رد الجاحظ على الشعوبية
وإن كان الجاحظ — أيها المؤلف — قد أسخطك وغاظك وهاج داء الحقد الدفين في قلب بعضهم لأنه «أنفق ما يملك من قوة ليثبت أنَّ العرب يستطيعون أن ينهضوا لكل هذه المفاخر الأعجمية، وأن يأتوا بخير منها» ص١١٥، فاعلم أنَّ هذا الجهد المبارك فيه لم يذهب سدى، ولم يُنفق في باطل. وإن كان الجاحظ متهمًا في نظرك لأنه أيَّد العرب وناصرهم، فلعل رينان وسدليو وبرسيفال وجوستاف ليبون، وكلهم فرنسيون من أبناء القرن التاسع عشر، لم يخطئوا في ذكر الحقيقة عن العرب ومدنيتهم ونهضتهم ومفاخرهم، وإن استبحت لنفسك أن تسخر من الجاحظ وتتهكم عليه، فلعلك لا تستطيع أن تسخر من هؤلاء أو تهزأ بهم؛ لأنك تخشى أعجميتهم وتحسب حسابًا لفرنسيتهم.
وأما ما ادعيته من «أنَّ الجاحظ كتب كتاب العصا في البيان والتبيين ليثبت فيه أنَّ العرب أخطب من العجم، وأنَّ اتخاذ الخطيب العربي للعصا لا يغض من فنه الخطابي، أليست العصا محمودة في القرآن والسنة، وفي التوراة، وفي أحاديث القدماء؟ ومن هنا مضى الجاحظ في تعداد فضائل العصا حتى أنفق في ذلك سفرًا ضخمًا» ص١٠٥، فهذه النبذة تدل على أنك سمعت عن كتاب العصا، ولم تسمعه ولم تَعِهِ، فكتاب العصا ليس كما ادعيت سفرًا ضخمًا، بل هو أحد فصول الجزء الثالث من البيان والتبيين يقع في خمس وستين صفحة، ولم ينفقه الجاحظ كما ادعيت في تعداد فضائل العصا تأييدًا للقرآن والسنة والتوراة وأحاديث القدماء، بل جعله شاملًا لأنواع من الأبحاث الأدبية في عادات العرب مثل المحالفة والمجاورة والتماسح بالأكف والتحالف على النار، والتعاقد على الملح، وأخذ العهد المؤكد واليمين الغموس، وعاداتهم في الحرب «التدخين نهارًا وإيقاد النيران ليلًا»، وركوب الخيل، واستعمال الركاب للسرج، ووصفهم بالبداهة والارتجال والكلام على أزيائهم، وقولهم في التقنع، ونهي الصحابة نسائهم عن لبس الخفاف الحمر والصفر ومدح النعل إلى غير ذلك. وقد ورد ذكر العصا في بعض مواطن من هذا الفصل افتتاحًا واستطرادًا، ولم تطلق على الفصل كله إلا من قبيل التسمية، ويتلوه فصل الزهد، وهو الفصل الثاني من الجزء الثالث من البيان والتبيين، وقد ادعى المؤلف على الجاحظ باختلاق كتاب العصا لتأييد الكتب المنزلة. أما عن انتحال الشعر الجاهلي فلم يكتب لنا إلا سطرًا واحدًا في ص١١٦ قال فيه: «فليس من اليسير أن نصدق أنَّ كل ما يرويه الجاحظ من الأشعار والأخبار حول العصا والمخصرة ويضيفه إلى الجاهليين صحيح» هذا كل ما يخص الشعر الجاهلي والانتحال في هذا الفصل، وهو كما يرى القارئ ليس دليلًا ولا حجة، ولكنه ظن وتخمين، تقول إنه ليس من اليسير أن تصدق شيئًا، وقد يكون عدم اليسر في التصديق قاصرًا عليك لعدم توافر أسباب التصديق لديك، وما لا تستطيع تصديقه قد يستطيعه سواك، فلا تجزم بشيء، ولا تقطع سبيل البحث والفهم على غيرك، فإن قطع الطريق ليس من شيمة العلماء.
لم تنته بعدُ المعركة بينه وبين الجاحظ أحد أئمة الأدب العالمي، ومن تعد مؤلفاته من مفاخر الشرق، ولم يُدخِله المؤلف في تلك المعمعة إلا لعدم علمه بقدره، وكان الأجدر بنا ألا ندله على فضله؛ ليحرم من الاغتراف من بحره، كما فعل أحد الأمراء بحسود جاهل اغتاب الجاحظ في مجلسه!
إن الشيخ المؤلف لا يغفر للجاحظ رده على الشعوبية في كتبه، فهذا في نظر مؤلفنا ذنب لا يُغتفر؛ لأن الشعوبية تنطوي على الزندقة، وعلى تفضيل النار على الطين، وإبليس على آدم، والمجوسية على الإسلام، فإذا تعرض الجاحظ للرد على الشعوبية فهذا جهل منه، فإن لم يكن جهلًا فنوع جديد غريب من الانتحال لم يسبق ذكره ولا وصفه! فألف الجاحظ كتاب الحيوان ليثبت «أنَّ الأدب العربي القديم لا يخلو، أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدثة»؛ أي في زمن الجاحظ المتوفى في نصف القرن الثالث ص١١٦.
فالجاحظ — مسكين يا أبا عثمان! فقد وقعت مع من لا يفهمك — منتحل! ومهما يكن علمه ومهما تكن روايته لم يستطع أن يعصم نفسه من الانتحال في كتاب العصا، وفي كتاب الحيوان، كل ذلك لأنه تصدى للرد على الشعوبية.
إنَّ احترامنا وتحياتنا تذهب إلى الجاحظ، وإشفاقنا وازدراءنا واستخفافنا تعرف أين تذهب، فليس هذا الرجل المتخبط بالذي يهتز له ابن بحر بن محبوب الكناني — الجاحظ — وكفاه اعتذارًا للقراء قوله في ص١١٦: «إنَّ الخصومة حين تشتد بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب»، فقد كتب مؤلف الشعر الجاهلي هذه الكلمة حقًّا بإخلاص وعن اختبار.
يروي المؤلف أبياتًا لأبي أمية بن أبي الصلت في مدح سيف بن ذي يزن (ذكرنا بعضها في [نتائج البحث الحديث في تاريخ عرب الجنوب])؛ لأنه أنقذ وطنه اليمن وحرره من نير الأحباش، ولا غرابة في مدح شاعر لأمير شجاع سياسي محارب، ولا عجب إذا اقترن ذكر الفرس في هذا الشعر بالثناء؛ لأنهم أنجدوا سيف بن ذي يزن، وأنقذوا وطنه، ولأن التاريخ يثبت أنَّ الفرس سيطروا قبل الإسلام على العراق، وأخضعوا ساكنيه وساكني باديته من العرب، وهم الذين أرسلوا جيشًا مع ذي يزن أخرج الأحباش من اليمن (ص١٥٧ و١٥٩ ج١ مقالة في تاريخ العرب تأليف برسيفال)، ثم ملَّكوا سيفًا على اليمن، ومن الثابت في التاريخ أنَّ سيف بن ذي يزن قصد الروم قبل أن يقصد الفرس فلم يعينوه على الأحباش؛ لأنهم من ملتهم، أما الفرس فكانوا دولة عظمى تبغي الموازنة بين القوى في الممالك الأجنبية، فقال أمية:
فأين الانتحال في هذا الشعر، وما علاقة هذه الأبيات الأحد عشر التي «رواها الثقات من الرواة على أنها صحيحة لا شك فيها» (ص١١١) بالشعوبية؟ وإن كنت تقول بانتحال هذه الأبيات، أو تدعي أنَّ أمية بن أبي الصلت لم يقلها، وأنَّ الرواة أنطقوه بها، فأي دليل لديك على صدق زعمك؟ هل قولك يكفي دليلًا على صحة قولك؟ هل صدقت من خدعك أو غرر بك أنَّ كلامك يضمن كلامك؟
ثم إنَّ المؤلف روى ثمانية أبيات في الفخر بالفرس، ونسبها إلى إسماعيل بن يسار بلا تردد على ما فيها من الكذب، فهو يقول: «أصلي كريم ومجدي لا يقاس به»، وأصله معلوم لنا من اسم أبيه يسار، وهو اسم رقيق ونسبته إلى النساء أصدق من الادعاء بكرم الأصل والمجد. والأبيات مدح مبهم للفرس شائع بينهم ملوكًا وجندًا وشعبًا، فلماذا لا تكون تلك الأبيات منتحلة وتنتحل أبيات أمية الخاصة بموضوع معين في زمن وحوادث معروفة وأشخاص معلومين؟ مع أنَّ الانتحال في هذا المقام ينصب في عرف المؤلف على الفرس كافة، ولكن صحة هذه الأبيات ترجع لقول المؤلف نفسه: «ومن الخير أن نروي أبياتًا قالها إسماعيل بن يسار في الفخر بالفرس» ص١١٢، وهو يريد أن يكون قوله حجة على العالمين، ولا يبالي بالنتيجة، ولا يبالي بإنكاره أيامًا تاريخية كبيرة الخطورة في حياة الشعوب مثل يوم ذي قار، ويروق له هذا الإنكار كثيرًا وكثيرًا جدًّا إذا كان فيه مساس بحديث النبي وشخصه، كقوله في ص١١٣: «ثم من هنا هذه الأيام والوقائع، التي كانت للعرب على الفرس، والتي تحدث النبي عن بعضها، وهو يوم ذي قار»، اقرأ «ثم من هنا اختراع أو اختلاق هذه الأيام … إلخ.»
يقول متممًا سفر بغضه للعرب وشعوبيته الممقوتة، التي يقصد بها إلى تفضيل كل أجنبي على العرب في ص١١٤: «لعلك تلاحظ أنَّ الكثرة المطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الأدب واللغة والكلام والفلسفة، كانوا من العجم المولي.» كلا! لم يلاحظ ذلك أحد سواك؛ لأن الكثرة المطلقة من العلماء كانت من العرب، والعرب أنفسهم كانوا دعائم المدنية العربية وأركانها، وكان الأعاجم الذين دخلوا الإسلام من أهل فارس والعراق وخراسان بالولاء، أو بالخدمة، وأكثرهم أهل فاقة يلتمسون الرزق بالاشتغال بالأدب؛ لأن صناعة الأدب كانت رائجة في البصرة والكوفة في الصدر الأول، ولكن هؤلاء الأعاجم مهما كثر عددهم، فقد كانوا أقلية بالنسبة للعلماء والأدباء العرب أصلًا ونشأةً.»
ولم يكن هؤلاء الأدباء يطمعون في غير العيش في يسر وقناعة، ولو حاولوا غير ذلك أو أكثر منه هلكوا، ومثلهم كمثل الشرقيين الذين ينزحون لوقتنا هذا إلى جمهورية الولايات المتحدة، فيلتمسون الرزق ويتعلمون لغة البلاد حتى يجيدوها، ولكنهم لا يعبثون بآداب القوم، ولا يستظلون بظل الوزراء والمشيرين على حد قولك (ص١١٤)، ولا يجوز أن تكون غايتهم القبض على زمام الدولة أو فساد أمورها. لقد حاولت يا شيخ الانتحال تعليل الانتحال وتبريره بكل الوسائل فلم تفلح، وهذه الشعوبية، وهي آخر منزع في قوسك، لم تُجدِكَ نفعًا، ولم تَجِدْ منها معينًا ولا منقذًا، بل أظهرتك على حقيقتك ورفعت القناع عن بعض نياتك، فكانت حربًا عليك لا لك، وهكذا أعمال أمثالك تنقلب عليهم، ولا يجدون منها مخرجًا.