الشعر الإسلامي لا انتحال فيه
إلى هنا ولا نجد في هذا الفصل الطويل الذي عنونه المؤلف «السياسة وانتحال الشعر» — يقصد بذلك الشعر الجاهلي — شيئًا خاصًّا بانتحال ذلك الشعر الجاهلي، فلما فرغت جعبته حشاه بنبذ من تاريخ الخلافة بعد أن شوهها كما تهوى أغراضه، ثم روى مقطوعة من نظم حسان الذي لا يريد المؤلف أن يترك تلابيبه كأن بينهما ثأرًا، ولعل مؤلف الشعر الجاهلي يضاغن حسانًا؛ لأنه كان شاعر الأنصار، فهذه عداوة مذهبية لا دخل لنا فيها، ونحن نكتب في الأدب، نقول: روى المؤلف مقطوعة من نظم حسان في مدح الزبير بن العوام، وليس في هذا الأمر غرابة؛ لأن الزبير من عظماء الأمة وأكابر الصحابة ومن رجال يومه وغده، قال حسان:
فهذه المقطوعة لا تستغرب من حسان في الزبير، وكلها حق وصدق، فكان الزبير ابن عمة رسول الله، وابن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي، وكان إسلامه بعد أبي بكر بيسير، كان رابعًا أو خامسًا في الإسلام، ولما أصيب عثمان بالرعاف سنة الرعاف حتى تخلف عن الحج، وأوصى قال: أستخلف الزبير بن العوام. وقال رسول الله: «إنَّ لكل نبي حواريًّا وحواريَّ الزبير بن العوام»، وشهد المشاهد — الوقائع الحربية — كلها مع رسول الله: أُحدًا والخندق والحديبية، وخيبر والفتح وحنينًا والطائف، وشهد فتح مصر، وجعله عمر بن الخطاب في الستة الشورى الذين ذكرهم للخلافة بعده، وروى هذه المقطوعة بنصها أحد ثقات التاريخ وهو ابن الأثير ص١٩٨ ج١ من كتاب أسد الغابة.
فماذا يريد المؤلف من ذكر هذه المقطوعة؟ يقول المؤلف ص٥٧: «فانظر إلى هذين البيتين في أول المقطوعة كيف يمثلان ذكر حسان لعهد النبي … وقد يظهر أنَّ في آخرها ضعفًا لا يلائم قوة أولها … أفتستبعد أن تكون عصبية الزبيريين قد مدت هذه الأبيات وطولتها، وتجاوزت بها ما كان قد أراد حسان؟» وبعد، فماذا يريد المؤلف بهذا القول؟ وأي الأبيات من هذه التسعة يصدق وأيها يكذب؟ وأي دليل لديه على أنها كلها لم تكن لحسان؟ فهل من اختلاف في نسقها أو شاعريتها أو أسلوبها أو معانيها؟ ولماذا يشك في آخرها ولا يشك في أولها، وهي من أصدق الشعر وأشده تناسبًا في أجزائها، ولا يمكن التفريق بين أبياتها؛ لأنها جميعًا سواء في السهولة والعذوبة وحسن التقسيم واختيار الألفاظ وجمال المبنى؟ وإن عجز المؤلف عن إدراك هذه الحقائق لبعده عن تذوق الشعر، أو لأنه محجوب بغرضه، فليسأل شاعرًا من أهل الفن والأدب، فإن شوقي والمطران والكاظمي وحافظًا أحياء يرزقون، وهم لا يبخلون عليه بالموعظة الحسنة، فإنَّ من يصل به التعصب والعناد إلى هذا الحد يستحقها ويستحق سواها، وماذا تريد بالعصبية الزبيرية بعد أن فشلتَ في إثبات العصبية القرشية؟ اعلم — أيها المؤلف — أنَّ الزبير لم يكن له عصبية تزيد في شعر حسان لغاية سياسية، فإنَّ الزبير شهد الجمل مقاتلًا لعلي، فناداه علي ودعاه فانفرد به، وقال له: أتذكر إذ كنت أنا وأنت مع رسول الله، فنظر إليَّ وضحك وضحكت، فقلت أنت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه. فقال رسول الله: ليس بمُزْهٍ، ولتقاتلنه وأنت له ظالم. فذكر الزبير ذلك فانصرف عن القتال، فنزل بوادي السباع، وقام يصلي فأتاه ابن جرموز فقتله … وعاش ابن جرموز حتى ولي مصعب بن الزبير البصرة، فاختفى ابن جرموز خوفًا من مصعب، فقال مصعب وهو والي البصرة: ليخرج فهو آمن! من يظن أني أقيده بأبي عبد الله — يعني أباه الزبير — ليسا سواءً! فأين عصبية الزبيريين، وهذا الابن يؤمِّن قاتل أبيه، ولا يثأر له وهو الوالي، سيما وأنَّ الزبير قد قُتل ظلمًا، فمات شهيدًا فارق المعركة باختياره بعد أن عاتبه عليٌّ وذكَّره بحديث الرسول؟ لو كان للزبير عصبية — كما يدعي المؤلف — كان أخذها بثأر هذا الشهيد أولى وأنفع من تطويل هذه الأبيات التسعة!
ولما ضاقت الحيلة بالمؤلف لجأ إلى الاستطراد، وهو عند أمثاله باب الفرج، قال في ص٥٧: «ولكن بقية هذه الأبيات تدعو إلى شيء من الاستطراد لا بأس به»، وفي ص٥٨: «واستطراد آخر لا بأس به.» وهذا الاستطراد الذي لا بأس به اثنى عشر سطرًا من النثر، وأربعة وعشرون بيتًا من الشعر للنعمان بن بشير بن ثعلبة الأنصاري، ابن أخت عبد الله بن رواحة أحد شعراء الأنصار الثلاثة، وقد أنشد هذه الأبيات بين يدي معاوية، وهذا الشاعر وُلِدَ قبل وفاة رسول الله بثماني سنين وسبعة أشهر (٢٢ ج٥ أسد الغابة)، وهو يعد صحابيًّا؛ لأنه روى حديثًا أقره عليه الشعبي، ولما بلغ مبلغ الرجال استعمله معاوية على حمص ثم على الكوفة، واستعمله عليها بعده ابنه يزيد بن معاوية، وكان هواه مع معاوية، وميله إليه وإلى ابنه يزيد، فلما مات معاوية بن يزيد دعا الناس إلى بيعة عبد الله بن الزبير بالشام، فخالفه أهل حمص فخرج منها، فاتبعوه وقتلوه (سنة ٦٤ﻫ). ومجمل تاريخ النعمان أنه كان — رحمه الله — نفعيًّا وصوليًّا ينضم إلى الحزب القوي، وفي المسلمين كثير مثله، وفي كل دولة وملة وزمان نفعيون ووصوليون وطلاب أرزاق ومصلحة، ومثل هذا الأمر لا يخفى عن علم المؤلف وفطنته، وحوادث التاريخ القريب في ذهنه وأذهاننا حاضرة! فماذا يقصد المؤلف بقصيدة سيدنا النعمان بن بشير الذي كان قرشيًّا فأنصاريًّا فغير ذلك؟ وهذه القصيدة مطلعها:
وختامها:
وجماعها أربعة وعشرون بيتًا، ويقول المؤلف في ص٦٠: «فظاهر جدًّا أنَّ هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة — على أقل تقدير — قد حُملت على نعمان بن بشير حملًا.»
فالمؤلف يسلم بأن واحدًا وعشرين بيتًا منها صحيحة قالها النعمان بن بشير، ويظن أنَّ الثلاثة الأخيرة محمولة أو مختلقة، وهو يبني هذا الاستنتاج على أنَّ الشيعة حملت هذه الأبيات الثلاثة على بشير، وهذا سوء فهم من المؤلف؛ لأنه يجزم في ص٦٠ بأن النعمان كان أمويًّا مع أنَّ تاريخ النعمان كله ينفي عنه الأموية، وكل بيت من قصيدته ناطق بما يخالف ذلك، فإن الأبيات الثلاثة الأخيرة التي يدعي المؤلف باصطناعها ونسبتها زورًا إلى النعمان هي:
وليست هذه الأبيات أشد وأقسى ما في القصيدة، فقد جاء في صلبها من الأبيات الواحدة والعشرين، التي يسلِّم بصحتها المؤلف قول النعمان لمعاوية:
فأي الأبيات أشد وقعًا، وأبعد غاية، وأصوب مرمى من هذه الثلاثة التي اقتبسناها، وهي أقوى من النبال وأحد من البواتر، أم تلك الثلاثة التي تدعي أنها محمولة على النعمان؟
أما بعد، فإنك وضعت كتابك وسودت صفحاته لتدلل على انتحال الشعر الجاهلي، وليس هذا الفصل في شيء من انتحال الشعر الجاهلي، فتلك المقطوعة الأولى التي مدح بها حسان الزبير شعر إسلامي؛ لأنها قيلت في الإسلام من شاعر مسلم في أمير مسلم عن فضائل ومناقب إسلامية، وهذه القصيدة الطويلة التي قالها النعمان لمعاوية شعر إسلامي من شاعر صحابي مسلم، قالها في الخليفة الأول بعد الراشدين، وقد توفي هذا الشاعر النعمان بن بشير في الثلث الأخير من القرن الأول للهجرة، وإن كنت — يا سيدنا الشيخ — تختلق وتصطنع وتستميت في عشرين صفحة نثرًا تبدله كما تشاء وشعرًا تنتخبه وتنقده على تلك الطريقة العوجاء، لتقول لنا في نهاية الأمر إنك تشك في صحة ثلاثة أبيات من أربعة وعشرين؛ أي بنسبة الثُّمُن، ثم يظهر بعد ذلك خطؤك وعدم تمكنك واستهتارك، وهذا كله في الشعر الإسلامي الأموي لا في الشعر الجاهلي، فعليك وعلى أدلتك وعلى أدبك وتاريخك العفاء!
وماذا يعنيني من هذه القصة إذا كانت واردة في الأغاني أو غير الأغاني؟ فتلك الكتب مشحونة بالأدب الطاهر البريء، فكيف لا يقع اختيارك إلا على أرذل ما تخيله القصاص؟ وهل هذا الذي تحدثت به إلى طلابك في الجامعة وليس سرًّا ما تتحدث به إلى أكثر من مائتين؟ ص١. ثم ماذا تريد بهذه القصة؟ لقد روى بعدها ستة وعشرين بيتًا من الشعر من نظم عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن الحكم، وكلها بإقراره صحيحة، وختم الخبر بأن معاوية أمر مروان بضرب أخيه عبد الرحمن بن الحكم خمسين سوطًا، واستعفى عبد الرحمن بن حسان في الباقي فعفا. فالمؤلف يروي هذه القصة وما يتبعها من الشعر على أنه حادثة تاريخية انتهت بتوقيع العقاب (ص٦٣)، فأين الجاهلي المنتحل، بل أين الانتحال في هذا الإسلامي؟
ألا يليق بقارئ عاقل وناقد عادل أن يرى وراء هذه القصة وشعرها الصحيح باعتراف المؤلف أنَّ هناك غاية يقصد إليها غير انتحال الشعر الجاهلي؟ لماذا يغير الحقيقة ويقلب الصدق كذبًا والكذب صدقًا، ويسمم أفكار الطلاب والقراء ويشوه سمعة الشعراء والأمراء ونسوتهم؟ لماذا؟ لماذا؟ … لماذا؟
وقد قصر قوله في هذا المجال على الإسلام، ولم يقل شيئًا من هذا عن العصر الجاهلي! لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ … لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ …
لقد ختم الفصل الذي عنونه «السياسة وانتحال الشعر» ص٤٧–٦٨ واستشهد فيه بما يأتي عدده من الأبيات:
٦٦ | |
٣ | أبيات للنعمان بن بشير |
٩ | أبيات لحسان في مدح الزبير |
٢٨ | بيتًا للنعمان بن بشير |
١ | بيت لعبد الرحمن بن الحكم |
٣ | أبيات لعبد الرحمن بن حسان |
٣ | أبيات لعبد الرحمن بن حسان |
٩ | أبيات لعبد الرحمن بن حسان |
١٠ | أبيات للنعمان بن بشير |
وهذه الأبيات الستة والستون كلها صحيحة في نسبتها إلى قائليها باعتراف المؤلف، ولا شك في صدقها وبراءتها من الانتحال ما عدا ما يدعيه من إطالة مقطوعة حسان في الزبير، والمؤلف لم يجرؤ على تحديد هذه الإطالة، فأشعل فتيل الشك ثم ولَّى الأدبار كهؤلاء العدميين الجبناء، الذين يعتدون على الأعمار، ثم يتعلقون بأذيال الفرار. وادعى بزيادة ثلاثة أبيات من أربعة وعشرين للنعمان بن بشير، فإن كان في كل ستة وستين بيتًا يجوز لنا أن نرتاب في ثلاثة أبيات ارتيابًا من النوع الذي يحركه علم مثل هذا العالم وتمحيصه، فنعمَ الانتحال والحمل والاختلاق، بل إنني أتساهل وأقبل الحكم بصحة ستين بيتًا، وأترك له ستة أبيات ينهشها على أنها منحولة الوبر أو مقطوعة الخبر. إنَّ الإياب خير لك من هذه الغنيمة، والرجوع إلى الحق أولى من التمسك بالأدلة العقيمة!