خطأ النتيجة يتبع خطأ المقدمات
بقي لنا أن نبين للقارئ سبب تكليف المؤلف نفسه كل هذه المشقة، وحمل أوزار الخطأ والخداع والتخليط والمجمجة في أمر واضح كهذا. الجواب أنَّ المؤلف أراد أن يُقنع قارئ كتاب الشعر الجاهلي بصحة نظرية انتحال الشعر الجاهلي، ولما عجز عن الدليل من تاريخ العرب وآدابهم لجأ إلى تاريخ اليونان والرومان فقال إنهما أمتان قديمتان والعرب أمة قديمة، والأمم الثلاث متشابهة في المرور بأدوار البداوة والحضارة والفتوحات، وكلٌّ منها تركت دينًا وعلمًا وأدبًا، ثم انتقل بسرعة البرق من هذا البحث التاريخي الأثيم إلى قوله في ص٤٤: «فلن تكون الأمة العربية أول أمة انتُحِلَ فيها الشعر انتحالًا، وحُمِلَ على قدمائها كذبًا وزورًا، وإنما انتُحِل الشعر في الأمة اليونانية والرومانية من قبل»، وقد أثبتنا خطأه في نظرية المشابهة بين الأمم الثلاث، ولسنا في حاجة إلى إظهار خطئه فيما أراد الوصول إليه من ثمرة فجة ضئيلة أراق في سبيلها ماء حيائه العلمي، وأذل كبرياءه التاريخي. ثم انظر إلى قوله في صحيفة ٤٦ من كتاب الشعر الجاهلي ينكر به شخصية هوميروس قال: «أحق ما كانوا يتحدثون به، بل ما كانوا يؤمنون به في شأن هوميروس؟» وكان قال ضد هذا القول في ص٨ و٩ من كتاب قادة الفكر: «ثم بين أيدينا هذه الصورة التي وقف عندها البحث الحديث»، ثم قال: «إنَّ هناك أسرة كانت تسمى أسرة الهوميريين توارثت الشعر القصصي فيما بينها، وأذاعته في البلاد اليونانية.» ص٩ كتاب قادة الفكر، فأين انتحال الشعر القديم عند اليونان والرومان، وأين مشابهة ذلك عند العرب؟
يدَّعي مؤلف الشعر الجاهلي أنه من أنصار القائلين بأن الإلياذة ليست من نظم هوميروس، وأنها نظم شعراء كثيرين بينهم هوميروس، وقد نسب الكل إلى ناظم الجزء، وليس هنا مجال نقد هذا الرأي أو تفنيده، فقد أقر المؤلف نفسه أنَّ البحث الحديث أثبت أنه كانت هناك أسرة تسمى أسرة الهوميريين توارثت الشعر القصصي فيما بينها، وأذاعته في البلاد اليونانية، فليس إذن من انتحال في شعر اليونان القدماء إذا أخذنا بقول المؤلف نفسه، ثم إنَّ نظرية الانتحال في الشعر اليوناني القديم لو صحت فإنها تخالف نظرية انتحال الشعر الجاهلي؛ لأن اليونان قد يكونون نسبوا بعض الشعر إلى غير قائليه جهلًا منهم بشخص قائله لذهاب ذكره في ثنايا الماضي السحيق، فحسن النية مفروض في عملهم. أما نظرية انتحال الشعر الجاهلي عن العرب، فهي قائمة في رأي المؤلف على سوء النية وقصد التمويه والتضليل، فكان الرواة يصطنعون أبياتًا من عندهم، وينسبونها كذبًا وزورًا إلى الشعراء الأقدمين؛ ليشعلوا نار الفتنة، أو ليُكسبوا أخلاف الشاعر القديم أو قبيلته مجدًا، أو ليغيروا الحقيقة تفكهًا. هذا عدا نوعًا آخر من الاختلاق هو وضع الشعر للاستشهاد به على ألفاظ الكتاب المنزل والحديث والفقه وتفسير علوم الأدب وتعليل قواعد النحو والصرف، فأين هذه النظرية — صحيحة كانت أو باطلة — من نظرية انتحال الشعر اليوناني التي أشار إليها؟! بل أين نظرية انتحال الشعر الجاهلي من قول بعض النقاد المحدثين في أوروبا من أنَّ شكسبير ليس واضع القصص التمثيلية المنسوبة إليه، وأنَّ واضعها باكون الفيلسوف الإنجليزي المعاصر له، وأنَّ موليير المؤلف الممثل الفرنسوي ليس مؤلف القصص المعروفة باسمه؟!
يرى القارئ مما تقدم عن هوميروس أنَّ المؤلف اتخذ في بعض فصول كتابه وسيلة الطعن في بعض السالفين من عظماء قادة الفكر الغربيين أمثال: هوميروس وهيريودوس وهيرودوت وتيتوس ليفوس ستارًا ودرعًا للطعن في علماء العرب وشعرائهم ومؤرخيهم؛ ليتقي بذلك تهمة تعمد النيل من العرب والحط من أقدارهم وحدهم، وليكون طعنه في هؤلاء الفضلاء السابقين مبررًا لما يختلقه عن أولئك، فقال عن هوميروس ما قال، وقد رددنا قوله، وأثبتنا للملأ مما كتبه هو وكتبه الآخرون صدق أخبار هوميروس وشاعريته في جملتها. أما عن هيرودوت المؤرخ اليوناني فقد أثبت البحث الحديث (ص٣٨٩ من كتاب تاريخ الأدب الإغريقي تأليف ألفريد كروازيه عضو المجمع العلمي الفرنسي بكوليج دي فرانس) «أنَّ هيرودوت أول من بحث عن القانون الذي يربط الحوادث ببعضها البعض، وأنه أول من أراد تأليف تاريخ قائم على الفحص الصحيح، وقد بدأ كتابه بهذا التنبيه للقارئ، قال: «هذا الكتاب هو ثمرة المباحث التي تناولها هيرودوت بن هاليكارناس.
وقد حاول بعض العلماء المحدثين التشكيك في حسن نية هيرودوت، ولكن البحث الحديث أثبت أنَّ حسن نيته وصدقه وشرفه فوق أية شبهة، وقد طبق قواعد النقد العلمي ونجح في ذلك».»
هذا رأي عالمين فرنسيين أخصائيين في هيرودوت الذي يذكره مؤلف الشعر الجاهلي بلهجة السخرية، وقد جمع بينه وبين تيتوس ليفوس المؤرخ الروماني الشهير، قال ص٤٦: «إنَّ من اللذيذ حقًّا أن تقرأ ما كتب هيرودوت في تاريخ اليونان، و«تيتوس ليفوس» في تاريخ الرومان، وما يكتب المحدثون الآن في تاريخ هاتين الأمتين.»
فلنقرأ ما كتبه الأستاذ غوليلمو فريرو المؤرخ والكاتب الاجتماعي الإيطالي المعاصر عن «تيتوس ليفوس» قال: «تناقل الرواة أنَّ السنيور مرتينو أحد المنقبين عن الآثار القديمة، قد عثر بين الأنقاض في مدينة نابولي على مخطوطات المؤرخ الروماني تيتوس ليفوس، وهي أفضل مخطوطات حفظت بين دفتيها تاريخ العصور الرومانية، غير أنَّ هذا الأمل تلاشى وأصبح أثرًا بعد عين.
يقع الكتاب التاريخي الذي خطَّه يراع تيتوس ليفوس في اثنين وأربعين ومائة مجلدٍ، لا يوجد منها اليوم سوى خمسة وثلاثين، وقد تضمنت أصل الرومانيين ونشأتهم، وتكلمت عن الحرب القرطاجنية الثانية إلى انكسار الفرس.
وقد تمشى المؤرخون على اختلاف طبقاتهم أمثال بلوتارك وإبيان وسونيون ولريون كاسيوس وغيرهم في تدوين التاريخ على طريقة تيتوس ليفوس واقتفوا أثره.
إنَّ الروح التي تجلت في كتاباته ضد القيصرية كانت مفتاح تاريخ الإمبراطورية في القرنين الأول والثاني.
وكان المؤرخ تيتوس ليفوس والشاعران فرجيل وهوراس في مقدمة من ساعدوا على إنعاش الحياة القومية في رومة، ولو راجعنا التاريخ لوجدنا أنَّ الكُتَّاب والشعراء الذين قاموا بأعمال مجيدة مثل أعمال تيتوس ليفوس قليلون.» ا.ﻫ. كلام المؤرخ غوليلمو فريرو.
نحن نعلم والقارئ يعلم أنه لا دخل لهيرودوت أو لتيتوس ليفوس في الشعر الجاهلي، أو في تاريخ العرب قبل الإسلام أو بعده، وقد كشفنا عن الغرض الخفي الذي يرمي إليه المؤلف بذكر هؤلاء العلماء الأعلام وتجريحهم، فأردنا إظهار خفايا خططه التي غايتها احتقار علماء الغرب تبريرًا للطعن في العرب، وقد ثبت للقارئ من أقوال العلماء الأوروبيين أنَّ المؤلف خاطئ في الزعمين خائب في القصدين طائش السهم في الغرضين.