الشعر الجاهلي واللهجات العربية
اللهجة لفظ يقصد به اللسان، وامتد معناه إلى لغة الإنسان التي جُبِل عليها وتعودها، فقيل: فلان فصيح اللهجة، وصادق اللهجة. ولم تنصرف — إلا في النَّدرَى — في اللغة العربية إلى المعنى الذي أراده مؤلف الشعر الجاهلي في الفصل الخامس «الشعر الجاهلي واللهجات» كقوله ص٣٢: «إنَّ قبائل عدنان لم تكن متفقة في اللهجة»، وقوله في الصفحة ذاتها: «لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لهجتها»، وقوله ص٣٣: «تعددت اللهجات وتباينت تباينًا كثيرًا»، فهذه الكلمة لم تستعمل في المعنى الذي أراده إلا قليلًا، وكان العرب يقولون «لغة» كقولهم السكين لغة في المدية، واللغة أصلًا الألفاظ الموضوعة للمعاني، والأصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وتنصرف إلى الكلام المصطلح عليه بين كل قبيلة.
وتفسير «اللغات» أو «اللهجات» عند العرب هو أنها الشواذ والنوادر، واختلاف المعاني للكلمة الواحدة باختلاف المتكلمين بها، وقد أَلَمَّ السيوطي في المزهر بهذا البحث، وألَّف فيه أيضًا حسين بن مهذب المصري كتاب السبب في حصر لغات العرب، وأتى فيه على اللغات أو اللهجات من نحو المصنوع والضعيف والمتروك والحوشي.
والذي يعنينا في هذا الباب قول «كان من المعقول جدًّا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل، ولكننا لا نرى شيئًا من هذا في الشعر العربي الجاهلي، وإنَّ اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرًا ما» ص٣٢-٣٣، فقد جعل المؤلف هذا الفصل صورة مصغرة من بحث اللغة. ومثلما ادعى وجود لغة قحطانية واحدة وشعر قحطاني، واستنتج بالباطل انتحال الشعر العربي العدناني المنسوب إلى شعراء قحطانيين، كذلك يفرض في هذا الباب وجود اختلاف جوهري في اللغات التي عبر عنها باللهجات باختلاف القبائل، ويحتم ظهور صور هذا الاختلاف في الشعر الجاهلي المنسوب إلى القبائل، فإن لم يحمل هذا الشعر أدران تلك الخلافات اللفظية، فهو إذن شعر مختلق، ولا بد أن يكون هذا الشعر «قد وُضع وضعًا وحُمِل على أصحابه حملًا بعد الإسلام، أما أنا فلا أكاد أشك الآن في هذا» ص٤١، وسنأتيه بالدليل القاطع على خطئِه.