الفصل التاسع

أقوال علماء المشرقيات في صحة الشعر الجاهلي

تيودور نولدكه

رأيُ العالم نولدكه في الشعر الجاهلي «أنَّ أول من ادعى بأن المعلقات عُلِّقت على الكعبة ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد في ص١١٦ ج٣، وهو من مؤلفي القرن الرابع الهجري، ولكن هذا الرأي فاسد، وقد انتقده النحاس النحوي المعاصر لابن عبد ربه وقال إنها سُميت المعلقات لنفاستها. أما المعلقات التي رواها حماد فهي لامرئ القيس وطرفة وزهير ولبيد وعنترة وعمرو بن كلثوم وحارث بن حلزة.

وقد أثبت أبو عبيدة والمفضل الضبي مطولتين للنابغة والأعشى، وأغفلا مطولتي عنترة والحارث، وقد يعد هذا التعديل من المفضل وأبي عبيدة غميزة في حسن اختيار حماد، ولكن يحسن تعليل اختيار حماد بأنه أثبت مطولة الحارث ردًّا على مطولة عمرو بن كلثوم، وهذا عين الاعتدال من حماد، فلو كان متطرفًا أو متعصبًا كان في مقدوره أن يغفل مطولة عمرو بن كلثوم ولا يرويها، وإذا افترضنا أنه أثبت مطولة الحارث لعلة فما العلة في روايته مطولة عنترة؟ والرأي عندي أنَّ حمادًا لم يكن متأثرًا بحب من مدحهم الحارث أو من هجاهم عمرو بن كلثوم، ولكنه كان متأثرًا باعتقاده وتمييزه وذوقه الفني، ودليلنا في ذلك أنَّ مطولتي النابغة والأعشى لم تقضيا على مطولتي الحارث وعنترة ولم تمحواهما، فهما ترويان وتنشران عقب السبع الطوال التي وقع عليها اختيار حماد، فصارت المطولات تسعًا بدلًا من سبع، أما ابن خلدون فاستبدل مطولة الحارث بمطولة علقمة لسبب لا نعلمه.

أما تراجم هؤلاء الشعراء السبعة أو التسعة فتمتد لمائة عام، وأقدمهم على المشهور، وهو في الأغلب والأرجح الرأي الصحيح، امرؤ القيس، ولدينا معالم تاريخية بأشخاصها وحوادثها ورد ذكرها في المعلقات تؤيد رأينا في مقاربة هؤلاء الشعراء في السن والمعاصرة، ومن هؤلاء الأشخاص عمرو بن المنذر ملك الحيرة (٥٥٤–٥٦٨)، وقيس بن خالد، والنعمان ملك الحيرة (٥٨٠–٦٠٠).

أما الحوادث فأهمها يوم ذي قار، وهو موقعة حربية بين بني بكر والفرس. وقعت في العقد الأول من القرن السابع للمسيح بين ٦٠٤ و٦١٠ (نولدكه والطبري ص٣١١)، وذكر الأعشى يوم ذي قار في شعره باسم حرب حنو.

وقد عمَّر بعض هؤلاء الشعراء ونضجوا فماتوا في شيخوخة طاحنة، ومات بعضهم في ريعان الشباب كطرفة، وحام الأعشى حول الإسلام، ثم راغ بعد أن أعطاه أبو سفيان مائة جمل جمعها من قريش بالاكتتاب العام؛ ليبعدوا الأعشى عن دوام الاتصال بمحمد بعد مدحه. ولم يسلم منهم أحد غير لبيد الذي بلغ أكمل العمر، وعاش إلى الثلث الأخير من القرن السابع.

قلنا إنَّ الشعر العربي نقل بواسطة الرواية الشفوية والتواتر السماعي، ولا غرابة في هذا بالنسبة للمقطوعات والقصائد القصيرة، أما المطولات فقد كان من التوفيق في حفظها وتداولها وجود فريق من الرجال اختصوا بالحفظ، فوعوا أشعار شاعر واحد أو جملة شعراء، كما كان للشعراء أنفسهم رواة يروون أشعارهم، فكان لكل شاعر راويته، وقد يكون ابنه أو ربيبه أو نسيبه أو حبيبه.

وإنَّ السبع الطوال خالية بالتأكيد من التزييف أو التزوير، فلا يُشك في صحتها، وقد تنشأ بعض الاختلافات اللفظية عن اختلاف بعض قواعد النحو في النطق والقراءة بحسب آراء العلماء الذين وضعوها ولقنوها. والناظر في مجموع هذا الشعر البدوي بعين الانتقاد يمكنه استخراج صورة شعرية كاملة من حياة هذا الشعب العربي في بداوته، وقد كان نقاد الأدب العربي في القرنين الثاني والثالث من الفطنة وحسن التقدير بحيث وضعوا شعراء الجاهلية في مكانة أرقى من مكانة الشعراء الإسلاميين ونحن نوافقهم على ذلك، وقد يسأل الناقد نفسه: كيف وقع الاختيار على المطولات دون سواها من مئات بل ألوف القصائد التي قالها الشعراء وحفظها الرواة؟ والرد على ذلك أنَّ الانتخاب يرجع إلى سعة الشهرة التي تمتع بها أمثال امرئ القيس وزهير وطرفة، كما أنَّ قصيدة مفردة لشاعر مثل عمرو بن كلثوم حازت سمعتها لأسباب خاصة أدت إلى سرعة انتشارها، ولو طُلب إلينا — نحن النقاد الأوروبيين المحدثين — أن نختار من الشعر الجاهلي أفضله، فلعلنا لا نختار شيئًا مما اختاره قدماء العرب؛ لأن أذواقنا تخالف أذواقهم، ومُثلنا العليا في الفن مستمدة من مصادر تخالف مصادرهم، ولكننا لا نزال نحترم اختيارهم ونوافق عليه؛ لأنهم كانوا أدرى منا بموضوع القصائد وقوالب اللغة التي أُفرِغت فيها، فهؤلاء السابقون الذين اختاروا المطولات يدركون من جمال معانيها ومحاسنها اللفظية ما لا ندرك نحن بتاتًا، أو ما نحتاج في تقديره إلى مجهود كبير.

وإن بالغ الشاعر الجاهلي في وصف حروبه ومعاركه، فهو — بلا ريب — صادق الصدق كله في حكاية حالته النفسية ومطوحاته الغرامية، وإن كان الشعر الخاص بذلك الموضوع مفرغًا في قوالب ذات ألوان زاهية، فهو حقًّا خاضع لنوع من رقة الطبع والاحتشام لم يحتفظ به كثير من الشعر المجوني العربي في عهد الأمويين والعباسيين، وأقوى شطر في القصيدة العربية هو الخاص بالوجدانيات، فإنَّ الشاعر العربي إذا هاجه الحب، أو حركه الغيظ، أو آلمه الحزن، أو استفزه الغضب للأخذ بالثأر؛ ظهرت له شخصية ممتازة قد تتوارى أو تتلاشى حين يقصد بالشعر مجرد الوصف الذي لا مساس له بالعواطف الإنسانية، وقد يمتاز شعر الرثاء؛ لأن الشاعر يقوله وكبده تحترق على فراق قريب أو حبيب، ولا يقل قدر الشعر إذا كان موضوعه حكمة عملية أو فلسفة نظرية مثل ما جاء في مطولتي زهير ولبيد.

ولا يقل إعجابنا بالعرب إذا نظرنا إلى الأوزان والضروب البديعة التي سار عليها الشعراء قبل أن توضع قوانين العروض، فإن ظهور مثل تلك الأوزان في صحراء مجدبة ووادٍ غير ذي زرع، لدليلٌ على عبقرية العرب الممتازة، وفي أحوال كثيرة توجد الوحدة بسرد حوادث متعددة من حياة الشاعر، أو وصف جملة مناظر من الحياة البدوية.» ا.ﻫ. كلام الأستاذ تيودور نولدكه في المعلقات وشعرائها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤