مبايعة أبي بكر وسعد بن عبادة
ولما ظن مؤلف الشعر الجاهلي أنه فرغ من نفث سمومه في تلك الناحية، انتقل إلى وفاة الرسول وما كان مما وصفه باختلاف المهاجرين والأنصار على الخلافة واستقرار الأمر بين الفريقين، وادعى أنَّ الأنصار قبلوا أن تخرج منهم الإمارة إلى قريش، وخالفهم سعد بن عبادة الأنصاري، فظنَّ المؤلف أنه عثر بخارج عنيد، فافترى على التاريخ والحقيقة ما افترى، وهو يحسب أنه يصوغ الثناء لمرتد جاهل، قال: «لا يخالفهم إلا سعد بن عبادة الأنصاري الذي أبى أن يبايع أبا بكر، وأن يبايع عمر، وأن يصلي بصلاة المسلمين، وأن يحج بحجهم، وظل يمثل المعارضة قوي الشكيمة ماضي العزيمة حتى قُتل غيلة في بعض أسفاره.»
وقارئ هذا القول الهراء يظن أنه يتلو تاريخ أحد كبار الملحدين الغربيين أو مشاهير الثوار الدوليين أمثال: برادلو أو برناردشو أو باكونين أو بلانكي. والحق في هذا أنَّ المؤلف «الصادق الأمين الصريح» كذب على التاريخ وخان أمانة التمحيص، فإن سعد بن عبادة الأنصاري وردت أخباره في أصدق مصدر (ص٢٨٣ ج٢ أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير) فهو صحابي عظيم، وكان نقيب بني ساعدة وشهد بدرًا، وذكره في البدريين الواقدي والمدائني وابن الكلبي، وكان سيدًا جوادًا، وهو صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها، وكان وجيهًا في الأنصار ذا رياسة وسيادة يعترف قومه له بها، ودعا له رسول الله بأن رفع يديه وهو يقول: «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة.» ولما كانت غزوة الخندق استشار رسول الله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة دون سائر الناس، وكانت راية رسول الله بيد سعد بن عبادة يوم الفتح، وقال رسول الله: «إنَّ سعدًا لغيور، وإني لأغير من سعد، والله أغير منا، وغيرة الله أن تؤتى محارمه.» فرجل هذه مناقبه ومكانته عند رسول الله ومقامه في قومه يُستَبعد عليه أن يخرج على إجماع الأمة، ولكنه لما توفي النبي ﷺ جلس سعد في سقيفة بني ساعدة، فبايع الناس أبا بكر، فسار سعد إلى الشام، فأقام بحوران إلى أن مات سنة ١٥ﻫ، ولم يختلفوا أنه وجد ميتًا على مغتسله، وقيل إنَّ قبره بالمنيحة — قرية من غوطة دمشق — وهو مشهور يزار إلى اليوم (أواسط القرن السابع للهجرة). وروى عنه ابن عباس وغيره، ولم نقرأ في كتاب مهما كان مؤلفه ضالًّا أو مضلًا أنَّ هذا الصحابي امتنع عن أداء فروض دينه، فجلوس سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة لا يدل على خروجه أو مخالفته أو حسده لأبي بكر، ولا نظن أنَّ المؤلف كان ينتظر ألَّا تحدث مناقشة عقب وفاة الرسول في أمر الخلافة، كما هو الشأن في المسائل ذات الخطورة. إنَّ محمدًا ﷺ كان يعلم أنَّ أصحابه لا يختلفون في فضل أبي بكر، حقًّا لقد لحق بالرفيق الأعلى دون أن يسمي أحدًا يخلفه من بعده، ودون أن يشير إلى من يقوم في أمته مقامه، ولكنه كان يقدم أبا بكر في الخطابة والإمامة إذا مرض، ولكنه لم يصرح باسمه؛ لأنه أراد أن يقرر مبدأ حرية الأمة، ويثبت حقًّا من حقوقها في اختيار الإمام، فتكون الأمة العربية هي التي تقلدها وهي التي تنزعها بدون محاباة أو مجاملة، وكان قبل وفاته واثقًا أنَّ أبا بكر أفضل أصحابه دراية واستقامة وإخلاصًا، وتلك صفات تجعل الآراء مجمعة على اختياره، ففوض النبي الرأي للأمة؛ ليبقى انتخاب الإمام سنة إلى الأبد، وقد حصل ما توقعه الرسول وأراده حقًّا، فلم ينازع أحد أبا بكر في خلافته، ولم يقل أحد من الصحابة إنَّ في قريش من هو أحق بها من أبي بكر (منهاج السنة ج١ ص١٣٩).
تخيل مؤلف الشعر الجاهلي أنَّ مبايعة أبي بكر أغضبت صحابيًّا جليلًا كسعد، فاختلق هذا الخبر الغريب، ونسب إلى الصحابي الجليل الذي كان أحد اثنين في الاستشارة النبوية أنه أبى أن يصلي وأن يحج، وظل يمثل المعارضة (!) ولم يفترِ المؤلف هذه الفرية المخزية إلا لشغفه بتمجيد أهل الجحود، فأين تلك المعارضة التي كان زعيمها سعد بن عبادة؟ وفي أي كتاب شعوبي أو شيوعي قرأت هذه النبذة وعمَّن مِن المؤرخين نقلت ذلك الباطل وقد اعترفت بإجماع الأمة على مبايعة أبي بكر إذ قلت: «وإنهم قد أجمعوا على ذلك لا يخالفهم فيه إلا سعد بن عبادة الأنصاري»؟ وإذا نظرنا إلى أنظمة الحكم اليونانية والرومانية وإلى القوانين النيابية الحديثة، فلا نجد إجماعًا أقوى من إجماع الأمة بأسرها ما عدا واحدًا يوم مبايعة أبي بكر الصديق، فإن هذا الواحد لا يعد أقلية ولا يعد معارضًا، ومعظم قوانين العالم — القديم والحديث — نافذة بالأغلبية المطلقة في أحوال وبالأغلبية النسبية في أخرى، فهل قرأ طالب أو عالم في كتب التاريخ أو صحف الأخبار أنَّ دولة قامت، أو حكومة تشكلت، أو قانونًا صدر دون معارضة فريق من أهل الرأي في التشريع، ولو في أحرج الأوقات؟ بيد أنهم يخضعون للقانون بعد إصداره ولو كانوا مخالفين فيه، وهذه كانت حال سعد بن عبادة، فلم نقرأ في تاريخه ما يدل على سعيه في ثورة أو فتنة أو لوثته بردة حتى يهجر الصلاة والصيام والزكاة والحج.