الأصل التاريخي في الرواية
كانت العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، فكان كل عربي يعلم بمقدار حفظه ووعيه، فتحمل ذاكرته ما يعرض له من الحوادث والمعاني، فكان العربي كتابًا يقظًا يسمع ويخزن ويروي، وكانت القبيلة سجلًّا حيًّا منطويًا على الآثار والأخبار.
ولا شك أنَّ موهبة الحفظ تقوى بالممارسة والتدريب، وقد تمدها سائر المواهب بالنشاط واليقظة إذا كان الخبر أو الأثر مما يرجع إلى التفاخر بالأنساب والتعاير بالمثالب، وقد ذكر رينان أنَّ الأمة العربية أحفظ الأمم لأنسابها، وأصدقها ذاكرة فيما له علاقة بسلسلة الأجداد، ولم تدركهم علة الإغراق في التفاضل كاليونان الذين كانوا في بداوتهم ينتسبون إلى الأرباب والآلهة، بل حفظ العرب أنسابهم على حقيقتها مشفوعة ببعض المناقب والمحاسن التي تدل على عراقةٍ وتثبتها في قائمة الشرف القومي، ولما كان للقدرة على الحفظ مساس بالفصاحة فتميز من بينهم شديد الحفظ ثم الحفيظ الفصيح حتى بلغت الأمة درجة الشاعرية، وهذا يدل على أنَّ موهبة الحفظ أقل بكثير من مواهب الشعر، فصار الشاعر لسان حال القبيلة: يحفظ أنسابها، ويروي أخبارها، ويدافع عن شرفها، ويفضلها على خصومها، وقد يذكر مثالبهم ويستعين في ذلك بشيوخ للقبيلة ساهرين على أنسابها ومفاخرها حافظين لآثار فضلها، فكان علم هؤلاء الشيوخ كالصوت، وشعر الشعراء كالصدى، لقد استمد الشعراء في بداية أمرهم من حفاظ المفاخر والأخبار، ثم صار هؤلاء الحفاظ يستشهدون بما يؤيد روايتهم من الأشعار، وقد نشأت طبقة من العلماء في الجاهلية علمهم رواية الأنساب والأخبار، واشتهر منهم دغفل بن حنظلة وابن الكيس النمري.
ثم جاءت الشريعة فلم تبطل ما كان نافعًا من عادات الجاهلية، بل اتخذت منها ما اتخذت ثم أصلحته بما رأته متفقًا مع روح الإسلام، فوضع الخلفاء الراشدون قواعد علم الرواية، وهي شروط صحة الإسناد. وقد تكونت من لفيف من الصحابة لجنة لتمحيص كلام الرسول، أعضاؤها عمر وعثمان وعائشة، وفريق من أفضل أصحاب الرسول، فكانوا يتصفحون الأحاديث ويرفضون بعض الروايات، وكان الكذب في تلك الفترة معدومًا، ولا يخالف أحد الحقيقة إلا مرغمًا بدون علم لما يصيب الإنسان عادة من السهو والإغفال، وقد اضطر عمر إلى الأمر بالإقلال من الرواية خشية التدليس والنفاق، وإن كان معظم المسلمين سمعوا الرسول يقول: «من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار.»
انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.
على أنَّ تدوين الحديث لم يكن مقبولًا عند كافة المسلمين، بل كانت منهم فئة تمقت التدوين وتستمسك بالحفظ وزعيمها ابن عباس، ثم إنَّ نظرية التدوين تغلبت على نظرية الحفظ، ولكن أولياء الأمر رأوا ضرورة حياطة الصحيح من الحديث بأسماء الذين صح نقله عنهم، وصح نقلهم عن رسول الله، وهذا هو الإسناد. فيُرى مما تقدم أنَّ الحفظ والرواية كانا عند عرب الجاهلية بحال فطرية أولية، يرجع شأنهما إلى شأن الأنساب والمفاخر، فلما جاء الإسلام استمر الحفظ والرواية، ونشأ النقد والإسناد والتدوين.
ولما استتب أمر الدولة وهدأ روع المسلمين بعد الحركات الأولى، عاد العرب إلى الأدب سيرتهم الأولى؛ لأنهم جروا في إسلامهم على مثل عادتهم في الجاهلية؛ لأن الإسلام لم يهدم مما قبله إلا ما كان شركًا أو داعية إلى الشرك. فاستمرت الرواية للشعر والخبر والنسب والأيام والمقامات، ولم يكن هناك بد من تطبيق قواعد الرواية على فنون الأدب، فثبت أنَّ المسلمين لما انصرفوا إلى الاشتغال بتفسير القرآن، واهتم علماؤهم وأدباؤهم بجمع الأشعار واللغة قالوا: «إنَّ علوم الأدب كلها وسيلة لفهم كتاب الله تعالى، وإنَّ حكم البلاغة ومعرفة العلوم الأدبية حكم الوجوب الكفائي، وشرفها بشرف ما يتوصل إليه، فكلها علوم آلية.» كذلك كان فهم المسلمين للأدب والبلاغة، فطائفة العلماء والمشتغلين بالدين والعلوم العربية اهتموا بالبلاغة لأجل الدين، فكان همهم الجمع والدرس لا لشرح الأدب من حيث إنه ثمرة جهد العقول والقرائح، بل لأنه وسيلة من وسائل حفظ اللغة وفهم مفرداتها لفهم الكتاب والسنة، وفي ذلك قال الجاحظ في البيان والتبيين ج١ ص٤٩ عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس: كفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل. وقيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار، وما بصَّرك مواقع رشدك وعواقب غيك (بيان الجاحظ ج١ ص٤٣)، ثم إنهم عنوا بالرواية عناية خاصة حتى أصبحت من الطرق العلمية؛ لأن كثيرًا من أحكام الدين مبنية عليها، ولا يمكن أن تكون قاعدة علمية أثبت وأصح مما وضعوه في رواية الحديث، وما قرروه من الشروط في ذلك مما يصح أن يكون من أحدث الطرق العلمية.
فغاية العلماء والأدباء من علوم الأدب أنهم كانوا يطلبون الأدب للقيام على تفسير القرآن والحديث، حتى إنَّ الإمام الشافعي قال إنه طلب اللغة والأدب عشرين سنة ليستعين بهما على الفقه، ولتنتفع بالكتاب والسنة تلك الأمم التي لم تكن أصيلة في العربية، أو التي خشي على عربيتها من الزوال باللحن والعجمة.
ولما أراد العرب أن يطرد علمهم في الدين والأدب من ينبوع واحد أوجبوا الإسناد في الأدب أيضًا، وكان الإسناد في الحديث ينتهي إلى الصحابة، ثم إلى رسول الله. أما في الأدب فكانت أسانيد الأدباء على اختلاف عصورهم تنتهي إلى الطبقة الأولى كأبي عمرو بن العلاء وحماد الراوية، ولا نجد في كتب الأدب رواية واحدة يتصل سندها بالجاهلية؛ لأن هؤلاء الرواة أكدوا أنهم أخذوا أكثر ما يروونه عن قوم أدركوا عرب الجاهلية، أو نقلوا عمن أدركهم. والحقيقة أنَّ أبا عمرو بن العلاء روى عن عرب أدركوا عرب الجاهلية؛ لأنه ولد سنة ٧٠ﻫ وتوفي سنة ١٥٩ﻫ، وكان لا يأخذ إلا عن العرب في البادية، حتى إنَّ الأصمعي جلس إليه عشر حجج ما سمعه يحتج ببيت إسلامي.
وإذا رجعنا إلى علم الرواية من حيث هو وجدناه إحدى ثمرات الحديث المحمدي، ولولا هذا الحديث ما خلصت اللغة، وقد وضع الخلفاء الراشدون قاعدة الإسناد، وغايتها تحقيق المعاصرة، التي هي الشرط في ثبوت الرواية، ويتلو المعاصرة أخلاق الرجال المكونين لسلسلة الإسناد، فمما يشترطونه في رواية الحديث أن يكون عدلًا ضابطًا، وهو الذي يقل خطؤه في الرواية ووهمه فيها بحيث يوافق الثقات فيما يرويه.