الفصل الثاني

الفرق بين فتوح اليونان والرومان والعرب

فاليونان غزوا وفتحوا بتأثير رجل واحد، هو فيلبس الملك المستبد ذو المطامع الاستعمارية، فلما مات خلفه ولده الإسكندر، فحقق حلم أبيه، وكان مثله في الأثرة وحب المجد، وكان مستهترًا بمدنيات الأمم التي ضرب عليها الذلة والمسكنة مستخفًّا بآدابهم ووطنيتهم، فأخضع العالم القديم المتحضر كله لسلطان واحد، وقد أصابه نوع من الجنون حين استقر في بابل، فأراد أن يخلط الشعوب بعضها ببعض، ويستخلص منها شعبًا واحدًا، وقد كان مخطئًا في هذه الفكرة وفي انتهاج هذا المنهج، فأنكر عليه المقدونيون خططه وثاروا به، فجن جنونًا مطبقًا أخرجه عن طور الإنسانية، واتخذ وسائل العنف والقسوة في القضاء على خصومه، ولم يوشك أن يموت حتى تفرق خلفاؤه، واختلفوا على الغنائم وشبت الحرب بينهم، وتبدد هذا الملك الذي أقامه الإسكندر على المظالم والأشلاء، فكان فشله مثلثًا في الحرب والسياسة والفكر، ولم تفده تعاليم أستاذه أرسطو الذي علم العالم ونسي تلميذه.

أما فتوحات الرومان فقد بلغت أقصى غايتها في عهد أغسطس الذي حكم من ٣١ق.م، إلى ١٤ب.م. بدأها يوليوس قيصر الذي كان في شبابه مسرفًا فاسد الأخلاق دنس السيرة، مبغضًا إلى الذين كانوا يحرصون على الآداب الرومانية القديمة، وعلى كل آداب إنسانية، كان هذا العاهل أقدر من يحمل لواء تلك الجمهورية العسكرية، التي لم يعهد الغرب مثلها في القوة والخشونة والمطامع، ولم تكن لهذه الفتوحات الرومانية غاية سوى استغلال البلاد المفتوحة، ونهب أموال الشعوب المستضعفة لجلب الذهب والجواهر والنفائس إلى قصور الطغاة، ونقل القمح والغلال والأنعام إلى حظيرة العامة لإشباع نهم طبقات الأغنياء والفقراء. فهذه أول دولة أنشأت الاستعمار، واستثمرت الشعوب الضعيفة في الشرق والغرب، وشتان بينها وبين العرب في البداوة والحضارة والفتوحات والنمو الفكري.

أما العرب فإنهم لم يكادوا يخرجون من مَهامِهِ البداوة حتى ملكوا الأمصار، وانتشروا في الأقطار، وأسسوا الممالك في الشرق والغرب، ونشروا مبادئهم وفضائلهم، وحاربوا رذائل الشعوب الأخرى، وضرب الخلفاء الراشدون للعالم المبهوت مثال العدل المطلق، والزهد الكامل، والمساواة الحق. وما استقر الملك للأمويين في الشام حتى بدت لهم الحاجة إلى استخراج كتب العلم، وما توطدت دعائم الدولة العباسية في العراق حتى نظَّم الخلفاء مجالس النقلة لترجمة علوم المتقدمين من الفرس والهنود واليونان، فلاح لهم أنهم أحوج إلى العلوم منهم إلى الشعر والأدب. وكذلك كانت حالة العرب في الأندلس، فإنهم اشتغلوا بالأدب حينًا، وتفننوا فيه، ورقوا درجات في مرقاة الشعر، وقام منهم فلاسفة فحول أمثال ابن رشد وابن باجة، ولهم الفضل في التقاط الفلسفة، وتأسيس مدارس الفكر الإسلامي بغرب أوروبا (راجع كتاب بوبر في فلاسفة الإسلام)، فنشروا الفلسفة القديمة في الغرب قبل عهد الأحياء بإيطاليا بعدة قرون، فكانوا أساتذة العالم الحديث بإقرار أهل أوروبا أنفسهم، ثم إنَّ الدولة الفاطمية في مصر ودول المغرب لم تقصر في خدمة العقل الإنساني، فأسسوا معاهد العلم وبيوت الحكمة، ومن ضمنها جامعة الأزهر التي لا يستطيع مؤلف الشعر الجاهلي أن ينساها مهما بلغ به «الاغتراب العقلي»، ولم يقصر خلفاء الإسلام في الاستعانة بالمترجمين والنقلة من المتضلعين في لغات الأعاجم مهما كان دينهم أمثال: ابن الخصي، وابن حنين، وآل بختيشوع، ويحيى بن زكريا، وزكريا بن يحيى وغيرهم. ولم تكن تلك الفتوحات لمجرد إرضاء شهوة الغزو والقهر، كما كان يفعل اليونان والرومان أو للاستعمار والنهب، كما فعل الرومان وخلفاؤهم وورثتهم، بل قامت معظم الفتوحات العربية على أساس الإصلاح وحب الخير العام، قال الدكتور جون ويليام درابر الأستاذ بجامعة نيويورك في كتابه «تاريخ النمو العقلي في أوروبا» طبع لندن سنة ١٩٠٢ ج١ ص٣٣٢: «من الخطأ وسوء الفهم أن ينسب تقدم الإسلام إلى السيف وحده، فقد يستطيع السيف أن يغير عقيدة القوم، ولكنه لا يملك التأثير في ضمائر الأفراد وأفئدتهم. إنَّ عاملًا أقوى من السيف وسببًا أبعد غورًا من الخوف صحبا الإسلام، إذ أخذ يتغلب على الحياة الخاصة والعامة في آسيا وأفريقيا، وساعدا على انتشار اللغة العربية في أمم شتى تكاد لا تحصى.»

لقد كان في كف الإسكندر سيف، وفي يد يوليوس قيصر رمح وفأس، «وإلى فأس الرومان القدماء ينتسب فاشيست هذا الزمان»، ولكن شتان بين سلاح اليونان والرومان وبين سيف العرب. كان كلٌّ من الفاتح اليوناني والقائد الروماني عدوًّا قاهرًا للبلاد الضعيفة التي يغزوها، ولكن الفاتح العربي لم يكن أخا حرب وقهر وغلب، وإنما كان صاحب مودة ومحبة وإخاء ومساواة بين الناس. كان الفاتح العربي يضرب في مشارق الأرض ومغاربها، يقوض ما تداعى من دول الفرس والرومان، فينبذ الأنقاض البالية، ويشيد على أسس الحزم دولة قيض لها أن تكون دولة العلم والمدنية والعزة والسلطان في ذلك الزمان. وإذا رجعنا إلى الأطوار الثلاثة التي عددها المؤلف وحصر فيها حياة الأمم القديمة، وهي البداوة والحضارة والفتوحات، لقينا أنَّ الأخذ بها في المسألة التي بين يدينا خطأ في العلم وخلطٌ في التاريخ، ولو انتقلنا إلى التفصيل الدقيق استبنَّا خداع المؤلف وسوء نيته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤