طبيعة الشاعر الجاهلي
لم يكن الشاعر الجاهلي قاصًّا؛ لهذا لم ينظم الشعر القصصي الذي فيه محاكاة العادات والاعتقادات، ولكن الشاعر الجاهلي ينطق بما يمليه الشعور والوجدان، فنظم الشعر الغنائي الذي فيه حديث نفسه، وهذا لا يكون بالأمور المخترعة الكاذبة؛ إذ ليست هذه من فعل الشاعر الجاهلي؛ لأنه ينطق بالأمور الموجودة أو الممكنة الوجود؛ لأن هذه هي التي يقصد الهرب عنها أو طلبها أو مطابقة التشبيه لها، ولذلك كانت صناعة الشعر الجاهلي أقرب إلى الفلسفة من صناعة اختراع الأمثال، فالشعر كان أمرًا طبيعيًّا للأمة العربية التي كانت على حالة فطرية.
على أنَّ بعض شعراء الجاهلية أجاد القصص الشعري، وبلغوا به إلى غاية التمام، وهذا لا يكون إلا متى بلغ الشاعر من وصف الشيء أو الواقعة التي يصفها مبلغًا يُري السامعين له كأنه محسوس ومنظور إليه دون أن تذهب عن أذهانهم صورة ضده، وهذا يوجد كثيرًا في شعر الفحول والمفلقين، ومثال ما ورد من ذلك قول امرئ القيس:
واليوم يُعرف الكُتَّاب في أوروبا بألقابهم التي اختاروها لأنفسهم، فقالوا كارمن سيلفا، وجورج إليوت، وجورج ساند، وفولتير، وبيير لوتي، وأناطول فرانس، وهذه أسماء مستعارة لثلاث نساء ولثلاثة رجال من فحول وأعلام الكُتَّاب في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولقد سبقهم العرب في ذلك بمئات السنين، فقد كان من قدر شعراء الجاهلية أن تغلب عليهم ألقابهم بشعرهم حتى لا يُعرفون إلا بها كالمرقشين، والمهلهل، والممزق، والمتلمس، والنابغة، والأعشى، وكان لامرئ القيس ألقاب منها الملك الضليل وذو القروح، وكان نبوغ الشاعر عندهم يعادل انفجار عين ماء زلال، فتأتي القبائل تهنئ قبيلة الشاعر الجديد. ولقد تميز كل شاعر عربي بشخصية بارزة ونوع من القول يجيده في حالات نفسه المختلفة، فامتاز ذو القروح بوصف النساء والخيل والمعاقرة والمغازلة، واشتهر زهير بالإجادة لدى الرغبة، والنابغة بالإتقان عند الرهبة، وتفوق الأعشى بالإحسان إذا طرب.
فهذا الشعر العربي شعر منفرد بنفسه نشأ في بلاد العرب، وأجراه الله على ألسنتهم وحدهم دون غيرهم، فلم يأخذوه عن أحد متسلسلًا كما أخذ الإفرنج شعرهم عن اليونان، ومما أدهش رينان وقيده في تاريخ اللغات السامية أنَّ اللغة العربية والشعر العربي جرى كلاهما على ألسنة العرب كاملًا، وكان شعرهم في أول أمره مقصورًا على حوادث أنفسهم، والإبانة عما يكنه الشاعر من شكوى، أو وجدان، أو حكاية واقعة غرامية أو حماسية، يبرزون المعاني الشعرية في ذلك كله كما تصور لهم نفوسهم مجردة عن الاختلاق، ودعوى غير الحقيقة، أو حكاية حوادث وهمية كقصيدة كعب بن زهير في مدح الرسول واستعطافه، فإنك لا تجد فيها اختلاقًا في المدح، ولا تطرفًا في الإطراء، ولا إفراطًا في الثناء إلا ما جرى على طريق الاعتدال، ولم يخرج عن حد المقبول السائغ في الأفهام، وقصائد زهير في هرم بن سنان.
ومن وقف على شعر العرب في الجاهلية ووقف على شعر الإفرنج اليوم، رأى أن لا فرق بين الشعرين في بساطة المعاني، وصدق التشبيه، وحقائق الوصف، وعَجِب كيف يكون كمال الشعر عند الإفرنج في عزة مدنيتهم وتمام حضارتهم مشابهًا لبدء نشأته عند العرب في إبان جاهليتهم وخشونة بداوتهم، فإن صح أنَّ عصرنا هذا في أوروبا هو عصر الحقائق الحسية والمادية، فما أشبهه من جهة الشعر بعصر الجاهلية، وهو عصر الطفولة الشعرية عند العرب؛ أي إنَّ الشعر كان فيه بسيطًا ساذجًا، لم يهذبه العلم، ولم تصقله الحضارة، ولم تتصل به أشعة الخيال الحديث فتنير ظلمته، فهو أصدق الشعر وأجدره أن يكون صفحة صحيحة لتاريخ عصره؛ ولذا كان للنزعة التاريخية سلطانًا على نفوس المولعين به أكثر من النزعة الفنية.
الكتاب الثالث من الشعر الجاهلي وعنوانه «الشعر والشعراء» معظمه رغاء كرغاء البعير، ودفاع المؤلف فيه مقفر من مادة البحث الصحيح، فأخذ يعيد ما قاله في الفصول السابقة، ويكرر ذلك بأساليب شتى تدل على الاضطراب والحيرة، ومن هذا الهذيان قوله في ص١٢٥: «إنَّ أنصار القديم لا يطمعون منا في أن نغير لهم حقائق الأشياء، أو أن نسمي هذه الحقائق بغير أسمائها؛ لنبلغ رضاهم ونتجنب سخطهم»، وهو يعلم أنه لا يوجد في مصر أنصار للقديم أو أنصار للجديد، وأنَّ العلماء والأدباء في كل قطر ومصر أنصار الحق حيث كان، ولكن المؤلف جرَّد من الوهم أشخاصًا أطلق عليهم وصف أنصار القديم ليناطحهم ويدعي باطلًا أنَّ هناك قومًا يحتِّمون عليه أو على سواه تغيير الحقائق، كأنه لم يسود مائتي صفحة في تغيير الحقائق! إنَّ أنصار الحديث والقديم قد أجمعوا على أنك غيرت الحقائق لا لتبلغ رضاهم وتتجنب سخطهم كما تدعي، إنما لتبلغ غاية في نفسك، وتبلغ رضى قوم يسرهم أن تخرج على تاريخ العرب في الجاهلية والإسلام، فلا تتخذنَّ أيها الشيخ أنصار القديم أو الحديث هدفًا لتبرير فعلتك.
ثم عاد فكرر قوله في فصل الرواة: «إنَّ أخبار الجاهليين وأشعارهم لم تصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة، وإنما وصلت إلينا من طريق الرواية والأحاديث» ص١٢٦. وقد وفَّينا بحث الرواية حقه فلا نعود إليه، وأثبتنا أنَّ التواتر والرواية في الدين والتاريخ والأدب هما أصدق المصادر وأوثق المراجع، إنما ذكرنا هذا لندلل على فراغ مادة المؤلف، واضطراره إلى نقل صحف بأسرها من الفصول السابقة في هذا الكتاب الأخير ليبلغ آخر بحثه بشق النفس.
على أنه لم يقل أحد أن ليس للعرب قسم من التاريخ والأدب مجتلب أو مبالغ فيه، فكل أمة لها ذلك، وقد نبه عليه العلماء ومعظمه في القصص الخيالي، والشعر الذي نظمه القصاص لتزيين قصصهم، والأساطير التي نبه عليها ابن خلدون في مقدمته وغيره، ولكن ليس معنى هذا أنَّ كل أخبار الجاهلية وأشعارها منتحلة أو مختلقة، ولم يقل أحد بأنَّ جميع ما ورد في كتب التاريخ والأدب صحيح، بل لا يقول أحد بأن كل ما يكتبه المؤرخون والأدباء والصحفيون والقصاص في أوروبا الآن صحيح، على أنَّ الحق واحد لا يتعدد، وللتاريخ الصحيح لون واحد. ومن أسخف ما ساقه المؤلف في ص١٢٩ أن أنصار القديم إنما ينصرونه «لأن القديم خير من الجديد، وأن الزمان صائر إلى الشر لا إلى الخير، وأن الدهر يسير بالناس القهقرى»، و«أن القمحة كانت تعدل التفاحة حجمًا، وأن الرجل كان يغمس يده في البحر فيأخذ منه السمك فيشويه في جذوة الشمس، فالقديم خير من الجديد، والقدماء خير من المحدثين …»
هل يقول هذا القول عاقل؟ إذا كان خصومك الذين تدعي بوجودهم من الغفلة والسخف والبلاهة بهذا الموضع، فكيف تناقشهم وتحترمهم؟ لقد وضعتهم في موضع الهذر والثرثرة التي لا تكون إلا لعجائز الأسواق والدروب، ثم جعلتهم في صف البله، يفضلهم من كان أقل من الصبي اليافع إدراكًا وتعليلًا للأمور! فكيف تريق مداد قلمك في الرد على مثل هؤلاء؟ وقد تكون مناقشة المجانين والمجذوبين أنفع لك من مناقشتهم لو أردت مجرد المناقشة للتلهي! هل وجدت من وقتك فراغًا، ومن علمك براحًا، ومن مالك زائدًا تنفقها جميعًا في إقناع الجماعة الذين وصفتهم في ص١٣٠ بأنهم يفضلون القديم على الجديد لأنهم يعتقدون صحة ما زعموا من «أنَّ أهل الأجيال القديمة كانوا من الضخامة والجسامة بحيث استطاع بعض الملوك أو بعض الأنبياء أن يتخذ فخذ أحدهم جسرًا يعبر عليه الفرات»؟
والأعجب من هذا أنَّ المؤلف يقول بعد ذلك في ص١٣٠: «فهل تظن أنَّ الذين يثقون بخلف وحماد والأصمعي وأبي عمرو بن العلاء يثقون بهم لشيء غير ما قدمت لك؟» أي إنَّ الواثقين بالأصمعي وأبي عمرو هم من قبيل من وصفهم بالاعتقاد في صائد السمك من البحر وعابر الفرات على فخذ جبار، وكأنه نسي أنه هو نفسه قد وثق بأبي عمرو والأصمعي وغيرهما من الرواة، ونقل عنهم أخبارًا وآراء على أنها حق لا شك فيه (راجع فصل اللغة والانتحال، وفصل اللهجات والانتحال، وفصل الدين والانتحال، وفصل السياسة والانتحال)، وكلها حافلة بالاستشهاد بأقوال هؤلاء الرواة، وهكذا صرف المؤلف سبع صفحات من ١٢٥–١٣١ في مثل هذا الهراء يكتبه ثم يقع فيه.