معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم حين نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه، نريد بها الألفاظ من حيث هي تدل على معانيها تستعمل حقيقة مرة ومجازًا مرة أخرى، وتتطور تطورًا ملائمًا لمقتضيات الحياة التي يحياها أصحاب هذه اللغة.

الرأي الذي اتفق عليه الرواة فهو أنَّ العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز. وهم متفقون على أنَّ القحطانية عرب منذ خلقهم الله فُطِروا على العربية، فهم العاربة، وعلى أنَّ العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابًا. كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية، ثم تعلموا لغة العرب العاربة، فمحت لغتهم الأولى من صدورهم، وثبتت فيها هذه اللغة المستعارة.

إنَّ هناك خلافًا قويًّا بين لغة حمير وهي العرب العاربة، ولغة عدنان وهي العرب المستعربة، وقد رُوِي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا.

وفي الحق أنَّ البحث الحديث قد أثبت خلافًا جوهريًّا بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذه البلاد.

إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العاربة، فكيف بعُدَ ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العاربة واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة.

وإذن فنستطيع أن نقول إنَّ الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية، واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية في اليمن، إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة.

إننا نجد بين الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئًا كثيرًا من الشعر الجاهلي قومًا ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة، ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضاف إلى شعراء هذه القحطانية في الجاهلية لا نجد فرقًا قليلًا ولا كثيرًا بينه وبين شعر العدنانية. إنَّ هذا الشعر الذي يضاف إلى القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء، لم يقله شعراؤها، وإنما حُمِل عليهم لأسباب مختلفة.»

تتلخص هذه النبذ في أنَّ الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة العربية في عصره المزعوم؛ لأن الاختلاف بين القحطانية والعدنانية خليق بأن يظهر في الشعر المنسوب إلى شعراء من قحطان، ولكن الشعر المذكور لا يختلف عن شعر العدنانية في شيء، فهذا دليل على أنه ليس من القحطانية في شيء وإنما حمل عليها لأسباب مختلفة، ويستنتج من هذا أنَّ المؤلف لو أنه وجد شعرًا جاهليًّا منسوبًا إلى شاعر قحطاني بلغة قحطان التي يدعي وجودها بهذا الوصف لعدل عن هذا الرأي، وهذا القول يوهم أنه كانت هناك لغة اسمها اللغة القحطانية، وأنه نشأ شعراء قالوا الشعر بهذه اللغة، وأنَّ الذين اختلقوا بعض الشعر الجاهلي ونسبوه إلى شعراء من قحطان غفلوا عن هذه الحقيقة الشديدة الخطورة وهي اختلاف اللغتين، ولم ينتبهوا إليها ولا مرة واحدة، ولم يستكشف أحد من العلماء والنقاد العرب والإفرنج ولا علماء المشرقيات المتبحرون في آداب اللغة هذا الدليل المهول قبل هذا المؤلف، وقد قصر المؤلف تطبيق نظريته، وهي أنَّ الشعر العربي لا يمثل اللغة في عصره المزعوم على فرض وجود «الشعر القحطاني» الخيالي، ولم يقل لنا إن كان الشعر العربي العدناني يمثل اللغة العربية العدنانية في زمنه أم لا يمثلها، كذلك لم يقل لنا مقدار الشعر الجاهلي القحطاني الخيالي بالنسبة إلى الشعر الجاهلي العدناني، ولم يذكر لنا أيضًا هل دلته أبحاثه اللغوية على أنه كان هناك شعراء قحطانيون حقيقيون قالوا شعرًا عربيًّا قحطانيًّا قل أو كثر، أم أنه لم يوجد شعراء قحطانيون أصليون بتاتًا، ولم يدلنا كيف علم أنَّ الشعر قد قيل في وقت من الأوقات من شعراء قحطانيين بلغة تخالف لغة عدنان، وهل كانت لغتا قحطان وعدنان متعاصرتين مستقلتين يتكلم بهما الناس في مكانين مختلفين، أم أنَّ إحداهما كانت بمثابة إحدى درجات التكوين والنمو بالنسبة للأخرى.

وثابت من النبذ التي اقتبسناها أنَّ المؤلف اعتمد على آراء الرواة في أنَّ العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية وعدنانية، وأنه روى عن أحد الرواة أنه كان يقول: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا، وأن البحث الحديث أثبت خلافًا جوهريًّا بين اللغتين — العدنانية والقحطانية — هذه المسائل الثلاث مستفادة مما اقتبسنا من تأليفه، فكيف استباح لنفسه أن يأخذ برأي الرواة بعد أن قال عن حماد الراوية وخلف الأحمر في باب الرواة وانتحال الشعر في صحف ١١٩ و١٢١ و١٢٣ ما يلي: كان كلا الرجلين مسرفًا على نفسه ليس له حظ من دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار، كان كلا الرجلين سكيرًا فاسقًا مستهترًا بالخمر والفسق، وكان كلا الرجلين صاحب شك ودعابة ومجون. والعجب لمن يروي عن حماد، كان يكسر ويلحن ويكذب (ص١٢١). وأما خلف فكلام الناس في كذبه كثير، وأبو عمرو الشيباني كان يأجر نفسه للقبائل يجمع لكل واحدة شعرًا يضيفه إلى شعرائها. إذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا … والعجب أنَّ رواة لم تفسد مروءتهم قد كذبوا أيضًا، فأبو عمرو بن العلاء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتًا:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت
من الحوادث إلا الشيب والصلعا

وأنَّ أبا عمرو بن العلاء والأصمعي كانا يرحلان إلى رواة الأعراب في البادية، فأخذ هؤلاء الأعراب يكذبون وأسرفوا في الكذب (فيما كانوا يروونه لرواة الأمصار أمثال أبي عمرو بن العلاء والأصمعي) حتى أحس الرواة أنفسهم بذلك — أي بكذب رواة البادية — ص١٢٣. فإذا كان الأمر على هذا النحو فهل تظن أنَّ من الحزم والفطنة أن نقبل ما يقول القدماء في غير نقد ولا تحقيق؟

نقول: فإذا كانت هذه هي أخلاق الرواة وصفاتهم وجهلهم وكذبهم وفساد مروءتهم في رأي المؤلف، فكيف يرضى بعد ذلك أن ينقل عنهم رأيًا في أصول اللغة العربية، وكيف يقبل هذا الرأي ويبني عليه نتائج؟ إذا كان المؤلف قد نجح في زعزعة ثقة القارئ في هؤلاء الرواة بحيث أصبحوا في نظره غير أهل لأن يسند إليهم قول أو تؤخذ عنهم حجة، فكيف استبقى المؤلف هذه الثقة في الرواة لنفسه؟ وهل يمكن الاحتجاج للمؤلف بأن هؤلاء الرواة يصدقون عامًا ويكذبون عامًا، أو يقولون الحق في أصول اللغات ويقولون الباطل في الشعر والتاريخ والأخبار؟ أم يقال إنَّ مؤلف الشعر الجاهلي كاتب مطلق من كل قيد معتق من كل عقيدة، يختار الشخص فيصوِّبه أو يخطِّئه حسب غايته ولساعته بدون نظر إلى الماضي أو المستقبل، ولعل المؤلف يعتمد على صغر أحلام الطلاب، وقد خفي عليه أنَّ في مصر وفي الجامعة نفسها شبابًا ريانًا من الاطلاع والصبر وميعة الشباب علينا له حقوق، أو أنه يعول على ضعف ذاكرة الكهول والشيوخ من قرائه، فإذا كتب في أصول اللغة ما شاء في صفحة ٢٤ فهم بلا ريب ينسون ما كتب إذا بلغوا ص١٢٢، ولعله المقصود بالوصف الوارد في ص٢٠ من كتاب رينان لبعض كتاب العرب، قال: «لا شغل له إلا ترويج الفكرة التي صادها على أطراف بنانه، فلا يملك أن يهيئ تركيب ما يتعاقب من الجمل، ولا تطاوعه ذاكرته مطلقًا في الجمع بين السابق واللاحق من أفكاره، فيتربى في خلقه السهو والغفلة، وهما ثمرة العجز عن تتبع فكرة بعينها، ونتيجة لازمة للعلة التي أصابته، فلا يرجع أبدًا أدراجه لتصحيح ما كتب، وهذا هو الذي حدا النحاة إلى وضع باب قائم بنفسه اسمه باب «بدل الغلط».» ا.ﻫ. كلام رينان.

فهل وضع باب «بدل الغلط» إكرامًا لمؤلف الشعر الجاهلي؟ إن كان الأمر كذلك فقد أحسن الانتفاع به، ولم يقصر تمتعه به على الألفاظ، بل جعله يتعدى إلى الحوادث المادية والمقاصد المعنوية، فإن هذا المؤلف بدأ الباب بإثبات نظرية معينة وهي «أنَّ مختلقي الشعر الجاهلي نظموا شعرًا بلغة عدنان ونسبوه إلى شعراء من قحطان»، وانتهى بنتيجة غريبة جدًّا لا علاقة بينها وبين هذا الموضوع ولا ينتظرها القارئ، وهي «أنَّ العدناني لم يتعلم من القحطاني، وإلا فكيف حصل فرق بين اللغتين أثبته العلماء؟» فهو أخذ بتعلم العدناني من القحطاني وأيده طالما كان هذا الرأي مفيدًا له في إثبات اختلاف اللغتين في زعمه، ثم عاد فأنكر هذا القول؛ لأنه لو صح لصحت أيضًا نظرية العرب العاربة والمستعربة، ولصح أيضًا أنَّ إسماعيل تعلم العربية من جرهم الثانية، ولصح الحديث الذي يتخذه العلماء أساسًا لهذه النظرية، وهو أنَّ أول من تكلم بالعربية ونسي لغة أبيه إسماعيل بن إبراهيم، والمؤلف يريد — لحاجة في نفسه لم يقضها ولن يقضيها — أن يدخل هذا الحديث عن إبراهيم وإسماعيل وهجرتهما إلى مكة في حيز الخرافات والأساطير، فهل قرأ أو سمع أحد في الشرق أو في الغرب تأليفًا كهذا ينقلب فيه الحق باطلًا والباطل حقًّا في طرفة عين؟

ولا يلبث القارئ أن يأخذ بصره بعبارة موصوفة بالصدق حتى تقع عينه عليها موصومة بالكذب والانتقال من حال إلى حال، ومن لون إلى لون طفرة وفي غير تحذير ولا تنبيه ولا حياء، كأن هذا المؤلف يكتب لأطفال لم يشبُّوا عن الطوق، أو لجهَّال لم تفتح أعينهم على أحرف الهجاء بعد، فهل هذه هي المكانة التي وضع فيها مائتين من طلاب الجامعة في العام الماضي، حيث يقول في ص١: «فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة وليس سرًّا ما تتحدث به إلى أكثر من مائتين»؟

ثم كيف يستبيح المؤلف لنفسه أن يظهر أمامنا بمظهر المستند إلى آراء العلماء، وهو الذي قال من قبل: «إنَّ القاعدة الأساسية لمنهج ديكارت هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوًّا تامًّا» ص١١؟ وها هو يستشهد بآراء العلماء فيقول في صفحة ٢٥: «ولكن الرواة متفقون على شيء أثبته البحث الحديث»، ثم يقول: «وفي الحق أنَّ البحث الحديث قد أثبت خلافًا جوهريًّا» ص٢٥. «والتي أثبت البحث الحديث أن لها لغة أخرى» ص٢٩.

فها أنت أيها الكاتب الكارتيزي تفلت من القاعدة الأساسية التي دونتها، وقيدت نفسك بها في ص١١، ولم تستمسك بها، وذكرت البحث الحديث في ثلاثة مواضع من ثلاث صفحات. ويا ليتك خالفت قاعدتك وانتهكت حرمة مبدأ أستاذك ديكارت في كرامة ووقار، فذكرت لنا مصدر علمك بالبحث الحديث، وما هي الكتب التي قرأتها أو قرئت لك، أو العلماء الذين تلقيت عنهم، أو المجلات التي قلبت صفحاتها فضلًا عن الأحجار التي استنطقتها أو الحفائر التي اشتركت في نبشها، فكنا نلتمس لك العذر في طلاق مذهبك الفلسفي في سبيل دليل علمي غلبك على أمرك، ولكن يا ويلتا! فقد نزلت إلى صفوف الكتَّاب الآدميين الذين يعيشون على سطح هذه الكرة الأرضية ولا يتغذون من خبز عجنته الملائكة بماء الكبرياء، ولا يكتبون بيراع مداده من شراب «نقطار» الذي تسكر به أرباب يونان البائدة على رأس جبل أولمب، فلماذا كان هذا الترفع الكاذب عن علوم البشر ومعارفهم، ولماذا إذن كان هذا الوعيد بالتجرد من كل شيء كنت تعلمه من قبل؟ وها أنت مفتقر إلى الاستدلال بعبارة مبتذلة مبهمة لم تستطع أن تردها إلى أصل معروف، ولم تقدر على ذكر مرجع واحد يؤيدك أمامنا في صحتها. حقًّا إنَّ هذا المؤلف فريد في نوعه وإنه لعبقري من صنف جديد، لا يتدلى إلى منطق الناس وأسباب تصورهم؛ لأن له قياسه وتقديره وله منطقه وتفكيره وله أسلوبه وتدبيره، وأظهر صفاته في هذا الباب أنه لا يحفل بما يسمونه «الواقع والحقيقة» كثيرًا ولا قليلًا، فحسبه أن يشتهي الأمر فيقدره واقعًا سواء أكان الأمر ممكنًا أم في حيز المحال، ومثله من تخيل ثم خال!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤