في أنَّ العصبية الجاهلية زالت بعد الإسلام
لقد بنى معظم أقواله في هذا الفصل — انتحال الشعر والسياسة — على نظرية العصبية بين القبائل واستمرارها بعد الإسلام، وادعى «أنَّ الكاتب في تاريخ الأدب يستطيع أن يضع سفرًا مستقلًا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام»، وما أكثر الأسفار التي ادعى أنه يستطيع أن يضعها، فقد قال قبل ذلك بأسطر في الصفحة ذاتها: ولقد يستطيع الكاتب في التاريخ السياسي أن يضع كتابًا خاصًّا ضخمًا في هذه العصبية.
وهذا القول كله باطل، ولا رائحة للحق فيه، إلا ادعاء المؤلف أنه يستطيع وضع الكتب الخاصة الضخمة والأسفار المستقلة، ودليلنا على أنها دعوى عريضة وشنشنة سخيفة أنَّ فحول الشعراء في الإسلام من قريش كانوا يأبون هجاء الأنصار، نقلًا عن أبي يحيى الضبي أن يزيد بن معاوية طلب من كعب بن جعيل شاعر قبيلة تغلب أن يهجو الأنصار فأبى، وكعب يعلم أنَّ اقتراح يزيد إنما هو إرادة أبيه معاوية أمير المؤمنين، فقال كعب ليزيد: «والله ما تلتقي شفتاي بهجاء الأنصار.» وإنه لم يتقدم لهذا الهجاء إلا الأخطل الذي كان يوصف بأنه «الشاعر الفاجر»، ولسانه كلسان الثور، وكان يؤجر بالمال، ومثله موجود في كل زمان ومكان بأجر معلوم، ولم يكن الأخطل يدين بدين الأنصار أو قريش، ولم يكن له قوم ولا شرف، ولا يكترث حياته إلا للأجر وشرب الخمر، فلما هجا الأنصار بقصيدته التي يقول فيها: «ذهبت قريش بالسماحة والندى» جاء النعمان بن بشير الأنصاري — المتقدم ذكره — إلى معاوية وقال له: يا أمير المؤمنين، بُلغ منا أمرٌ ما بُلغ منا مثله في جاهلية ولا إسلام! قال: ومن بلغ ذاك منكم؟ قال بشير: غلام نصراني من بني تغلب. قال معاوية: ما حاجتك؟ قال بشير: لسانه! (يريد قطعه). قال معاوية: ذلك لك!
وبعد أن وعد معاوية عاد فأخلف معتذرًا إلى النعمان بأن ولده يزيد جعل للأخطل ذمته وذمة أبيه؛ أي إنه شمله بحماية الخليفة وولي العهد، وقال معاوية: «لا سبيل إلى ذمة أبي خالد» (يقصد ولي عهده). وكان الأخطل في تلك الفترة قد انخلع قلبه رعبًا، وأيقن أنه سيبيت مقطوع اللسان، فلما علم أنه نجا من العقاب الذي يستحقه، واطمأن على «لسان الثور» من البتر، مدح أبا خالد بقصيدته:
وليست العصبية سبب هذا الهجاء الذي نظمه الأخطل ودفع ثمنه يزيد، أو النخوة الجاهلية، إنما سببه خصومة شخصية بين عبد الرحمن بن حسان ويزيد بن معاوية، ولما كان يزيد طول حياته ذا ميوعة وطراوة ودلال، فقد استكبر أن يستعليه ابن حسان، فدار يستنجد عليه الشعراء بالتوسل طورًا وبالأجر تارة، مستندًا في الحالين إلى جاه أبيه الذي قال: «لا سبيل إلى ذمة أبي خالد»، ونكاد نجزم بأنه لم يذكر ذمة أبي خالد هذه أحد غير أبيه هذا، فليست هذه هي العصبية ولا حمية الجاهلية، ولكنها عجز يزيد ودلاله وفقر الأخطل وبذاءته.
أما الأخطل الذي ألممنا بطرف من سيرته في [بطلان دعوى المؤلف بأن الشعر الأموي يمثل الحياة الجاهلية]، فقد أجمع أكابر النقاد على أنه كان لا يجيد إلا نعت الملوك، ولا يصيب إلا في صفة الخمر، وكان وضيعًا في حياته الخاصة، وقد حفظ له التاريخ صفحة سوداء تصفه أصدق وصف.
قال أبو خليفة عن محمد بن عائشة عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت مع أبي إلى دمشق أنظر إلى بنائها، فإذا كنيسة وإذا الأخطل في ناحيتها، فلما رآني أنكرني، فسأل عني فأخبروه، فقال: يا فتى، إنَّ لك موضعًا وشرفًا، وإنَّ الأسقف قد حبسني، فأنا أحب أن تأتيه تكلمه في إطلاقي. قلت: نعم، فذهبت إلى الأسقف، وانتسبت له فكلمته، وطلبت إليه في تخليته فقال: مهلًا، أعيذك بالله أن تتكلم في مثل هذا، فإنَّ لك موضعًا وشرفًا (كذا)، وهذا ظالم يشتم أعراض الناس ويهجوهم، فلم أزل به حتى قام معي فدخل الكنيسة، فجعل يتهدده، ويرفع عليه العصا (كذا)، والأخطل يتضرع إليه، والأسقف يقول له: «أتعود؟ أتعود؟ فيقول: لا …» فهذا هو الأخطل رافع راية الهجاء في الإسلام، وأجير السخفاء من الأمراء والسفهاء من الحكام، ومرجع مؤلف الشعر الجاهلي في حياة الجاهلية (ص١٦)، فهل يجوز التعويل عليه أو الوثوق بأدبه؟
ومعنى العصبية القديمة التي يدعي المؤلف أنها استمرت في الإسلام أنَّ القبائل والأقوام والأحياء بقيت على كراهيتها وحميتها ونخوتها الأولى، ولم يكن الشعراء إلا آلات في أيدي القبائل تحركها، وتجعل منها ألسنة حال لها، ولكن شيئًا من هذا لم يكن، والواقع يكذِّبه، فقد روى أبو الغراف قال: «مشت رجال تميم بين جرير والتيمي، وقالوا: «والله ما شعراؤنا إلا بلاءٌ علينا، يثيرون مساوينا، ويهجون أحياءنا وأمواتنا»، فلم يزالوا بهما حتى أصلحوا بينهما بالعهود والمواثيق المغلظة ألا يعودا في هجاء.» فظاهر من هذه الرواية أنَّ الخصومة كانت بين الشاعرين شخصية محضة، ولا دخل للقبائل فيها، بل كانت القبائل تبغضها وتأباها، وتسعى في إزالتها، ولو كانت ذرة من العصبية القديمة باقية لكانت تلك القبائل هي التي تحرض الشعراء وتحثهم على الهجاء، وكذلك كان بعض الفتيان يسعى بالنميمة بين الشعراء، فيولد الأحقاد والأضغان كما فعل بشر بن مروان، وكان من الفتيان الوارثين، وكان ذا سخاء وفتنة، وكان يمدحه جرير والفرزدق والأخطل، وكل من يجري وراء النوال والكأس، فكان بشر يغري بين هؤلاء الشعراء للتلذذ بالنميمة، والناس من نوع بشر كثيرون في كل زمان ودولة، فأغرى بين جرير والأخطل وبين سراقة البارقي وجرير، وكان بعض هؤلاء الشعراء يتهاجون كبعض محرري صحف الأخبار الأجنبية دون أن يتعارفوا هجاءً مصطنعًا أكثره إرضاء لشهوة أمثال يزيد بن معاوية، وبشر بن مروان. فإنَّ جريرًا مرَّ بسراقة بمنى والناس مجتمعون على سراقة وهو ينشد، فجهر جماله جريرًا واستحسن نشيده، فقال له جرير: من أنت؟ وجرير نفسه هو الذي هجاه بقصائد منها:
فقال سراقة لجرير: أنا بعض من أخزى الله على يديك (يقصد بعض من هجوتهم، وفي هذا مدح خفي لجرير)، قال جرير: أما والله لو عرفتك لوهبتك لظرفك!
فالذنب ليس ذنب العصبية التي يستطيع المؤلف «أن يكتب عنها سفرًا ضخمًا»، ولا ذنب جرير، ولكنه ذنب فجور النمام وذهبه. وإنَّ السبب في الهجاء بين جرير والأخطل هو بشر بن مروان أيضًا، فقد روى أبو يحيى الضبي أنَّ الفرزدق وجريرًا والأخطل اجتمعوا عند بشر «وكان يغري بين الشعراء»، فقال بشر للأخطل: احكم بين الفرزدق وجرير. فقال الأخطل: أعفني أيها الأمير! فقال: احكم بينهما. فاستعفى الأخطل بجهده، فأبى بشر إلا أن يقول، فقال الأخطل (والمال غالب): الفرزدق ينحت من صخر، وجرير يغرف من بحر. فكان ذلك سبب الهجاء بين الأخطل وجرير.
وكان جميع الخلفاء والأمراء وأكابر الأمة يعلمون أنَّ العصبية قد ماتت واندثرت، ويحثون الشعراء على ذكر المآثر لا المثالب، فقد اجتمع الشعراء عند سليمان بن عبد الملك، فأمرهم أن يقول كل رجل منهم قصيدة، يذكر فيها مآثر قومه ولا يكذب (ص٢٢٠ ابن سلام)، ثم جعل لمن برز منهم جارية مولدة، فأنشدوا وأنشد أبو النجم حتى أتى على قوله:
فنال أبو النجم الجارية المولدة مكافأة على كثرة النسل، وكانت كثرة النسل من مآثرهم كما هي الآن في فرنسا.
لا شك — بعد ذلك كله — أنَّ مؤلف الشعر الجاهلي أخطأ خطأً مقصودًا؛ إذ ادعَّى باستمرار العصبية الجاهلية بعد الإسلام، وأنَّ له من وراء هذا الخطأ المقصود غاية هي الحط من شأن تلك المدنية التي لم تقوَ في زعمه على إزالة المعايب الفطرية من الأمة العربية، وتاريخ الأمة السياسي والأدبي ينقضان هذا الرأي الفاسد.