لهجات القبائل في الشعر الجاهلي
ومع هذا فإن بعض هذه اللهجات التي يلتمسها المؤلف في الشعر الجاهلي لتكون دليلًا على صدق الشعر وصحة نسبته قد وجدت في القليل منه، سنذكرها له لنسد في وجهه باب المناقشة، وهذه الأبيات التي نستشهد بها تهدم قول المؤلف بأنه لم يجد أثرًا للهجات القبائل في الشعر الجاهلي ص٣٣: «كل شيء في هذه المطولات يدل على أنَّ اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرًا ما.»
وقوله: «وكيف لم تُحدِث هذه اللهجات المتباينة آثارها؟» ص٣٥ من كتابه.
فهذه الأمثال التي نوردها تتمشى مع المؤلف إلى أبعد مدى، وتقضي على البقية الباقية من تردده، إن كان حسن النية يقصد إلى الهدى دون العناد والمكابرة.
قال امرؤ القيس في مطولته أو معلقته المشهورة:
والغبيط بلغة طيء مركب من مراكب النساء، ويقال لمركب الرجل والمرأة جميعًا، وهو أصلًا المكان المطمئن بين الربوتين. وقال أيضًا:
من علٍ: من فوق، وفيه ثلاث لغات: من علو، ومن علا، ومن علي بالرفع والنصب والجر، والكل بمعنى عالٍ. قال الشاعر ص٤٤ من الجمهرة:
وقد أطلقوا كلمة «لغة» ذاتها على المعنى، فيقال في شرح هذا البيت:
والصرة فيها ثلاث لغات: (١) الجماعة. (٢) الصيحة. (٣) الشدة. ويقصد بلغات هنا ثلاث معانٍ.
وقد ترد كلمة «بعد» بمعنى «عن» كما جاء في قول النابغة: «لآل الجلاح كابرًا بعد كابر»، يقصد كابرًا عن كابر. وأنشد أبو زيد الأنصاري لرجل من طيء:
فقوله «ذو سمعت به» يريد «الذي سمعت به»، وكذلك تفعل طيء تجعل «ذو» في معنى «الذي». قال زيد الخيل لبني فزارة، وذكر عامر بن الطفيل فقال: «إني أرى في عامر ذو ترون.» وقال عارق الطائي:
يريد «الذي» فذو هذه لغة في الذي أو لهجة ظاهرة خاصة بطيء، وقد وردت — كما أسلفنا — في شعر بعض شعرائها، وهذا يهدم قول المؤلف من أنه لم يجد أثرًا للهجات القبائل في الشعر الجاهلي. جاء في ص١٣٨ ج٢ من الكامل للمبرد: من ظرفاء المحدثين اليمانية من يعمل هذا (يذكر ذو بمعنى الذي) اعتمادًا لإيثار لغة قومه، قال الحسن بن هانئ الحكمي:
وقال النابغة:
فلم يوجد لفظ كابر في معنى كبير إلا في هذا المكان، وقد بيَّن بذكر لفظ «بعد» أنَّ «عن» في قوله «كابر عن كابر» بمعنى بعد.
وتجيء «أمة» لغةً في الدين، قال النابغة الذبياني في اعتذاره لزوج المتجردة:
وإذا أراد المؤلف الوقوف على هذه اللهجات فليرجع إلى ما كتبه ابن جني والخليل وسيبويه، وقد ضرب هذا الأخير مثلًا بإدغام الهاء في الحاء في قول الشاعر:
يريد «ومسحه»، وكان بنو تميم يقولون «محم» يريدون «معهم»، وقولهم «هشيءٌ» في «هل شيء»، و«هتعين» في «هل تعين»، وقد وردت الكلمتان في الشعر، ومن لهجاتهم أنهم يستجيزون في الشعر جمع الميم والنون في القوافي لاجتماعهما في الغنة كقول الراجز:
«ينطقها أني». وكانت تميم وقيس تحققان الهمزة، وقريش ومعظم أهل الحجاز يخففونها.
ومن لغاتهم (لهجاتهم) أنَّ بعضهم يبدل الألف في أفعى وحبلى ياءً، فيقول أفعي وحبلي، وبعضهم يبدلها واوًا فيقول أفعو وحبلو، وروى سيبويه حبلاء يريدون حبلى، ورجلاء يريدون رجلًا.
ومن الشعر الوارد بلهجات العرب — غير ما ذكرنا — ما جاء بلغة فقيم دارم، حيث يبدلون الياء جيمًا، قال الشاعر:
أي «أبو علي» و«العشي». وفي لغة طيء على ما رواه ابن السكيت من أنهم يبدلون الهمزة في بعض المواضع هاءً، قال شاعرهم:
أي «لأنك»، وفي لغة هذيل (لهجتهم) يقلبون ألف المقصور عند الإضافة إلى ياء المتكلم ياءً، ثم يدغمونها توصلًا إلى كسر ما قبل الياء، قال شاعرهم:
يقصدون «هواي». روى المبرد في الكامل أنَّ بني سعد بن زيد مناة ولخم يبدلون الحاء هاءً، فيقولون مدهته (مدحته)، قال رؤبة: «لله در الغانيات المده» أي المدح.
وجاءت لغات في بعض الكلمات، فإن تميمًا من أهل نجد يقولون «نهي» للغدير وغيرهم «نهو»، وبعض الكلابيين يقولون «الدواء» بكسر الدال وبعضهم يفتحها.
والحجازيون يقولون «لعمري»، وتميم تقول «رعملي» أو «رعمري».
وجاءَت «متى» في لغة هذيل بمعنى «من»، قال شاعرهم:
وفي لغة هذيل يعربون «الذين» إعراب جمع المذكر السالم، قال شاعرهم:
وقال أمية بن أسكر الكناني:
وبعضهم يبدل أواخر بعض الكلمات المجرورة ياءً، كقولهم في الثعالب والأرانب ثعالي وأراني، قال النمر بن تولب اليشكري — من المخضرمين:
وروى الخليل لغة أو لهجة تميمية قبيحة، وهي أنهم يقولون: أفلطني في أفلتني.