الفصل الحادي عشر

نضج اللغة العربية المضرية وفضل قريش بالفصاحة

ومهما يكن من تاريخ اللغة العربية القديم فقد عرفناها قبل المبعث ناضجة، فدوَّنَها العلماء كما دونوا أمثلة من الخلافات التي تفرعت عنها في بعض القبائل على ما شرحناه بالإسهاب في الكلام على اللغة، وبالقياس على ما نشاهده اليوم من تعدد لغات — لهجات — المتكلمين بالعربية في الشام والعراق ومصر والمغرب، وما بينها من الاختلاف لفظًا وتركيبًا، مع أن الأصل واحد فيها جميعًا وهو لغة مضر. كانت لغات بعض تلك القبائل تختلف عن بعضها باختلاف طبائعها ومساكنها، ولم يرتَبْ أحد من العلماء بأصول اللغات أو المشرقيات في أنَّ لسان العدنانيين هو «المبين» وهو الباقي إلى الآن، ومنه لغة الكتاب المنزل على أفصح العرب، وقد تغلب على سائر الألسنة، وانتشر مع المدنية العربية في الأرض، ولا جدال في أنَّ اللسان المبين كان يتكلمه أربابه وهم قبائل عديدة، وبينها فروق في معاني الألفاظ ونطقها، وفي بعض الأساليب والتراكيب؛ ولهذا كثرت المترادفات في اللغة العربية إلى ما لا نظير له في لغة أخرى. ولو طال الأمد على هذه الاختلافات وتكاثرها، ولم تقم وسائل التهذيب والتنقيح اللغوي في الأسواق مثل عكاظ؛ لباتت لغة العرب لغات لا يتفاهم أصحابها، وانفصلت كلٌّ منها عن الأخرى انفصال العربية عن شقيقتيها الساميتين العبرانية والسريانية.

فلما عظم شأن الأسواق لا سيما العكاظية، وأخذ الشعراء يؤمونها من أطراف البلاد يتناشدون فيها ويتنافسون، كان معظم همهم انتقاء الألفاظ الفصيحة المشهورة عند أكثر القبائل طمعًا في كثرة المعجبين بشعرهم، فاشتركت الألفاظ وعمت التعابير المألوفة بين الجميع، فاتقت اللغة شر التفرق، وأمنت ألفاظها من التبعثر بين شتيت القبائل، وقد كان ذلك شأن العرب في اختيار الفصيح من الكلام في نظائر عكاظ في الجاهلية ومربد البصرة في الإسلام. فلا ريب في أنَّ لعكاظ ونظائرها فضلًا في تمحيص ألفاظ اللغة، وأنَّ لغة الأعراب في البادية ومنطوق سائر العرب في حواضرهم ما زالا يتراوحان بين الصعود والهبوط والتقارب والتباعد حتى هذبهما شعراء عكاظ.

وإذ كانت عكاظ بين نخلة والطائف في الحجاز ولقريش الحجاز منزلة لا تعادلها منزلة بين العرب ولهم سدانة الكعبة، كان الشعراء الوافدون من اليمن وبادية الشام وهضاب نجد وبُرَق تهامة وسائر أطراف البلاد العربية يتشبهون جهدهم بلغة قريش المضرية، وكانت إذ ذاك اللغة المعول عليها بين أكثر قبائل الحجاز ونجد، فقويت وما لبثت أن فازت بالغلبة في منظوم الشعراء، ثم جاء الكتاب المنزل على أفصح العرب، فأحكمها ذلك الإحكام الذي يدهش له الأعجمي فضلًا عن العربي، وهجر ما سواها من لغات ولهجات سائر القبائل في النثر والشعر، إلا بقية من الأصول النحوية والاصطلاحات. وغَنِيٌّ عن البيان أنه كانت لقريش قدم في الشعر في الجاهلية دون أن تكون لهم فيه مقامات عالية، ولم يرتفع شعراؤهم بطبقتهم إلى طبقة نوابغ الشعراء من سائر القبائل؛ لأن العرب كانت تقر لهم بالتقدم في كل شيء إلا الشعر، ولم تكن قلة الشعر في قريش لقلة مواهبهم، أو لضعف في خيالهم، أو لعجز في قدرتهم على التعبير عما تكنه جوانحهم، ويختلج في أفئدتهم، إنما ترجع قلة الشعر في تلك القبيلة المختارة المتميزة لقلة بواعثه النفسانية، التي لا تكثر إلا في الحروب الطاحنة والمعارك الدامية والثارات الحامية، ويؤيد رأينا هذا ما رواه المرزوقي في مقدمة شرح المفضليات قال: «حدثت عن علي بن مهدي الكسروي، وكان منقطعًا إلى آل المنجم أنه قال: كان بالطايف شعر ورواة وليس بالكثير، وإنما كثر الشعر في الحروب الثائرة بين الأحياء، كما كان بين الأوس والخزرج، وفي الوقايع والمفاوز التي ترددوا فيها؛ ولذلك قل شعر قريش؛ لأنه لم يكن بينهم ثائرة.»

انتهى المنقول عن ص٦ من مقدمة شرح أشعار الهذليين طبع لندن سنة ١٨٥٤، وقد عني بنشره بالعربية الأستاذ جون جودفراي كوزجارتن.

بل إنَّ لغة قريش صارت في شعر المخضرمين والمولدين أنقى منها في الشعر الجاهلي؛ إذ قل الخليط فيها من سائر لغات العرب، وهكذا صارت لغة جميع كتاب العربية من عرب وأعاجم، ولا عبرة بما طرأ عليها من الخلل والانحطاط وزوال الأعراب بين عامة المتكلمين بها، فإن الفساد يتطرق بمرور الزمان إلى كل لسان، وحَسْبُ العربية مزية على سائر اللغات الحية أنه ليس بينهن لغة غيرها حفظت أصول شعرها وكتابتها منذ سبعة عشر قرنًا، وبقيت واحدة في جميع أطراف الأرض بين العرب وغير العرب والمسلمين وغير المسلمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤