نشأة الشعر الجاهلي بين الطبيعة وفطرة الشعراء
ما كان العربي في مبدأ عهده ينظم الشعر، ولا يعرف ما قوافيه وأعاريضه، وما علله وزحافاته، ولكنه سمع أصوات النواعير، وحفيف أوراق الأشجار، وخرير الماء، وبكاء الحمائم؛ فلذَّ له صوت تلك الطبيعة المترنمة، ولذَّ له أن يبكي لبكائها، وأن يكون صداها الحاكي لنغماتها، فإذا هو ينظم الشعر من حيث لا يفهم منه أنه خيال قريحته، ولا يدرك من أوزانه وضروبه إلا أنها صورة من حركات ناقته، قال الأستاذ كليمان هوار أستاذ الآداب العربية في جامعة باريس في ص٤ من كتابه تاريخ آداب اللغة العربية: «إنَّ الأسفار الطويلة على ظهور الإبل حببت إلى العربي نشيد الألحان يتلهى بها، ويشفي ما يصيبه من أوصاب ودوار، ثم أدرك العربي المنشد أو الحادي أنه كلما سارع في الإنشاد رفعت الناقة رأسها وأوسعت خطاها، كأن بين خطاها وأوزان الشعر ارتباطًا، فظهرت تلك الضروب عفوًا؛ لأنها ثمرة طبيعية من ثمار العبقرية البدوية.» ولما نطق امرؤ القيس بقوله: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» لم يكن يدري أنَّ الخليل سيقول يومًا: «فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن»، فإن الشاعر الذي نظم هذا الشعر — وهو فوق راحلة ظالع — لم يخطر بباله أن ستكون لألفاظه قوانين تقيدها. وقد قيل إنَّ واضعها استنبطها من سماع أصوات المطارق في حانوت حداد في الحضر. وعذر الشاعر في جهل الأوزان أنَّ شعره — وهو صوت النفس — أمر فوق الأنغام ووراء الأنظمة، لا تحده القيود ولا تربطه القواعد.
إنَّ العرب شعب سامي حقًّا ونفسه في القول أقصر من النفس الآري، ولكنه ليس أضعف ولا أقل فصاحة في التعبير منه، ولم يكن في أفق الشاعر الجاهلي سوى أمور ثلاثة: جمال المحبوب، وذكرى المنازل، والأخذ بالثأر، ولكن هذا الجنس السامي وإن ضاق مجال الشعر في نظره، فقد اتسع خياله في القول، وإن كان اليونان قد أعطوا العالم الإلياذة والأوديسة لهوميروس والمحزنات الكبرى لسوفوكليس وإيخيل وأوريبيد، فقد أعطى الجنس السامي للعالم قصائد جميلة مطولة، ومقطوعات بليغة، وأبيات مفردة كرنات المثاني لا تقل قيمتها الوجدانية في مجموعها عن ذلك الشعر القصصي.
لقد كان الشاعر الجاهلي في فجر التاريخ العربي حكيمًا وعرافًا، ينظم الشعر الهجائي فيصير نداء حرب أو دعاء سخط، ولعنة على الأعداء، وقد أثبت سانت نيلوس أحد حكام قسطنطينية، وقد ترهب في آخر القرن الرابع للمسيح، أنه سمع أناشيد العرب الجميلة في صحراء سيناء. وكتب المؤرخ اليوناني سوزومين في القرن الخامس تاريخًا للكنيسة، جاء فيه أنه في الربع الأخير من القرن الرابع للمسيح تغلبت ملكة العرب مانيا أو مافيا على جيوش الرومان، وهزمتها في فلسطين وفينيقية، فنظم شعراء العرب الأناشيد والأغاني وحفظوها ورووها، وتغنوا بها تخليدًا للانتصار. فالشعر العربي المحكي قديم يرجع عهده إلى القرن الرابع بشهادة مؤرخين غربيين لا يمكن اتهامهما بالتزييف أو الانتحال.
كان الشاعر العربي حكيم القبيلة و«عاقلها» وعالمها وهاتفها ومتنبيها، ومن الشعراء المتقدمين الذين تميزوا بهذه الخصال زهير بن جناب الكلبي من قضاعة، كان يأمر بالحرب والسلم ويختار المنازل ويحدد موعد ضرب الخيام، وقد تولى الإمارة على بكر وتغلب معًا، وظل مقدمًا عند ملوك اليمن والشام، وكان الأمراء يستشيرونه ويعملون برأيه، وإليه يُنسب البيت المشهور:
وربما ظنت القبائل أنَّ للشاعر قوة السحر، وأنه وحده حفيظ على أسرار الكلام وتأثيره في العدو، فكانت للهجاء رسوم خاصة كدهان الشعر، ومسح شق من الرأس بالطيب، وخلع إحدى النعلين، وجر العباءة، وكانت ألفاظ الشاعر في العهد الأول سجعًا، ثم صارت رجزًا، ثم صارت شعرًا؛ لهذا قال مؤرخو الأدب العربي وعلماء الشعر إنه لم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلا الأبيات يقولها الرجل في الحاجة تعرض له، كقول دويد بن زيد حين حضره الموت:
ولم تقصد القصائد إلا بعد ذلك بطويل. فالأنقص من الأشعار والأقصر هي المتقدمة بالزمان؛ لأن الطباع أسهل وقوعًا عليها أولًا، والأقصر هي التي تكون من مقاطع أقل، والأنقص هي التي تكون من نغمات أقل أيضًا، والدليل على أنَّ هذه الأنواع أسبق إلى النفوس أنَّ الناس عند المنازعات قد يرتجلون مصاريع من هذه في مجادلتهم، وذلك عند الحرج، ولما كان أول الشعر العربي هجاءً وتحريضًا ودعاءً على الأعداء — كما قدمنا — كانت الأشعار كلها قصيرة، وأما التي هي أطول وأتم فإنما ظهرت مؤخرًا كالحال في سائر الفنون والصناعات. وأول من يُروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر مهلهل، ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم ضمرة وهو رجل من بني كنانة، وكان بين هؤلاء وبين الإسلام أربعمائة سنة، وجاء امرؤ القيس بعد هؤلاء بمائتين وخمسين سنة تقريبًا، ومن ذلك النوع القصير تلك الأوابد، وهي الأبيات السائرة كالأمثال، وأكثر ما تستعمل الأوابد في الهجاء، ويقال رماه بآبدة؛ أي بداهية.