شعر أمية بن أبي الصلت وحكمته
أما أمية بن أبي الصلت الذي عصفت بسببه هذه العاصفة في رأس مؤلف الشعر الجاهلي، فجعلته يكيل تهم التزوير والانتحال للمسلمين جزافًا، فاسمه عبد الله بن أبي ربيعة، وأمه رقية بنت عبد شمس، وكان من رؤساء ثقيف (ص٢١٩ ج١ شعراء النصرانية) وفصحائهم المشهورين، قرأ الكتب القديمة وتهذب أحسن تهذيب، وفي شعره ألفاظ مجهولة لا تعرفها العرب، كان يأخذها من الكتب القديمة وخصوصًا التوراة، ومن ألفاظه المجهولة: «قمر وساهور يسل ويغمد.»
وكان يسمي الله في شعره السلطيط فقال: «والسلطيط فوق الأرض مقتدر»، وسماه في موضع آخر التغرور، قال: «وأيده التغرور.»
وقد ظن بعض العلماء المولدين أنه ربما اقتبس لفظي السلطيط والتغرور من الحبشية، أو صاغهما على صيغ تلك اللغة، فالأحباش يسمون الله في اللغة الأمحرية «أغزا بهر»، وأخبار هذا الشاعر في أجزاء الأغاني الأول والثالث والسادس عشر، والدميري ج٢، وخزانة الأدب ج١، وشعراء النصرانية ج١، وفي تاريخ العرب قبل الإسلام تأليف كوسان دي برسيفال الفرنسي ج١ ص١٥٤ و١٥٥، وج٣ ص٨٢ و٨٣، وفي ص٦٩ من كتاب نيكلسون في تاريخ آداب العرب وغيرها.
والمطَّلع على هذه المراجع كلها لا يمر بخاطره أنَّ المسلمين حاربوا أمية وشعره ومحوه من الوجود «ليستأثر القرآن بالجدة، وليصح أنَّ النبي قد انفرد بتلقي الوحي من السماء»، وقال ابن قتيبة: إنَّ علماء اللغة العربية لا يحتجون بشيء من شعره لعلة الألفاظ المجهولة التي لا تعرفها العرب، وقال أبو عبيدة: اتفقت العرب على أن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصلت، وقال الكميت: أمية أشعر الناس، قال كما قلنا، ولم نقل كما قال (أي إنه شارك الشعراء في نظم ما تعودوا نظمه وانفرد بالقول في الإلهيات والتحنف)؛ أي القول بوحدانية الله قبل ظهور الإسلام. وروي عن مصعب بن عثمان أنه قال: كان أمية قد نظر في الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبدًا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية، وحرم الخمر ونبذ الأوثان. وروى صاحب الأغاني أنَّ أمية كان منقطعًا في الجاهلية إلى عبد الله بن جدعان الغالبي، وكان رجلًا صالحًا وسيدًا جوادًا من قريش يصل الرحم ويطعم المسكين، فكان أمية يمتدحه وينال هباته، ومن شعر أمية بن أبي الصلت في صاحبه عبد الله بن جدعان:
ولما ظهر الإسلام كان أمية مع قريش وقاوم النبي، وكان يحرضهم بعد وقعة بدر، وكان يرثي من قُتل منهم في هذه الوقعة، ولما أن سافر الشام وعاد إلى الحجاز عقب وقعة بدر مر بالقليب فقيل له إنَّ فيه قتلى بدر، ومنهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وهما ابنا خال أمية، فجدع أذنَي ناقته حدادًا عليهما، وقال قصيدته التي يرثي بها من قتل من قريش ببدر، ويحرض الأحياء على أخذ الثأر ص٢٣٦ ج١ من الأغاني، وص٨٣ من كتاب كوسان دي برسيفال ج٣، ومطلعها:
وفي هذه القصيدة بيتان نال فيهما أمية من أصحاب الرسول، ولما ظهر الرسول سافر أمية إلى اليمن، ثم عاد إلى الطائف، وشعر أمية المروي عنه كثير جدًّا (ص٢٢٦ شعراء النصرانية ج١)؛ أي إنَّ المسلمين لم يمحوه ولم يحاربوه، كما أنهم لم ينتحلوه لانفراده بأسلوب خاص، والقول في أغراض ومعانٍ تميز بها، ومن مأثور شعره قوله في النبوة:
ومن بديع شعره الدال على إيمانه قوله:
ومنها في وصف الجحيم:
وقال في وصف الجنة:
ومن قصيدة في كمالات الله:
وقال في الحنيفية ومعناها التوحيد:
وقال يذكر قصة تضحية إبراهيم لابنه:
ومن فخره:
ومن شعره في التوحيد والصمدية:
وله في الظلمات:
فهذا الشعر الذي رواه المسلمون وحفظوه يدل على أنَّ أمية كان شاعرًا مفطورًا على التدين، فلقي في سفره إلى الشام بعض أهل الدين فعلموه ورغبوه، فتصوف، وزهد في الدنيا، ولبس المسوح، وتعبد، وكان العرب ينتظرون نبيًّا يهديهم، فيظهر أنَّ أمية كان يرجو أن يكونه، فلما ظهر محمد بالنبوة أسقط في يده، وقال: إنما كنت أرجو أن أكونه. لأجل هذا فر ببنتيه إلى أقصى اليمن عند ظهور النبي، ثم عاد إلى الطائف، وما أنفك يختلف إلى الكنائس والبيع يجالس الرهبان والقساوسة حتى ظن بعضهم خطأ أنه نصراني، والحقيقة أنه كان متحنفًا أو حنيفيًّا؛ أي موحدًا (ص٦٩ تاريخ أدب العرب، تأليف نيكلسون)، وأنَّ تصوف أمية وانتظاره النبوة وأسفه عند ظهور الرسالة لدى غيره تؤيدها الرواية الآتية التي حفظها المسلمون ونقلوها بحذافيرها، وهي أعظم شأنًا بكثير من ذكر التوحيد في شعره؛ لأنها تدل على حقيقة من الحقائق العجيبة، وقد يعجز الفكر عن تعليلها.
أخبرنا ابن سلام قال: وذكر عيسى بن عمر من أهل الطائف عن أخت أمية بن أبي الصلت قالت:
إني لفي بيت فيه أمية نائم إذ أقبل طائران أبيضان فسقطا على السقف، فسقط أحدهما عليه فشق بطنه وثبت الآخر مكانه، فقال الأعلى للأسفل: أوعى؟ قال: وعى، قال: أقَبِل؟ قال: أبى، ويقال: زكا، قال: خسأ، فرد عليه قبله وطار، والتأم السقف. قالت: فلما استيقظ قلت له: يا أخي أحسست شيئًا؟ قال: لا، وإني لأجد توصيبًا، فما ذاك؟ فأخبرته، قال: يا أخيَّة أنا رجل أراد الله بي خيرًا فلم أقبله. قالت أخت أمية: فلما مرض مرضته التي مات فيها (٦٢٤م، الثانية هجرية) فإني عنده إذ نظر إلى السماء وشق بصره، ثم قال: لبيكما لبيكما، ها أنا ذا لديكما، لا ذو براءة فأعتذر، ولا ذو قوة فأنتصر! ثم أغمي عليه، ثم شق بصره ونظر وقال: لبيكما لبيكما، ها أنا ذا لديكما، لا ذو عشيرة تحميني، ولا ذو مال يفديني. ثم أغمي عليه؛ فقلنا قد أودى، ثم شق بصره ونظر إلى السماء، فقال: ها أنا ذا لديكما محفود بالنعم مخضود من الذنب، ثم أغمي عليه، ثم شق بصره وقال:
ثم أغمي عليه، ثم أفاق فقال:
ثم خفتَ فمات. (ا.ﻫ. ص١٠٥ ابن سلام.)
وبعض هذه الرواية في ص٢٢٥ من شعراء النصرانية ج١ قال: «ولما مرض مرضه الذي مات فيه جعل يقول: قد دنا أجلي، وهذه المرضة منيتي، وأنا أعلم أنَّ الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد وأنه قال: «لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر»، وقال: «محفوف بالنعم» ويضيف البيت الآتي للبيتين الأخيرين:
وقد روى صاحب شعراء النصرانية ترجمة أمية عن نيف وعشرين كتابًا من كتب الأئمة منها مخطوطة ومنها مطبوعة، نخص بالذكر مجاميع شعرية من الشعر القديم، والعمدة لابن رشيق، والحماسة، والعقد الفريد، والسيوطي، وتاريخ مكة للأزرقي، ومحاضرات ابن العربي، ولسان العرب، وتاج العروس.
وكل هؤلاء مخطئون ومخدوعون وغير محققين، وبعضهم متواطئون مع الصحابة والتابعين والمؤرخين على اختلاف هذه الأخبار، وانتحال هذا الشعر وتواتر هذه السيرة، ومؤلف الشعر الجاهلي الشيخ طه حسين أستاذ آداب اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية هو وحده المصيب العاقل العالم الحكم العدل، الذي لا يتحيز ولا ينحرف ولا غرض له في تغيير الحقيقة، ويجوز للناس أن يرجعوا عن الأباطيل الواردة في كتب الإفرنج والعرب، ويعتقدوا أنَّ ما يكتبه الشيخ طه هو وحده الشيء الصحيح!