حكاية هذه الأوراق

تباينَت الروايات في أي الأماكن ترك أبو الطيب المتنبي١ هذه الأوراق، ومن الذي عثر عليها للمرة الأولى. قال البعض إن الأوراق عُثر عليها ضمن متعلقات أبي الطيب في الموضع نفسه الذي شهد معركته الأخيرة، ومصرعه. ورواية ثانية أنها كانت ضمن ما حمله أحد اللصوص من متاع المتنبي، أودعها بيته القريب من بغداد، ولحقته الوفاة دون أن يدرك قيمتها. فطن الأحفاد لخطورة ما تحويه، فأذاعوه. ورواية ثالثة أن أحد المارَّة وجد حقيبةً صغيرة، في الموضع نفسه الذي صُرع فيه المتنبي، فحملها إلى بغداد، وفحصتها الأعين الخبيرة فأعطت المقابل الذي استحوذت به عليها، وظلت في موضعها من مكتبة خاصة، حتى قيض الله كاتب هذه السطور، فأخرجها إلى النور.

•••

أما السؤال الذي طرح نفسه، قبل أن أعد هذه الأوراق للنشر، وبعد إعدادها كذلك، فهو: هل كتب أبو الطيب ما كتب في صورة مؤلف، يروي أحداث رحلته في مصر، أو أن أوراقه مجرد ملاحظات أقرب إلى المذكرات اليومية، التي يكتبها بعض المشتغلين بالحياة السياسية والفكرية في حياتنا المعاصرة؟

أيًّا كان الجواب، فإن هذه الأوراق التي كتبها أبو الطيب المتنبي إبان إقامته في مصر، وبعدها إلى مصرعه، كان ينبغي أن تحقق، وتنشر، بحيث يتاح للأجيال الحالية أن تتعرف إلى جوانب لم يسبق كشفها في حياة المتنبي.

حرصتُ في تحقيق الأوراق — وأعتذر لضياع بعضها وطمس كلمات، أو حروف، بعضها الآخر — أن أسوِّد ما كتبه أبو الطيب في زمانه، لا أغيِّر كلمةً ولا حرفًا، ولا أحذف أو أضيف. إنما أشرح ما يطلب الشرح، وأسلط الضوء على الأعلام والأماكن والأحداث، بما يعين على فهم الأوراق، واكتناه بواعثها ودلالاتها.

أمَلي أن تجد هذه الأوراق اهتمامًا، يساوي قيمتها التاريخية والأدبية، وما بذل فيها من جهدٍ كي ترى النور.

والله ولي التوفيق
محمد جبريل، مصر الجديدة ١٩٨٦م
١  هو أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي. وُلد بالكوفة سنة ثلاث وثلاثمائة ﻫ. نشأ بالشام، وأقام بالبادية، وفيها تعلم اللغة والشعر. وقد تفهم — في نشأته — تعاليم القرامطة، ومارس طقوس الشيعة. تؤكد غالبية الروايات أن المتنبي عربي الأبوين، وأن أباه كان سقَّاءً في الكوفة، وإن ذهبت اجتهادات إلى أن غموض طفولة المتنبي، دفع الحاقدين عليه للادعاء بأن أباه كان سقاءً وأنه انتقل به من الكوفة إلى الشام. ولما سئل المتنبي عن نسبه، لماذا يكتمه؟ أجاب: إني أنزل دائمًا على قبائل العرب وأحب ألا يعرفوني خيفة أن يكون لهم في قومي تِرة (ثأر).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥