الفصل الثاني

طبيعة الشعر الجاهلي وطريقة درسه

إنَّ ميزة الشعر العربي الأولى أنه شعر وجداني يمثل العواطف والإحساسات الشخصية، وقد احتوى في جملته على أنواع كثيرة، وإنَّ هذا الروح الشعري الفطري هو سبب ما فيه من المتانة وخفة الروح وموافقته لكثير من الطبائع، فإنَّ أكبر مظاهر البلاغة العربية الأولى هو الشعر، وأكبر منابع الشعر الفطرة والوجدان والخيال والحياة العامة، فالشعر القديم وجداني فطري في أصله ومأخذه، اجتماعي في صورته وشكله؛ لأن به كثيرًا من أثر الاجتماع العربي.

لا يجوز في عرفنا لمن يدرس الشعر الجاهلي أن يقصر بحثه على أن يبين محاسنه اللفظية، وجماله المستفاد من بساطته، وعدم التكلف، وسهولة العبارة، وخلوه من فنون الزخرف البياني المكتظ بها شعر المحدثين، ولا أن يكتفي بتمجيد امرئ القيس؛ لأنه بكى واستبكى، وذكر الديار وآثارها، ونعى العشيقة وأخبارها، وإنما يجب على ذلك المتصدر لدرس الشعر أن يشمل بحثه الحالة العقلية والنفسية للشعراء، وفحص عاداتهم وآدابهم الاجتماعية، وتصورهم وخيالهم ومعرفتهم بالدنيا والناس، وعواطفهم وعوامل الانفعالات المختلفة في نفوسهم وأمزجتهم، وأثر الحوادث المحيطة بهم والطارئة عليهم في تكوينهم العقلي والوجداني، وبهذا دون سواه يَكمُل البحث وتتم الغاية، وهذا هو غرض درس الشعر؛ لأن الشعر هو صورة الشاعر والشاعر صورة المجتمع.

ليس في كتاب الشعر الجاهلي ما يدل على أنَّ المؤلف درس الشعر الجاهلي على الطريقة المثلى؛ أي إنه درس حياة الشعراء، ثم درس شعرهم بألفاظه ومعانيه كما فعل ثقات الباحثين الأوروبيين الذين سيأتي الكلام عليهم، أمثال جولد زيهر، وفون كريمر، ونولدكه، وويلهاوزن، ودي جوجيه، وشارلس ليل، ونيكلسون، ودي ساسي، وغيرهم من المستشرقين، ومن الواضح أنه أخذ بأضعف الآراء من أنَّ دراسة تاريخ الأدب تغني عن درس كتب الأدب ذاتها، وهذا الذي دعاه إلى القول بما قال به؛ لأنه كان في الغالب يحكم على الشعراء في غيبتهم أو بالسماع متأثرًا بالفكرة السابقة، وبالاستشهاد ببيت أو بيتين من بعض القصائد الجاهلية، وما أبلغ قول الأستاذ لانسون في هذا المعنى في كتاب تاريخ آداب اللغة الفرنسوية: «لا مناص من الرجوع إلى المؤلفات الأصلية دون الملخص والمختصر، فإنَّ الوجيز لا يفيد فائدة المُطوَّل، ولا يستفيد مريد معرفة فن التصوير إذا اكتفى بقراءة تاريخية دون أن يبصر بالصور ذاتها والأدب كالفنون الجميلة، وكما أنه لا تمكن التفرقة بين الصورة والمصور والنحات والتمثال الذي يصنعه، كذلك لا تمكن التفرقة بين الشاعر وقصيدته والكاتب وكتابته.»

ولا بد من البحث في الصلة بين الشاعر وشعره، والمجتمع الذي ظهر الشاعر فيه، ولا بد من معرفة الوطن الذي نشأ الشاعر فيه، والجو الذي فيه تربى، والزمان الذي عاش فيه، وحال صحته ومرضه ومزاجه وسيرته، والتربية التي حصل عليها، ومعرفة أصله وقبيلته، والأوصاف العامة لها، وإذا كان عاش عيشة مُرضية سهلة وكان من أهل الرفاهية واليسر، أم عاش عيشة فقير مجد مجتهد في الحصول على قوام حياته، ثم لا بد من معرفة حالته النفسية، وكيف كان يفكر، وكيف كانت ميوله الدينية ومقدار نصيبه من العواطف وأحوال الغرام، وكيف كان ميله للمجون واللهو، وكيف كان يتصور الجمال ويفهم الفنون، وما في شعره من شخصياته، ويجب البحث عن الأسباب التي دعت الشاعر إلى قول ما نظم وإلى خروجه عن طبيعته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤