الفصل التاسع

الخلفاء الراشدون والشعراء

ثم انتقل المؤلف إلى عمر بن الخطاب، فنسب إليه نقلًا عن الرواة (ص٥٣) أنه مرَّ بحسان في نفر من المسلمين ينشد شعرًا في مسجد النبي، فأخذ بأذنه، وقال أرغاء كرغاء البعير؟! ونحن نكذِّب هذه الرواية؛ لأن عمرَ كان من كرم الخلق وعلو الهمة وشرف النفس والعدل والشهامة بمكان لا يليق معه أن يفعل هذا بحسان بن ثابت الذي سمع قول النبي: «ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم»، فقال حسان: «أنا لها»، قال محمد : كيف تهجوهم وأنا منهم؟ فقال حسان: «أنا أَسُلُّك منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين.» فضلًا عن أنه كان من سادة القوم وأشرافهم، وكان أبوه المنذر الحاكم بين الأوس والخزرج في يوم سميحة، وهو الذي قال للحارث بن عوف بن أبي حارثة:

وأمانة المرء حيث لقيته
مثل الزجاجة صدعها لم يجبر

فقال الحارث لمحمد : أجرني من شعر حسان، فوالله لو مزج به ماء البحر لمزجه.

هل هذا الشاعر يؤخذ من أذنه وفي مسجد رسول الله وبيد عمر بن الخطاب؟ نقول للمؤلف: قصَّ أساطيرك على سوانا، فإنها سخافة لا تجوز، لقد كان عمر أعرف الناس بقدر حسان وأشدهم نصرة له، وإليك على ذلك دليلًا من التاريخ الصحيح ص٩٤ طبقات الشعراء لأبي عبد الله بن سلام الجمحي قال: أخبرنا أبو خليفة قال: أخبرنا محمد بن سلام قال: حدثني ابن جعدبة قال: قدم ضرار بن الخطاب الفهري وعبد الله بن الزبعري المدينة أيام عمر بن الخطاب، فأتيا أبا أحمد بن جحش الأسدي وكان مكفوفًا، وكان مألفًا يجتمع إليه ويتحدث عنده، ويقول الشعر، فقالا له: أتيناك لترسل إلى حسان بن ثابت فنناشده ونذاكره، فإنه كان يقول في الإسلام ويقول في الكفر، فأرسل إليه فجاء، فقال: يا أبا الوليد، أخواك تطربا إليك ابن الزبعري وضرار يذاكرانك ويناشدانك. قال: نعم، إنَّ شئتما بدأت، وإن شئتما فابدآ. قالا: نبدأ. فأنشداه حتى إذا صار كالمرجل يفور قعدا على رواحلهما، فخرج حسان حتى لقي عمر بن الخطاب وتمثل ببيت ذكره ابن جعدبة لا أذكره فقال عمر: وما ذاك؟! فأخبره خبرهما فقال: لا جرم، والله لا يفوتانك، فأرسل عمر في إثرهما فردَّا، وقال لحسان أنشد، فأنشد حسان حاجته، حتى قال له عمر: أكتفيت؟ قال: نعم. قال عمر للشاعرين: شأنكما الآن إن شئتما فارحلا، وإن شئتما فأقيما.

هذه صورة صحيحة من خلق عمر وعدله وعقله. أما الصورة الأولى التي زوقها المعلم مؤلف الشعر الجاهلي بألوان البهتان، فتُمثِّل لنا أحد الجلاوزة الأفظاظ أو الشرطة الغلاظ، وإنني لا أظن جلوازًا أو شرطيًّا يبلغ به سوء الخلق أن يأخذ بأذن شاعر الإسلام الأول في مسجد صاحب الشريعة ويسبه ويصف إنشاده برغاء البعير، وإن كان إنشاد حسان كرغاء البعير، فماذا يكون تأليف أستاذ آداب اللغة العربية في الجامعة المصرية في هذا الزمن الأخير؟

وكأني بمؤلف الشعر الجاهلي يتصيد أضعف الروايات وأسخفها عن عمر، فينسب إليه أو يختلق عليه أنه قال: «قد كنت نهيتكم عن رواية هذا الشعر (يعني التهاجي)؛ لأنه يوقظ الضغائن، فأما إذا أبوا فاكتبوه.» ص٥٤، ولم يجرؤ المؤلف على ترك تلك الرواية من غير تكذيب، فأردفها بقوله على طريقته المألوفة: «وسواء أقال عمر هذا أم لم يقله …» ألا فليعلم المؤلف أنَّ الخلفاء الراشدين كلهم ساروا على خطة النبي في حث العرب على حفظ القرآن، وترك ما عداه، ومن ذلك الشعر، وكانوا ينشطون من يعدل عن الشعر إلى القرآن، كما فعل عمر بن الخطاب باستنشاد الشعراء على يد المغيرة بن شعبة، ففضل من عدل إلى القرآن، على أنهم اقتدوا بالرسول في التمييز بين شعر وشعر، وحث عمر المسلمين على حفظ الشعر، فقال: «روُّوا أولادكم ما سار من المثل وحَسُن من الشعر.» البيان والتبيين ج١ ص٢١٣، وقد أراد أحسنه، ويؤيد ذلك قوله: «ارووا من الشعر أعفَّه.» الجمهرة ص١٥، وكانوا يمنعون الشعراء من هجو الإسلام والمسلمين وأشدهم وطأة في ذلك عمر، فقد أخذ عهدًا على الحطيئة ألَّا يهجو رجلًا مسلمًا (العقد الفريد ص١١١ ج٣)، وكل مؤرخي الأدب على أنَّ الشعر في عصر الراشدين وقف لانشغال المسلمين عنه بالجهاد، إلا ما كان منه من قبيل المجاهدة المعنوية والحكمة والموعظة الحسنة.

ثم لم ينجُ عمر من مخالب المؤلف بعد، فإنه قال ص٥٣: «كان عمر قرشيًّا تكره عصبيته (كذا) أن تزدري قريش وتنكر ما أصابها من هزيمة وما أشيع عنها من منكر.» وهذا باطل، فإن عمرَ لم يكن بعد الإسلام قرشيًّا، ولم تكن له عصبية، بل كان أميرًا حازمًا وخليفة عادلًا، يريد أن يضبط أمور الرعية، وأن يؤسس الدولة المدنية على المساواة والحرية والإخاء، وقد وُفِّقَ كل التوفيق وظفر بكل ما كان يريد، وإنَّ عصبية قريش التي كانت في الجاهلية قد تلاشت وانحلت، والأدلة على ذلك من التاريخ كثيرة، ومنها أنَّ حامل راية رسول الله مرَّ يوم الفتح بها على أبي سفيان، وكان أبو سفيان قد أسلم، فقال له حامل الراية: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل إليه قريشًا (كذا). ولا يخفى ما في هذا القول من الوعيد، فحسب أبو سفيان لهذا القول حسابه، فلما مر رسول الله في كتيبة من الأنصار ناداه أبو سفيان: يا رسول الله أمرت بقتل قومك؟ فقال رسول الله متلطفًا ومطمئنًا لما رأى الرعب الذي استولى على قلب أبي سفيان: «يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة.» ص٢٨٤ ج٢ أسد الغابة، فهذه قريش قوم محمد وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي — رضي الله عنهم — ينادي بإذلالها، ولم يكترث أحد لذلك؛ لأن عصبية قريش قد قضت نحبها وحلت محلها مساواة المذهب الجديد وإخاء العقيدة الحديثة.

لقد كان عمر الخليفة العادل من أعلم الناس بالشعر، فيتمثل مؤرخو الأدب بأقواله وآرائه، فقد روى ابن سلام أنَّ عمر قال: أي شعرائكم يقول:

فلست بمستبقٍ أخًا لا تلُمُّه
على شعثٍ أي الرجال المهذب

قالوا: النابغة، قال: هو أشعرهم!

وفي هذه الشهادة من ابن الخطاب من الكياسة وأدب القول وعلم النفس والاعتدال ما فيها. على أنَّ هذا الأريب الناقد المشهور بالفصاحة والرواية ومعرفة قدر الكلام ونقده، عرضت له قضية أدبية يحتاج الحكم فيها إلى رأي خبير بمباني الشعر ومعانيه، فأنف أن يحكم بعلمه، وعين خبيرًا في الدعوى على حد ما يفعل قضاة العهد الحديث، فإن الحطيئة هجا الزبرقان بلا عذر مقبول، فشكاه الزبرقان إلى عمر، فأقدمه عمر وقال للزبرقان: ما قال لك؟ قال الزبرقان: قال لي:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فقال عمر لحسان بن ثابت: ما تقول، أهجاه؟ وعمر يعلم من ذلك ما يعلم حسان، ولكنه أراد إقامة الحجة على الحطيئة وبالطريق القانوني الذي لا يطعن عليه، قال حسان: «ذرق عليه»، فألقاه عمر في حفرة اتخذها محبسًا. وكان ذنب الحطيئة مضاعفًا؛ لأن الزبرقان كان شاعرًا مفلقًا ولم يكن يهجو أحدًا. وقد استعطف الحطيئة عمر بأبيات في غاية البلاغة والعذوبة تحرك الأشجان وتهيج الشفقة عند كل ذي قلب رحيم:

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
ما آثروك بها إذ بايعوك لها
لكن لأنفسهم كانت بك الأثر

وكان عمر يشجع الشعراء في الإسلام، فكتب إلى عامله أن سل لبيدًا والأغلب ما أحدثا من الشعر في الإسلام، فقال لبيد: «قد أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران»، وكان لبيد في الجاهلية خير شاعر لقومه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤