الفصل العاشر

تسامح عثمان مع شاعر مجرم

أما عثمان بن عفان، فقد كان يقبل على الشعراء ويكرمهم على سُنَّة سلفه العظيم وصهره محمد، وكان النابغة الجعدي الشاعر المفلق في الجاهلية والإسلام من أحبابه وهو القائل:

وقد أبقت خطوب الدهر مني
كما تبقي من السيف اليماني

فدخل النابغة الجعدي على عثمان بن عفان، فقال: أستودعك الله يا أمير المؤمنين! وأقرأ عليك السلام. قال عثمان: لمه؟

قال النابغة: أنكرت نفسي، فأردت أن أخرج إلى إبلي فأشرب ألبانها وأشرب من شيح البادية.

قال عثمان: يا أبا ليلى، أما علمت أنَّ التعرب بعد الهجرة لا يصلح؟ قال النابغة: لا والله ما علمت، وما كنت لأخرج حتى أستأذنك. فأذن له وضرب له أجلًا.

وما أشبه هذا الخبر بما نقرؤه في صحف الأخبار من تشرف العظماء بالمثول بين أيدي الملوك والأمراء مستأذنين في السفر قبل رحلة الصيف. ولا نظن الحديث الذي يدور بين ذوي الرءوس المتوجة وأكابر رعاياهم يختلف لعهدنا هذا عما دار بين عثمان والنابغة.

ومن أخبار النابغة الجعدي أنه دخل على الحسن بن علي، فقال له الحسن: أنشدنا من شعرك. فأنشده:

الحمد لله لا شريك له
من لم يقلها فنسه ظلما

فقال له: يا أبا ليلى، ما كنا نروي هذه الأبيات إلا لأمية بن الصلت. قال النابغة: يا بن رسول الله! والله إني لأول الناس قالها، وإنَّ السروق من سرق أمية شعره.

وبلغ تسامح الإسلام مع الشعراء أنَّ تميمَ بن أبي مقبل الشاعر المخضرم كان جافيًا في الدين، وكان في الإسلام يبكي أهل الجاهلية ويذكرهم، فقيل له: أتبكي أهل الجاهلية وأنت مسلم؟ فقال:

وما لي لا أبكي الديار وأهلها
وقد زارها زوَّار عك وحميرا
وجاء قطا الأحباب من كل جانب
فوقع في أعطاننا ثم طيَّرا

فلم يمسه أحد بسوء.

وكان أبو زبيد الطائي الشاعر النصراني من زوار الملوك ولملوك العجم خاصةً، وكان عالمًا بسيرها، وكان عثمان بن عفان يقربه ويدنيه ويدني مجلسه، فحضر ذات يوم عثمان وعنده المهاجرون والأنصار، فتذاكروا مآثر العرب وأشعارها (لا مثالبها وثاراتها كما يدعي مؤلف الشعر الجاهلي كذبًا ومَيْنًا)، فالتفت عثمان إلى أبي زبيد، فقال: يا أخا تبع المسيح أسمعنا بعض قولك، فقد أنبئت أنك تجيد. فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

من مبلغ قومنا النائين إذ شحطوا
إن الفؤاد إليهم شيِّق ولع

ومما رواه ابن سلام ص٦٤ و٦٥ وهو أحد الثقات في حكم المؤلف أنَّ ضابئ بن الحارث البرجمي كان من شعراء الطبقة التاسعة، وكان بذيئًا كثير الشر، وكان بالدينة، وكان صاحب صيد وخيل، فركب فرسًا يقال له قيار، وكان هذا الشاعر البذيء ضعيف البصر فأوطأ صبيًّا دابته فقتله، فرُفعت عليه الدعوى إلى عثمان بن عفان، فاعتذر بضعف بصره (وما كان أغنى هذا الأعشى عن ركوب الخيل!) ودافع عن نفسه بأنه لم ير الصبي، ولم يعمده؛ أي إنه قتله خطأً، فحبسه عثمان ما حبسه، ثم تخلص، ثم استعار كلبًا من قوم من بني نهشل، وحبس الكلب عن ذويه حولًا، فجاءوا يطلبون كلبهم، وألحوا فأخذوه منه، فهجاهم ورمى أمهم بالكلب، فرفعوا دعواهم عليه إلى عثمان، فقال له عثمان: ويلك! ما سمعت أحدًا رمى امرأة من المسلمين بكلب غيرك، وإني لأراك لو كنت على عهد رسول الله لأنزل الله فيك قرآنًا، ولو كان أحد قبلي قطع لسان شاعر في هجاء لقطعت لسانك. ثم حبسه في السجن، فعرض أهل السجن يومًا، فإذا هو قد أعد حديدة يريد أن يقتل عثمان بها، فأهانه وركسه في السجن، فقال شعرًا منه:

هممت ولم أفعل وكدت وليتني
تركت على عثمان تبكي حلائله
وقائلة إن مات في السجن ضابئ
لنعم الفتى تخلو به وتواصله
وقد صح تكهنه ومات في السجن. وقد سلك عثمان مع هذا الشاعر البذيء المجرم مسلك العدل والرحمة، بعد أن ثبت للخليفة أنه من أهل العود في الجرائم، فقد قتل صبيًّا خطأ، ثم شرع في تبديد أمانة وهو الكلب الذي استعاره، ثم قذف امرأة من المسلمين أقبح قذف، ثم أعد المعدات الأولى لجناية اغتيال الخليفة، ولما فُضِح أمره أنشد قصيدة فيها تحريض على قتل أمير المؤمنين وتحبيذ الجريمة والمجرم، على أنَّ عثمان هدده بقطع لسانه، ولكنه لم يجد مبررًا في الأحكام السالفة فخضع للقضاء Jurisprudence وتركه في سجنه، وليس بعد هذا الحلم غاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤