الرواة وانتحال الشعر
بعد أن فرغ المؤلف من سرد الأسباب العامة التي كانت في زعمه تحمل العرب بعد الإسلام على الانتحال، وهي السياسة والدين والقصص والشعوبية، انتقل إلى الرواة، وكان استند إلى روايتهم في جملة مسائل واحتج بأقوالهم، واعتبر كثيرين منهم ثقات يعتد بأقوالهم في اللغة والشعر والأخبار والتاريخ، وذلك في صفحات ٢٥ و٢٩ و٥٠ و٥٤ و٦٠ و٦٥ و٧٦ و١٠٩ من كتابه، فلما حان موعد الطعن فيهم، وسنح له اتخاذهم هدفًا لقذفه وتجريحه، رأى الخوض في أعراضهم والنيل منهم بعد الاعتماد على نصوصهم مجازفة مذمومة، ومفاجأة مكشوفة، فمهد لخطته بالتقليل من شأن الرواة في الانتحال، فقال في ص١١٨ إنَّ تلك الأسباب «ليست من العموم والاطراد بمنزلة الأسباب المتقدمة»، وهذا إقرار منه بأن نصيب الرواة في الانتحال أضعف من نصيب رجال الدين والسياسة وأنصار الشعوبية والقصاص، وأهم المؤثرات التي دعت الرواة في نظره إلى الانتحال «مجونهم وإسرافهم في اللهو والعبث، وانصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق، إلى ما يأباه الدين وتنكره الأخلاق» (ص١١٨).
فإذا سلَّمنا جدلًا بقوله في «انصراف الرواة عن أصول الدين» اضطر أن يسلِّم بأن هؤلاء الرواة الذين تركوا الدين ومكارم الأخلاق لا يد لهم في انتحال الأشعار والأخبار التي تؤيد الدين؛ لأن من ينصرف عن الدين ويكون «مسرفًا على نفسه ليس له حظ من دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار»، وهي الأوصاف التي كالها للرواة لا يكترث لتأييد ما انصرف عنه وأخذ بضده، وحينئذٍ يكون مختلقًا ما ذكره في ص٧١ من «أنَّ الرواة لم يكادوا يقرءون سورة الجن، وما يشبهها من الآيات التي فيها حديث عن الجن، حتى ذهبوا في تأويلها كل مذهب، وأنطقوا الجن بضروب من الشعر وفنون من السجع لم يكن بد منها لتأويل آيات القرآن على النحو الذي يريدونه.» فأنت ترى أنه حين يعلل الانتحال بالدين ينسبه إلى رغبة الرواة في تأييد القرآن والسنة، وحين يأخذ في تبيين نصيب الرواة في الانتحال يعلله بانصرافهم عن أصول الدين، ويرميهم بمثل قوله: «وكان هؤلاء الناس جميعًا في أمصار العراق الثلاثة مظهر الدعابة والخلاعة، وليس منهم إلا من اتُّهم في دينه ورُمِي بالزندقة، يتفق على ذلك الناس جميعًا لا يصفهم أحد بخير، ولا يزعم لهم أحد صلاحًا في دين أو دنيا» ص١١٩، فهو يطعن فيهم جميعًا جملة واحدة لا يبالي باستثناء ولا استدراك، ولا يميز واحدًا بفضل، ولا يفلت من أظفاره أحد. وهو في ذلك لا يذكر إسنادًا، ولا يعول على مرجع من مراجع العلم القديم أو الحديث، ولا يؤيد قوله ببرهان.
فلما رأى أنَّ من المستحيل أن تكون كل هذه الأشعار الجاهلية أو أكثرها محمولًا على غير قائليها بلا سبب معقول، وأنَّ الرواة مهما كذبوا أو دسوا على بعض الشعراء، فلا يمكن أن يصل ذلك إلى مقدار ما نعرفه من الشعر الجاهلي فضلًا عما به من اللفظ والتعبير والأسلوب الخاصة به، والدالة على أنه شعر بدوي محض؛ ادَّعى بأن الرواة أنفسهم نظموا الشعر المنحول، وحملوه على بعض الشعراء حملًا، ولا يُعقَل أنَّ إنسانًا يقضي عمره ويهدر نبوغه في نظم شعر بليغ جيد ثم ينسبه إلى غيره من الموتى أو الأحياء، وكان أولى له أن ينسبه لنفسه ليفخر به، بل أية فائدة تعود على رجل يجهد مواهبه في الصياغة والنظم، ثم يتخلى عن ثمرات فكره باختياره؟! ولا يصح هذا الفرض إلا إذا كان الرواة نوكى أو معتوهين، ولم يذكر التاريخ الصحيح عن واحد من الرواة أنه كان راوية وشاعرًا، بل إنَّ حرفة الرواية وما تقتضيه من قوة الذاكرة تتنافى مع الشاعرية التي من دأبها في أكثر الأحوال عدم تقييد الحافظة، وقل أن يروي شاعر قول سواه من الشعراء.
لأجل هذا كان لكل شاعر راوية يلازمه ويحفظ شعره ويرويه عنه، ولكن المؤلف المبتدع في غير حق ادعى في ص١٢٠ «بأن أهل الكوفة والبصرة مجمعون على أنَّ حمادًا وخلف كانا شاعرين مجيدين يصلان من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطيع أحد أن يميز بين ما يرويان وما ينتحلان.»
فإن كان هذا صحيحًا فمن هم العلماء أو المؤرخون الذين كوَّنوا إجماع الكوفة والبصرة؟ وما هي مراجع المؤلف في هذه المسألة؟ وإن كان حماد وخلف شاعرين مجيدين، فهل اقتصرت مواهبهما على الانتحال والتلفيق أم أن أحدهما نظم شعرًا وصدق في نسبته إلى نفسه؟ وإن كان كذلك فأين شعره؟ أم أنَّ أهل الكوفة والبصرة الذين أجمعوا على شاعريتهما أجمعوا أيضًا على عدم الرواية عنهما، وأضربوا عن حفظ شعرهما؟
أما طريقة تدليل الأستاذ المؤلف في هذا الفصل فعين طريقته في الكتاب كله، فلم يذكر سندًا ولا مرجعًا، بل اكتفى بأن يقول: «كلام الناس في كذب خلف كثير»، ولا يذكر من هم الناس أو «يقول خصوم الشيباني إنه كان ثقة لولا إسرافه في شرب الخمر»، ولا يصرح للقارئ بأسماء هؤلاء الخصوم، أو يقول: «وأكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل»، ولا يدلنا على أسباب الظن، والإثم بعض ظنه. والحقيقة أنه ادعى بما ألصقه بكثير من الناس تبريرًا وتزكية لرأيه، ولو صدق ما أحجم عن ذكر سند أو كتاب، ولا يعقل أن يعتبر نفسه ثقة الثقات وإليه ترجع الروايات كلها. ومن تخبطه الذي لم يملك أن يخفيه أنه بعد الطعن في جميع الرواة بدون استثناء في ص١١٩ بقوله: «وكان هؤلاء الناس جميعًا مظهر الدعابة والخلاعة ليس منهم إلا من اتُّهم في دينه ورُمي بالزندقة» عاد فاستشهد بأحدهم — المفضل الضبي — فوصفه بأنه «من خيرة رواة الكوفة»؛ إذن كان في الكوفة رواة خيرون، والمفضل من خيرتهم فلم يكن «كل هؤلاء الناس (الرواة) … لا يصفهم أحد بخير، ولا يزعم لهم أحد صلاحًا في دين أو دنيا.»
أما بعد فمتى كان المؤلف يرى الزندقة والدعابة والخلاعة والإباحة عيوبًا يتطرق معها الفساد إلى ذمم الناس وضمائرهم وأعمالهم؟ ومتى كان الصلاح في الدين والدنيا لديه شرطًا في الصدق والأمان، فينتقص الرواة بتلك المساوئ، ويتخذ منها مطاعن على روايتهم؟ وأنت — أيها المؤلف — لم ترحم في كتابك صالحًا ولا تقيًّا ولا ورعًا في دينه ودنياه، بل استبحت أن تطعن في القرون الثلاثة الأولى من حياة المسلمين (ص١٢٤) جملة واحدة، ولم تستثن أحدًا فقلت: «إنَّ كل شيء في حياة المسلمين في تلك القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى التلفيق سواء في ذلك الحياةُ الصالحةُ حياة الأتقياء والبررة والحياةُ السيئةُ حياة الفساق وأصحاب المجون»، فلا يدري العرب والمسلمون من أية ناحية يأتونك أنت وأمثالك، فهم مُعرَّضون أبدًا لسخطك وقذفك صالحهم وطالحهم، تقيَّهم وفاسقهم، ولم نر مثلك أحدًا يطعن في عدة أجيال بدأت بالنبي ﷺ والخلفاء الراشدين، وانتهت بالعباسيين، ولم يبلغ أحد من أعداء الحق والمدنية العربية ما بلغه هذا المؤلف، والأدلة على تعصبه واختلاقه مستفادة من آثار علماء المشرقيات، وهم لا تربطهم بالعرب رابطة علم ولا لغة ولا مدنية. لا غرابة في صدق هؤلاء العلماء؛ لأن العلم الصحيح والذمة الطاهرة تحملان صاحبهما على التصريح بالحق، ولو كان الحق ضد منفعته ومذهبه.
قال العلَّامة تيودور نولدكه أحد أقطاب المشرقيات في الفصل الذي عقده للرواة والمعلقات (ص٥٣٦ ج١٦ من موسوعات العلوم البريطانية المطبوعة التاسعة): «إنَّ أبا عبيدة والمفضل كانا من ذوي العناية والتدقيق والضبط في الاحتفاظ بالنصوص الأصيلة للمعلقات، وإنَّ حمادًا الراوية كان من موالي بكر ابن وائل، ولكن نسبته إلى بكر لم تمنعه من رواية مطولة عمرو بن كلثوم، وفيها تمجيد بني تغلب ألد أعداء بني بكر في الجاهلية، فحفظها حماد ورواها على ما فيها من المساس بكرامة مواليه من بني بكر.» وقوله العلامة نولدكه ينقض ما قاله المؤلف في ص١١٨ من «أنَّ الرواة إن كانوا من الموالي فهم يتأثرون بما كان يتأثر به الموالي»، فهذا حماد الفارسي الأصل البكري الموالاة لم يتحزب لقومه دون غيرهم، بل حفظ ما لهم وما عليهم ورواه. ثم ذكر المؤلف طائفة من الرواة غير رواة الأمصار، وقال عنهم: «ليس من شك في أنهم كانوا يتخذون الانتحال في الشعر واللغة وسيلة من وسائل الكسب»، وهو يريد بهم «الأعراب الذين كان يرتحل إليهم في البادية» ص١٢٣، ولما كان الكلام في هؤلاء الأعراب يتناول أصل الرواية وأسبابها وطرائقها، فلا بأس من الإلمام بذلك بالإيجاز.