الفصل الخامس

ما دخل الأشعث بن قيس في تاريخ امرئ القيس؟

ولما حان الجد والبحث الصحيح في حياة امرئ القيس وشعره، تخبَّط من جديد، فأخذ يقول في ص١٣٢:
من امرؤ القيس؟
أما الرواة فلا يختلفون في أنه رجل من كندة.
ولكن من كندة؟
لا يختلف الرواة في أنها قبيلة من قحطان.

وهذا أسلوب كحركة العقرب الخسران في ساعة مضطربة!

ثم لاح له حبل النجاة، فتعلق به لينجو من هذا المأزق، ولكن هذا الحبل واهٍ فهوى به، أتعرف ما هذا الحبل؟ تجريح الإسلام والطعن في مشاهير المسلمين، فتناول ترجمة أحد أبطال العرب «الأشعث بن قيس بن معدي كرب» وصبغها بألوان البهتان بين قاتم وزاهٍ؛ ليصل بذلك إلى نقد أقوال المؤرخين في حياة امرئ القيس، ولا علاقة بين الرجلين، ولا تربطهما أية رابطة.

أما تاريخ الأشعث بإيجاز فهو أنه وفد إلى النبي سنة عشر من الهجرة في وفد كندة، وكانوا ستين راكبًا، فأسلموا، وقال الأشعث لرسول الله: أنت منا!

فقال الرسول: نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا، ولا ننتفي من أبينا!

فكان الأشعث يقول: لا أوتى بأحد ينفي قريشًا من النضر بن كنانة إلا جلدته. ولما أسلم خطب أم فروة أخت أبي بكر الصديق، فأجيب إلى ذلك، وعاد إلى اليمن. وكان الأشعث ممن ارتد بعد النبي فسيَّر أبو بكر الجنود إلى اليمن فأخذوا الأشعث أسيرًا، فأُحضر بين يديه، فقال له: «استبقني لحربك وزوجني بأختك»، فأطلقه أبو بكر وزوجه أخته، وهي أم محمد بن الأشعث، ولما تزوجها اخترط سيفه، ودخل سوق الإبل، فجعل لا يرى جملًا ولا ناقة إلا عرقبه، وصاح الناس: «كفر الأشعث!» فلما فرغ طرح سيفه وقال: «إني والله ما كفرت، ولكن زوجني هذا الرجل أخته، ولو كنا ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه، يا أهل المدينة انحروا وكلوا، ويا أصحاب الإبل تعالوا خذوا أثمانها!» فما رؤيت وليمة مثلها.

وشهد الأشعث اليرموك بالشام ففُقئت عينه، ثم سار إلى العراق فشهد القادسية والمدائن وجلولا ونهاوند، وسكن الكوفة وابتنى بها دارًا، وشهد صفين مع علي، وكان ممن ألزم عليًّا بالتحكيم، وشهد الحكمين بدومة الجندل، وكان عثمان قد استعمله على أذربيجان، وكان الحسن بن علي تزوج ابنته، وروى الأشعث عن النبي بعض الأحاديث، وشهد جنازة وفيها جرير بن عبد الله البجلي، فقدَّم الأشعث جريرًا، وقال: إنَّ هذا لم يرتد عن الإسلام وإني ارتددت، وتوفي سنة أربعين للهجرة. هذه ترجمة حال الأشعث بن قيس، فلا علاقة بينه وبين امرئ القيس إلا أن اسم أبيه قيس، وفي العرب ألوف بهذا الاسم؛ فهو اسم قبيلة، ولم يقل أحد بأنَّ الأشعث هذا من نسل امرئ القيس، أو أنه كان شاعرًا مثله.

وليس في هذه الترجمة غريب إلا ردة الأشعث، ولكنه بعد ردته تاب وأناب، ثم وعد أبا بكر بالتفاني في الحرب، ووفى بوعده، وأبلى في الجهاد والسياسة بلاءً حسنًا، وأصهر إلى حفيد رسول الله، وأقر بعد إسلامه بزمن بفضل جرير بن عبد الله البجلي على نفسه، فإن كان الرجل قد هفا بارتداده، فقد هفا كثيرون قبله وبعده وخانوا واستمروا على خيانتهم، والرجل أخطأ ثم رجع عن خطئه.

أما قتله الإبل والجمال لوليمة عرسه فقد عللها بعادات قومه، على أنه دفع أثمانها، وجعل لحومها مأدبة لأهل البلد الذين رأوا في فعله بعض القسوة فأنكروها، ولكن هذه المجزرة لا تعيب الرجل، ولا تطعن في خلقه، ولكن مؤلف الشعر الجاهلي وهم في ارتداد هذا الزعيم العربي الذي أصهر إلى أبي بكر وإلى الحسن بن علي بن أبي طالب غميزة على العرب والإسلام، فلم يشأ أن يتركها، فحشرها بدون داعٍ أو مناسبة في الكلام عن امرئ القيس، فما العلاقة بين الأشعث بن قيس هذا، وبين شعر امرئ القيس؟

أتدري بماذا يجيب المؤلف؟ إنه يجيب في ص١٣٦ بما يأتي: «أفتظن أنَّ أسرة كهذه الأسرة الكندية تنزل هذه المنزلة في الحياة الإسلامية … لا تصطنع القصص، ولا تأجر القُصَّاص لينشروا لها الدعوة، ويذيعوا عنها كل ما من شأنه أن يرفع ذكرها ويبعد صوتها؟ بلى!»

إنَّ الأشعث بن قيس من قبيلة كندة القحطانية اليمنية، وامرؤ القيس من أهل نجد، ولم يعرف اليمن ولا قحطان، وقد نسبوه إلى كندة تاريخًا كما نسبوا غيره، واسم قيس شائع في كل الجزيرة؛ لأنه اسم قبيلة بأسرها، حتى أنهم ميزوا بين شاعرين باسم الأعشى، فقالوا: أعشى قيس، وأعشى همدان، فلا توجد قرابة ولا نسب، ولا علاقة بين امرئ القيس وبين الأشعث، ولم يجرؤ المؤلف أن يفتعل أكذوبة فيقول إنَّ الأشعث حفيد امرئ القيس؛ لأن امرأ القيس لم يعقب ولدًا ولا حفيدًا، وكان مطالبًا بعرش أبيه، وهلك في سبيل الأخذ بثأره، فإذن يخترع المؤلف سببًا آخر غير سبب القرابة والنسب فيقول: «أليس من اليسير أن نفترض، بل أن نرجح أنَّ حياة امرئ القيس كما يتحدث بها الرواة ليست إلا لونًا من التمثيل لحياة عبد الرحمن حفيد الأشعث، استحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية في العراق (!)» نقول: إنَّ من يكتب مثل هذا القول في كتاب تاريخ وأدب من اليسير عليه أن يفترض ويرجح كل شيء ما دام في مجال الافتراض والترجيح، فهو لا يكتب تاريخًا ولا أدبًا، ولا يطالب أحدًا بتصديقه أو الأخذ عنه أو الاقتداء به؛ لأنه لو كان يقصد أن يصدق لقدم لنا غير الافتراض والترجيح. إذن فهذه بضاعة الشيخ من معمل الاختلاق والاصطناع الذي نظمه في دماغه يخرج منه تلك السخافات؛ ليلهو بها ويلهي القارئ الخلي.

وما دام دليل الشيخ على انتحال حياة امرئ القيس قائمًا في ذهنه بمسألتين: الأولى قوله في ص١٣٦: «أفتظن أنَّ أسرة كهذه لا تصطنع القصص؟» والثانية: «أليس من اليسير أن نفترض، بل أن نرجح!» فلا قول لدينا فيه، ولا حجة لنا عليه؛ لأنه لم يتقدم إلينا بقول شريف أو حجة معقولة.

ويعجبنا من المؤلف نفسه أنه احتقر هذا الدليل ووجده سخيفًا، وأدرك بما بقي له من فطنة اعتراض القارئ فقال في ص١٣٧: «ستقول: وشعر امرئ القيس ما شأنه؟ وما تأويله؟» أي إنه إذا سلمنا بالمبالغة في تاريخ حياة الشاعر نفسه، كما يبالغ بعض الكتاب أو الرواة في تراجم الأبطال، فما دخل شعره المروي عنه في ترجمته؟ فإن حياة الرجل شيء، وثمرة عقله شيء آخر.

صدق من قال إنَّ الجرائم تستدعي بعضها، والكذب جريمة ضد الآداب، ومن يقترفه مرة باختياره يرغم عليه مرارًا ليعلل الكذب السابق، فهذا الرجل «ظن وافترض ورجح»، ثم وقع في هذه الشراك فقال إنَّ نصف الشعر المنسوب إلى امرئ القيس جاهلي (كذا)، والنصف الآخر شعر إسلامي؛ أي إنَّ عبد الرحمن حفيد الأشعث أجر القصاص لوضع ترجمة مكذوبة لتعليل الشعر الصحيح، ثم أجر شاعرًا أو شعراء لصنع شعر منتحل لتعليل الترجمة المكذوبة.

نقول: وعليك — أيها القارئ — أنت أن تستخلص من هذا الخليط المضطرب ما تستطيع أن تسميه رأيًا أو شيئًا يشبه الرأي، فقد خرج الرجل عن حد المألوف والمعقول، وبعد أن أنكر حياة امرئ القيس، وادعى انتحالها لأسباب سياسية أشعثية كندية يمنية إسلامية، عاد فشبه شخصية امرئ القيس بشخصية الشاعر اليوناني هوميروس، وأقر بأنَّ هوميروس وجد حقًّا، وأثَّر في الشعر القصصي حقًّا، وكان تأثيره قويًّا باقيًا ص١٣٨ (راجع ما قاله ضد هذا الرأي في ص٤٦ من كتاب الشعر الجاهلي نفسه)، وظاهر جدًّا أنَّ المقارنة بين هوميروس وامرئ القيس نوع من الخرف؛ لأن هوميروس كان شاعرًا قصصيًّا، وامرأ القيس كان شاعرًا غنائيًّا، ولأن هوميروس كان شاعرًا ضريرًا يطوف القرى مثل أعشى قيس يسأل بشعره، يضيفه الكرام والأغنياء شفقةً وحنانًا وتقديرًا لفنه. أما امرؤ القيس فكان أميرًا ابن ملك، تنقل بين القصور والحصون وعواصم الممالك، مصحوبًا بحاشية ومال موفور الكرامة لا ليستجدي كهوميروس أو الأعشى، بل ليستنجد على الأخذ بثأر أبيه، فشتان يا أستاذ بين هذا وذاك! ولما شعر بخيبته في المقارنة بين هوميروس وامرئ القيس انتقل إلى مسألة السموأل بن عادياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤