المقارنة بين العرب واليونان والرومان
تعليل انتحال الشعر الجاهلي ووقوع المؤلف في خطأ كبير مقصود.
قال المؤلف في فاتحة هذا البحث: «فقد قُدِّر لهاتين الأمتين — الأمة اليونانية والأمة الرومانية — في العصور القديمة مثل ما قُدِّر للأمة العربية في العصور الوسطى، كلتاهما تحضرت بعد بداوة، وكلتاهما خضعت في حياتها الداخلية لهذه الصروف السياسية المختلفة، وكلتاهما انتهت إلى نوع من التكوين السياسي، دفعها إلى أن تتجاوز موطنها الخاص، وتغير على البلاد المجاورة، وتبسط سلطانها على الأرض، وكذلك كان شأن هذه الأمة العربية؛ تحضرت كما تحضر اليونان والرومان بعد بداوة، وتأثرت كما تأثر اليونان بصروف سياسية مختلفة، وانتهى بها تكوينها السياسي إلى مثل ما انتهى التكوين السياسي لليونان والرومان إليه من تجاوز الحدود الطبيعية وبسط السلطان على الأرض، وتركت كما ترك اليونان والرومان للإنسانية تراثًا قيمًا خالدًا فيه أدب وعلم ودين، وليس من العجب في شيء أن تكون العوارض التي عرضت لحياة العرب على اختلاف فروعها مشبهة للعوارض التي عرضت لحياة اليونان والرومان» ص٤٣ من كتاب «في الشعر الجاهلي».
رأي المؤلف في هذه النبذة ظاهر صريح لا يعوزه تفسير، ولا يخرجه عن المعنى الذي يقصد إليه تأويل أو تعليل، فقد رأى لدى اليونان والرومان أمورًا تتم بها المشابهة التامة بينهم هي: (١) التحضر بعد البداوة. (٢) الخضوع في الحياة الداخلية لصروف سياسية مختلفة. (٣) الانتهاء إلى نوع من التكوين السياسي دفع بكل أمة منهما — اليونان والرومان — إلى أن تتجاوز موطنها الخاص، وتغير على البلاد المجاورة، وتبسط سلطانها على الأرض.
فلما حدَّثته نفسه أنه أحكم سرد شروط المشابهة بين أمتي اليونان والرومان، انتقل في اطمئنان إلى المقارنة بينهما مجتمعتين وبين الأمة العربية فقال إنَّ الأمة العربية تحضرت بعد بداوة، وتأثرت بصروف سياسية مختلفة، ثم انتهى بها تكوينها السياسي إلى تجاوز الحدود وبسط السلطان، وزاد على تلك الأوجه من المشابهة أنَّ الأمة العربية تركت — كما ترك اليونان والرومان — أدبًا وعلمًا ودينًا.
- (١) الإسلام في الشرق والغرب تأليف Muller 2 vols, Berlin, 1887.
- (٢) تاريخ العرب العام تأليف Sédillot 2 vols, Paris, 1877.
- (٣) حياة محمد وتعليمه وروح الإسلام Syed Ameer Ali, London, 1891.
- (٤) الدولة العربية تأليف Wellhausen, Berlin, 1902.
- (٥) تاريخ الأندلس وآدابها تأليف Dozy 2 vols, Leyden, 1881.
ولا نزيد عليها شيئًا، ونسأل المؤلف الذي تقلب في مقاعد التدريس من التاريخ القديم إلى آداب اللغة العربية، أن يتقدم إلى القراء لتأييد رأيه بفصل واحد من مئات الفصول التي عقدها مؤلفو هذه الكتب، ونسأله كيف كتب هذه النبذة التي تنقصها المعرفة الضيقة والعلم القليل، وتدحضها بديهة التاريخ القديم والحديث، هل يكفي في عرفك أن يكون لأمتين أو ثلاث بداوة فحضارة ففتوحات حتى تتشابه تشابهًا تامًّا؟ على رسلك أيها الكاتب المُغرِب! فإنَّ هذا القول يجعل صاحبه في صف من يدعي المشابهة بين سقراط وقحطان ويوليوس قيصر؛ لأن كلًّا منهم وُلِدَ وعاش ومات، وكان له رجلان ووجه وصدر ويدان، حقًّا إنهم يتشابهون من حيث هم أفراد من نوع واحد، ولكن ما أعظم البون بينهم من حيث تكوين الجسم والعقل والفؤاد، ومن حيث الشباب والجمال، والنبل والمحاسن والمكاره والمقاصد والمدارك، لم تخدع — أيها المؤلف — أحدًا، إنما نفسك وأنصارك خدعت، أيفوتك أنَّ المؤرخين وعلماء الاجتماع وضعوا قواعد معينة للمقارنة بين الأمم، فحصرها بعضهم في خمسة أركان: (١) طبيعة الإقليم. (٢) جنس الأمة. (٣) فترة الزمان التي استغرقتها أطوار الأمة. (٤) العقائد الفطرية. (٥) أثر الأمة في التاريخ. وهذا سينيوبوس نفسه لم يخرج عن هذه القواعد، ولم يَحِدْ عنها فريق العلماء الإنجليز الذين ألفوا الكتاب الجامع في تاريخ العالم وهم: ولز وباركر وجونستون ولانكستر وموراي (لندن ونيويورك سنة ١٩٢٠). لسنا في مجال تدوين التاريخ ولا شرح نظريات فلسفته التي صارت فنًّا قائمًا بذاته، ألَّفَ فيه هيجيل الألماني، وماكس نورداو النمسوي، ورينان الفرنسوي وعشرات غيرهم من الأوروبيين. ولا يجوز لنا أن نفرضَ أنَّ المؤلفَ الذي نصَّب نفسه لتدريس تاريخ الأمم السالفة فآداب اللغة العربية وما يتصل بها من تاريخ قديم ووسط وحديث يجهل بعض تلك النظريات، أو أنه لم يلم بها، فنضطر — والأسف ملء جوانحنا — للتصريح بأنه قصد التغرير بالقراء ظنًّا منه أنَّ التمويه يصرف القارئ عن التدقيق.
يختلف اليونان والرومان عن العرب بطبيعة بلادهم ومحيطهم الأرضي اختلافًا عظيمًا، فبلاد اليونان جبلية بحرية، واختلاف المناظر التي تقع عليها أبصارهم من برٍّ وبحر وجزر وخُلُج مما لا يحصيه عدد، كذلك الرومان يكاد وطنهم يكون جزيرة ضخمة ممتدة لوسط البحر الأبيض، وقد جملتها الطبيعة بالجبال والبراكين والأنهار والأحراش والخُلُج. أما العرب فأكثر بلادهم صحارٍ وفيافٍ يشبه بعضها بعضًا، واليونان والرومان من الجنس الأري أو الهندي الأوروبي، والعرب من الجنس السامي، واليونان والرومان قامت مدنيتاهم على عبادة الكائنات الدنيا والأجرام والأسلاف، ولم تكن لهم شريعة ربانية، فلما بلغتهم رسالة دين منزل أخذوا في الانحطاط، وما زالوا كذلك حتى هلكوا. ولم يبق من اليونان والرومان الأقدمين نافخ نار ولا عازف قيثار، فمدنيتهم كانت إحدى ثمار عقائدهم الخرافية، التي تمثلها المثيولوجيا مما لا أثر له أو لمثله في عقائد العرب وآدابهم، فلما تلاشت تلك العقائد ذهبت المدنية. أما العرب فقد كانوا في جاهليتهم متأخرين عن الأمم، فلما جاءهم دين منزل نهضوا، وأسسوا مدنية عالمية عظيمة، فكانت تلك المدنية ثمرة دينهم وشريعتهم، كذلك اختلفت عوامل الفتوحات وأنواعها في الدول الثلاث اختلافًا جوهريًّا في أسبابها ونتائجها.