مزايا العربية واتساع نطاقها وبحث لغات الجنوب
يقول المؤلف في استهلال بحثه: «إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم، حين نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه، نريد بها الألفاظ من حيث هي ألفاظ تدل على معانيها، تستعمل حقيقة مرة ومجازًا مرة أخرى، وتتطور تطورًا ملائمًا لمقتضيات الحياة التي يحياها أصحاب هذه اللغة.»
وقد جعلنا بحثنا ضمن هذه الدائرة؛ لأننا لا نلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا نحتج إلا بالصدق، ولا نطلب الفلج إلا بالحق، ولا نستعين بالخلابة، ولا نستعمل المؤاربة، فنقول لمؤلف الشعر الجاهلي: إنَّ اللغة مرآة أحوال الأمة وصورة تمدنها ورسم مجتمعها وتمثال أخلاقها وملكاتها، وسجل ما لها من علوم وصناعات وآداب، وإنما تضع منها على قدر ما تقتضيه حاجاتها في الخطاب وما يتمثل في خواطرها ويقع تحت حسها من المعاني، وبديهي أنَّ اللغة لم توضع دفعة واحدة، وإنما كان يوضع منها الشيء بعد الشيء على قدر ما تدعو إليه حاجة المتكلمين بها، وقد اختصت هذه اللغة بمزايا عزَّ أن توجد في غيرها، وهي أنَّ أكثر ألفاظها مأخوذة بالاشتقاق اللفظي أو المعنوي بحيث صارت إلى ما صارت إليه من الاتساع الذي لا تكاد تضاهيها فيه لغة على كونها من أقل اللغات أوضاعًا إلا أنها من أكثرهن صيغًا وأبنية، وهو السر في قبولها هذا الاتساع العجيب فضلًا عما فيها من تشعب طرق المجاز، ومعلوم أنَّ اللغة التي نقصدها في هذه النبذة هي اللغة العربية في الجاهلية، فإن العرب واضعي هذه اللغة كانوا قومًا أهل بادية: بيوتهم الشعر والأديم، ومفرشهم الباري والبلاس، ولباسهم الكساء والرداء، وأثاثهم الرحى والقدر، وآنيتهم القَعْبُ والجفنة، فإذا اعتبر المؤلف ما ذكرناه من ذلك بالرجوع إلى ما كانت عليه اللغة في زمن الجاهلية وصدر الإسلام ومقابلتها بما بلغت إليه على عهد الخلفاء من بني العباس بعد سكون الغارات، بحيث خرج بها الكتاب والشعراء والعلماء من حال الخشونة البدوية إلى أبعد مذاهب المدنية الشائعة لعهدهم ذاك، لم يكادوا يدخلون فيها لفظًا أعجميًّا، ولا اضطروا فيها إلى وضع جديد، ولكنها خدمتهم بنفس أوضاعها التي وضعتها العرب فاشتقوا منها ما لا عهد به للعرب على وجهه الذي نقلوه إليه ولم تتكلم به أصلًا حتى أحاطوا بصناعة الفرس وعلوم اليونان، واللغة مشايعة لهم في كل ما أخذوا فيه لم تنضب مواردها دونهم، فأخطأ من قال إنَّ اللغة العربية ضيقة العطن لا تطيق علمًا حديثًا، ولا أدبًا طريفًا، وإنها تجد في صدرها حرجًا من كل دخيل.
أما من حيث الحقيقة والمجاز فإن علماء اللغة أجازوا استعمال الكلم في غير ما وضعت له متى وجدت مناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى المراد وقامت قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي، وحصروا تلك المناسبات بالاستقراء وسموها علاقات مثل المشابهة والسببية والمسببية والكلية والجزئية وغيرها، ولكن هذا الجزء من البحث داخل في التنقيح الرابع الذي مرت به اللغة العربية، وهو اختيار علماء البصرة والكوفة ألفاظ اللغة من القبائل الست وسيأتي الكلام عليه، ومن البديهي أنَّ الزمن الذي قيل فيه الشعر الجاهلي هو زمن التنقيح الثالث، ولم تبلغ اللغة درجة استعمال الكلم في غير ما وضِعَتْ له إلا في عصر الأمويين والعباسيين.