الرواية في الأدب
قال نفر من علماء المشرقات إنه لا يصح الاعتماد على رواية الشعر الجاهلي؛ لأنه مهما صحت قوة الذاكرة عند العرب ومهما قويت حافظتهم، فلا تحتمل رواية كل هذا الشعر كما كان وكما نطق به الشعراء الجاهليون؛ لأن الذاكرة كثيرًا ما تخون، والأمانة في النقل نقلًا صحيحًا لا تكون إلا بالكتابة والتقييد.
على أنه ليس العرب وحدهم الذين امتازوا بنوابغ الحفاظ، بل الحفظ موجود من أقدم الأزمنة؛ لأن الحافظة أو الذاكرة كانت وحدها عند القدماء كتاب التاريخ والتقاليد والشرائع والآداب، فكانت هي صورة الفكر الإنساني على الحقيقة، وفي أوروبا وأمريكا ومصر لعهدنا شواهد كثيرة على ذلك، ثم إنَّ الذاكرة نفسها تتفاوت درجاتها في الناس، وتتفاوت في أدوار الحياة للشخص الواحد باعتبار أسباب كثيرة، وتختلف قوة وضعفًا في أنواع المحفوظات، قال فوريل: «إنَّ رواة فرنسا كانوا ينشدون الشعر، ويروون القَصص المحفوظ في القرون الوسطى على نمط العرب في الجاهلية» (مجلة العالمين ج١٣ ص٥٥٩)، ونقل شدزكو — أحد أئمة تاريخ الآداب الشرقية — «أنَّ حُفَّاظ العجم يتلون من شعر شعرائهم ما لا تكاد تصدق أنَّ ذاكرة تعيه لكثرته، فقد يظل المنشد يتغنى بأشعار الشهنامة نهارًا كاملًا» (ص١٣ كتاب «الشعر الفارسي الشعبي» طبع لندن سنة ١٨٤٢).
سأل سائل أحد علماء الإسلام عن حد البلاغة فأجابه: إنك إن أردت تقرير حجة الله تعالى في عقول المتكلمين، وتخفيف المئونة على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين، بالألفاظ المستحسنة في الآذان، المقبولة عند أهل الأذهان، رغبةً في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة من الكتاب والسنة، كنت أوتيت فصل الخطاب، واستوجبت من الله جزيل الثواب.
فكان المراد بالأدب في أول الإسلام جمع أقوال العرب وأشعارهم وأخبارهم وأمثالهم للاستعانة بها على تفسير القرآن، وضبط ألفاظه وتفهم أساليبه، أخذوا بذلك من القرن الأول للهجرة. قال ابن عباس في ص١١ ج١ من كتاب العمدة: «إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله لم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب؛ لأن الشعر ديوان العرب»، ثم وضع أبو الأسود الدؤلي النحو لضبط المعاني، فزادت الحاجة إلى جمع أقوال العرب وأشعارهم للاستشهاد بها في الإعراب والتصريف.
وكان العرب في الصدر الأول مشتغلين عن الأدب بالسياسة والخطابة في الجُمَع والأعياد والمغازي والفتوحات ومجالس الدولة، وهم في غنى عن الاستشهاد في ضبط كلامهم أو قراءتهم؛ لاستغنائهم بملكتهم الفطرية عن تعلم القواعد وحفظ الألفاظ، وكان الأعاجم الذين دخلوا الإسلام من أهل فارس والعراق وخراسان، بالولاء أو بالخدمة، يفتقرون في تعلم العربية إلى قواعد وشواهد؛ لأنها ليست لغتهم، فتوافدوا على البصرة والكوفة، ونبغت منهم طائفة كان لها بعض الفضل على آداب العربية، جمعوا الأشعار والأخبار والأمثال ونحوها، وكانوا يروون ما سمعوا من أعراب البادية، ثم إنَّ ابن عباس هو الذي سن للمفسرين سنة الاحتجاج بالشعر الجاهلي وقال: «إنَّ الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها، فالتمسنا معرفة ذلك منه»، فلما رجع العلماء إلى الشعر والتمسوه للشاهد والمثل كان ذلك بدء تاريخ الأخذ عن العرب للقصد العلمي، ولا يبالي الرواة في هذه الشواهد إلا باللفظ فيستشهدون بكثير من كلام سفهاء العرب وأجلافهم، ولا يأنفون أن يعدوا من ذلك أشعارهم التي فيها ذكر الخنى والفحش؛ لأنهم يريدون منها الألفاظ، ولو كانوا ينتحلون الشعر لتأييد القرآن والسنة لصنعوا على الأقل شعرًا خاليًا من ألفاظ الخنى والفحش.
روى أبو حاتم عن الجرمي أنه أتاه أبو عبيدة مَعْمَر بن المثني الراوية بشيء من كتابه في تفسير غريب القرآن الكريم، قال الجرمي: فقلت له: عمن أخذت هذا يا أبا عبيدة، فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء؟ فقال: هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم، فإن شئت فخذ، وإن شئت فذر، فأبو عبيدة أخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، ولم يخشَ في اللغة لومة لائم.
ومن قواعد علم الحديث التي أجروها على الأدب واللغة، أنهم اشترطوا في ناقل اللغة العدل بحسب ما يناسب اللغة، فقبلوا نقل أهل الأهواء والمبتدعين ممن لا تكون بدعتهم حاملة لهم على الكذب، ورفضوا المجهول الذي لم يُعرف ناقله، كما رفضوا الاحتجاج بشعر لا يُعرف قائله، فلا يحتجون بشعر كالذي احتج به المؤلف على أنه من قول الجن في مقتل سعد بن عبادة أو رثاء عمر بن الخطاب، وقد كانت الأسانيد في الأدب قصيرة، ثم إنَّ الرواية قد درست بعد القرن الخامس، ولم يبق إلا بعض الأسانيد العلمية، فكان عُمْر الإسناد في الأدب ثلاثة قرون على الأكثر، ولكن هذا لا يطعن في الثقة بما يرويه أهل الضبط والتحصيل وهم كثيرون، يطبقون قواعد النقد الصحيح وينبهون على ذلك مثل العسكري، فقد قال في شرح بيت من الشعر: «ولا أضمن عهدته؛ لأني لا أعتد إلا بما أخذته رواية من أفواه الرجال أو قرأته عليهم»، على أنَّ الرواية في الأدب لم تكن علمًا متميزًا، وإنما كانوا يجرون عليه ما يناسبه من علوم الحديث، وقد جاء جلال الدين السيوطي (توفي ٩١١ﻫ)، فحاكى علوم الحديث في التقاسيم والأنواع، ووضع ذلك في كتابه المزهر في علوم اللغة، وقد استشهدنا بنبذ من كتابه في جملة مواطن، وإذا نظرنا إلى اللغة والشعر في عُرف هذا العالم الجليل، وجدناهما في حكم العلوم الثابتة المدونة بما حاطهما الرواة من التثبت والتفتيش؛ لأنهما كانا فطريين في قوم معروفين لقيهم أهل الرواية وشافهوهم بها، وإنما كانوا يطلبون الشعر للفظه، ولم يأخذوه عن المحدثين، فهو في حكم اللغة.
وبعد أن اتسعت فنون الرواية أخذ أهلها في مذاهب التخصيص، فصار بعضهم أحفظ للنسب، وبعضهم أحفظ للإسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ لمتون الألفاظ، وكل طائفة إنما تشارك غيرها فيما تعلمه وتنفرد دونها بما عرفت به ليكون إليها المرجع، مثل الأطباء ورجال القانون، وبعض أساتذة الأدب في هذا الزمان.
لما بدأت الرواية لم يكن للرواة في القرن الأول من حاجة إلى البادية، فلما كانت الطبقة الثالثة منهم رحلوا إلى البادية وهي مصدر اللغة يطلبون جفاة الأعراب، ويأخذون عن القبائل التي بعدت عن أطراف الجزيرة، وأقدم من رحلوا إلى البادية يونس بن حبيب الضبي المتوفى سنة ١٨٣، وخلف الأحمر المتوفى سنة ١٨٠، وأبو عمرو بن العلاء والأصمعي وغيرهم، واستمروا يرحلون إلى البادية إلى أواخر القرن الرابع، ثم صار الفصحاء من عرب البادية يتوافدون أنفسهم إلى البصرة يقيمون فيها، ويملون على الرواة ما يعرفونه من اللغة والشعر، وكان الرواة في كثير من الأحيان لا يكتفون بالأخذ عن الوافدين، فيرحلون إلى البادية ليأخذوا عن أهلها أو ليصححوا ما أخذوا، وقد حفظ لنا التاريخ أسماء كثيرين من فصحاء البدو الذين أخذ الرواة عنهم.