الفصل الثاني

الأمة العربية وشعوبها وقبائلها وأنسابها

ينتسب العرب إلى أسرة الأمم الكبرى التي انحدرت من سام بن نوح، فأطلق المؤرخون عليهم وصف الساميين، نسبة لجدهم الأعلى. فالعرب أحد أسباط الأسرة السامية التي تشمل البابليين والآشوريين والسبئِيِّين والآراميين والأنباط والأحباش، وقد اعتمد العالم أيشهورن المتوفى سنة ١٨٢٧ هذا التقسيم وأقره وحشر هذه الشعوب كلها في زمرة واحدة. وقرر العالم نولدكه في كتاب «اللغات السامية» المطبوع في ليبزيج سنة ١٨٨٧ نسبتها من حيث تاريخ آدابها على النظام الآتي:
  • (١)

    اللغة البابلية والآشورية ذاعت وانتشرت من القرن الثلاثين إلى القرن الخامس قبل سيدنا يسوع المسيح.

  • (٢)

    اللغة العبرية ظهرت في القرن الخامس عشر قبل المسيح، واستمرت إلى يومنا هذا.

  • (٣)

    العربية الحميرية أو لغة قوم حمير وجدت منها نقوش وآثار يرجع تاريخها إلى القرن الثامن للمسيح.

  • (٤)

    الفينيقية ترجع نقوشها إلى القرن السابع قبل المسيح.

  • (٥)

    الحبشية من أواسط القرن الرابع قبل سيدنا يسوع إلى وقتنا هذا.

  • (٦)

    العربية المحضة أو العدنانية الحجازية أو الفصحى الإسماعيلية، وهي لغة الشعر والنثر الجاهليين ولغة الكتاب المنزل على أفصح العرب من القرن الخامس قبل المسيح إلى وقتنا هذا.

فيظهر من هذا البيان أنَّ العربية المحضة هي أحدث اللغات السامية عهدًا وأقربها ظهورًا وإثباتًا بالكتابة، وأنَّ عصر التدوين فيها سابق للمبعث بمائة عام تقريبًا، ولا يخفى على من له إلمام بعلم أصول اللغات أنَّ اللغة لا تُدوَّن إلا بعد قرون عدة من التكلم بها وتهذيبها وصقلها بالألسن، كذلك تمضي قرون كثيرة بين ظهور اللغة في شكلها الأول وبين إعدادها أداة للشعر الموزون المهذب.

وعلى الرغم من تلاشي معظم أسباط الأسرة السامية التي لم تترك سوى آثار ضئيلة مرتاب في أكثرها، فإن الشعب العربي قد خلَّف ميراثًا معنويًّا أدبيًّا يمكِّن الباحث من درس أدوار تقدمه جميعًا. وقد أجمع المؤرخون في الشرق والغرب على أنَّ أعراب الشمال تسلسلوا من عدنان أحد أحفاد إسماعيل، وأنَّ عرب الجنوب انحدروا من قحطان، وأنَّ فرع قحطان كان أسبق إلى الوجود، وأنَّ قبائل الجنوب امتزجت بقبائل الشمال، وأنَّ أنساب العرب التي حفظها شيوخهم ورووها صادقة لا تحريف فيها ولا تحوير، وقد أيدتها النصوص المكتوبة والمنقولة.

وعمدتنا في هذا البحث من الفرنسويين رينان، ومن الألمان نولدكه في ص١٧٧ ج٤٠ من المجلة الهولندية لتاريخ الشرق، ونيكلسون ص٢٠ وما بعدها من كتابه السابق ذكره، وروبرتسون سميث الإنجليزي في كتابيه تاريخ الديانات السامية والقرابة والمصاهرة في الجاهلية، ولسنا مفتقرين إلى القول بأن هؤلاء العلماء في مجموعهم أدعى إلى الثقة والتقدير من مؤلف الشعر الجاهلي؛ لسعة علمهم وحِدَّة ذكائهم وخلوِّهم من الغرض الذي يعمي ويصم.

اجتمعت كلمة المؤرخين على أنَّ العرب أُمَّتان أو طبقتان: أمة بادت وتلاشت وتسمى العرب البائدة أو العاربة، وأمة بقيت وتسمى العرب الباقية. فالأمة البائدة هم العرب الذين بادوا ودرست آثارهم وانقطعت تفاصيل أخبارهم إلا القليل، والمشهور منهم قبيلة عاد، وكانت منازلهم بالأحقاف بين اليمن وعمان، من البحرين إلى حضرموت والشحر، وقبيلة ثمود وكانت منازلهم بالحجر ووادي القرى بين الحجاز والشام، وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال، وقبيلة العمالقة تفرقت منهم أمم في البلاد، فكان منهم في عمان والبحرين والحجاز والعراق والجزيرة والشام ومصر، وقبيلة طسم وكانت منازلهم الأحقاف باليمن، وجاء في كتاب العِبَر أنَّ ديارهم كانت اليمامة، وجديس وكانوا جيران طسم، وعبد ضخم وكانوا يسكنون الطائف، وقبيلة جُرهم الأولى وكانوا معاصرين لعاد فبادوا ولم تعرف لهم مساكن، ومَديَن وكانت ديارهم ديار عاد وأرض معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز.

أما العرب الباقية فهم أولاد قحطان، ويطلق عليهم وصف العرب الأصيلة، وهذه العرب الباقية أو الأصيلة تفرعت أُمَّتين؛ الأولى: العرب المتعربة، وقد انتقلت إليهم صفات العرب القديمة، وهم السبئِيُّون والحميريون. والثانية: العرب المستعربة وهم عرب الشمال أو الإسماعيلية أو العدنانية الذين استفادوا اللغة من عرب الجنوب، فأهل الجنوب من بني قحطان ورثوا أمة بائدة، وأهل الشمال تعلموا اللغة من أمة حية ترزق. وهذه العرب الباقية «الأصيلة» هم أبناء قحطان وهم السبئيون والحميريون، وهم جميعًا يمنيون وقد سبقهم المعينيون أو عمالقة العراق، أما عرب الشمال «الدخلاء» الذين انحدروا من إسماعيل فقد نقلوا الأخلاق والخصال واللغة عن عرب الجنوب بمصاهرة إسماعيل لقبيلة جُرهم الثانية اليمنية التي نزحت من الجنوب إلى الشمال، وهي غير جُرهم الأولى إحدى قبائل العرب البائدة. وهؤلاء العرب الشماليون أو الإسماعيليون هم العدنانيون أو المعديون أهل الحجاز وأهل اللغة الفصحى، ومظهر المدنية العربية من القرن السابع لسيدنا يسوع المسيح إلى وقتنا هذا. أما أهل الجنوب من ولد قحطان، فقد بادت دولهم وانطوت صحفهم قبل المبعث بأجيال ومن بقي منهم اندمج في عرب الشمال، وسنتكلم عن بعض القبائل البائدة عند نقض نظرية المؤلف الخاصة بهم في موضعها، كذلك عرب الشمال أو الإسماعيليون لم يَحِنْ وقت الكلام عليهم، وبحثنا الآن لا يتعدى العرب القحطانية، وقحطان هو المذكور في الكتب المقدسة باسم يقطان على ما صححه رينان (حاشية عدد ٢ ص٣٠٤ تاريخ اللغات السامية)، وليس قحطان أو يقطان شخصًا خياليًّا من صنع الأساطير أو «خرافات الشعوب» Folklore، وليس مخترعًا لتعليل اسم القبائل، إنما هو في نظر البحث التاريخي كالنبي هود والحكيم لقمان وغيرهما ممن ورد ذكرهم في كتاب الإكليل واحترمت قبورهم في جنوب جزيرة العرب (ص٧ من كتاب القرابة والمصاهرة في الجاهلية). ولم يكن قحطان أبا عرب الجنوب حقًّا إنما هو جدهم، أما أبوهم فهو يعرب بن قحطان المذكور في كتاب بني إسرائيل المقدس باسم «يارح». قال حسان بن ثابت:
تعلمتم من منطق الشيخ يعرب
أبينا فصرتم معربين ذوي نفر
وكنتم قديمًا ما بكم غير عجمة
كلام وكنتم كالبهائم في القفر

وقد استوفى ابن قتيبة البحث في هذا الموضوع (ص١٨ طبع وستنفلد)، وساعدت الآثار المنقوشة والمحفورة التي خلفتها أمة الجنوب في درس تاريخها. أما العرب البائدة فلم يُعثر لمعظمها على أثر منقوش أو محفور منذ بدأ التنقيب في بلاد العرب، ولكن عدم العثور على آثار للأمم البائدة ليس دليلًا على أنها لم ترد سجل التاريخ، كما يزعم مؤلف الشعر الجاهلي عن عاد وثمود، ومن العنت أن يجزم من كان مثله في مسائل تاريخية لا يزال باب البحث والتنقيب فيها مفتوحًا، فإن العلم والتاريخ في حركة دائمة مستمرة لا يمكن وقفها (الفصل السابع عشر).

فهذه العرب الباقية أعقابهم على تعاقب الزمان هم عرب اليمن أو بنو قحطان والمشهور منهم شعبان: الشعب الأول جرهم الثانية، وهم أولاد جرهم بن قحطان، وكانت منازلهم أولًا اليمن ثم انتقلوا إلى الحجاز، فنزلوه وأقاموا به، واتصلوا بإسماعيل، وعلموه رمايتهم ولغتهم، وزوجوه من بناتهم. والشعب الثاني يَعرُب وهم بنو يعرب بن قحطان، وهو أصل عرب اليمن ومرجع المشهور فيه إلى قبيلتين:

الأولى حمير وكانت بلادهم مشارف اليمن فظفار وما حولها، ولحمير بقايا موجودون إلى الآن، ومنهم غالب قبائل قضاعة، ومنهم غالب قبائل حمير، وكان قضاعة مالكًا لبلاد الشحر وقبره موجود بجبل الشحر، ولقضاعة بقايا إلى الآن ينسب إليهم، وإليهم ينسب القضاعي المصري صاحب كتاب الشهاب في المواعظ والآداب في الحديث وخطط مصر وغيرهما، وذهب بعض النسابة إلى أنَّ قضاعة من العدنانية، ولكن ظهر خطؤهم، وثبت أنَّ قضاعة إلى حمير واليمن ينتسبون؛ لأن قضاعة لما تفرقت ذهب فريق منها فأنشأ دولًا في العراق والشام، ونزلت تنوخ البحرين، ثم رحلت إلى الحيرة، وأنشئوا هناك دولة متحضرة، ومن تنوخ قوم رحلوا إلى الشام، فعينهم الروم ولاة على بادية العرب ومشارف الشام، وقبيلة تنوخ مزيج من قبيلتي الأزد وقضاعة، وإلى قضاعة ينسب كثير من اللغات الشاذة في العربية.

وقد حقق هذه المسألة البحاثة روبرتسون سميث في كتاب «القرابة والمصاهرة في الجاهلية» في عدة صفحات من كتابه (٦ و٨ و١٣٣ و١٨٢ و٢٨٣)، وانقسمت قضاعة إلى سبعة أحياء، ومنهم بقايا بالحجاز وببلاد الصعيد من الديار المصرية، واشتهر منهم كثيرون مثل حارثة الكلبي مولى صاحب الشريعة، ومنهم جماعة من الصحابة مثل المقداد بن الأسود، ومنهم بنو نهد، وإليهم كتب صاحب الشريعة كتابه المشهور.

القبيلة الثانية من القحطانية كهلان، وكانوا متداولين الملك باليمن مع بني حمير وانفرد بنو حمير بالملك، وبقيت بطون كهلان على كثرتها تحت ملكهم، ثم تقاصر ملك حمير وبقيت الرياسة على العرب بالبادية لبني كهلان، والمشهور من بني كهلان أحد عشر حيًّا منها الأزد، وهم من أعظم الأحياء وأكثرهم بطونًا، ومن بطون الأزد غسان الذين كان لهم ملك العرب بالشام، وآخرهم جبلة بن الأيهم (ص٣١٩ ج١ صبح الأعشى للقلقشندي).

ومن أحياء بني كهلان طيء، وإليهم يُنسب حاتم الطائي المشهور بالكرم وأبو تمام الطائي الشاعر المشهور، وكانت منازلهم باليمن، فخرجوا منها على أثر خروج الأزد عند تفرقهم بسيل العرم، فنزلوا بنجد والحجاز، ومنهم زيد الخيل، ومنهم بحتر، ومنهم أبو عبادة البحتري الشاعر الإسلامي المشهور، ومن الحي الثالث من كهلان زبيد، ومن زبيد عمرو بن معدي كرب، ومنها النخع وإليهم ينسب إبراهيم النخعي الإمام الكبير المشهور، ومن أحياء بني كهلان كندة ومنهم الأشعث بن قيس الصحابي المشهور والقاضي شريح قاضي علي بن أبي طالب، ومن أحياء بني كهلان بطن بجيلة، وإلى بجيلة هذه يُنسب جرير بن عبد الله البجلي صاحب أفصح العرب، ومن أحياء بني كهلان لخم وكان للمفاوزة من اللخميين ملك بالحيرة من بلاد العراق، ثم كان لبني عباد بالأندلس ملك بإشبيلية، وذكر القضاعي أنهم حضروا فتح مصر.

أما أنساب العرب فقد ردَّها أئمة المؤرخين والنسابين إلى ست طبقات: الأولى الشعب، وهو النسب الأبعد كعدنان، والثانية القبيلة، وهي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر، والثالثة العمارة، ما انقسم فيه أنساب القبيلة كقريش، والرابعة البطن، وهو ما انقسم فيه أنساب العمارة كبني مخزوم، والخامسة الفخذ، ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم، والسادسة الفصيلة، ما انقسم فيه أنساب الفخذ كبني العباس، وربما عبَّروا عن كلٍّ من الطبقات الست بالحي، إما بالعموم مثل أن يقال حي من العرب، وإما على الخصوص مثل أن يقال حي من بني فلان، ومن قواعد النسب أنه إذا اشتمل النسب على طبقتين فأكثر جاز لمن في الدرجة الأخيرة من النسب أن يُنسب إلى الجميع، فيقال في واحد من بني هاشم الهاشمي والقرشي والمضري والعدناني، وقد ينضم الرجل إلى غير قبيلته بالحلف والموالاة فينسب إليهم، وإذا كان الرجل من قبيلة ثم دخل في قبيلة أخرى جاز أن ينسب إلى قبيلته الأولى، وأن ينسب إلى القبيلة الثانية التي دخل فيها، وأن ينسب إليهما جميعًا مثل أن يقال التميمي ثم الوائلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤