الأوراق من ٦ إلى ٨١

مصر

وصلت إليها في مطلع الصباح الشوارع تتثاءب وغلالة رمادية تلف الناس والأشياء والمشربيات لا تبين عما وراءها.

قطعت — وأتباعي — الطريق دفعةً واحدةً من الرملة إلى بلبيس٢ فالفسطاط.٣ دخلت من بابٍ هائل الارتفاع (علمت — فيما بعد — أن اسمه باب الصفا، منه تخرج العساكر، وتعبر القوافل). لم يكن أحد في استقبالي، وإن كنت أعرف مقصدي. سألت عن قصر الأستاذ أبي المسك كافور٤ فأبدى الناس عجبهم، وإن أشاروا بعبور شوارع وأخطاط٥ وأبواب، كي أصل إلى القصر المنشود.

حرصت على ركوب الحصان حرصت على الأمر نفسه لأتباعي: ولدي محسَّد، وتابعي مسعود، وقلة من الخدم والعبيد، حتى لا أبدو في الأعين كالآلاف من السابلة والعامة وذوي المهن الحقيرة، أمرت فأحسن الخدم اختيار جوادي، وطهمته وكسوته، فبدا مليحًا يسر الناظرين مشاعر الاعتزاز تمور في داخلي للنظرات المتطلعة، المشوبة بالإعجاب، تتقلص يداي على المقود، وأطمئن إلى الأتباع والأمتعة في جياد أخرى خلفي. لا يعرفون أبا الطيب، وإن حدسوا عظمة هذا الوافد، تبين نظراته المتطلعة عن غربته.

•••

كأنما العرب خلقوا للأحقاد، سيف الدولة يهبني لكافور بسوء تدبيره، وقلة تمييزه. خلَّفْت في الشام أبا فراس، وأبا الحسين الناشئ،٦ وأبا القاسم الزاهي،٧ وأبا علي الحاتمي،٨ وغيرهم عشرات، بذلوا المداهنة والملق، والقصائد التي تخفض ولا ترفع، أحكموا المكائد والمؤامرات، فبات سيف الدولة غضبًا خالصًا. قررت أن أترك لهم الجمل بما حمل، فأهجر الشام إلى بلاد أخرى غيرها من بلاد العرب. ناقشت أصحابي: أي البلاد نتجه إليها؟ اختاروا العراق واخترت مصر. لم يكن اختياري وليد اللحظة ولا مصادفة. أسرفت — في قصائدي — في النَّيل من معز الدولة والنَّيل من الخليفة نفسه. أهملت الحيطة والحذر فرميت ناس العراق بالجبن والخوف وغلبة الشهوات، باتت الطريق إلى بغداد — من يومها — غير ممهدة ولا مأمونة. زاد رسل الفسطاط، تعددت زياراتهم السرية إلى حلب، ضمنوا حماية الإخشيدي، ولوحوا بالأمل الذي كنت أتوق …٩

آذاني الإخشيدي من قبل بواسطة لؤلؤ، نائبه في حمص. صدَّق ادعاء نبوتي، فأسرني وأودعني السجن، حتى تبتُ عن الذنب الذي لم أرتكبه. هل يستقيم ادعاء النبوة وكتابة الشعر؟!

عفا الله عما سلف. الطريق وحيدة، وواضحة، إلى الفسطاط. الأمن والأمان، الحكم والسلطان. لا بد أن يلقاني الأستاذ أبو المسك كافور بما يليق بمنزلتي، ما أتيت إلى مصر إلا وقد شغلت بي الألسن وعمرت قصائدي مجالس الأنس، واستعانت بها أقلام الكتاب وأقوال الخطباء، ولحون القوالين والمغنين، وسهرت فيها الأعين، وكثر الناسخ لشعري، الغائص في بحري المفتش عن جماني ودرِّي، فشرَّق شعري حتى ليس للشرق مشرق، وغرَّب حتى ليس للغرب مغرب.

تكفي ثلاث قصائد، وربما قصيدتان. أتحدث عن مناقب الأستاذ، ومآثره. يهبني ما عجزَت مدائحي في سيف الدولة عن تحقيقه، وما كاد تلميح رسل الأستاذ به يبدو تصريحًا: ولاية عسكرية في صيدا، أو في …١٠
كان وصولي إلى دمشق هو المعبَر — الذي لا معبر سواه — كي أصل إلى مصر. الوالي — عبيد الله بن طغج١١ — في خدمة كافور. ما أسرع ما تصل كافور أنباء وصولي، وما أيسر أن يطلب استقبالي في مصر، وأن أنزل في ضيافته.

•••

وصلت في الضحى إلى قصر الأستاذ بخطة سوق العسكر. سامق البنيان، أشبه بقلعة أو بحصن أحاطت به الحدائق والمياه الجارية، لا أدري من أين تأتي ولا إلى أين تنتهي!

أمرني الأعوان، فخلعت بالباب نجاد سيفي.

كافور على عرشه. من أمامه وحوله الأعوان والأتباع. ميزت من بينهم — لكثرة ما سمعت من أوصافه — الوزيرَ ابن الفرات١٢ وهؤلاء الذين قدموا إلي لتعرفني بهم أيام القاهرة التالية: ابن الخصيب، قاضي مصر،١٣ ونقيب الطالبيين، عبد الله بن طباطبا، والشريف بن محمد العلوي، والوزير القبطي أبو اليمن قزمان بن مينا، وبدر بن هلال القاضي، وصالح بن رشدين الكاتب، وسمول الإخشيدي قائد العسكر، وأبو إسحاق النجيرمي النحوي، والناشئ الشاعر والكندي وابن القاسم١٤ وغيرهم من كبار أهل الدولة وعلماء الدين والوجهاء.
بدوا لا شيء في القاعة الفسيحة، زينت جدرانها وسقوفها بالنقوش والتهاويل، وطنافس جميلة افترشت الأرض وزرابي١٥ تناثرت في الأركان، ومساند تطمئن إليها الظهور حين تجلس.

هل أناديه بالأستاذ اللقب الذي أطلق عليه، منذ عهد إليه الإخشيد بتربية ولديه؟ أو أدعوه أبا المسك، كما كناه الخليفة العباسي، أو اللابي نسبةً — كما عرفت — إلى إقليم اللاب من بلاد النوبة؟

تظاهرت — عند دخولي — بتقبيل الأرض: أهلًا بشاعر العرب، أهلًا بأبي الطيب.

أضاف وهو يهم من مجلسه: لقد أبطأت علينا كثيرًا، والدولة لا تكمل عظمتها إلا بمثلك. إنك ستكون في ضيافتي، وأرجو أن تطيب لك الإقامة. أقبل علي أبا الطيب.

البداية لا بأس بها. أقبلت عليه. تظاهرت بتقبيل يده فسحبها، وأعفاني من الحرج.

جذبني من ذراعي، فأقعدني بجانبه.

•••

قبل أن أدخل عليه، كانت الروايات قد تحدثت، وأفاضت عن خَلقه وخُلقه، طريقته في الحكم. كيف يسوس الجماهير، ويحرك الأعوان. لم تختلف صورته الحقيقية كثيرًا عن تلك التي رسمها تعدد الروايات: ممتلئ الجسم إلى حد السمنة، متفلفل الشعر أسود البشرة مثقوب الشفة السفلى، تلتمع عيناه ببريق كأنه التوجس، أو محاولة استشفاف ما يضمره الواقف أمامه. هذا هو الذي ولي حكم مصر ببشارة منجم دفع له درهمين. العبد الخصي المملوك لمن لا يعرفه أحد من أهالي مصر. حمل نير المعصرة، داس الكسب، جر العجلات افترش الأرض، تمرغ في الزيت، لقي الكثير الكثير من العنت والإيلام.

رأى فيه الإخشيد النجابة والهمة. قال — يومًا — في يقين: والله لا ورث دولة ابن طغج١٦ إلا هذا العبد.

حاول سيف الدولة أن يظفر — في أعقاب وفاة الإخشيد — بشيء. أخذ دمشق، ومضى إلى الرملة. بدا أبو القاسم أونوجور — ابن الإخشيد، ومن تولى الحكم بعده — متخاذلًا، منهارًا، لا يقوى على التصرف. خرج كافور بالعساكر، وضرب الدباديب على باب مضربه، في وقت كل صلاة، وسار فظفر وغنم. سبقه صيته في عودته إلى مصر. هلل الناس لانتصاره، وهتفوا له. عزل أونوجور، وخصص له أربعمائة ألف دينار في العام، وولى نفسه مكانه. أحبه الناس والوزراء وأهل السيف وأهل العمامة، والتفوا حوله. خلع وحمل وأعطى، وانبسطت يده، فعزل وولى، وأعطى وحرم، وثابر على تدبير الأمور، تساعده الأقدار والأعوان، حتى عظم شأنه، فصار — في ألسنة الناس — أبا المسك، والأستاذ، واكتسب محبة حتى هؤلاء الذين يعيبون عليه سواده، ودعي له على منابر مصر والشام والحجاز.

في مساء اليوم نفسه، كان الوزير ابن الفرات قد صحبني إلى دار أبي بكر، القريبة من الساحل. أمر لي كافور بها، تطل على الصحراء والنيل والمدينة بقصورها وبيوتها وبساتينها وشوارعها وأخطاطها. الطابق الأعلى مخصص للنوم، والإيوان — في الطابق الأرضي — للمعيشة اليومية. في أثناء النهار، وللاستقبالات والضيافة، ملحق بالبيت إسطبل للدواب، وحواصل لحفظ المؤن، وتحيط به، وتتوسطه، الشاذروانات والفساقي تحف بها أحواض الزهور وأنواع الرياحين، وأصناف الشجر والورد.

۱۲-۱۱

الفسطاط
نزلت إليها عصر اليوم الثالث. تمتد على طول شاطئ النيل، محل الأمراء، ومنزل حكمهم. إليها تُجبى ثمرات الأقاليم، وتأوي الكافَّة. مدينة كبيرة، عظيمة، كثيرة الخيرات، رخيصة الأسعار، واسعة الرقعة. يحيط بها سور محكم، وأبواب مشهورة. مبانيها بالقصب والطوب، أو بالبوص والنخيل. يقطن فيها العرب المسلمون والأقباط جنبًا إلى جنب. بها بساتين فخيمة، ومتنزهات تكسوها الخضرة، وأسواق كثيرة، وشوارع وأخطاط ودروب ورحاب وأزقة. تزدحم بالناس من الباعة والمارة وأرباب المعايش وأصحاب اللهو والملعوب، وإن بدت ضيِّقة بالقياس إلى شوارع بغداد، أو الشام. بها من الحركة والسير في كل وقت ما لا ينقطع. الحمير وسيلة المواصلات الرئيسة. أما الخيل، فلا يركبها سوى الوزراء والوجهاء والجنود. بعض الأخطاط لا يستطيع المرء أن يمر فيه من ازدحام الناس إلا بمشقَّة. يتفرَّع بعضها من بعض على غير نظام محدد، وتعرجاتها بلا ضابط. وربما انتهى السير في إحداها بانسداد. وحين تُخلى السبيل لقباب١٧ فإنها للنساء، ينتقلْنَ فيها. الشوارع والأسواق المسقوفة (تسمَّى قيساريات) تضاء بالمصابيح؛ فضوء الشمس لا يصل إليها، ربما لتوفير الظل، وحماية السابلة من شمس الصيف اللاهبة، والكثير منها يغلق ليلًا من طرفَيه، توخيًا للأمن. والفسطاط تزخر بالوكايل والخانات والمتاجر التي تبيع من كل صنف، والمساكن الكثيرة، والبساتين العظيمة، والحمامات، والشُّوَن، والمناظر، والرباع، والفنادق، والبرك، والخلجان، والجزائر، والرياض، والدور، والقصور العالية، يصل ارتفاع بعضها إلى سبعة طوابق، وآلاف الدلاء تتدلَّى من شرفات بيوتها المطلة على النيل. مياه النيل ترفع بواسطة الأسطال والحبال والبكر، وعدد القوارب فيه أضعاف عددها في دجلة والفرات وبَرَدَى. بها ما لا يكاد يُحصى من الجوامع والمساجد والزوايا والتكايا، أشهرها جامع عمرو بن العاص، لا تخلو — ليلَ نهار — من القراء والفقهاء والمنشدين وطالبي التوبة. تعدد المناسبات الدينية يبين عن مشاعر غلابة. على جانبَي الأسواق، حوانيت بها كل ما يحتاجه المرء. ثمة الرفاءون والحيَّاكون والرسامون وباعة الأقماع، والبزازون والخلعيون والمجبرون، وباعة الظرائف والمغازل والكتان والشمع والصاغة والسروجية، والحدادون والدقاقون والصيارفة والصياقلة والطرازون والإزاريون، والجدالون والأساكفة والدباغون والنجارون والحذاءون والخشابون … وأنواع المآكل والمشارب والأمتعة تزيد عن الحصر؛ فثمة القصابون والملاحون والزياتون والجبانون والخبازون، واللبانون والطباخون والشوائيون والبوادرية والعطارون والخضريون والسماكون وباعة البقل، وأصحاب الخضر والفاكهة والأزهار، والسقاءون يحملون الماء في قرَبٍ كبيرة، على ظهورهم، أو فوق الجمال، والماء يحفظ في أزيار أو صهاريج، تحت الأرض أو فوقها، عندما لا يزيد البيت عن طابق واحد.

١٥-١٦

اختلفت — ظهر اليوم — إلى الجامع العتيق.١٨ صحنه ممتلئ على الدوام، بالطلبة والمريدين. يلزم الباب الخارجي مملوكان شاهران سيفَيهما، أمر الأستاذ، فهما عن يميني وشمالي كلما نزلت إلى الطريق.

سرت — بعد الصلاة — في الأسواق المحيطة. أطيل التأمل في سوق القناديل شمالي الجامع. سمي بهذا الاسم لاقتصار سكناه على طبقة من السراة. أمام دار كلٍّ منهم قنديل. لا يتبدد إعجابي أمام تنوع معروضاته.

تسابق الناس إلى لقائي. أظهروا بشاشةً وودًّا. غمرتني مشاعر الانبساط لما استمعت إلى قصائدي من أفواههم.

عرَفني أبو الوليد بن عيال — أحد مواطني الأندلس — وعرَّفني بنفسه. سألته عن ابن عبد ربه، مليح الأندلس، كنت أحبه وأعجب بشعره. أنشدني أبو الوليد من أبيات ابن عبد ربه:

يا لؤلؤًا يسبي العقول أنيقا
ورشًا بتعذيب القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
درًّا يعود من الحياء عقيقا
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه
أبصرت وجهك في سناه غريقا
يا من تقطع خصره من رقةٍ
ما بال قلبك لا يكون رقيقا

لما انتهى أبو الوليد من إنشاد القصيدة، أعلنت إعجابي بالتصفيق. واستعدتها، وقلت: يا ابن عبد ربه … لقد تأتيك العراق حبوًا!

۱۹

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
تمنَّيتها لما تمنَّيت أن ترى
صديقًا فأعيا أو عدوًّا مُداجيا١٩

ليلة العمر.

حتى الذين كنت أخشى حقدهم، علت أصواتهم بالثناء والاستحسان. كافور على عرشه بادي الفرحة والسعادة. فرغت منها، فأمر لي بعشرة آلاف درهم، سلمة أولى في درجات الصعود إلى المكانة التي أستحقُّها، عصا موسى التي ابتلعت أفاعيل الحواة.

علمت في اليوم الثالث — قبل أن أكتب هذه الكلمات — بتكاثر الأدباء في سوق الوراقين. ينشدون نسخًا من القصيدة. غالى النساخون في الثمن، وفرغوا لنسخ القصيدة وحدها. شغلت أحاديث الأساتذة والطلاب في الجامع العتيق. أتصور التأثير لما تصل القصيدة إلى حلب. يعرف سيف الدولة أنه دفع ثمن إنصاته إلى وشايات أبي فراس وسواه، من الذين بذلوا الإساءة، حين قصرت أشعارهم عن مطاولتي.

وما كمد الحساد شيئًا قصدته
ولكنه من يزحم البحر يغرقِ

۳۳-۳۲

حسن موقعي عند الأستاذ. مالت نفسه إليَّ، وأحبني. قرَّبني وأجازني الجوائز السنية، وأجزل لي العطاء. لم أتأخر عن مجلسه إلا لتوعك أو مرض.

لاحظت حرصه على أن يبتعد عن مواطن الشبهات، وما يغري بالفساد؛ فهو يقيم في قصره يكاد لا يغادره، يدير منه شئون الدولة، ويستقبل الوفود، ويجالس المريدين والأصفياء، ويستمع — في أوقات معينة — إلى شكايات الناس وتظلماتهم. من حوله ابن الفرات وسائر القضاة والفقهاء والشهود والأعيان والوجهاء. يسأل ويناقش، ويستوضح، وينصت إلى المشورة. يعلن رأيه، فيقبله الجميع، ويعملون على تنفيذه، يقصده المظلومون وأصحاب الحاجات، فيلبِّي حاجاتهم وما يطلبون، لا يُرفع إليه رقعة إلا وقَّع عليها، ولا يُسأل في حاجة إلا قضاها، ولا يقدم على شيء فيه مساس بالحرمة أو الخلق الكريم، ويصدع بالحق، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقيم الهدى.

روى لي ابن رشدين أنه كان يداوم الجلوس، غدوة وعشية، لقضاء حوائج الناس. وكان سريع المدمعة٢٠ يبكي لأقل موعظة ويتهدَّج، ويمرغ وجهه ساجدًا، ويقول: اللهم لا تسلِّط عليَّ مخلوقًا.

هالني كرمه؛ فهو لا يني يوزع عطاياه بين عالِم وزاهد وفقير، ولديه أموال خاصة بالفقراء والمحتاجين، يجري توزيعها بإشرافه، ويُجلب إلى قصره كل يوم: مائة خروف، مائة حمل، مائتان وخمسون أوزة، خمسمائة دجاجة، ألف حمامة، مائة خابية ملأى بالحلوى، يغيب في بطون الآكلين ما يزيد على ألف وسبعمائة رطل من اللحم، عدا الطيور والحلوى.

عُني بالتشييد والعمران، فبنى العمائر والقصور والدور والمساجد والزوايا والخوانق، والحصون والقلاع والجسور والقناطر والطرق، والعديد من الأسبلة والسقايات والمارستانات٢١ والكتاتيب والحمامات والأحواض ومساقي الدواب، أوقف عليها الكثير من الأموال والحبوس.٢٢

سهل الانتقال بين البلاد، وازدهرت التجارة، وكثرت الخيرات. وأقيمَت أحياء وقرى جديدة، وزادت رقعة الأراضي الزراعية، فلم يعُد الأغنياء يجدون فقراء يؤدُّون إليهم الزكاة.

قرب منه العلماء والفقهاء، وأجرى عليهم الرواتب والصدقات، واجتمع على بابه من الأدباء والشعراء عدد كبير، يجالسهم ويبرهم ويقدرهم، بما يعطيهم من أموال، وما يقدم إليهم من تكريم.

صادقت — في مجلسه — الأمراء والوجهاء، وأهل العمامة والسيف، وأهل القلم والرتب، واستمعت إلى السيَر، وأخبار الأُمويين والعباسيين. وشاركت — أحيانًا — بما أعلمه، فلم أجاوز إلى سيف الدولة من قريب أو بعيد.

لاحظت أنه يعتمد على المال والهبات والعطايا في السيطرة على الجيش. أغدق الرواتب والمنح والهدايا على القادة والجند، فاكتسب رضاءهم وإخلاصهم. حتى أنصار أولاد الإخشيد، بذل لهم من المال والرعاية، ما جعلهم يطمئنون إلى حكمه، ويدينون له بالولاء.

قلت لعبد الرحمن السكندري٢٣ — هذه الليلة — وهو يُرافقني إلى بيتي: بنى الأستاذ لنفسه في قلوب الناس …

لم أفهم قوله: للمرء حواس أخرى غير الأذنَين.

أردف لنظرات التساؤل في عيني: أعوان السيابي يهدمون كل ما يبنيه.

وهو يضغط بيده المصافحة: غدًا، أدعو السيابي لزيارتك!

٣٨-٣٩

أعفَتني الزيارات — في مدى أيام ثلاثة — من مغادرة البيت. فيما عدا ابن الفرات زارني الوزراء وأهل الدولة وزعماء الصوفية وأرباب القلم والسيف وأهل النظر والقضاء. بذلوا الحفاوة والود.

قدَّم السكندريُّ شابًّا في بداية العقد الرابع: حسن البلبيسي. لم أرَه في مجلس الأستاذ، وإن أكد السكندري — في حضور الشاب — دوره في حماية الدولة وأمن المواطنين. بدا قريب الشبه من عبد الرحمن السكندري في قامته الطويلة المعتدلة، وبشرته القمحية، وعينَيه البنيتين وشعره الأسود، المنسدل على قفاه، وإن حلق ذقنه وشاربه. أما السكندري، فقد أحفى الشارب، وأطلق اللحية.

سألني حسن البلبيسي: هل أنت علوي؟

قلت: قال لي أبي إني رضعت من امرأة علوية من آل عبيد الله … فأنا إذن أخو العلويين من الرضاعة.

قال البلبيسي: لماذا سُميت بالمتنبي؟

قلت: اسأل من أطلق التسمية.

قال: قيل إنه قد روي لك قرآن.

قلت: لا أعرف غير القرآن الإلهي.

قال: لكن النبوة تحتاج إلى قرآن.

قلت: النبوة، ولستُ نبيًّا!

قال: اذكر ما تلوته على أهل البراري من قرآنك.

واعتدل في جلسته، كمن يهمُّ بالتلاوة: «والنجم السيار، والفلك الدوار. إن الإنسان لفي أخطار. امضِ على سننك، واقفُ أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضلَّ عن سبيله …»

قلت: هذه كلمات مخترعة.

قال: فلماذا سميت نفسك المتنبي؟

غالبت ضيقي: قلت لك يا أخي إني لست صاحب التسمية.

برقت عينا عبد الرحمن السكندري بالتماع غاضب: أسئلتك تسرف في الإيلام، ما أعرفه أن حاسديه لاحظوا كثرة دوران أسماء الأنبياء في شعره، وتشبيه أنفسهم، فميزوه بلقب المتنبي.

قلت: إنما لقبت بالمتنبي لقولي:

ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهودِ
أنا تِرْب الندى ورب القوافي
وسمام العدى وغيظ الحسودِ
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالحٍ في ثمودِ

أذكر أني سُئلت ذات يوم: لماذا تكتم نسبك؟

قلت — عفو الخاطر: إني أنزل دائمًا على قبائل العرب، وأحب ألَّا يعرفوني، خيفة أن يكون لهم في قومي ترة.٢٤

هل ما زال نسبي يشغل الناس؟

أنا أبو الطيب المتنبي، الشاعر الذي يلتقي الناس حول أشعاره …٢٥ حذرني السكندري — عقب انصراف الشاب — من الكلمات التي قد تفقد براءتها في أذن قائد البصاصين، وظيفة حسن البلبيسي غير المعلنة.٢٦

٤١–٤٣

عيد الغطاس٢٧

حين دعاني عبد الرحمن السكندري إلى رؤية الاحتفال به، أبديت ترددي، ثم اعتذرت.

ألحف في دعوته: هذه احتفالات عظيمة، لا تتكرَّر إلا مرةً كل عام.

ذهبنا إلى موقع بالقرب من كنيسة قصر الشمع. شاهدت ما لم يُتح لي مشاهدته من قبل: العشرات من النصارى يخرجون من الكنيسة إلى شاطئ النيل، يرددون الصلوات بنغمات ملحنة، وإن لم أتعرف إلى معاني الكلمات. يحمل غالبيتهم الصلبان المشهورة، وفي وسطهم أسقف ذو وقار، يعلو صوته — عكس ما يردده من صلوات — بلغةٍ عربية واضحة ومستقيمة. يخطب في الجموع المحيطة، ويدعو للأستاذ.

سعى الناس — من بعد — مسلمين ونصارى إلى النيل. نصبت الخيام على جانبَيه، ارتدوا فاخر الثياب وأبدوا الميل إلى الفرحة واللهو. استقلوا المراكب الصغيرة والزوارق. غابت — في ابتعادها — أصوات الموسيقى والأغنيات والرقصات …

– هل هذا هو الغطاس؟

قال السكندري: غطسوا في النيل عند السحر … من يغطس في تلك الليلة، يأمن الضعف طيلة السنة.

أضاف موضحًا: هذه بقية الاحتفالات.

سعى البعض — ممن غادروا الكنيسة — إلى ناحية سوق الشماعين. قال عبد الرحمن لنظْرتي المتسائلة: شراء الشموع ضرورة في عيد الغطاس.

أما بواعث الاحتفال …٢٨

ظلَّت الدكاكين والأسواق مفتوحةً إلى الصباح، والسفن المضيئة تسير في النيل. نمط من الحياة يغاير مألوف حياتي. أشاهد وأسأل وأناقش وأسمع وأحاول كتم الشرود. غادرت البادية والشام وحلب وسيف الدولة، لأظفر بالمكانة التي أستحقُّها. أتيت لهدف محدد، فلا أجاوز الطريق إلى دروب وأخطاط لا شأن لي بها.

٤٦-٤٧

لا جديد

اختلفت بين وقت وآخر إلى الجامع العتيق. مَباءة نحل، يشتار فيها طلبة العلم أثمار اللغة والأدب والشعر. يغشى مجلسي من أعرفه، ومن لا أعرفه. يحفظون شعري، يأخذون عني، وأغريهم بالمساجلة.

ابن جني،٢٩ أين هو الآن! كم أشتاق إليه. أول راد لديواني وحافظي، وناقلي، ومحاوري في الكثير من المسائل والدقائق. هل ما زال في حلب؟ هل يلزم — ما زال — مجلس سيف الدولة؟ يسألني الرجل عن شيء من دقائق النحو والصرف في شعري، أقول له: سل صاحبنا أبا الفتح؛ فإنه يعرف من شعري ما أدري وما لا أدري، أضيف في تأكيد: ابن جني أعلم بشعري مني.

ابتدرَني شاب، عقب صلاة الظهر: نحن نزكي في الشعراء ثلاثةً، هم أبو تمام والبحتري وبشار، من عداهم أقل منزلة!

غلقت على مشاعر الغضب بابتسامة اصطنعتها: إني أرى في شعراء الجاهلية المثل الأعلى للشعر.

قال الشاب: ألا ترى في شعراء زماننا من يطاولهم؟

قلت في ثقة: ربما ابن الحسين وحده!

قال إمام الجامع: قاتل الله الغرور!

قلت:

خليليَّ إني لا أرى غير شاعرٍ
فلِمْ منهم الدعوى ومني القصائدُ

قال الشاب: لقد امتدحت البحتري وأبا تمام في زمن قريب.

قلت: ولا زلت عند رأيي.

– وما رأيك؟

قلت، ربما دون أن أفكر: أنا وأبو تمام حكيمان … والشاعر البحتري!

قال رجل في أواسط العمر: فماذا عن سرقاتك لحكم أرسطو؟

قلت: فلسفتي عن ابتداع لا اطلاع.

قال الشاب: أرى في بعض أبيات قصائدك توافقًا مع قصائد شعراء يسبقونك في الزمن، ليس في المعنى وحده، وإنما في اللفظ أيضًا!

قلت: طالما ألقي عليَّ هذا السؤال من قبل. وكان جوابي أن الشعر جادة.

قال الشاب: كان أبوك يبيع الماء في الكوفة … فمن أين جاءتك هذه النزعة المتعالية؟

قلت: لو أن أبي كان سقَّاء الكوفة، ما اعتذرت عن ذلك ولا أنكرته.

أردفت:

وكم من غلامٍ علَّم المجدَ نفسَه
كتعليم سيف الدولة الطعن والضربَا

٤٨

لو لم أرَ ما حدث بعيني، ما صدقت. دخل جماعة من الخصيان السود، لا أدري إن كانوا من داخل قصور الأستاذ، أو قدموا من الخارج. دخلوا الإيوان الكبير، تسبقهم، وترافقهم، طبول ومزامير وأهازيج.

لمح ابن الفرات في عينَي الأستاذ نظرة إعجاب، فصفق لأصحاب الشكاوى، يأمرهم بالانصراف.

خلَت الساحة أمام المجلس إلا من الخصيان يغنون، ويرقصون … بلغ الطرب بالأستاذ مبلغًا، فحرك كتفَيه، وهمَّ بالنزول من كرسيه لمشاركة الخصيان رقصتهم.

هتفت بعفوية: كيف يا أستاذ؟

لكزني القاضي بدر بن هلال، تكرر ذلك منه كلما أبديت ملاحظةً في مجلس الأستاذ، كأنه يختار الوقوف بجانبي لممارسة فعلته القبيحة، لا يتدبر مكانها، أو إن كانت آلمتني. كأنه يخشى ملاحظاتي أن تصل إلى أذن الأستاذ.

لم يكن الأستاذ — كما رأيت — يضيق بالملاحظات. إن غلبه الانفعال، أو ساير نفسه، يبتسم، ويهتز رأسه، ويبتر القول الذي بدأه، أو التصرف الذي ربما أقدم عليه بعفوية.

٤٩

سألني شابٌّ في سوق الوراقين: من كنت تخاطب بهذا البيت:

بعيشك هل سلوت فإن قلبي
وإن جانبت أرضك غير سالي

قلت: أنا لم أقُل هذه الكلمات … لقد زيدت في قصيدة رثيت بها أم سيف الدولة، لتفسد حالي عنده!

قال الشاب: وهل أفسد حالك بالفعل؟

قلت: لمَّا سألني سيف الدولة، أنكرت هذا البيت مثلما أُنكره الآن!

أحب هذه السوق.

ألفت — من قبل — ملازمة الوراقين والنساخين. ألفت الأقلام والأوراق والنسخ، والتنقل بين الدكاكين، وقراءة ما تصادفه يداي، والاختلاف إلى مجالس العلماء والأئمة.

٥٠

أرنو لثاني أيام الانتصارات. يجمعون مكرهم، ويلقون حبالهم الرفيعة المتخاذلة، ألقي عصاي فتبتلع أفانين الحواة:

إنما التهنئات للأَكْفاءِ
ولمن يدَّني من البُعَداءِ
وأنا منك لا يُهنِّئ عضوٌ
بالمسرَّات سائر الأعضاءِ٣٠

٥۱

هل هجرت مؤامرات أبي فراس ورفاقه في حلب، لأواجه مؤامرات مَن لا أعرفهم في الفسطاط؟

قال لي ابن القاسم الشاعر: الملق في قصيدتك أضعاف ما فيها من الشعر.

أردف في عجب: كيف يصبح السواد شمسًا؟

قلت: وكيف تصبح الزلازل رقصات فرح، بما كان يتمتع به كافور من فضائل …٣١

قال في عجبه: هذا أميري … ومن واجبي أن أشيد بمناقبه.

قلت: وهو الآن أميري … ومن واجبي كذلك أن أشيد بمناقبه.

– أنت تمتدح من كنت تهجو مثلهم، وتدعو إلى الخروج عليهم.

هل يقصد الأستاذ؟ … فلماذا لا يذكر الاسم صراحة؟ … هل يخشى أن أشي به؟

– قصائدي تعبر عن قناعة اللحظة التي أكتبها فيها.

– ما أشدَّ تغير لحظاتك!

وما أسهل أن أهمس باسمك إلى الأستاذ، أو إلى واحد من المحيطين بمجلسه! … لكن الهدف يبين عن تألقه في الأفق القريب، فيبدد الظلال.

٥۲

فاجأ المشهد كافورًا، وفاجأنا. كان يتقدَّم الموكب في طريقه إلى قصره بخطة سوق العسكر. اعترضته امرأة وهي تهتف: ارحمني يرحمك الله!

دفعها أحد الحراس فسقطت على الأرض.

بدا على الأستاذ غضب، وأمر بقطع يد الحارس: هل تؤذي امرأة؟!

ذهل الأستاذ، وذهلنا؛ لنهوض المرأة من عثرتها، وتشفعها للحارس.

قال لمن حوله: اسألوها عن أصلها … فما تكون إلا من بيت عظيم.

قالت المرأة إنها علوية بالفعل. عظم الأمر على الأستاذ، وقال: قد أغفلَنا الشيطان عن نساء الأشراف!

وأحسن إليها، وواصل سيره.

٥٣-٥٤

جرت عصر اليوم واقعة غريبة، ظلَّت شاغلي حتى جلست إلى الأوراق: لكزني عبد الرحمن السكندري بكوعه، وهو يومئ بذقنه إلى الشيخ بدر بن هلال القاضي، في أقصى الصالة التي تناثر فيها رجال، شغلتهم أحاديث جانبية، وإن تحلَّق ثلاثة — اثنان في أواسط العمر، وشاب — حول القاضي، استند إلى الجدار، وأعطاهم انتباهه: هذا الشاب يسعى — بوساطة هذَين الرجلَين — عند الشيخ بدر في تولِّي وظيفة بولاية الحسبة.

همست بالسؤال: وما شأن القاضي بهذا؟

وهو يغمز بعينه: كلمته نافذة.

أضاف، قبل أن أسلم نفسي إلى الشرود: طلب مقابل التزكية مبلغ ذهب ثلاثمائة.

أيقظ انتباهي: وماذا فعل الشاب؟

قال: علمت من أحد الرجلَين — يسكن بالقرب من بيتي — أن الشابَّ سيدفع شيئًا، ويكتب الباقي عليه إلى المغل بحجة.

هتفت بالدهشة: أي كلام؟!

استطرد: واشترط الشيخ أن تسجل الرشوة على هذا النحو، كأنها عقد زواج أو بيع.

كنت ألحظ — في مجلس الأستاذ — مكانة القاضي الممتازة، يقدمه على سواه من الوزراء والوجهاء والأعيان، يزوره — أحيانًا — في بيته بجبل يشكر.٣٢ يخلع عليه، ويجزل له، ويخصص له الجند والأعوان، يقفون ببابه، يُعاونونه على أداء وظيفته، ويدافع عن أحكامه، مهما تلفَّعت بالقسوة.

خلت السجون من نزلائها؛ لأن السجن — في تقديره — راحة إنما ينزل العقاب الأشر على المخالف، بحيث يكون مثلًا وعبرة.

ليس القتل مجرد فصل الرأس عن الجسد. يسبق إزهاق الروح، سمل العينَين، أو قطع اللسان، أو بتر الذراعَين، وتعليقهما في العنق … والذنب الصغير عقوبته الحبس والقتل، وكثيرًا ما أسرف في التوسيط، وقطع الأنوف والآذان والأطراف. وكان لا يتحرَّج من تفتيش بيوت كبار الموظفين والأعيان، ويؤكد السير في طريق العدل في الأحكام، وإقامة الشريعة والسنة، وإبطال البدع والمنكرات، ومنع الشهود الذين يقفون على أبواب المحاكم لشهادة الزور.

كان يفضِّل بيته للفصل في الخصومات والشكايات والمنازعات، ردهة واسعة، تطلُّ على الطريق بحيث يسهل الوصول إليها، ولا تخدش حياء أهل البيت. ربما انتقل إلى مكان الحادث، إذا احتاج الأمر لمعاينة من جانب القاضي.

روى لي السكندري — ونحن في طريق العودة — ما أفزعني. تذكَّرت القاضي التنوخي، مبتدع أسطورة النبوة، وأبوة عبدان السقاء لي. أسرفت في السؤال، فحدَّثي: الرجل يشغل نفسه بالوساطة في حاجات الناس، لقاءَ معلومٍ يتقاضاه من كل الأطراف، هو الذي يحدده، فلا يعنيه إن ناءت به الكواهل، أو عجز الناس عن دفعه. وهو يتصرَّف في كل القضايا، على اختلاف أنواعها: عقود الزواج والطلاق، البيع والإجارة، الوصية والوقف. وفتح أبوابه فقصده الناس لطلب الوظائف بمال. يضع كل واحد في وظيفته بمقدار ما يعطي له من مال. مَن لا يفتح ذهنه، أو يتقاعس عن دفع المطلوب، فإن عليه ألا يأمل في شيء. عندما يشتري الموظف وظيفته، فإنه لا بد أن يسترد ما دفعه بأسرع وقت. وأيسر وسيلة؛ فهو لا يأمن بقاءه في الوظيفة، أو أن المرتشي سيتقاضى من آخر، أو أن المستقبل ربما يهبه وظيفةً أكثر ملاءمةً لمواهبه. يلغي وعده إذا دفع آخر أكثر من سابقيه. ربما تقلَّب على الوظيفة الواحدة بضعة رجال. بدا جمع الأموال همه وديدنه، وشاغل حياته. يتجر بالفتوى ويقبل الرِّشا، ويتحايل على مصادرة الناس في أموالهم، ويصالح٣٣ على تركات الأغنياء. زاد، فحاز لنفسه تركات العديد من الموتى، وحرم منها وارثيها. وضم إلى إقطاعه وملكه الخاص أماكن موقوفة. إذا مات شخص، بعث عماله إلى أهل الميت لاستلام حق الدولة في تركته، وهو حق يجب أن يزيد — في مجموعه — عن كل ما يتقاضاه الورثة. وربما آلت التركة كلها — بحيل وأفانين — إلى الأعوان، يستلبون أكثرها، ويودعون بيت المال أقلها. قد يتهمون أهل الميت بإخفاء التركة، وتبديدها. يسلطون عليهم من القسوة والعذاب، ما يبلغ حد الشناعة، كي يتنازلوا — في النهاية — عن بعض ما يملكون، باعتباره ملكًا للمتوفَّى. تعاظم جور أعوانه على الناس بالأذى، فكرهته العامة، وضاقت به الخاصة. أرهقوا الناس بالمغارم والجبايات. حتى الأراضي البور، كان الأعوان يستخرجون من الناس ضرائب عليها. وكانوا يأخذون الكثير من المكوس، فلا يصل إلى الدولة منها شيء.
أما شهود القضاء — هؤلاء الذين أعلن بطلان شهاداتهم — فقد شدد عليهم ليشهدوا — زورًا — فيما يريد أن يضمه لإقطاعه وأملاكه من حجج الأحباس٣٤ والتركات. ثم تحول عن وظيفته، فصار جابيًا يجمع الأموال والمغارم من البلاد، ويقبل — في الوقت نفسه — ما يقدمه له الأهالي من هدايا ورشًا. لا يحصِّل شيئًا بنفسه؛ فهو في بيته بمصر الفسطاط، أو ديوانه، إنما يوجه أعوانه وموظَّفيه إلى هذه البلدة أو تلك، فيحصلون منها ما حدَّده. وربما أضافوا إلى ما سبق تحديده، ليوسعوا على أنفسهم.

نبَّهه مُتولِّي الخراج إلى تعارض نشاط أعوانه مع وظيفة معاونيه، فاحتج بأن الأستاذ ائتمنه على أموال المسلمين، فنشاطه لا يجاوز الميراث والوقف، وما يتصل بالصلة بين الحياة والموت.

خطر لي أن أسأل عبد الرحمن السكندري: كيف حصل على وظيفته؟

أعفاني من السؤال لما حدثني، اليوم، عن أستاذه النساخ الشيخ، استعان به في عمله، داخل قصر الأستاذ. فلما قضى الشيخ، تثبَّت السكندري في وظيفته.

٥٥

أطلق الأستاذ ضحكةً مجلجلة: أرأيتم ما قال واعظ مسجد عبد الله: ما أنجب من ولد حام — كما يرى — إلا ثلاثة: لقمان وبلال المؤذن وكافور!

عرفت الحكاية من عبد الرحمن السكندري.

خطب الواعظ في المصلين فقال: انظروا إلى هوان الدنيا على الله تعالى، فإنه أعطاها لمقصوصين ضعيفين: ابن بويه ببغداد، وهو أشل … وكافور عندنا بمصر، وهو خصي …

نقل البصاصون كلمات الرجل — بنصِّها — إلى الأستاذ. لم يثُر، ولا أظهر الغضب، إنما أرسل إليه خلعًا ومائة دينار، وقال: لم يقُل هذا إلا لجفائي له.

وحدث ما توقعه الأستاذ، بدل الواعظ كلماته.

٥٦

أبا المسك هل في الكأس فضلٌ أناله
فإني أغني، منذ حين، وتشربُ
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
فجودك يكسوني وشغلك يكسبُ

٥٧

الشائعة حملها لي صديق من الشام. حين أخبروه بأني على قيد الحياة، لم يصدق إلا أن يراني بنفسه.

صحبه خادم من قصر الأستاذ إلى بيتي، أكد المحيطون بسيف الدولة نبأ موتي. سألت إن كان الرجل صدَّق ما قيل.

رسم صديقي على وجهه ابتسامةً لا تهب إجابة محددة.

٥۹

واقعة قديمة رواها لي اليوم عبد الرحمن السكندري:

عرف الأستاذ أن عبد الله بن وليد يتصرَّف في أموال كثيرة، لا صاحب لها. أخبره بذلك عمر بن الحسن الهاشمي، الذي تقلد القضاء بعد عزل ابن وليد.

أمر الأستاذ، فأودع الرجل سجن دمياط. ظلَّ فيه، وإن لم ينله تعذيب، حتى أفلحت شفاعات وجوه الناس، والهاشمي من بينهم، فأمر الأستاذ بالعفو عنه، وإن ظلَّت نفسه متغيرةً عليه. أذن له بالظفر بحياته، فلم يسلمه إلى السياف، لكنه أبعده عن وظيفته، وألزمه قبره، لا يبرحه ستة أشهر تالية.

٦٠

قال لي ابن القاسم، ونحن نغادر — هذا المساء — مجلس الأستاذ: قد طال وقوفك في مجلس أبي المسك.٣٥

لا يتحدث إلا عما يأمره الإخشيدي بدسه.

قلت:

يقل له الوقوف على الرءوسِ
وبذل المكرمات من النفوسِ

٦٢

قالوا هجرت إليه الغيث قلت لهم
إلى غيوث يدَيه والشآبيبِ
إلى الذي تهب الدولات راحته
ولا يمن على آثار موهوبِ٣٦

٦٤

شهدت الاحتفال بوفاء النيل. عيد يركب فيه الأستاذ بعساكره، ينزل في المراكب لتخليق مقياس النيل عند الخليج.

خرج الأستاذ من قصره بالعسكر في موكب عظيم، تحوطه الفرحة والأبهة، وقدامه وحوله أهل الدولة والوجهاء والأعيان وأرباب العمامة والسيف، والناس قد ملَئوا ما بين المقياس إلى ما قبل الفسطاط. لم يبقَ بيت بمصر الفسطاط إلا خرج لرؤية ذلك، والمشاركة فيه بما وسعه. تعالت الألحان والأهازيج، وأبدى الناس مظاهر البهجة، حتى وصل مركب الأستاذ إلى المقياس، ففتح الخليج بحضرته، وعاد إلى قصره.

٦٥

ثار القاضي بدر بن هلال، ومتولي الخراج أبو بكر محمد بن مقاتل، في مجلس الأستاذ.

بدا عليه غضب. روى ما حدث — ذات يوم — أمامه — في ولاية محمد بن طغج الإخشيد — بين القاضي الشافعي أبي بكر بن الحداد والقاضي المالكي أبي الذكر محمد، والقاضي عبد الله بن وليد. تنازعوا في مجلس الإخشيد، وخرجوا عن حد الأدب. وقال الإخشيد، عقب انصرافهم متأسفًا: يجري هذا في مجلسي! … كدت والله أن آمر بأخذ عمائمهم.

علا صوت الأستاذ: أما أنا، فكدت أفصل رءوسهم عن أجسادهم بنفسي.

٦٦–٦٨

ليست كل قصائدي مما يصح إلقاؤه أمام الأستاذ، أو في المناسبات. أحرص — بعد تدوين القصيدة — أن تظل في أوراقها، لا يطالعها أحد، أو أقرؤها على أحد. غاية ما أفعله أني أكلف أحد الوراقين بنسخ القصيدة مرتَين أو ثلاثًا. أبعث بها مع مسافر إلى حلب أو بغداد أو الكوفة. يودعها — مع غيرها — عند الأقارب والأصدقاء والخلان. إذا تنوعت أماكن إيداعها، فهي لا تضيع. من يصادرها — أو يستولي عليها — في بلد، لن يتاح له الفعل نفسه في بلد آخر، مدينة أخرى.

لاحظت أن عبد الرحمن السكندري أسرف في اقترابه مني، يعجب بديواني، ويحفظه، ويتمثَّل بأبياته، يتحدث بما يمليه خاطره، كأنه اطمأن إلى صداقتي. يلبي مطالبي الخاصة، وما أحتاجه من الأسواق، عمله في القصر الذي بناه الإخشيدي على النيل، أتاح له الدخول والخروج إلى الأماكن المحظور دخولها، فلا يشك فيه أحد. تصورته — في حرصه الملحِّ على ملازمتي — أحد بصَّاصي السيابي، وإن حذرني منه. أراهم، وألتقيهم، في البيوت والقصور والشوارع والأسواق. أهملت التحدُّث أو الإنصات إليه. نبَّهني علمه الوافر إلى ما غاب عني. روى لي أن عائلته تأخَّرت في دخول الإسلام. مع ذلك، فقد كان حسن الإيمان والسيرة، وينأى بنفسه عن مواطن الشبهات؛ فهو لا يكاد يغادر عمله أو بيته، أو أنه في الطريق إليهما، ولا يعرف أماكن السمر واللهو، ولا يتحدث إلا بما يوجبه مقتضى الأحوال.

طلبت أن يدلني على نسَّاخ واضح الخط. لم أكن قد اطمأننت إليه تمامًا، فطلبت مرافقته.

أبطأت الخطوات في سوق الوراقين. ناسخون ومجلدون اقتعدوا المصاطب، وانشغلوا بزخرفة الكتب بخطوط منسوبة، وزخارف ذهبية وفضية.

غادر بي السوق إلى دروب. انتهينا إلى دكان صغير، في زقاق بالقرب من الجامع الكبير. امتلأ وجه الشيخ — لقدومنا — بابتسامة مرحبة: أهلًا بشاعرنا ابن الحسين.

أضاف لنظرتي الداهشة: من لا يعرف سيد شعراء العربية؟

بدا لي أفضل من المهنة التي يعمل بها، وبدت العلاقة بينهما لا كالعلاقة بين نسَّاخ وطالب علم، أو بين تاجر ومشترٍ. ذكرني الشيخ بقصائد لي، أنشدتها في الكوفة وحلب ودمشق وبغداد وغيرها من مدن وأقطار، لم أتصوَّر وصول أنبائها إلى الفسطاط.

قبل أن أغادر الدكان، وفي حوزتي ما نسخه الشيخ، دسَّ الشاب في يده أوراقًا. قال بصوت غلبته ارتعاشة: أعود بعد يومَين لتسلم نسخها.

هذا الشاب، عبد الرحمن السكندري، أثق أنه ليس من بصاصي السيابي، لا لأنه حذرني من الآذان المتصنتة، والأعين المتلصصة، والأذهان التي تسيء الفهم والتفسير، علمه وأسئلته وملاحظاته، تبعد به عن عالم الريب والظنون، تجعله صديقًا يسهل الارتكان إلى صداقته.

حضر الأستاذ صلاة الجمعة في مسجد بناحية سوق القناديل أنشأه — على نفقته — القاضي بدر بن هلال.

بدا المسجد — من داخله وخارجه — جميلًا، مزينًا بالمقرنصات والنقوش والزخارف الجميلة. منبره من أغلى أنواع الخشب، وفرشت أرضه بسجاجيد أعجمية، وزوده بمكتبة حافلة بكتب العلوم الشرعية.

قال لي عبد الرحمن السكندري بصوت كالهمس: يتصور القاضي بدر بن هلال أن بناء مسجد يكفل له مغفرة الله من اغتيال حقوق الناس.

أضاف لتساؤلي الساكت: الكل يعلم أنه جمع أمواله بطريق الظلم والمصادرات.

غمغمت بما ينبئ بتهيُّئي للكلام. ثم فضَّلت الصمت.

ما شأني بذلك كله؟!

٧٠

قضى منذ أيام — بعد مرض طويل — علي بن صالح الروذبادي، كاتب الأستاذ، فرح الناس لموته. قال لي عبد الرحمن السكندري عن صيحات مهللة وزغاريد، تناهت من ناحية الفسطاط. وقال السكندري إن الرجل حسَّن للأستاذ أن يوفر من اعتمادات الرواتب بخفضها. سخط عليه الناس. فلما لحقه المرض، تمنَّوا زواله. فلما مات، أعلنوا فرحتهم.

استصفى المحتسب أمواله. فاجأ الجميع بثروته الهائلة. ذهل لها المحتسب، وذهل لها الأستاذ نفسه، حين علم بأمرها. وذهل لها أهل مصر عندما ذاع خبرها بينهم.

قيل إنه ترك ثلاثة آلاف جرة مملوءة ذهبًا، وعقودًا وأكوابًا وأطباقًا من الذهب، وثيابًا وأمتعةً وطرائف قيمتها ملايين الدينارات، وأراضٍ زراعية وعقارات في مدن وقرًى كثيرة.

كنت في مجلس الأستاذ، صباح اليوم، لما أصدر أمره بمصادرة تركة الرجل، فلا يتبقَّى لورثته شيء.

۷۱

سألني ابن القاسم ظهر اليوم، وهو يرافقني في طريق العودة إلى البيت: على من تنبأت؟٣٧

كان يثقل عليَّ أن أُدعى المتنبي، دهرًا، إلى أن أنست بالتسمية.

قلت: على الشعراء.٣٨

قال: لكل نبي معجزته، فما معجزتك؟

قلت: هذا البيت:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوًّا له ما من صداقته بدُّ

٧٢

أقر كافور تولي عمر الهاشمي قضاء مصر (هل لذلك صلة بثورة القاضي ابن هلال، ومتولي الخراج ابن مقاتل؟)

قيل إن الرجل قدم للأستاذ مبلغًا من المال، حتى يقرَّ ولايته قاضيًا بدلًا من أخيه محمد بن الحسن الهاشمي.

ربما الشائعة كاذبة. ظني أنها كذلك. الأموال الهائلة التي تنفق على القصور والمطابخ والحفلات والأعوان، تنفي أن يكون الأستاذ ممن يقبلون الحصول على مبالغ — مهما عظمت — من رجال حكمه.

٧٣-٧٤

أخلى الأستاذ مجلسه — هذا المساء — إلا من كبار معاونيه. شنت الجماعات الوافدة٣٩ هجمةً مفاجئةً على قرية في الحدود. باغتوا الحامية المصرية، فقتلوا أفرادها، ونهبوا البيوت والدور، وسبوا النساء والأطفال.

تلاغطت الأحاديث عن الجماعات الوافدة. تضايق الناس في معاشهم، وتنغص عليهم حياتهم بإغاراتها المتعددة. تروع الآمنين، وتسلب الدور، وتدمر المحاصيل، وترتكب جرائم النهب والإيذاء، وتوسع من دوائر نفوذها.

ضاعف من كمد الناس وإشفاقهم وحسرتهم، إحساسهم بالخضوع لهذه الجماعات التي أتت من مناطق بعيدة، تنشر الدمار والموت الأسود، وتبشر — عجبًا —٤٠ بالمدنية والتقدم والعلم. غريبة عن البلاد وناسها ودينها إلا ما كان منها أسافل المجتمع إلى سنوات قريبة. كانوا رقيقًا أو كالرقيق، وإن استطاعوا — في غفلة من الدهر — أن يستولوا على ما ليس لهم.

٧٥

وقف — في موكب الأستاذ — هذا الصباح، ثلاثة رجال يتراوحون بين الكهولة والشيخوخة. يرتدون زي العامة.

قبل أن يدفعهم الجنود، وصلت استغاثاتهم إلى آذاننا — ونحن حول الأستاذ — بأن يكف أذى عماله عن الرعية.

سرى الكدر في وجه الأستاذ كبربشة العين. ثم تشاغل بالتحدث مع ابن الفرات، فلم أتبين حقيقة ما ينتويه.

٧٧-٧٨

فاجأ الأستاذ أعوانه وزوار مجلسه: مَن له ظلامة أو خصومة، فإن عليه أن يحضر بين يدَيه، ضُحى كل سبت. أمر، فألصقت منشورات — تتضمن المعنى نفسه — على أبواب المساجد والدور والحوانيت، وعلى الجدران والمقابر. نادى بذلك المنادون والمشاعلية في الشوارع والأخطاط.

تعددت أحكام عمر الهاشمي بإراقة الدماء لجرائم قتل واغتصاب، وسلب أموال اليتامى والأقوات. استولى الفقر والحاجة والمسكنة على الناس، وتفاقمت المظالم بمصادرة الأهالي، وتتبع أرباب الأموال، واستلاب ما بأيديهم من المال بالقوة.

أبدى الأستاذ اهتمامًا، لما روى له الشيخ سالم البرديسي، إمام جامع ابن طولون، بواعث فصله من وظيفته. حين فحش الأمر، وساءت السيرة، وكثر التجرؤ على الدماء، وإتلاف الأموال، سعى إلى القاضي في بيته: يا سيدي القاضي … مفروض أن هذه الأموال تنفق على المساجد والأسبلة وأعمال الخير.

قال الهاشمي: ومن أنباك بعدم إنفاقها في هذا الأمر؟

قال البرديسي: أعوانك يودعونها الخزائن في لحظة … ويخلونها منها في اللحظة التالية.

هتف القاضي: تتهم أعواني؟

قال البرديسي: هذا ما يحدث بالفعل.

أطل من عينَي القاضي شرر. قبل أن يواصل الشيخ حديثه، أسكته الهاشمي بإشارة من يده وعزله.

۸۰

كان موكب الأستاذ يخترق الشارع الرئيس، عندما تعالت صيحات من جانب الطريق: الله ينصر الوزير أبا اليمن قزمان!

غاب الاسم عن الأستاذ في المرة الأولى، فأصاخ سمعه. لم يرضخ كافور لانفعاله. أسلم نفسه لسرحة. ثم همس لعماله باستجوابهم، حتى يفصحوا عن الباعث، المحرض، لما حدث … قال لي عبد الرحمن السكندري إن المتآمرين اعترفوا — قبل أن ينالهم عقاب — أن القاضي الهاشمي هو الذي دفع لهم، وحرضهم على ما قالوه، ليوغر صدر الأستاذ على أبي اليمن.

أنصت كافور إلى الحكاية، حتى خاتمتها. ثم التفت إلى الهاشمي في مجلسه: لماذا حرضت الناس على ما فعلوه؟

قال الهاشمي: ربما اصطنع الموقف واحدٌ ممن نلته بعدالتكم … فأراد الإساءة لي!

عاد كافور إلى سرحته، وظل صامتًا.

۸۱–۸۳

دعاني أبو علي صالح بن رشدين، فزرته في بيته بالكوم الأحمر عند فم الخليج من الناحية الغربية.

لاحظت أن البيوت بلا نوافذ تطل على الطرق والشوارع، حرمات السكان هدف أساس، ينفذ الهواء والضوء من الأفنية التي تتوسط البيوت. المشربيات تغطي الفتحات والنوافذ. تحفظ حرمة أهل البيت من أنظار الغرباء. تأذن — في الوقت نفسه — بمرور الهواء. حتى المداخل تبدو متعرجةً — عمدًا بالطبع — فيصعب على النظرات العابرة أن تحيط بما يجري في صحن البيت.

وجدت في استقبالي مجموعة من المتأدبين. تلقوني — في البداية — أحسن لقاء، وأنزلوني أحسن منزل. التفوا حولي، يسمعون ويسألون، ويعيدون قراءة قصائدي. حتى تلك التي أسقطتها الذاكرة.

جلسنا خلف مشربية في مواجهة الاتجاه الشمالي. يهب من خصاصها الهواء الملطف من الأفنية المكشوفة في وسطها. تصفي الهواء والأتربة، وتكسر من حدة الضوء القوي.

فاجأني شيخ أطلق لحيته، فلم يُعنَ بتهذيبها: ماذا تقصد بهذه الكافوريات؟

– تعبير جديد!

– ماذا تقصد بها؟

– هل ترى غير المدح؟

– إنما هي — إذا أمعنا النظر — ذم واضح.

– كل الكلمات حمالة أوجه.

– إلا كلماتك!

أضاف فيما يشبه التحذير: إذا كان لؤلؤ قد أودعك السجن في حمص، فإن الأستاذ يفضل حسم القضايا بجز الرءوس.

لو أني هجوت المخصي٤١ ربما بدت قصائدي أكثر تعبيرًا عن واقع الحال. الحنين إلى حلب، والملل من أيامي، وما أراه وأنصت إليه، يكفل — ولو بالباطل — تسويد ديوان هجاء بكامله. مدْحُ الأستاذ قضيتي، فلا شأن لي بما يشغل الناس في حياتهم، أو ما يشكون منه، أتيت إلى الفسطاط لوظيفة محددة، وبوعد محدد. أمدح الأستاذ، فيهبني المقابل؛ ولاية صيدا، أو سواها من الإقطاعيات٤٢ أجاوز بها صفتي الحالية …٤٣

قال رجل، يشي لباسه بغربته عن مصر: يا أبا الطيب … ألا تدري موقعك بين شعراء العربية؟

سقط كوب الليمون — بتلقائية — من يدي: لي نفس تعرف قيمتها جيدًا.

قال الرجل: فما حاجتك إلى التكسب من قصائدك؟

كأنما الترحيب مقدمة لإهانتي. أمسكت نفسي عن الانفعال. ساعد على ذلك نظرة غضب، أطلت من عيني صاحب البيت إلى ضيفه.

علا صوت الرجل: يا أبا الطيب، ما أراك فقيرًا فتظل مادحًا للسلاطين والأمراء.

تذكرت معاذًا اللاذقي. قال لي قبل سنوات: والله إنك لشاب خطير، تصلح لمنادمة ملك كبير.

قلت: فهل أرسل قصائدي في سابلة الشوارع؟

– غريب أمرك يا ابن الحسين … تتنكَّر لماضيك كله، وتسقط آراءك، من أجل ولاية لن تنالها.

– الشعر حرفتي لا السياسة.

– إنما أنت مجرد مادح للسلطان.

– تهمة لا تعيبني!

ثم وأنا أضغط على الكلمات: أنا لا أمدح إلا الملوك.

فأين الكبرياء التي أدخلتك السجن؟٤٤

خالط صوتي ضيق: هل أظل في السجن لأرضيك؟

لاحظ ابن رشدين تهيُّئي للقيام، رافق نظرته الغاضبة هتاف: كأنك أوكلت إلى نفسك إصلاح أمور الناس.

أضاف، وهو يهزُّ كتفي الرجل، كأنه يهمُّ بضربه: اكتفِ بأن تصلح أمر نفسك!

أذكر أني ذهبت — في صباي — إلى بغداد، قادمًا من الكوفة. وكان معي خمسة دراهم. وأعجبتني الفاكهة في سوق بغداد، واعتزمت أن أشتريها بما معي من دراهم.

قلت للبائع: بكم تبيع هذه البطيخات الخمس؟

قال البائع: اذهب … فليس هذا من طعامك.

فوَّتُّ الإهانة، وقلت: يا هذا … دع ما يغيظ، واقصد الثمن.

قال: ثمنها عشرة دراهم.

لقسوة عباراته، لم أستطع مساومته. دفعت له ما كان بحوزتي من دراهم، لكنه رفضها … وخرج من الخان، تاجر شيخ، في طريقه إلى داره.

قصده بائع الفاكهة، ودعا له، وقال: يا مولاي … هذا بطيخ باكور … بإجازتك أحمله إلى البيت.

قال الشيخ: ويحك! … بكم هذا؟

قال البائع: بخمسة دراهم.

قال الشيخ: بل بدرهمَين.

وافق البائع. وأتبع موافقته بحمل البطيخات إلى بيت الشيخ، وعاد إلى دكانه مسرورًا.

قلت للرجل: يا هذا؟ … ما رأيت أعجب من جهلك … استمت عليَّ في هذا البطيخ، وفعلت فعلتك التي فعلت. وكنت قد أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم، فبعته بدرهمَين محمولًا …

قال البائع: اسكت. هذا يملك مائة ألف دينار!

علمت أن الناس لا يكرمون أحدًا، إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار.

أزمعت — يومها — أن أواصل السير في طريق، أسمع الناس في نهايتها يقولون: إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار!

٨٤

مررت بمحمد بن موسى الملقَّب بسيبويه الموسوس، في دكان حائك، وأنا في طريقي إلى بيتي.

وقفت عليه: أيها الشيخ، أحب أن أراك.

قال: رعاك الله وحياك.

قلت: بلغني أنك أنكرت عليَّ قولي: «عدوًّا له ما من صداقته بدُّ» … فما كان الصواب عندك؟

قال: إن الصداقة مشتقة من الصدق في المودة … ولا يسمى الصديق صديقًا، وهو كاذب في مودته … فالصداقة إذن ضد العداوة، ولا موقع لها في هذا الموضع. ولو قلت: ما من مداراته أو مداجاته، لأصبت. هذا رجل منا يريد نفسه قال:

أتاني في قميص اللاذ٤٥ يسعى
عدوٌّ لي يُلقَّبُ بالحبيبِ

قلت: أمع هذا غيره؟

قال: نعم.

وقد عبث الشرابُ بوجنتَيهِ
فصيَّر خدَّه كسنا اللهيبِ
فقلت له متى استعملت هذا؟
لقد أقبلت في زيٍّ عجيبِ
فقال الشمس أهدت لي قميصًا
مليحَ اللون من نسج المغيبِ
فثوبي والمدام ولون خدي
قريب من قريب من قريبِ

واصلت سيري مبتسمًا، وسيبويه يصيح عليَّ: أبكم الرجل وجلال الله.

ولم أكن كذلك، لكنني أردت النأي عن مناقشة لا طائل من ورائها.

٨٥-٨٦

التقيت بأحمد البلبيسي، ظهر أول أمس في سوق القناديل٤٦ خلف الجامع العتيق. يسبقه حراس، بأيديهم عصي، يدفعون الناس عن طريقه.

تنبَّه إلى وقوفي — وحارسي — في جانب الشارع. ألقى تحيةً تقطر ودًّا، ثم واصل السير.

بدت لي صورته غير مألوفة، وغريبة عن رؤيتي له في مجلس الأستاذ. كان الحياء توءمه؛ فهو صامت أغلب الوقت، لا يشارك في الأحاديث، ولا يدلي برأي، إلا إذا دعاه الأستاذ، فيبين عن سعة علم، وسرعة بديهة، وقوة حُجة.

تقضَّت الأيام — منذ زيارته لي في بيتي — دون أن نتحادث في أمر ما. إنما يستمع كلٌّ منا إلى الآخر في مجلس الأستاذ. تصوَّرت نفسي صديقًا له، خبيرًا به، عارفًا لأسرار حياته … لكن الصورة ما لبثت أن أبانت عن الوجه الآخر.

شغلتني الصورة الجديدة، المفاجئة، فهمني السؤال عنه، أفزعني ما سمعت، فلم أصدقه في البداية، أكدته روايات لا صلة بين أصحابها، فأعدت النظر إلى المسألة برمتها. هل يخفي الحياء المفرط امرأً آخر له السيرة نفسها التي يخشاها، ويكرهها الناس.

علمت أنه يتولى، إلى جانب قيادة البصاصين — وظيفته غير المعلنة — أمر الخراج. فوَّضه ابن حنزابة لجميع وجوه الحسبة٤٧ والسواح والأعشار والجوالي والأحباس والمواريث والشرطتين،٤٨ وأنه صارم غاية الصرامة، في التعامل مع التجار والباعة؛ فهو لا يستثني أحدًا من قرار إبطال الخمور — مهما ارتفعت أو انخفضت مكانته — فلا يترك رجاله بيتًا دون أن يكبسوه، ما داموا قد علموا أن فيه خمرًا. بل إن قسوته تمتد فتشمل هؤلاء الذين لا يعنون بنظافة بيوتهم من خارجها، أو كنس الطريق أمامها. وحين ضبط جزارًا يبيع لحمًا نتن الرائحة، أمره أن يبتلع من اللحم نيئًا. فلما جحظت عينا الجزار من كثرة ما أتخم، سار عنه، وإن خلف بعض أعوانه يباشرون إطعام الرجل من اللحم النيء، حتى يأتي عليه.
من وظيفته أنه يملأ الأهراء٤٩ بالغلال، ويطمئن إلى وصول المكوس٥٠ والديون إلى بيت المال، ويعاين المكاييل والموازين، ويأمر بإماطة الأذى عن الطريق، وينبه أولي الأمر إلى الأبنية العامة الآيلة للسقوط، ويأمر، فتوقد القناديل في سائر البلد على الحوانيت وأبواب الدور ونواصي الأخطاط. لا يمر في الشارع حمل تبن ولا حمل حطب. لا يسوق أحد فرسًا بها، ولا يمر بها سقاء إلا وراويته مغطاة. يجعل عدة من الخفراء، يطوفون بالشوارع والأخطاط لحراسة البيوت والدكاكين وغيرها. يشرف على أرباب الصناعات من نجارين وحدادين ونساجين ووراقين، وغيرهم ممن تتصل أعمالهم بالناس، حتى السقاءون ومعلمو الكتاتيب، ينضوون تحت سلطته، ويخضعون لتفتيشه. يسأل عن أسعار السلع ليتأكد من أنها مناسبة، يسبقه في طوافه بالأسواق موظف يحمل ميزانًا كبيرًا، يتبعه الجلادون، وبعض المعاونين. يعاين الموازين والمكاييل التي يستعملها التجار، حتى يتأكد من صحتها.

استخدم النواب في مصر الفسطاط وباقي المدن، يطوفون على أرباب الحرف والصناعات والتجارة، والموقدين بيوتهم ليلًا، ويختمون على قدور الهراسين، وعلى اللحوم، ويعاينون البضائع، يتشممونها، ويقلبونها، ويتأملون جودتها، ويتتبعون الطرقات، ويمنعون من المضايقة فيها، ويراعون ألا تحمل الراكب أكثر من وسق السلامة. وكذلك في حمولات البهائم، ويأمرون السقائين بتغطية الروايا، والحمالين بارتداء السراويلات الساترة لعوراتهم، وينذرون معلمي المكاتب، بألَّا يضربوا الصبيان ضربًا قاسيًا، ولا في مقتل، ويقفون على من يكون سيئ المعاملة، فينهونه عن أفعاله، وينظرون المكاييل والموازين.

فإذا أسرف بائع في تطفيف الكيل، ضربه النواب، وعزروه، وأشهروه على حمار وهو مكشوف الرأس.

علمت أن بواعث الخير لم تكن هي التي أملت عليه ما فعله. روى لي عبد الرحمن السكندري عن جرائم ارتكبها، وأباطيل نسجها لنفسه، وادعى أنها لصالح الجماعة. ساعده على خداع الناس — وخداعي — ما حرص عليه من رزانة ووقار؛ فهو يحسن الإنصات، ولا يتحدث إلا بما تمليه الضرورة، ويحفظ الكثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ويكثر من الصوم والصلاة، ويعرض عن الهزل، وإن لم تغادر البسمة شفتَيه، ويميل إلى التواضع في مجلسه، حتى إنه كان يخفض الرأس في مواجهة محدِّثه، دون اعتبار لارتفاع مكانة المتحدث، أو انحطاطها.

ألزم كل من يدخل عليه، سواء أكان من الوجهاء، أو من عامة الناس، أن يحمل معه هدايا، ذهب أو أموال أو جارية أو عبد، لا ينظر في دعواه إلا إذا سبقته الهدايا.

سمى الرشوة حلوانًا ومكسًا؛ فهو لا يكاد يولي أحدًا وظيفة، ولا عملًا، إلا بمال، حتى جمع أموالًا عظيمة، ملأت خزائنه، وفرض من الضرائب والمغارم والمكوس ما أثقل كاهل الأهلين. شملت الضرائب كل إنسان، وكل شيء، فلم يبقَ شيء دون ضريبة وأوقع بالتجار من المغارم والمصادرات، ما جعلهم يجأرون بالشكوى، ويتمنون زوال أيامه.

تسلط على الناس بشراء ما يملكونه من محاصيل ومزروعات بالثمن الذي يحدده، ثم يبيعها إلى التجار بأضعاف ما دفعه.

تخلص من خصومه، أو كل من رفع صوتًا بالشكوى، بالقتل والسجن والتشريد والمصادرة.

لم يعُد يكتفي بأكل أموال الناس، وإنما راح يأكل أموال الدولة أيضًا. قيل إنه استغل كرم الأستاذ، فتسلط على بعض المساجد والمدارس والتكايا، في بلبيس وحولها. نقل أحجارها، وأنشأ بها وكالةً هائلةً تجاه ناحية سوق القناديل، تستقبل الوافدين من خارج البلاد، يقضون فيها أيام إقامتهم، لقاء أجرٍ معلوم.

زاد من عدد الأعوان والموظفين حتى ضاقت بهم العسكر،٥١ صاروا ينزلون إلى الفسطاط، يشوشرون، ويسرفون في المضايقة والإيذاء، والحصول على ما تبيعه الدكاكين، دون أن يدفعوا مقابلًا لها. وامتدت أيديهم إلى ما بأيدي الناس في الشوارع والأخطاط، وشلحوا ثيابهم، وتناولوهم بالكلمات النابية والضرب، وأسرفوا في لعب الصوالج٥٢ واللهو، بحيث خرجوا عن الحدود التي رسمها الشرع الشريف، فاستحقوا لعنة الله وغضبه، جزاءً وفاقًا للشرور التي ارتكبوها، والآثام التي وقعوا فيها.
فرضوا ضرائب باهظة، يجبونها تحت التهديد والوعيد، وانتشرت عقوبة التشهير والمناداة والتجريس٥٣ وتعرضت أرواح العباد وأموالهم للإزهاق والضياع والسلب. زادوا، فأهملوا المعاملات الديوانية تمامًا، وتجاوزوا على العورات، وفضوا البكارى، ولاطوا بالغلمان، وقتلوا النساء أمام أزواجهن.

ضج الناس، وتعددت شكاياتهم. تصل الشكايات إلى أحمد البلبيسي. يلتقط اسم الشاكي، وعنوانه، ويأمر بإحراق الأوراق، يصل الجند إلى مكان الشاكي في مساء اليوم نفسه، أو صباح اليوم التالي. يحاسبونه على فعل غير الذي تناوله في شكواه. يؤكدون التهمة بشهادة الشهود. ويتم العقاب بالإيذاء البدني في المكان، أو يقتاد إلى السجن.

قال السكندري في تأثر: إن الناس لم ينقموا على البلبيسي بقدر ما نقموا على الأستاذ؛ لأنه قربه إليه، وخلع عليه، وسلَّطه على الناس.

أردف في تأثره: إن الأستاذ ولَّى البلبيسي منصبه، وهو يعرف حقيقة أمره؛ فتعليمه لم يجاوز فك الخط، وحفظ القصار من سور القرآن، والتقاط ما وسعه من مجالس العلماء.

وقال السكندري: يضاعف من ألم الناس، وسخطهم، أن البلبيسي ليس مجلوبًا. وُلد في قرية بالقرب من بلبيس؛ فهو من عامة الناس. وإذا كان قد وصل إلى ما وصل إليه في غفلة الزمن، فإنهم لم يتوقعوا أن يكون سوط عذاب على أهله وقومه.

وحين تجرأَت أعدادٌ من الناس، ووقفت على أبواب الأستاذ، تلتمس منه التدخل لدفع هذا البلاء، ظلَّت الأحوال على ما هي عليه، بل إنه كلما استغاث أحد بالأستاذ، نالوه بالْعَنت والإيذاء، فلم يعُد للناس ملجأ يفزعون إليه.

۹۰

سئلت — للمرة الألف — هذا الصباح، في سوق الوراقين: ما حقيقة لقب المتنبي؟

قلت: هو من النبوة، أي المرتفع من الأرض.

۹۱

قال لي ابن القاسم، عصر اليوم: يا أبا محسَّد، أين المرأة في حياتك؟

قلت، وأنا أوسط٥٤ الهواء بامتداد أصابعي حاسمًا: لا موضع لها.

هتف في دهشة: معقول؟!

قلت: أنت ذكرت السبب: إني أب.

قال في دهشته: ألا يحتاج الآباء إلى النساء؟

قلت: معرفة المرأة تنتهي بوفاة الزوجة، إني أحترم ذكرى زوجي.

قال: ألست أنت القائل:

بأبي الشموس الجانحات غواربَا
اللابسات من الحرير جلاببَا
المنهبات عقولنا وقلوبنا
وجناتهن الناهبات الناهبَا
الناعمات القاتلات المحييات
المبديات من الدلال غرائبَا

وفاجأني بالسؤال: ألم تحب خولة بنت أبي الهيجاء، أخت سيف الدولة؟

غالبت المفاجأة، وارتباكي: لو أني أحببتها ما توانيت عن إعلان ذلك.

– راهب إذن؟

– لا رهبانية، لكن مشغولياتي كبيرة، فلا تتيح لي التفكير في الصغائر.

بدا على الرجل غضب واضح، لم آبه له، وانصرف.

۹٥

تمرست بالآفات حتى تركتها
تقول أمات الموت أم ذعر الذعرُ
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها
فمفترق جاران دارهما العمرُ
ولا تحسبن المجد زقًّا وقينةً
فما المجد إلا السيف والفتكة البكرُ
وتركك في الدنيا دويًّا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشرُ

•••

وأشنب معسول الثنيات واضح
سترت فمي عنه، فقبل مفرقي
وأجياد غزلان كجيدك زرنني
فلم أتبين عاطلًا من مطوقِ٥٥
وما كل من يهوى يعف إذا خلا
عفافي، ويرضي الحب والخيل تلتقي

۹۷

دخلت أحاديث الحرب — للمرة الأولى — مجلس الأستاذ. جاءت الأخبار بأن الجماعات الوافدة قد تحركت على البلاد من ناحية الحدود، فوصلت إلى ما بعد العريش. كانت المناطق — فيما يلي غزة — في يد العصابات الوافدة، تقطع على المسافرين الطريق، تأخذ أموال الناس تشن الغارات المفاجئة على مناطق الحدود قتلت — هذه المرة — جماعة كثيرة من الجند والأهالي المصريين. بدا كأنها تتهيأ لمواصلة السير داخل الأراضي المصرية.

أمر الأستاذ، فاتخذ قادة الجند حيطتهم، بتدعيم القلاع والحصون على الحدود، وفي مدن الداخل، وإقامة المراكز العسكرية، وشراء السلاح والذخائر، وتجنيد الأمراء. ولبست الجند آلة الحرب، وأخذت خيول الأمراء وأهل الدولة وأولاد الناس. وعني بتجهيز الشعير والزاد.

٩٨

فكن في اصطناعي محسنًا كمجرب
يبن لك تقريب الجواد وشدُّه
إذا كنت في شك من السيف فابله
فإما تنفيه، وإما تعدُّه
وما الصارم الهندي إلا كغيره
إذا لم يفارقه النجاد وغمدُه٥٦

١٠١-١٠٢

حصل في هذا اليوم من نهب الأموال والسطو على البيوت والحوانيت، واستباحة الأعراض، وانتهاك الحرمات، والاستهانة بأعراف الدين ما يطول شرحه، كأن القارعة أقبلت، فداخل الناس خوف عظيم، وباتوا في غاية الاضطراب، وترقب الشر.

قلت: لكل فعل فاعل.

قال عبد الرحمن السكندري: هذه نيران دائمة، مشعلها ووقودها أعوان البلبيسي.

روى لي السكندري ما لم يكن رواه عن أحمد البلبيسي، ارتكن إلى ثقة ابن حنزابة فيه مثلما ارتكن الأستاذ إلى ثقته في وزيره. استكثر من الأعوان، وأسند إليهم المناصب المهمة، وكبريات الوظائف، فتسلط على الأهالي بواسطتهم. كانوا أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدرًا، وأشحهم نفسًا، وأكثرهم إعراضًا عن الدين، وإقبالًا على الدنيا. غلبت السفالة على أخلاقهم، وارتفع — من بينهم — ستر الحياء والحشمة، وجهروا بالسوء من القول، وتفاخروا بالمعايب والأغلاط، وكثر تسلطهم على أرباب الدولة، يعبثون باسمهم، ويبطشون بسلطانهم، ويظلمون دون رادع.

ضايقوا الناس في معاشهم، وحرموهم الأمن والطمأنينة، وقطعوا الطريق على الأغنياء والعامة، واستولوا على دوابهم وأمتعتهم، وأطلقوا خيولهم في الحقول، فأكلت محاصيلها وخطفوا النساء والغلمان، وباعوهم بعضهم لبعض، أو لمن يشاء من الوجهاء والأعيان. وكانوا يهجمون على النساء في الحمامات، ويخطفون الأقمشة والبضائع من الأسواق، ومن أيدي الناس، وحتى من الفقراء والمتسولة، فلا يدفعون أثمانها. من يمتنع، فإنه يواجه الضرب، وربما القتل، ويدخلون البيوت — أيًّا كان أصحابها — فلا يغادرونها حتى يأخذوا ما يستطيعون أخذه من أموال ومتاع. من رفض أو أبدى المقاومة، آذوه، وألحقوا به ضررًا بليغًا.

انتقل فسادهم إلى خارج مصر الفسطاط، شنوا الغارات في الرملة وبلبيس والفيوم. روعوا الآمنين، وسطوا على دورهم واستلبوا محاصيلهم ومتاعهم، وما يملكون من كراع.٥٧

بالاختصار، فقد حصل للناس منهم غاية الأذى، وعظيم البلاء، حتى إنهم انتهزوا الفرص للنزول من العسكر والقطائع إلى الفسطاط، يشترون فلا يدفعون وينهبون، ويسرقون. لم يسلم من شرورهم حتى كبار أهل الدولة.

سألت عبد الرحمن السكندري: لماذا تسكتون عن مظالمه؟

قال: جعله ابن حنزابة موضع ثقته.

قلت: أبلغوا الأستاذ بأفعاله.

قال: أبلغناه، فعاب علينا الحقد الذي يشغله هدم الناجحين.

ذكر السكندري — فيما ذكر أثناء حديثي الليلة معه — اسم كافور الخادم. لاحظ مفاجأتي ودهشتي. قال وهو يغالب ارتباكه: أنا لا أنعته، لكن هذه بعض تسمياته.

۱۱۰-۱۰۹

تواترت الأنباء عن معارك في الحدود بين الجند المصريين والجماعات الوافدة. نودي في مصر ونواحيها بأن النفير عام في سبيل الله تعالى. ورسم بشد الخيول، ولبس آلة الحرب.

خرج الشبان والرجال إلى الميادين والشوارع والأخطاط، يتصايحون بالحرب. وقدم إلى مصر الفسطاط كثير من أهالي الإسكندرية والصحراء ومدن الصعيد إلى أسوان، يطلبون المشاركة في ردع الغزاة.

نزل الأستاذ إلى الميدان الواسع أمام قصره. عرض الجند وهم لابسون آلة الحرب، راكبون على خيولهم. خلع على القادة، وتبادل كلمات مباسطة مع العساكر.

أمر، فشقت مواكب الجند طريقها، بين ابتهالات الأهالي، ودعواتهم بالنصر المؤزر.

۱۱۸

وما أنا بالباغي على الحب رشوةً
ضعيف هوًى يُبغى عليه ثوابُ
وما شئت إلا أن أدل عواذلي
على أن رأيي في هواك صوابُ
وأعلم قومًا خالفوني فشرقوا
وغربت، أني قد ظفرت وخابوا
إذا نلت منك الود فالمال هينٌ
وكل الذي فوق التراب ترابُ

۱۲۱

كان الليل في أوله. نترقب هتاف الحاجب بمقدم أبي المسك. خاض الحضور في حوارات جانبية.

قال ابن حنزابة: يا أبا الطيب، ماذا تعني بقولك:

يترشفن من فمي رشفاتٍ
هن فيه أحلى من التوحيد؟

قلت ضاحكًا: لا أكثر من خيال شاعر!

قال: أعني الزندقة في المعنى؟

قلت: أنت تحمل الأمور أكثر مما تحتمل.

قال وهو يشيح بيده: بل هذا إفراط وتجاوز حد.

أضاف في تساؤل داهش: هل أعيتك المعاني؟

قال ابن القاسم في نبرة وعظية: للدين في حياة هذا الشعب قداسة، يرفض لأيٍّ كان أن ينال منها.

۱۲۸-۱۲۷

حقق جند الله ثأره.

كانت ساعة اشتجرت فيها الرماح، وصالت البطاريق، وتطايرت القسي والنشاب، وإن حسمت المعركة — في صورتها النهائية — بفوز جند الأستاذ على الجماعات الوافدة. قتلوا أعدادًا كبيرة، وأسروا أعدادًا أخرى، وغنموا غنائم عظيمة من خيل وسلاح وأمتعة وغير ذلك، وأفلحوا في طرد العدو إلى خارج الحدود.

أظهر الناس فرحًا زائدًا، ودقت البشائر أيامًا متوالية، ونودي بالزينة، فنصبت القلاع وأغلقت الأسواق، وزينت المتاجر، وأشعلت الشموع، ورفعت المصاحف على الرءوس، ونشرت الأعلام، ودقت الطبول، وبالغ الناس في الوقود، وأنفقوا الأموال الكثيرة في المآكل والمشارب والغناء واللهو، وكثر اللعب، وأخذت الجواري٥٨ في النيل زخرفها، وقامت بألعاب مختلفة، وتوالت الأفراح، وحضر أنواع الملاهي للترفيه عن الناس بألعابهم.

دخل الأستاذ إلى مصر الفسطاط في موكب عظيم. معه ابن الفرات وسمول الإخشيدي وكبار أهل الدولة، وأرباب العمامة والسيف والقلم، زينت له القطائع والعسكر والفسطاط، وكان له يوم مشهود لم يسمع مثله. ضج الناس بالدعاء والهتاف، ونثروا الذهب والفضة وفرشت الشقق الحرير. زاد في فرحة الناس أن هذه كانت أول هزيمة عرفت للجماعات الوافدة، منذ استوطنت مناطق الحدود. طالما شنوا الهجمات المباغتة، وخالفوا شروط السلم ونقضوا الاتفاقات وسلبوا، ودمروا، وحرقوا، واستلبوا الثروات واعتمدوا على أباطيل في الاستيلاء على أراض ليست لهم.

تواتر ورود المبشرين، ومعهم الأسرى ورءوس القتلى. يطاف بهم في شوارع الفسطاط. يقف الناس — أو يطلون من البيوت — لمشاهدتهم وقد تملكت الفرحة النفوس.

١٣٦–١٣٨

عظم ابن الفرات، وعلا محله وطار ذكره. كان الأستاذ لا يفارقه ليلًا ونهارًا، إلا إذا لزم جناح الحريم، فهو لا يصدر إلا عن رأيه، ولا يخليه من حضور مجلسه، ولا يتصرف في الأمور إلا بعد مشورته فيما يريد. وكان يرد على معظم سائليه: اسألوا ابن الفرات.

استوثق بينهما ود عميق، كأن كليهما مكمل للآخر، متمم لرئاسته، الأستاذ في الإمارة، وابن الفرات في الوزارة.

آلت إلى ابن الفرات مقاليد أمور البلاد والعباد، فلم يعد يتم أمر من أمور الدولة إلا باطلاعه وإذنه. صار صاحب الحل والعقد، واجتمعت فيه الكلمة، حتى إنه كان ينفذ الأمور — في معظم الأحيان — من غير مشورة الأستاذ. يجلس في القصر، يأمر وينهى وينظر في الأحوال، ويرتب العمال، ولا يُطلق شيء إلا بتوقيعه، ولا ينفذ إلا بما يأمر به، ويقرره، ويجتمع — كل ليلة — مع كبار موظفيه، ومن يثق فيهم للنظر في أحوال الناس.

ابن الفرات، دارس محب للعلم. أتابع حواراته في مجلس الأستاذ، فلا أمنع نفسي — ولو بيني وبينها — من الإعجاب به، لكنه — كما تيقنت — يحرص على اقتناء الأملاك والضياع والمسقفات والمعاصر والشون والمخازن والمراكب والعبيد والخدم والمماليك والجواري وغير ذلك. يحرص كذلك على التفرد، لا يحتمل المنافس. فإذا لمحه، سعى إلى التخلص منه بالقتل أو بالوشاية عند الأستاذ، إن بدا خصمه صعب الإزاحة.

أعجب ما سمعته عنه، أنه كان يهوى النظر إلى الحيات والثعابين وغيرها من الحشرات الزاحفة. جعل لها في داره قاعة، يعنى بها، ويطعمها، فراش من الحواة، والعديد من الخدم.

كان الحواة وصيادو الأفاعي يعرفون الطريق إلى داره، يعرضون عليه أنواعها الغريبة، وأجناسها التي بلا عدد، فيختار ما يستهويه منها، ويجزل لأصحابها العطاء.

بنى أعوانه على حبه لتربية الزواحف، قصصًا وحكايات صدقوها لكثرة ما لاكتها ألسنتهم، ونسبوا إليه السحر والطلسمات، يخيفون بذلك من يفكر في معاداته، أو السعي ضده، أو الوشاية به لدى الأستاذ.

وقال لي السكندري — يومًا — وهو يحدثني في أفعال ابن حنزابة: يبدو أن معاشرته للثعابين أصابته بأخلاقها!

زادت النفقات في الحرب. استأذن ابن حنزابة من الأستاذ أن يزيد الضرائب على مبيعات الناس وأسواقهم. أرجعت إلى تحامل السكندري تأكيده أن ابن حنزابة قاسمَ جامعي الضرائب ما حصلوا عليه.

١٤١

قال لي ابن القاسم: كيف تصدر قصائدك؟

قلت: تصدر عن فني.

– وإلى من تتجه بها؟

– حيث تختار مشيئتي.

وهو يلون صوته: ألم تراودك مشيئتك في اختيار الوزير ابن الفرات؟

كتمت دهشتي: ماذا تعني؟

– إنه من النفوذ كما ترى … فلماذا لا تخطب وده بإحدى قصائدك؟

كيف أمتدح وزيرًا — ولو كان ابن حنزابة — وأنا أعد نفسي للولاية؟!

علا صوت الدهشة: أنا أمدح ابن الفرات؟!٥٩

قال: أعرف أنك مدحت من لا يرقون إلى مكانته!

غالبت التوجس: هل كلفك بما قلت؟

قال في ود: إنما أردت توثيق حبل الود بينك وبينه.

قلت: فإذا لم أمدحه؟

وهو يرفع راحتَيه: هذا شأنك … ولا تضع كلماتي في غير إطارها!

١٤٣

هل أصبحت القضية، أني لم أمدح ابن حنزابة؟!

١٤٦-١٤٧

تنقلت عينا مسعود بين الباب ومجلسي. الليل في منتصفه، أو بعده بقليل. ربما أطلت السهر للقراءة أو الكتابة، أو لمغالبة الأرق. يغلق الباب الخارجي والمشربيات، عقب صلاة العشاء، فلا أنتظر زوارًا. توالت الطرقات، فأطلَّت من عيني مسعود حيرة. ألف ترددي في الموافقة على فتح الباب للطارق، أعاني الفضول والتلصص ونظرات الشك والأسئلة التي لا تنتهي. أبانت انفراجة الباب عن وجه لم أشاهد صاحبه من قبل. حتى الزي يخالف ما اعتاد ارتداءه أبناء مصر، لعله لأبناء الصحراء أو الساحل، أو مناطق بعيدة عن المدن. دفع بأوراق، وسلم، ومضى.

همس مسعود في دهشة: مَن؟! … فاتك مولى الإخشيد؟٦٠

– هو ما ذكرت!

– المجنون؟

– هل هو كذلك؟

– هذه تسميته في الناس.

– لا تكن كببغاء.

قاوم تردده: ماذا يطلب؟

– لقائي!

أنساه خوفه التأدب: ربما أراد ابن حنزابة توريطنا … لم أعد بشيء.

– لم أعد بشيء.

سلم الرجل ما بيده، ومضى.

١٤٩

عرض قائد الجند على الأستاذ أوراقًا، بها عشرة أبيات، قالوا إنهم عثروا عليها في دكان بسوق الوراقين.

أعطيت انتباهي، وتذكرت عبد الرحمن السكندري: هل يكون هو كاتب الأبيات؟

قرأ قائد الجند ما في الورقة. أبيات ناقصة، أقرب إلى السذاجة، وإن بدت في غاية القسوة. تنعت الأستاذ بالأسود، والمخصي، والخادم، والمجنون …

سرت في وجه كافور زرقة، فصار مخيفًا. أيقنت بالعقاب الذي سيحلُّ بالسكندري لو أنه كتب هذه الأبيات. استعاد الاسم من قائد الجند.

ارتاحت نفسي لذكر الاسم الأول: بدر، أو شمس، لم يكن هو عبد الرحمن السكندري.

أهملت سماع بقية الاسم، وتنهدت مرتاحًا.

۱٥۱

قال لي شاب ملتحٍ، التقيت به — للمرة الأولى هذا المساء — بين صلاتَي المغرب والعشاء في جامع ابن طولون: حتى تدرك ما نعانيه، فلا بد أن تحسَّ — مثلنا — أن مصر هي وطنك.

تمنيت لو أني استغنيت عن الحارسَين اللذَين يرافقانني أينما ذهبت، كأنهما التأكيد على السجن الذي أحيا داخله. لا أستطيع أن أخلو بأحد، ولا بنفسي. يحرصان على السماع أكثر من حرصهما على الإمساك بسلاحَيهما.

۱٥٣–۱٥٥

مثل غلبة النهار — أو الليل — دون أن يدري المرء متى ولا كيف حدث ذلك، تبين لي الحياة في مصر الفسطاط عن أسرارها: الأستاذ هو الزعيم، والقائد، والمعلم. يحرص الجميع على إعلان ذلك، وتأكيده في خطبهم وتصريحاتهم وأحاديثهم المعلنة. حتى ابن حنزابة الذي طالت قامته — أحيانًا — قامة الأستاذ. كان يحرص على وضع الهالة المتألقة فوق رأس أبي المسك. كل الإنجازات والتشريعات والقرارات، ما صغُر منها وما كبُر، ما يتصل بالسياسة العامة والحياة اليومية للمواطنين، إنما جرت بتوجيهات الأستاذ، الزعيم والقائد والمعلم، نذر نفسه لأبناء الوطن، يُعنى بالتفصيلات الدقيقة في حياتهم، يتلقَّى الأخبار والتقارير عما يجري في المكاتب والأسواق، ينقلها إليه الأعوان والبصاصون، يضعون الصورة كاملة أمامه يومًا بيوم، فلا تفوته شاردة ولا واردة. يأخذ قراره في ضوء حاجات الأهالي وذوي المصالح، لا يرضخ لوشاية أو تحريض أو ضغط من أي نوع. القرار قراره، يأخذه بكامل الوعي، وبضمير لا يعتوره قلق. المشورة لمجرد الاستنارة والإفادة من تعدُّد الآراء، يستعيدها، ويقلبها، ويتوصَّل — ختامًا — إلى الرأي الذي يميل إليه. يأمر بصياغته في مرسوم يمهره بتوقيعه، أو بختمه، بنفسٍ راضية.

زاد ابن الفرات وأعوانه، فنسبوا إلى الأستاذ ما لم يكن — بالتأكيد — يعلم به. حتى عمليات الإعدام والاعتقال والمصادرة والتعذيب، تُنسب إلى الأستاذ، وتمهر بتوقيعه أو ختمه. كيف وافق عليها وهل وصلت إليه الوقائع كاملة؟ أو أنه جرى عليها تحريف، إضافة وحذف وزيف، غير ملامح الصورة، نقص منها، أو أضاف إليها؟ … اقترابي من مجلس الأستاذ، ومن معاونيه، أتاح لي التعرف إلى الصورة على حقيقتها، دون زواق أو تهاويل.

خطب المشايخ في المساجد بأن المخصي هو ظل الله على الأرض. وضع الله في يده مفاتيح خزائنه فيها، إن شاء فتحها، وإن شاء ظلَّت مغلقة.

مصر الفسطاط ليست مدينة الأستاذ، ولا ابن الفرات والأمراء والوزراء والأعوان، ولا مدينة المشايخ. إنها مدينة ناسها، وإن اختفى ذلك في خضم الصراعات والدسائس والاغتيالات التي كانت صورة الحياة في الطبقة الحاكمة كلها.

الشوارع عامرة بالحوانيت، والحوانيت غاصَّة بأنواع المآكل والمشارب، والناس — في الشوارع والأخطاط والأزقة والميادين والمتاجر والبيوت — كأنه لا يعنيهم شيء، لا تستوقفهم الأحداث التي تمور في بلادهم، لا شأن لها بهم، ولا شأن لهم بها. انصرفوا إلى اهتبال فرص التمتع باللذات، وأسلموا قيادهم لسواهم، يخطط ويدبر ويحمي الثغور ويرد الأعداء، وما عليهم إلا أن يحظوا بما وفَّرته لهم الدولة من أسباب الأمن والأمان. فإذا دعاهم أولو الأمر لإظهار الفرحة — في مناسبة ما — بالغوا في إظهار الزينة، ونصب القلاع، وإيقاد الشموع والقناديل.

أما إذا زاد أعوان الأستاذ من عنتهم ومظالمهم، فإن المصريين يُؤثرون الصمت. لا تبين الوجوه عما تضطرم به النفوس. ربما همسوا بالنكتة، أو لمحوا بالكناية والتورية، لكنهم يرفضون المعاداة الصريحة، المعلنة.

ذلك ما كنت أتوهَّمه في البداية. ثم توضح لي — بالمخالطة والمعاشرة والملاحظة عن قرب — أن الفسطاط لا تهب الغرباء أسرارها بسهولة. الواجهة الصامتة اللاهية، تخفي باطنًا صاخبًا موَّارًا. تلاقت الهمسات التعليقات العفوية، الملاحظات العابرة، الرقاع التي تدس تحت الأبواب، المتاجر التي تغلق بلا سبب، البيوت التي تدهمها الشرطة في أوقات شتى، أبانت عن الحقيقة التي لا تقبل الشك أو التأويل. فيما يجري ويحدث، فإن الإخشيدي يشارك بالصمت، وأعوانه يشاركون بالمظالم والمؤامرات والأفعال الشنيعة. يهمسون في أذنه، فيحسن الإنصات، يرفعون إليه التقارير الكاذبة فيصدقها، يزينون له الأمور فيتوهم أنه يمشي في الطريق الصواب.

زادت الرقاع التي طالما دست تحت باب بيتي، تنبهني إلى ما يجري ويدور، تطالبني — بحق اقترابي من كافور — أن أنبهه، وأشير عليه، بإهمال الهمسات المغرضة، رسم الوسائل التي تعين الأهالي على قسوة أيامهم، محاسبة الظالم والمخطئ والمسيء.

قراري الذي لم أتحوَّل عنه أني ما جئت إلى مصر إلا لمدح كافور، والعودة بهدايا وأموال، وصك تنصيبي على ولاية صيدا. أجلس إلى علماء دين وأدباء ومتعلمين، يكتفون بالتلميح إلى الظروف الصعبة، أجول في الأسواق، أطالع وجوه الناس، أتعرَّف في القصائد والكتابات النثرية إلى ما بين السطور، أجالس النساخين، يحدثونني عما خافوا نسخه. أعرف البصاصين والأرصاد والجواسيس في الشوارع والأسواق وحنايا الأزقة. أميزهم — حالًا — مهما أجادوا التنكر، واصطناع مظاهر الناس العاديين. أكتفي — في كل شيء — بالمشاهدة والإنصات. المتنبي صفة كاذبة، ضاع من عمري لقاءها عامان في السجن، فهل أضيع بقية عمري في قضايا لا تهمني؟ من يرفض، فإن عليه أن يعلن رفضه بالطريقة التي تحلو له، بالوسيلة التي يستطيعها، لا شأن للآخرين برفضه وفعله.

١٥٧

أرى لي بقربي منك عينًا قريرةً
وإن كان قربًا بالبعاد يشابُ
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا
ودون الذي أملت منك حجابُ
وفي النفس حاجات وفيك فطانةٌ
سكوتي بيانٌ عندها وخطابُ

١٥٨

قال لي عبد الرحمن السكندري: لو أنك تابعت القصة من بداياتها، ربما تبينت ارتباطها الوثيق بما جرى وكان. أبو المسك لم يخضع الأمور في يوم وليلة. كان معلم ابن الإخشيد، فوصيه. لم يرد لهذه الوصاية إلا حين اطمأن أولو الشأن لذلك … ثم رافق الأيام في تواليها، حتى أصبح له الأمر كله، كمن سار إلى هدفه عبر مسالك غير مطروقة، فتجنب الرفض أو النكير أو الثورة، مما كان لا بد أن يلتقي به لو أنه سار إلى هدفه في العلن، وأمام أعين الناس … لقب الأستاذ لا يعني التفاخر ولا التواضع. إنما هو حيلة، حتى لا يتهمه الناس باغتصاب لقب السلطان، أو الأمير، بعد أن اغتصب كرسي الحكم لنفسه. وكان وصول تقليد من الخليفة إليه أمرًا غير مؤكد.

١٦١

هل غادرت الشام، وقطعت الفيافي والقفار، لأمدح الأسود؟!٦١

١٦٩

تكررت رسائل أبي شجاع فاتك الرومي.٦٢ أرفض لقاءه، كي لا أقع في شباك الخديعة. عانيت أحاييل الجواسيس والدساسين وذوي الأغراض الدنيئة. لم أعُد أثق في إنسان، ولا تصرف مهما تلفع بالبراءة. أضاف إلى ترددي ما علمته من اندفاعه وتهوره، لا يدبر قدمه — قبل الخطو — موضعها، يسبق فعله عقله وتدبيره …٦٣ لما اتخذت قراري — بتوالي الرسائل — ظل القرار مؤجلًا. خشيتي من بصاصي المخصي، كأنها النيران التي لا سبيل إلى اقتحامها، الطريق التي ينبغي ألا ينظر المرء فيها وراءه، الغرفة الواحدة والأربعون، المغلقة.

۱۷۲

دعا الأستاذ، فأدخل خمسة من الفقهاء في الأصفاد، وألقوا بين يدَيه، أمر الأستاذ كبيرهم — شيخ في حوالَي السبعين – بالتحدث عما سأله عنه، وصدع بالإنكار عليه، وأنه غير أهل للقيام بأمر الرعية، وعدَّد له ما يقوم به أتباعه من أعمال السلب والنهب والظلم للمسلمين.

أنصت الأستاذ في هدوء، وإن تسلل إلى ملامح وجهه غضب، وقال في صوت خفيض: هل هذا ما تقولونه لأهل البلاد؟

قال الشيخ: بل هذا ما سمعناه … ونحن نعيده على مسمعكم.

أمر الأستاذ، فسيروا بالأصفاد إلى حيث يجري التحقيق معهم، والتيقُّن إن كان لهم أعوان بين أهل الدولة، أو أن الكلمات واجهة لأفعال تدبر في الخفاء.

بسط ابن القاسم أوراق قصيدة ليلقيها بين يدي الأستاذ. سحب أبو المسك ذيل ردائه، ومضى إلى داخل القصر، فأُلغِيَ المجلس هذه الليلة.

۱۷٥

ألفت استقبال البوابين وأصحاب الأخبار. يُرجفون بأن الإخشيدي ولَّاني هذا الإقليم أو ذاك من أقاليم الصعيد. لم أعد أثق بأحاديث عن وقائع مختلقة، وسراب في صحراء مجدبة، وأكاذيب أوعز بها الأسود، فرددتها الألسنة.

قال لي ابن القاسم، ونحن نغادر الجامع العتيق، عقب صلاة الجمعة: سألت الأستاذ: لماذا لم تولِّ أبا الطيب ولاية؟

قلت لمجرد المسايرة في الحديث: وبماذا أجابك؟

– قال: إنه وهو فقير معدم قد ادعى النبوة بعد النبي … فكيف به بعد أن يلي، ويصبح له أتباع وأنصار؟!

أردف في ابتسامة عابثة: إنه لا يأمن أن تستقل بولايتك، أو أنك ترثه في مصر كلها بعد مماته.

هل خلت مصر من الرجال، حتى يخلص ملكها لهذا الخصي؟!

۱٨٥-۱٨٦

أيقظني الخدم في غير الموعد الذي ألفت الاستيقاظ فيه. كانوا قد فتحوا الباب للشيخ عبد القوي السروجي،٦٤ وأجلسوه في غرفة جانبية. جهزت نفسي في دقائق. خاطب تساؤلي الصامت: مررت بجوار بيتكم، فصعدت لأسلِّم.

ناديت على الخدم، فأتوا بالإفطار والمشروبات. رافق جلسته حديث عن سوء الأحوال، ودسائس أهل الدولة، وضيق الناس.

عزفت عن المشاركة والتعقيب، أو حتى هز الرأس. كنت أعلم عن هؤلاء الذين يشكون جور الحاكم وعسفه، لينقلوا عن الذي أنصت، ما قالوه هم. دانت أمور البلاد للبصاصين، يرون ما يشغلهم رؤيته، ويغضُّون الأبصار عما يريدون تفويته وعدم إذاعته.

يبلِّغون الأسود بالأحوال على نحوٍ غير دقيق، يؤكدون تبليغاتهم بتقارير الشرطة والبصاصين، يعطي الرجل توجيهاته في ضوء ما عرض عليه، ينفذون الأقل منها على النحو الصحيح، يهملون ما ليس في صالح أهوائهم. في الأغلب، فإنهم يسيئون التبليغ والفهم والتنفيذ. يصطنعون الهجوم — أحيانًا — ضد المخصي، يسودون به الصفحات، ينسبونه إلى من شغلتهم قضايا أيامهم، لا تعنيهم ولاية ولا وزارة، يواجهون الموت لقاء أفعال دبرها غيرهم. أتذكر منافسي عند التنوخيين٦٥ صنعهم هجاء الحسين بن إسحاق التنوخي، أضافوه إلى غربتي …٦٦

بدوا كعصابة جعلت همها تسويد حياة الناس، وتبغيضهم في أيامهم، وتبغيضي في أيامي أنا أيضًا، استأثروا لأنفسهم بحكم البلاد. كافور واجهة تخفي المئات من الحكام الحقيقيين. تمكنوا من أرقى الوظائف، أبناء البلاد مقيدون في تبعية الأرض. لا شأن لهم بما يجري. يدفعون المكوس والضرائب، يخرجون للمواكب، يشهدون حمَّامات الدم، تنتقل من القصور إلى الشوارع. يكتفون بالفرجة، أو يلوذون بالفرار.

كنت أفر — أحيانًا — إلى الصحراء. أعايش البدو والأعراب، تستهويني الفطرة والصفاء، والبعد عن كل ما يشين.

توقِّيًا للمجهول، أمر المخصي بمنع الركوب بالسلاح، مهما بلغت مكانة الراكب. شدد على مراقبة صناع الأسلحة وتجارها. هدد من يشتري سلاحًا دون أن يكون له به حاجة بالشنق. بالغ في التحرز على نفسه، فصار يأخذ بالظنة، ويعاقب بالشبهة، ويصدق كل وشاية، ولا يثق بأي أحد مهما كان قريبًا منه، ومنع المشاهدين لموكبه عند ركوبه إلى المناطق المختلفة، من الجلوس في الطرقات، وألزم الناس إغلاق طاقات البيوت عند مروره، وكان يخلو إلى نفسه أيامًا كاملةً في البستان الكافوري، المطل على الخليج. ثم لم يعد يبيت ليلتَين في مكان واحد، وربما هجر مخدعه الوثير إلى خيمة أحد الخدم.٦٧

١٨٨

دعاني عبد الرحمن السكندري إلى زيارة منطقة الجيزة والأهرام، قال: أنت لم ترَ قبور ملوك القبط وأكابرهم.

اعتذرت، لا لمشغولية، فقد أصبحَت الأيام مللًا متصلًا، إنما لأني كنت أتعجل اليوم الذي يأذن لي فيه المخصي بالرحيل. ذوت الأماني، فلم يعد يشغلني إلا العودة من حيث أتيت، الفرار من السجن الذي أودعت فيه نفسي.

حلب!

أحنُّ إليها، وإلى سيف الدولة، الحركة والحياة والحرب والتغني بالسيوف والرماح والقنا والنصال والدروق والحجوف، والدروع والكراغندرات والجواشن والزرديات والخوذ، والقنطاريات والأسنة والقسي …٦٨

ما جدوى الولاية في ظل المخصي؟!

۱۹۰

فاجأني الرقم لما أبلغني به عبد الرحمن السكندري، مات متولي الخراج أبو بكر محمد بن علي بن مقاتل، عندما أجروا التفتيش في بيته، وجدوا ثلاثمائة ألف دينار مدفونة. كل قصائدي لم تتح لي هذا المبلغ … فما جدوى الشعر والأقلام والورق والمحابر؟!

۱۹۱

روى لي محسد — مساء اليوم — واقعةً غريبة، أبانت عن اضطراب أحوال البلاد، وتفرق شمل الوزراء والقادة، وانصرافهم عن مراعاة الأهالي، حرَّض عمر الهاشمي أعوانه، فوقفوا في طريق موكب المخصي، حتى إذا مر، دعوا لأحمد البلبيسي. تأثر الإخشيدي تأثرًا بالغًا. توهم أن البلبيسي قد أصبحت له في نفوس الناس هيبة، فهم يدعون له بدلًا من الدعاء للسلطان. أكمل كافور سيره، وقد تملكه الغضب، بحيث لزم الصمت. لم يكلم أيًّا من معاونيه، حتى وصل إلى المكان المنشود. كان أول ما رسمه — فور استقراره — إلقاء القبض على البلبيسي، وإيداعه الحبس، حتى ينظر في أمره.

١٩٥-۱۹٦

بعد رفع سماط الأطعمة الفاخرة والأشوية من الخراف والأوز والدجاج والغزلان، مد سماط الحلويات والفاكهة. وعندما اطمأن المخصي إلى خلوه مما كان يحفل به، خلع على بعض القضاة والفقهاء وأهل الدولة. وأشار إلى شعرائه، فأنشدوا قصائدهم. لم تصادف الكلمات — في نفسه — هوًى، وإن أظهر الإعجاب. كلمات كأنها الشعر في حفاظها للقافية والوزن، لكنها تفتقد المعاني، أو أن معانيها ساذجة. أمرَ، فنُودي على حسن السيابي من خارج القاعة. لم يكن من المأذون لهم بحضور مجلس الأستاذ.

– ماذا لديك يا حسن من أمر مهم؟

شمل الرجل تردد، كأنه راجع نفسه فيما انتوى أن يتحدث به.

هتف الأسود في لهجة آمرة: تكلم!

قال السيابي: لقد حلمت …

قاطعه المخصي في غضب: تحسبني مفسرًا للأحلام؟!

– حلمي بشأن معاركنا مع الجماعات الوافدة.

– هل قضيت عليهم في منامك؟!

– كأننا عقدنا معهم صلحًا لإيقاف الدماء.

– نحن نؤثر السلام، وإن كنا لا نؤثر السلامة.

واتت السيابي جرأة: فإذا أمكن تحقيق السلام؟

ركز الإخشيدي عينَيه على السيابي، لا تطرفان: ماذا لديك؟

قال السيابي: لا شيء … فقط أتمنى لو جاوزت محاولات الصلح حيز الحلم إلى امتدادات الواقع.

شاب صوت المخصي حدة: دعك من التحدث بالألغاز … هل نمد يدنا لمن يشغلهم قطعها؟

قال السيابي: معلوماتي تؤكد أنهم يرغبون في الصلح أضعاف رغبتنا فيه.

قال المخصي: والأرض التي استولوا عليها؟

قالوا: كل شيء قابل للتفاوض.

– فإذا أصموا آذانهم عن صوت العقل؟

– نحن لن نهمل استعداداتنا.

سكت المخصي عن الحوار، فتصور الحضور كأنه وافق على السير في الدرب الجديد.

٢١٦-٢١٧

جرت أحاديث السلام، فظهر من شخصية حسن السيابي ما كان خافيًا. تكرر ظهوره في مجلس الأستاذ، وفي المناسبات. لم يعُد يستتر وراء أعوانه. سافر إلى مناطق الحدود، وإلى بلاد أخرى بعيدة وقريبة، للتباحث مع الجماعات الوافدة، في وسائل إحلال السلام. علا نجمه، فساوى ابن حنزابة. عامل الناس أحاديثه كأنها تصدر عن الأستاذ. رويت عن حياته الخاصة أعاجيب، كأنه جسد أكاذيب ابن أبي ربيعة٦٩ فلم تعُد كذلك؛ فهو يميل إلى اللهو والطرب والتشاغل باللذات وشرب الراح. يولع بحب الملاح وسماع الغناء. يعاشر أرباب الملاهي. يشرب الخمر في رمضان ويفسق بالمردان. لا يرعوي عن مغازلة نساء الفقراء، ويسعى إلى الإيقاع بهن، بصرف النظر عن خسة الوسائل، ولا يصلي. عنده جوقة جوارٍ مغنيات، يضربن الدفوف، ويعزفن بالطنابير، ويشدون أحلى الشدو. إن لعبت الخمر برأسه، ذهب عقله، فمضى يفعل ما لا يليق بمنصبه ولا وقاره، ويعاقب لأهون الأسباب، ويعاقب — أحيانًا — بلا أسباب محددة.

قيل إنه كان يدفع للرواة، كي ينشدوا في الساحات والميادين ما يؤلفونه من قصائد تدين خصومه، تظهر سخط الناس عليهم، ورفضهم لمظالمهم. يتوقع أن ينقل الأرصاد ما يسمعونه إلى الأستاذ، فيقضي بعقاب الخصوم.

أسرف في القتل والجور وخراب البلاد. قُتل من الناس — في السر والعلانية — ما لا يكاد يُحصى.

شدد أعوانه على الأهالي. يتهمون لغير سبب، ويشون بمن لا يغادر بيته، أو دكانه. ينالونه بأخطر التهم، وأنه ضد ولاية الأستاذ، أو أنه ضد السلام الوشيك. تُغيِّب السجون آلافًا من عابري السبيل، والذين في حالهم، وابتعدوا عن كل ما يثير الريب.

قال عبد الرحمن السكندري: لا أبرِّئ الإخشيدي مما يفعله معاونوه … إنه هو الذي اختارهم، وعليه أن يحسن رقابتهم.

قلت: تلك أفعال السيابي وأعوانه.

قال: السيابي لا يعمل لحسابه … إنه موظف في ولاية يرأسها الإخشيدي.

۲۱۸

أجاد السيابي تصوير قائد الألوف، في هيئة الذي يطمح إلى إزاحة كافور، وتولي الحكم. نقل أعوانه الصورة إلى داخل القصر. تغيرت نفس الأستاذ. نقل إليه أعوان السيابي محاولات قائد الألوف المعلنة لاجتذاب الجنود إليه. لم يكن بيته يخلو من زوار يحملون الرتب المختلفة. وزاد في العطايا، وفي الخلع، لمقدمي المئين، ومقدمي الألوف.

أمر كافور بعزل قائد الألوف. صار للسيابي الحل والربط في قصر الإخشيد. هو الذي يقبل ويرفض ويقرر. لا يظهر علانية، ولا يوقع على أمر. وكان يخترع المراسيم، يؤلفها، وينسبها إلى المخصي.

عرفت أنه كان يشغل — قبل أن يقربه الإخشيدي إليه — وظائف متعددة، ثم ظل فيها. لا أدري كيف يسعفه وقته ولا جهده على شغلها، وإن قال لي السكندري إن الرجل يسافر إلى قريته في المنوفية، ويعهد بوظائفه إلى نواب عنه.

أمر الأستاذ، فنودي في البلاد والطرق والأسواق، أن الصلح بين مصر والجماعات الوافدة قد انتظم، فلا حرب بعد الآن. ومن أراد من أحد الجانبَين أن يدخل مدنَ الآخَر، فلا تثريب عليه.

۲۲۱-۲۲۰

الفرار من العبد الأسود اختياري الوحيد.٧٠ البحث عن طريق العودة في عصي المنافذ والدروب. البصاصون والأرصاد والجواسيس في كل مكان. خطواتي محسوبة، وآثاري مترسمة، وأنفاسي كأنها قد سجلت في دفاترهم. شملني ما انتظم الأهالي؛ الفحص عن أحوالهم، والاستقصاء لأخبارهم. عيون السيابي وأرصاده يُنبئونه بكل شيء، والجواسيس يتفنَّنون للوصول إلى ما يريدون معرفته، حتى لو كان في داخل البيوت والحجرات المغلقة. قال: لو استطعت أن أراقب قلوب الناس، لفعلت. حتى النساء اللائي يعملْنَ في البيوت أو يبعْنَ ما تحتاجه العوائل من السلع، دفعهن إلى التجسس على أحوال الناس، وإبلاغ أعوانه بما يدور داخل الجدران. حتى التعليقات العفوية، قد تضمر وراءها نياتٍ خبيثة، فهي تنقل إلى الأعوان كما قيلت. يتدبَّرون معانيها ودلالاتها، يتعرفون إلى جوانب البراءة والدناءة، ما ينبغي تفويته وما يستحق المؤاخذة والعقاب.

ربما أخذ السيابي بالظِّنَّة، ساوى بين البريء والمدان، أجرى الغدر والظلم والبطش، فباتت تلك صورة سياسته. أسرف في ألوان التعذيب والتقتيل، كالتوسيط بالسيف نصفَين، والقطع نصفَين، والإجلاس على الخازوق، والتمزيق، وقطع الأيدي والأرجل واللسان، والصلب، والحرق، والتغريق في النيل، والتسمير على لعبة من الخشب والسلخ والعصر بالمعصرة، ونعل القدمَين بالحديد كما تنعل الخيل، والتسعيط بالماء والملح والخل والجير، والضرب بالمقرعة أو السوط أو العصا على الرأس أو القدمَين، وقلع الأضراس ودقها في الرأس، وإلباس الرأس خوذة محمية، والشوي بالنار، والدفن في التراب حيًّا، وكحل العينين بالنار، وتعليق اليدين، وربط القدمين بأثقال حتى تنخلع الأعضاء، ويموت السجين.

•••

استأذنت في لقاء المخصي: أزمعت — بعد موافقتكم — أن أخرج إلى الرملة.٧١

قال: خيرًا؟

وأنا أظهر التذلل: أقضي مالًا كتب لي به.

أشاح بيده: نحن نوجه من يقضيه لك.

قلت: ليتني أقضيه بنفسي.

بدل حركة يده. واصل هزها في الهواء: أقسمت عليك ألا تخرج.

أضاف بلهجةٍ مترفقة: أريدك أن تظل بيننا.

٢٢٥−٢٢٦

جاءني سمول الإخشيدي قائد العسكر. تبعه مشاعلي يحمل رأسًا على رأس رمح. كانت الأنباء قد سبقت وصول الرأس، صاحبها شبيب بن جرير العقيلي، والي معرة النعمان، أراد أن يقتطع الشام من حكم الإخشيديين، فهاجم دمشق بقوات. كاد يحقق ما انتوى، لولا السم الذي دس له في الطعام. سرى تأثيره في أثناء القتال، فسقط عن فرسه، وتشرذم — بالتالي — جنوده.

أعاد قائد العسكر روايات، تباينت — أعلم بكذبها — عن مقتل العقيلي: امرأة من دمشق رمته من حالق بحجر رحًى. تعثر جواده، فسقط ميتًا. كتفه كسرت، فبدأ هجومه قبل تمام الشفاء، فوقع حتف أنفه. قتله الصرع لإدمانه الشرب.

كنت أعلم بكذب كل الروايات، الرواية الصحيحة الوحيدة، هي ما أنبأني به القادمون من الشام: قتل شبيب غيلةً وغدرًا. رثيت العقيلي، ولم أهنِّئ الأسود:

عدوك مذموم بكل لسانِ
ولو كان من أعدائك القمرانِ
ولله سر في عُلاك، وإنما
كلام العِدَى ضرب من الهذيانِ
أتلتمس الأعداءُ بعد الذي رأتْ
قيامَ دليل أو وضوح بيانِ
رأت كل من ينوي لك الغدرَ يُبتلى
بغدر حياة أو بغدر زمانِ
برغم شبيب فارق السيف كفه
وكانا على العلات يصطحبانِ
كأن رقاب الناس قالت لسيفه
رفيقك قيسي وأنت يماني
فإن يك إنسانًا مضى لسبيله
فإن المنايا غاية الحيوانِ
وما كان إلا النار في كل موضعٍ
يثير غبارًا في مكان دخانِ
فنال حياةً يشتهيها عدوه
وموتًا يشهي الموت كل جبانِ
٧٢

۲۲۸

علمت من ابن رشدين أنه لما استمع الأسود إلى بيت القصيدة التي رثيت فيها شبيب بن جرير العقيلي:

وقد قَتل الأقرانَ حتى قتلته
بأضعف قِرْن في أذل مكانِ

قال الأسود: لا والله، بل بأشد قرن في أعز مكان.

بدا الموت وشيكًا، كأنه لامس جلدي. دفع إليَّ المخصي بأوراق، تبينت في سطورها خطي.

۲۳۰-۲۲۹

– هذه كلماتك.

من الذي أوصلها إليه؟ … ناقشت حسن السيابي فيما آلت إليه الأمور، وما رأيته في حياة الناس. أبديت تخوفي من احتمالات المستقبل. طلب أن أسجل ملاحظاتي في أوراق، ليسهل تأملها، والتدقيق فيها، والعودة إليها إذا اقتضى الأمر.

خلوت إلى الأوراق ليلة، حتى مطلع الفجر. احترزت، فلم أروِ عما سمعته، وما أكثره. رويت الأحداث التي وقعت لي، أو شاهدتها.

زدت فاقترحت ما ينبغي من حلول، كتبت ما كتبت حسبةً لوجه الله، أرضيت ضميري، فلا شأن لي بما يجري. توالي الأيام يقرب رحيلي من مصر، الناس والعادات والتقاليد والموروثات مما يغاير مألوف حياتي، ونظرتي إلى الأمور. لا بد أن أفترق عنه في يوم من الأيام.

أنا شاعر في بلاط الأستاذ، أحضر مجلسه، أصادق الوزراء والقادة والصفوة، أعبر الشوارع على جوادي، فلا أكاد أبصر ما على الجانبَين، ولا من يلامسه الجواد من بشر وحيوان، وإن لامس التعاطف — أحيانًا — هؤلاء الذين يتحدثون باللغة نفسها التي أتحدث بها. يعجبون بقصائدي، يحرصون على تدوينها لدى الوراقين، تنطق نظراتهم باللوم والشك والأمل في الفهم والتفهم. أجاوز النظرات، فلا شأن لي حتى بهؤلاء الذين دفع السيابي بهم، فأنا أراهم أمام بيتي، وفي الشوارع والأخطاط، وبعد أن أغادر مجلس الأستاذ، أو مجالس الأصدقاء، في المساء المتأخر.

توقعت أن يفعل الرجل مثلما فعلت، فيُرضي ضميره. يستعين بملاحظاتي في التأكيد على ما يرى أنه الصواب، وما يقترح فعله … لكنه — في خسة — رفع الأوراق إلى المخصي.

عاود الأستاذ السؤال: أليسَت هذه أوراقك؟

قلت: بلى.

جز أسنانه: تتآمر ضدي؟!

علا صوتي، فجاوز التأدب الذي تفرضه حضرة الأستاذ: ما أتيت إلا لمدحكم.

– تمدح في العلانية … وتتآمر في السر!

– من رفع الأوراق إليكم هو الذي طالبني بتسويدها.

صرخ: أملى عليك ما كتبته!

قلت: إنما طلب بعض آرائي للاستنارة، فكتبت له ما أراد.

تقلَّصت بشاعة وجهه، فبدا كأنه الموت: أيكما يطلب منصبي؟

وأنا أعاني خطورة موقفي: أنا شاعركم الذي نذر نفسه وكلماته للإشادة بمناقبكم.

– هذا إنذار أول وأخير … أنت تبيع مدحك لنا، ونحن نشتريه … فادَّعِ النبوة، وانشد الولاية، حيث لا تكون أرضي.

أردف في حسمٍ باتر: ستتذكر أيام سجنك في حمص كأنها النعيم، إذا دسست أنفك ثانيةً فيما لا شأن لك به.

هذا رجلٌ ألِفَ التآمر. حتى عرش مصر، وليَه بعد أن دس السم لأونوجور، ليصبح «كافور» في عهد سلفه علي هو الآمر الناهي، حتى مات. لا يدري أحد إن كانت ميتته طبيعية، أم أن يد المخصي دست له السم مثلما فعل في أخيه.

هذا الرجل، الأسود، الخادم، المخصي، الكركدن٧٣ يشعر — كما أرى — أنه أضأل من أن يتولَّى إمارة مصر. حتى السكة لم يحاول أن ينقش عليها اسمه؛ فهو قد اطمأن إلى وضعه كوسط بين الأمير والوصي على العرش.

٢٣٠

أي مكان أرتقي
أي عظيم أتقي
وكل ما قد خلق الله
وما لم يخلقِ
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي

٢٣٣-٢٣٤

لم أعُد ألقى المخصي إلا أن يركب، فأسير معه في الطريق. لا أتردَّد على قَصره، ولا أجلس في مجلسه، ولا أمدحه، حر أنا في الظاهر، سجين في الحقيقة. أفلح أعوانه في ملئه غيظًا مني، وحقدًا عليَّ، فسد بابه دوني.

بدا بين أعوانه كالمحجور عليه، لا يتصرف في الأمور إلا بموافقتهم، يبلغونه بما توصلوا إليه، فيعلنه أو يمهره باسمه. ربما صدر المرسوم باسمه، دون أن يعلم متى ولا لماذا ولا من الذي أصدره. ملكوا زمام الحكم بدلًا منه، يعزلون ويولون سائر الموظفين، كبارهم وصغارهم، يفرضون الغرامات والإتاوات، والأسود يعجز حتى عن توبيخهم على ما يرتكبون باسمه. ليس له أمرٌ ولا نهي، رغم الهالة التي أجادوا رسمها حوله. استبدوا بشئون الحكم، فبدا مسكينًا لا حول له ولا قوة، وإن أكثر من الخطب والتصريحات التي تؤكد قوته، وأنه يأخذ قراراته من نفسه، ويتدبرها في رأسه، ولا يستمع إلا إلى ما يمليه عليه ضميره.

بدا لي — قبل أن أعتزل مجلسه — كأنه يدرك كل شيء، كأنه يحيط بأحوال الناس وشكاياتهم ومطالبهم، يلم بالأوضاع في الأسواق والوكايل والخانات ودواوين الحكم. يرد الشاكي روايته، فيعلق بما ينبئ عن الفهم والمتابعة، يصدر القرار الصحيح العادل، لكن التنفيذ يتوه في الدواوين والأوراق والأضابير. يتوه صاحب الشكاية معه، فيقعده اليأس عن المطالبة بحقه، يتصور أن الأستاذ ضحك عليه، ليصرفه، وأنه يحمي هؤلاء الذين استلبوه حقه، وأسرفوا في ظلمه، وإن تيقن العارفون أنه واجهة، أجاد التخفي وراءها المحاسيب والأعوان ومتسلقة الحكم. الجثة الهائلة، والبشرة الحالكة السواد، والعينان الحمراوان، والأنف الأفطس، والشعر الأكرت، الأشعث، والزعيق، والشخط، والنطر، والتهديد بالويل والثبور … ذلك كله مما يخدع البسطاء، والذين لا يعلمون، يخدع الضعف الكامن في أعماقه، يتصور نفسه صاحب الأمر والنهي، والقاضي بالظلم والعدل، وما ينبغي أن تساس به الرعية، لكن القرار الحقيقي في أيدٍ خفية أجادت المداهنة والملق والتلون، وهبطت بحرمة الدولة والمخصي إلى دركٍ اضطرب معه ميزان الخلق، وتلاشت روح المسئولية. اعتبروا أنفسهم فوق القانون والأعراف. توقَّع الناس أن تمتدَّ صراعاتهم إلى كافور، فتعزله.

۲۳۷

كنت إذا دخلت على كافور أنشده، يضحك لي، ويبش في وجهي إلى أن أنشدته:

ولما صار ود الناس خبًّا
جزيت على ابتسام بابتسامِ

فما ضحك بعدها في وجهي، إلى أن تفرقنا. فعجبت من فطنته وذكائه.

٢٤٠

هل هي خاتمة المطاف؟ … هل انتهت رحلة الطموح في ظل العبد الأسود؟

٢٤٥

ظل النيل على نقصانه، فطاف المنادون في شوارع مصر، يأمرون الناس بالصوم ثلاثة أيام، والخروج إلى الجامع العتيق، أو الصحراء، لصلاة الاستسقاء. صعد الكثيرون إلى جبل المقطم؛ فالدعوات عليه مجابة. عم الناس الحزن والقلق، وارتفعت أسعار المحاصيل الزراعية، وزاد السقَّاءون في أثمان النقلات، وتوجه القضاة والعلماء — بتكليف من الأستاذ — إلى مقياس الروضة، حيث أسرفوا في تلاوة القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، والابتهال إلى الله العلي القدير بزيادة النيل.

٢٤٨

لم أعد أسمع عن أحمد البلبيسي. لم أحاول كذلك أن أسأل عنه، حتى لا يساء فهمي. الهدف يبتعد، ولعله توزع بحيث غابت تفصيلاته. ما يشغلني الآن أن تتوضح التفصيلات، ثم أسعى — بدأب — في اتجاهها.

فاجأني ابن رشدين — عند زيارته لي هذا الصباح — بما أذهلني. ظلت نفس المخصي متغيرة على البلبيسي، فأمر بقطع لسانه، وتسميل عينَيه، وبتر ذراعَيه، ومنع الطعام عنه حتى الموت. زاد، فصادر أمواله وممتلكاته، وإن رسم بإجراء راتب لأهل البلبيسي، يعينهم على ضرورات الحياة.

٢٤٩

أتحلف لا تكلفني مسيرًا
إلى بلد أحاول فيه مالَا
وأنت مكلفي أنبى مكانًا٧٤
وأبعد شقةً وأشد حالَا
إذا سِرنا عن الفسطاط يومًا
فلقِّني الفوارس والرجالَا
لتعلم قدر من فارقت مني
وأنك رمت من ضيمي محالَا٧٥

۲۸۳

دعاني الأستاذ إلى لقائه — عقب انتهاء مجلسه — لاطفني، وخلع عليَّ، ووعدني أن يبلغني كل ما في نفسي.

٢٨٦

هبط منسوب النيل، فأنذر بكارثة. في ناحية الروضة مقياس، إذا حان الفيضان، بشر الناس بكل زيادة. وإذا تأخر عن الموعد، أبلغ القائم على المقياس بذلك. بلغ المقياس — كما علمت — اثنتي عشرة ذراعًا وأصابع. علا صوت الغلاء، فأصم الآذان، وشحطت الغلال، وارتفع الخبز من الأسواق، ووقفت الأحوال، أعلن الناس سخطهم لزيادة الأسعار، وتعسف الكتبة والجباة، وخرج العامة في مظاهرات، يصنعون كلامًا ويلحنونه، معناه وفحواه فقدان الحيلة أمام ارتفاع الأسعار، وصلوا إلى الجامع العتيق في يوم جمعة، وازدحموا عند المحراب، فمات العديد تحت الأقدام. تحدث إمام الجامع عن صلاة الاستسقاء، وأن لها شروطًا، هي: رفع المظالم، وترك الذنوب، والرجوع إلى الله، كي ينزل الغيث رحمة بالناس. رفض الإمام — تبعًا لذلك — أن يؤم المصلين في صلاة الاستسقاء … حذره جنود المحتسب من المصير الذي يتهدده، إذا أصر على رفضه، فلم يعبأ بتهديداتهم. دخلوا عليه الجامع، وفقَئوا العينَين اللتَين شاهدتا ما تحدث عنه اللسان، وقطعوا اللسان الذي جاهر بالمؤاخذة والرفض، ثم فصلوا الرأس عن الجسد، وحمله مشاعلي طاف به شوارع مصر وأخطاطها، كي يعتبرَ من تسول له نفسه التمرد والثورة.

•••

قلت لمعاون المحتسب، وهو يشرف على نقل الطعام إلى داخل بيتي: الجوع في الشوارع … مع ذلك، فإن الطعام يصل إليَّ في موعده.

قال الرجل، وهو يطمئن إلى ترتيب الصناديق والأوعية: أنتم من أعوان أبي المسك … لا يجري عليكم ما يجري على العامة!

۲۹۰

حدث ما أوشك توالي الأيام أن يقذف به في لجج اليأس. قابلت فاتكًا في الصحراء.٧٦ نسيت المخاوف والمحاذير، وإن اجتهدت في الابتعاد عن الأعين المتلصصة. لا أدري أين الموقع على وجه التحديد. صحبني الرسول في غبشة الليل. تلفت يمنة ويسرة أحاذر البصاصين … ما كدت أنصت إلى صدى الهدوء ورائي، في بداية الطريق إلى الصحراء، حتى أطلقت لجوادي العنان أتعجل اللقاء.

أعادَتني الخيمة التي وقف فاتك على بابها، يُحيط به الأعوان، وضوء القمر، إلى سِنِي النشأة في البادية. أحببته وأنا أقبل عليه.

خالف الرجل كل ما كنت أعددت نفسي للتحدث فيه. سأل عن أحوالي وقصائدي الجديدة، وأصدقائي في مصر. تحدث عن المرض الذي يقاومه من زمن، وكاد يهزمه، بدا بسيطًا وشهمًا وودودًا وطيبًا، عكس الصورة التي أجاد أعوان حسن السيابي — من سواهم؟ — رسمها.

أجزل لي العطاء دون أن يطلب المدح، فأثار إعجابي. أمر أقرب أعوانه إلى مجلسه، فصحبني — على رأس جماعة — إلى نهاية الصحراء.

فاتك. واحة ظليلة، جديدة، في صحراء قاحلة.

٢٩٣

وقد أُريَ الخنزيرُ أني مدحته
ولو علموا قد كان يُهجى بما يُطرى

۳۰۰-۲۹۹

أعلم أن المخصي يتملَّكه الحقد عليَّ منذ مدحت أبا شجاع فاتكًا الرومي الإخشيدي، بقصيدتي التي أولها:

لا خيل عندك تهديها ولا مالُ
فليسعد النطق إن لم تسعد الحالُ

استأذنته في مدح الرجل، وافق وفي نفسه شيء، لم يظهره. كان يكره فاتكًا في باطنه ويخافه، وأخبره أرصاده بسؤال فاتك عني، والرسائل المتبادلة بيني وبينه. حتى اجتماعنا بالصحراء، وهداياه إليَّ، كان عبد الرحمن السكندري يبلغني بكل ما يتبادله الأرصاد عني، وكل ما رفعوه إلى المخصي.

بدأت الوشايات تعمل عملها. مع أن الجواسيس والبصاصين يترصدون بي عند كل انحناءة طريق منذ دخلت مصر، فإني أعاني — الآن — تهمة التجسس لفاتك. أجبره كافور على اللواذ بمقاطعته في الفيوم، فأرسل إليه الأعوان في مصر. يلتقطون الأنباء، يتلمَّسون مواطن القوة والضعف. ربما استطاع أن يستوليَ على ملك مصر لنفسه.

لم يكن ذلك كله مما يدور لي ببال، النبوة تهمة عانيت ويلاتها، نظرات التوجس والشك والسخرية. الولاية مطلبي العادل، ترقى بي إليه همتي وقصائدي.

علم كافور — بواسطة بصَّاصيه الذين أجاد حسن السيابي بثَّهم في كل مكان — بلقائي مع فاتك. أمر فأقاموا الأرصاد والعيون. اهتموا بحركاتي وسكناتي اهتمامًا عظيمًا أتشمم رائحتهم، وأتسمع أنفاسهم. زادوا فكادوا لي، ونصبوا الحوائل، ومشوا إلى الضراء، أتوقع منهم الغدر في كل لحظة.

مع أني حرٌّ في الظاهر، محسوب على الأستاذ، وصديق لأهل الدولة وأرباب السيف والعمامة، فإنه من الصعب أن أتنقَّل حيث أشاء، أو أتصل بمن أريد. غاب الوهم أني كنت مقربًا من المخصي.

أحاطت رقابته كل من يدخلون قصره. جعل رقباء على الرقباء. كانت التقارير تُرفع إليه عن أقرب وزرائه. توجس من الغدر والتآمر، فخصص من يتذوق طعامه قبل أن يأكل لقمته الأولى، ويقاسمه كأس شرابه في كأس أخرى.

قيل إنه أمر بقتل القاضي إبراهيم العسال لتوه، وفي فراشه. أبلغت عنه زوجه أنه عاب على الأستاذ بعض تصرفاته. نسي الرجل أن معظم زوجات خدم السلطان عيون له عليهم. تدين المرأة بحياتها المترفة لعطايا الأسود وهباته.

قررت أن أحسم الأمر. يصعب أن تمضي الأمور على نحو لا يمنح، ولا يعطي، كأنها السيف فوق الرأس، لا يقطع ولا يرفع.

طلبت الإذن بلقائه.

قال في لهجة تقاسمها الغضب والسخرية: أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين، سمت نفسك إلى النبوة … فإن أصبت ولاية وصار لك أتباع … فمن يطيقك؟!

توافد الجلساء، ودارت الأحاديث، فلم أشارك، حتى انتهى الوقت.

لماذا أرقت ماء وجهي إذن؟ … ولماذا كتبت القصائد مدحًا لعبد خصي؟ … ولماذا عانيت — ولا زلت — نظرات الاتهام؟!

٣٠٥

وأسود مشفره نصفه
يقال له أنت بدر الدجى

البيت كأنه الوحي. لا أدري إن كان أتاني في يقظة أو منام، هل أسبق، أو ألحق به، أبياتًا أخرى؟

۳۱۱

بيتان — لي — أتذكَّرهما:

وما الدهر إلا من رُواة قصائدي
إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدَا
فسار به من لا يسير مشمِّرًا
وغنَّى به من لا يغني مغرِّدا

۳۱۸-۳۱۷

أعطى الجميع انتباههم لابن رشدين، وهو يروي أحداث اليوم الغريب في قصر المخصي.

امتلأ المكان — على سعته — بالوزراء والوجهاء والأعيان، على سيماهم توتر وقلق، وهمساتهم تعلو عما تحياه المدينة من قلاقل واضطرابات. اشتد الغلاء، وندرت الغلال، وانتشر القحط وتفشى الوباء، وفشا الموت، فعجز الناس عن تكفين موتاهم، وعن دفنهم، فاكتفوا بإلقائهم في قاع النيل.

نادى الحاجب، فدخل كافور. أضاف الغضب إلى قسمات وجهه ما غيَّر من ملامحها.

قال: لقد استحدثتُ في هذا البلد ما لم يكن فيه من قبل؛ أقمت الدور، وشققت الشوارع، وبنيت الأسبلة والأحواض، واستمعت إلى شكايات الناس، وانتصفت للمظلوم من الظالم، وجريت على الجميع بما وسعني، وحققت أول انتصار على الجماعات الوافدة … فماذا يريد هؤلاء الحرافيش والزعر؟

لاحظ ابن رشدين صمت الجميع، فناوشته نفسه في الكلام. قال: يا سيدي الأستاذ … شاهدت بنفسي ما يحياه الناس من ظروف قاسية.

لكزه الجالس بجانبه، فآلمه، لكن الأسود هز رأسه، يحثه على المتابعة.

قال ابن رشدين: لو أن الحضور هنا — وسواهم من السراة — تنازلوا عن الأقل مما يملكون، لعاد الرخاء، وأفاد بنعمائه الجميع.

أطل من عينَي كافور تساؤل غاضب: لهذا جعلت المكوس … الغني يدفع بما يعين الفقير على تحمُّل مشاق حياته.

قال ابن رشدين: المكوس يدفعها الفقير، ويترفع عن أدائها الغني.

قال المخصي في غضبه: تثيرني المبالغة.

قال ابن رشدين: هذه هي الحقيقة التي يعلمها موظفو الحسبة جيدًا.

نقر الأسود على الأرض بسيفه، وقال: سأتحقق من هذا الأمر … وبعدها لكل حادث حديث.

وانصرف في زحام الأتباع والأعوان.

نظر ابن رشدين إلى من لكزه: حسن السيابي، سبق سؤاله عن فعلته التي غاب مبررها: هل جننت؟

أردف محذرًا: قد يدفع رأسك ثمنًا لحماقتك.

هز ابن رشدين كتفَيه: إنما أتينا لنبذل النصيحة، وهذا ما فعلته.

تضاعف يقيني أن الأحوال الصعبة لا يقع وزرها على الإخشيدي وحده. هؤلاء الذين يزينون له الأمور، يضعونها في إطارات الورد، يجعلون كل شيء في غاية البهجة، يدارون أفعالهم بالحديث عن الاستقرار …٧٧

يعلمون أن زوال الشمس السوداء يعني زوال شموسهم؛ فهم يدافعون عنه بالحق، وبالباطل. يبررون ما يفعله يسيغونه، يبرزون فائدته وجدواه.

قيل إنه لما تولى الرشيد الخلافة، وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي، فطلبها لنفسه، فقالت: لا أصلح لك؛ لأن أباك قد طاف بي. وأرسل الرشيد إلى قاضيه أبي يوسف، فقيه الأرض وقاضيها كما كان يسمَّى. سأله الرشيد: أعندك في هذا شيء؟! … وأتاه جواب القاضي: اهتك حرمة أبيك، واقضِ شهوتك، وصيره في رقبتي. أصدر القاضي فتواه، للحاكم لا لله. وهو ما يفعله أعوان الإخشيدي.

۳۱۹

لم يروِ لي عبد الرحمن السكندري ما حدث. إنما رأيته بنفسي. أديت ركعتَي التحية للجامع العتيق، أفزعني صراخ وشتائم وهتافات، تساقطت حصباء وأحجار على موكب يقترب من الجامع، احتميت بأحد الأعمدة، اتقاء المقذوفات أن تصيبني.

وصل الموكب إلى داخل الجامع. بدا في قلبه محمد بن عبد الله بن الخصيب. كان قد تقلَّد القضاء صباح اليوم نفسه، فهو لا بد قد قدم ليبدأ عمله.

صعد الرجل إلى المنبر، وذكر الله، وصلى على رسوله. ثم قال: من الذي ينقم عليَّ وقد عمرت الأحباس، ووفرتها، وفرقت في مستحقيها، وما ضبط أحد قط أنني ارتشيت أنا ولا أبي!

أثار الأستاذ ما حدث في مائدة غداء، دعانا إليها. بدا عليه غضبٌ لما فعله الناس، تغيرت سحنته، فبدت شائهة: لقد أرسلت أحد غلماني يسأل عنه، فيعرف الناس أني أرفض إيذاء عمالي.

 ٣٢١-٣٢٢

أسرف النيل في النقصان، فاشتد الغلاء، وعزَّت الأقوات، وعظمت الرزايا، وتفاقم اضطراب الناس، وعلا ضجيج الفقراء والمعوزين، وشمل الخراب أكثر معمور مصر، وفشت الأمراض، واشتد الموت في الناس، فعجز الأهل والحانوتية عن تكفينهم ومواراتهم، وانتقصت الأعمال، ونهبت الضياع، وماج الناس وصاحوا، كما في عهود سابقة: الجوع … الجوع … وتعذر وجود الخبز في الأسواق، فاختطفه الناس من الأفران، وكثر المعروض مما في داخل البيوت — درءًا للحاجة — فلم يجد مَن ينظر إليه، أو يشتريه، وترك الكثير من مالكي الأرض بلادهم، وزروعهم، وباعوا بيوتهم وعبيدهم، وخرجت النساء حاسرات الوجوه، لا يعرفْنَ أين يذهبْنَ وأطفالهن في أيديهن، وانشغل كل شخص بحاله دون سواه، كأنه يوم الحشر العظيم.٧٨

٣٢٥-٣٢٦

حين تولى عبد الحكيم التهامي أمر الخراج بدلًا من البلبيسي، التزم الليونة والمطاوعة والاستجابة لمطالب الأهالي. نُودي في مصر بإبطال المكوس الزائدة، وتفرق غالبية الكتاب وأرباب الشرط من مقاعدهم التي كانوا يجلسون بها، يُساعدون المختصين في أخذ المكوس.

بدا تخفيف المكوس عن العامة أمرًا ملحًّا، بدونه لا يصح حكم ولا يستقيم عدل. توالي فرض المكوس أضحى ظاهرة، ضاق بها الخاصة والعامة، تمنى الجميع زوالها، أو التخفيف منها. اجتهد الجباة في تحصيلها، دون شفقة، وبلا هوادة.

أمر التهامي، فأحضر السادة والوجهاء وكبار الأعيان، ما في ملكهم من ذهب وفضة، وحلي نسائهم. حتى أواني البيوت المصنوعة من الذهب أمر بإحضارها.

رسم لأعوانه بطلب التجار وأرباب الأموال، أخذ زكوات أموالهم، وما عليهم من مكوس. وأمر قاضي القضاة الحنفية بتحليفهم على ما يزعمون أنه ملكهم.

لما أسرف النيل في نقصانه، وزاد الشح والجدب ونقص الغلال، أمر التهامي أعوانه، فدعوا الناس في الأسواق والشوارع والأخطاط، إلى ترك الإسراف في المآكل والمشارب والثياب، وتحزيم البطون، والتدبر جيدًا فيما ينبغي، وما لا ينبغي، إنفاقه من مال.

زاد، فدعا الناس إلى ترك أشياء مما هم فيه من الترفُّه. قابلوا دعوته بسخرية وتشنيع، وتفاقم طعنهم وهزؤهم بأهل الدولة، وأكثروا من القول الفاحش في الأستاذ، وشاع التهجم على مقامه.

ثم فرض التهامي من الضرائب الفجائية ما لم تشهد البلاد له مثيلًا. أمر بجباية إيجار العقارات لأشهر عديدة، قادمة. لم يقتصر الأمر على الدور والحوانيت، وإنما تعدَّاه إلى الحمامات والسواقي والطواحين والسفن والدواب، وكبس أعوانه البيوت بالمشعل والشمع، يكتشفون ما أخفاه الناس، فيحصلون عليه، يعتبرونه مقابلًا للضرائب التي تعددت مسمياتها.

اشتد سخط الأهالي بسبب ما اتخذ من طرق تعسفية لجمع أموالهم، بالحق وبالباطل. وكثرت الأوراق التي كانت تدفع من تحت الأبواب، دون أن يعرف كاتبوها، تنعى على الإخشيدي فساد أعوانه، وتطلب زوال حكمه، وتدعو الله أن ينفرج الضيق الذي عانوه في أيامه، ويتبدل الحال، ويعود الرخاء. وأبطل المشايخ الأذان والصلاة، وأقفلوا أبواب المساجد، وطلع بعض الأهالي فوق المنارات، يكثرون من الدعاء على الظالمين، وأقفل غالبية أهل الأسواق دكاكينهم.

نزل معاونو التهامي إلى الأسواق، ينادون بالأمان، ويفتحون الحوانيت، فتصدى لهم رجال ونساء وأطفال، ضربوهم بالشوم والنبابيت، ورجموهم بالحجارة، فشهروا السيوف في الوجوه المفعمة بالغضب، ولاذوا بالفرار.

۳۲۷

قال لي ابن رشدين إن الأستاذ هجر قصره الجديد، القريب من بركة قارون، ومن جامع ابن طولون.

كنت قد ألقيت في مناسبة افتتاحه قصيدة، فقال ابن رشدين لدهشتي المتسائلة: لم يطق العفونة المنبعثة من المياه الراكدة أمامه.

۳۲۹

تفاقمت الأوضاع، فصارت أحوال المملكة ضائعة، والأسود لا يلتفت لشيء من ذلك. شرقت البلاد، وحصل للناس من العنت والضرر ما يفوق الوصف، فكرهوا معاونيه، وكرهوه لسكوته عن تصرفات المعاونين والأمراض وشدة الغلاء وعدم الأقوات وتضاعف المكوس، كثر الخوف من الحاضر، ومن قادم الأيام. بدا الناس في غاية الذل من الفقر والحاجة. وتضاعفت أعداد المتسولة في الشوارع والأسواق. وخرج الجميع إلى الصحراء، أهل الدولة وأرباب السيف والقلم والعلماء والصلحاء والفقراء والرجال والنساء والأطفال، وطائفة اليهود وطائفة النصارى، نصبوا في الصحراء منبرًا، صعد إليه قاضي القضاة، وخطب في الاستسقاء،٧٩ ودعا الله تعالى فردد الناس دعاءه، وأخذ التأثر البعض، فعلا نحيبه.

روى لي محسد، عن الناس في الأسواق: اشتروا طعامًا فاسدًا، لا تأكله القطط والكلاب.

تحادث الناس، أن أحد أعوان التهامي تقاضى مقابلًا ضخمًا، لقاء تفويتها، ونزولها في الأسواق.

۳۳۳

أحكم الجوع قبضته، فأكلت الناس بعضها بعضًا، وأكلت الميتة والكلاب والقطط. وكان إذا قوي القوي على الضعيف، يذبحه ويأكله. وسمعت عن زوجَين افترست الكلاب — بتأثير الجوع — طفلهما، وهما لا يستطيعان لها دفعًا. شدهما الإعياء إلى الأرض، فهما لا يقويان على الحراك. وصار الناس يخرجون جماعة، حتى لا يتعرضوا — كأفراد — إلى الخطف والذبح.

٣٣٥

أحَقُّ عافٍ بدمعِكَ الهممُ
أحدث شيء عهدًا بها القِدمُ
وإنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجمُ
بكل أرض وطئتها أممٌ
تُرعى بعبد كأنها غنمُ

٣٣٩-٣٤٠

لزمت بيتي، بعد ما بلغني ما حدث.

ماج الناس، وغلقت جميع الدروب والخوخ والأخطاط، وانتشر أهل الفساد في أرجاء المدينة، صغار التجار والعمال والصناع والباعة والسوقة، والسقايين والمكارين والمعدمين والمتعطلين والشحاذين، والأوباش والصعاليك والصبيان والزعار والعياق، والمنخرطين في مناسر الحرامية والحرافيش.

علا صوت في زحام المتظاهرين. شك مسعود — فيما روى لي — أنه لعبد الرحمن السكندري: اتبعوني إلى بيوت عمال كافور … ننهبها كما ينهبون بيوتنا، ونموت شهداء، أو ينصرنا الله عليهم.٨٠

سعى السواد الأعظم من الأهالي، وقفوا على أبواب الوجهاء والأعيان وأهل الدولة. طالبوا برفع الظلم والجور، ومنع العدوان، وكف الجباة، وقطع الفتنة، وإبطال الحوادث والمكوسات، وإقامة الشرع.

صاحوا: فلننهب بيوتهم كما نهبوا بيوتنا.

صعد البعض على المآذن، ينادي ويصيح، ويكثر من الدعاء على الظالمين، ويدق الطبول.

انتشر الناس في الشوارع والأخطاط. أطل من العيون غضب، وأمسكت الأيدي بالعصي والشوم وقطع الحديد، وما استطاعت التقاطه في مدها الصاخب.

كسروا حبس المعونة٨١ وأفرجوا عن المسجونين، وتفرقوا على بيوت الأمراء وحواصلهم، وانتهبوا ما وجدوا وشعثوا الدور، وأخذوا أبوابها، والكثير من أخشابها، وما استطاعت أيديهم الحصول عليه من أثاث ومتاع.

سلبوا من انفردوا به ثيابه، تخطوه، وأخذوا ما عليه وصاحوا: هذا لسوء أفعالكم، وظلمكم.

اقتحموا بيت الهاشمي، وأحرقوا بابه. نهبوا بسطه، وجميع قناديله وماله، ورياشه، ونهبوا ما في إسطبله من الخيل والبغال، وما في حواصله من برك ونحاس وسلاح وصيني وسكر وغير ذلك. نهبوا كل شيء، حتى الرخام والأبواب والشبابيك.

اقتحموا كذلك قصر الوزير ابن الفرات. كسروا بابه بالفئوس، وتسلقوا إليه من خارجه، وأتت النهاية على جميع ما في القصر من أثاث وتحف وأطعمة وأكسية وأموال، وحملوا أكياس الذهب والجواهر النفيسة، والأسلحة، وجرُّوا البسط خارج القصر، قطعوها بالخناجر والسكاكين، وتقاسموها.

اقتحموا دار موسى النجدي، كبير معاوني السيابي. عانوا وشاياته الظالمة، وقتله الأبرياء لغير جريرة. هجموا عليه، وقتلوه، وجروا جثته إلى الطريق، يصفعونها، ويبصقون عليها. ثم رُفع رأسه على رمح، وطاف به الناس في الشوارع، يتنافسون في ضربه، والبصق عليه.

قبض أهالي دمنهور على مندوب الوالي. ضربوه، وكتفوه، وحلقوا نصف لحيته، وأركبوه حمارًا. وجرسوه في موكب هائل، وطافوا به المدينة وهم يضربونه بالنعال، ويزفونه بالزغاريد والغناء والموسيقى. ثم قتلوه في النهاية.

ترصَّد بعض الغوغاء للتهامي، حتى رأوه قادمًا، فرجموه بالحجارة حتى كاد يهلك، لولا أن أنقذه بعض أعوانه، ودخلوا به بيتًا قريبًا.

اختفى السيابي في بيته، خوفًا من العامة أن تبطش به.

صار الأهالي يقبضون على كل مَن يرونه من أعوان ابن حنزابة أو الهاشمي أو التهامي، يعرونه، ويقتلونه حالًا. فإذا همَّ أحدهم بإيذائه قبل قتله، منعوه، وقالوا إنهم ما أرادوا إلا دفع الظلم، وعقاب الظالمين بما أنزل الله، لا بالقسوة والشناعة.

اشترطَت الأهالي على بقية الأعوان — حتى يتيحوا لأنفاسهم انتظامها — أن يتوبوا، ويرجعوا، ويلتزموا بما تذهب إليه الشريعة، ويبطلوا المظالم، ويكفوا عن مد أيديهم إلى أموال الناس، ويسيروا فيهم سيرة حسنة.

حمل الأهالي أسلحتهم، ولازموا السهر بالليل في الشوارع والحارات والأزقَّة، وعلى أبواب البيوت، يطوفون في الأرجاء بالنبابيت والشوم، يعلنون ظلم الإخشيدي وفساده. جرت العادة منذ القديم، أن أهل البلد والفلاحين يعزلون الوالي الظالم. حتى الخليفة والسلطان إذا سار بالجور، فإن الناس يعزلونه ويخلعونه.

عرفت أن أعدادًا من الجند شاركوا الناس مظاهراتهم. عجز سمول الإخشيدي، قائد العسكر، عن إرضائهم، وأخفق في تلبية مطالبهم. ثاروا عليه، ونهبوا قصره، فلجأ إلى الاختفاء في مكان أخفق حتى أمراء المخصي في اكتشافه.

بلغ الخطر مداه المعلن، فطالب المحتشدون بعزل وزراء المخصي لقبح سيرتهم، وعتوهم على الأهالي، وترويعهم الآمنين، وإسرافهم في إراقة الدماء، وأخذ الأموال.

•••

قلت لعبد الرحمن السكندري: مفهوم أن يثور الأهالي ضد الجوع … ولكن لماذا نادوا برفض السلام؟

شاب صوته ارتباك: اسأل المتظاهرين.

قلت: قال ولدي محسد إنه ميز صوتك بين الحشود التي تجمعت أمام قصر ابن حنزابة.

قال السكندري: إني موظف في خدمة سيدي أبي المسك … فكيف أتظاهر ضد عماله؟!

قلت: أصارحك بأني — ذات يوم — كنت أخشاك … وها أنت ذا الآن تخشاني.

قال: ليس في الأمر خشية … فكلانا في خدمة سيد واحد!

قلت، وأنا أمد ساعدي لأحيط — مودة — بخصره: ثق أن انشغالي بالقضايا المصرية، يقل عن انشغالك بقول الشعر.

قال: لكنني لست شاعرًا.

قلت في حسم: وأنا … لا شأن لي بمشكلات الآخرين.

٣٥٢-٣٥٣

تلاشت الدولة، واضمحل أمرها، وظل الناس فوضى. اضطربت الأحوال بمصر الفسطاط وما حولها اضطرابًا شديدًا. انتهبت الأسواق، وأُحرق الكثير من الدور والأبنية، وسودت جدران البيوت والمقابر والمساجد، بعبارات ضد السلام الوشيك. داخل الخوف أعيان البلاد ووجهاءها، على نفوسهم وأموالهم وأهاليهم، وأفعمهم الحذر من وثوب أهالي البلاد. عملوا لحفظ دورهم ومتاعهم، وأقاموا الدروب في مطالع الأخطاط والسكك المفضية إلى حيث يقيمون، واستعدوا — وأعوانهم — للقتال عن الأنفس والمتاع والأملاك والحريم.

بدا الخطر ماثلًا في الأفق، لما اجترأ أسافل الناس على الأكابر. ذوى الخوف من مهابتهم، فصاروا يعاملونهم كأنهم في مثل قامتهم، أو دونها. طفق ذوو الأصول الطيبة يستعدون لريح السموم القادمة.٨٢ أقبلوا على تخزين الماء والمؤن في البيوت، وأسرفوا في شراء البقسماط والرقاق والدقيق والقمح والشعير.
وقال لي عبد الرحمن السكندري: لم يكن ما حدث إلا من فعل عماله،٨٣ حملوا الناس ما لا يطيقون، حتى تفاقم الأمر، وغادرت الأعصاب أجسامها.

٣٥٨-٣٥٩

هذا شعب محير، طُفت بشوارعه وأسواقه، وجلست إلى علمائه وأدبائه ووجوهه وناسه العاديين. يبدو ظاهره مخادعًا، فهو يحسن المجاملة والوفادة، وربما التملُّق، دائم الابتسامة والميل إلى الدعابة، كأنه لا يعنيه من أمر دنياه إلا أن يأكل ويشرب ويتناسل، ولا يعنيه من أمر آخرته إلا أن يموت موحدًا بالله، مؤمنًا بعقيدة الإسلام. صراعات الحكام وخلافاتهم ومؤامراتهم لا يعبأ بها، يطلب الحياة في يومه، وغدًا يوم آخر.

بالاختصار، فهذا شعب كأنه أسلم نفسه لمقود الذل، لكن النظرات التي تلتمع في الأعين، الأسئلة التي كأنها قيلت عفوًا، الملاحظات والتلميحات، والصمت الحزين الذي يعقب كل مجلس دعابة: اللهم اجعله خيرًا … ذلك كله يُحيرني، يجعل السؤال سادرًا: أين هي الصورة الأخرى الحقيقية لهؤلاء المصريين؟ …٨٤

أمر المخصيُّ أعوانه، فنادوا في الناس بالأمن والأمان، والبيع والشراء، شاركهم في المناداة بذلك حملة العمائم لما لهم من سطوة وتأثير. كلماتهم كأنها الوحي أو التنزيل.

سار في الشوارع والأخطاط، رجل على فرس، يقرأ من ورقةٍ أن الأستاذ قد أزال المظالم، وهو يأمر الناس بتقوى الله، وطاعة أولي الأمر، وأن لا أحد يشوش على أحد، والدعاء للأستاذ أبي المسك كافور بالنصر. ونُودِي — بعد انقضاء الصلاة في الجامع العتيق — بالأمان والماضي لا يعاد.

ضجَّ الناس بالدعاء للأستاذ، وقد كانوا مترقبين بلاءً كبيرًا ينزل بهم منه، لخروجهم عليه، ولكثرة ما ضربوا ودمروا، ومبالغتهم في سب المخصي، وإعلانهم بفاحش القول له.

٣٨٥–٣٨٧

أوفى النيل، وعاد إلى منسوبه الطبيعي، فعادت الأمور إلى أحوالها، وتوافرت الغلال والمحاصيل، وظهر ما كان مختفيًا من اللحم والخبز والبضائع والأطعمة، وانحطَّت الأسعار، وعاد الفلاحون والتجار للبيع والشراء.

قيل إن وفاء النيل لم يكن هو السبب في انحطاط الأسعار، لكن ابن حنزابة أفلح في تأجيل دفع الديون التي تكاثرت على البلاد، شحت الغلال والبضائع بما أحدثه نقص مياه النيل، قلت الأموال بالتالي، فصارت القروض المادية والعينية واجبةً من بلاد مجاورة وبعيدة، تدين بالإسلام والنصرانية، وبعضها تدين شعوبها بالكفر أو الزندقة، فلما أفلح ابن حنزابة في تأجيل دفع أقساط الديون — في مواعيدها — ذهبت الأموال في تعويض النتائج التي أحدثها غياب وفاء النيل.

قيل أيضًا إن المخصي بدأ يراجع نصائح معاونيه في السلام مع الجماعات الوافدة، يقلب ويعيد ترتيب الأمور، يناقش — مع أصوات معارضة — بدايات المشكلة، يتلمَّس جذورها، يتشوَّف توقعات المستقبل: من يضمن ألا تغادر الجماعات الوافدة ما وعدت به، فتعاود إغاراتها، تروع الآمنين، وتسلب الأراضي والدور والمخازن والأموال؟

كان الإخشيدي يميل — بطبعه — إلى السلم. يرغب في أن يسود السلام، حتى هؤلاء الذين وفدوا من أقطار بعيدة، واستوطنوا الحدود، فرحب بدعوتهم للصلح. أحب أن يفتح صفحةً جديدة، يمحو بها ما كان بين مصر وبينهم من عداوات، أسفرت عن معارك ودمار وقتلى. أعانه تأييد الناس على اتخاذ القرار، رحبوا بالاستقرار الذي غاب — لسنوات — عن حياتهم، أظهروا الفرحة وتهيَّئوا للرخاء القادم. وحين تصاعدت الأحداث، وجرى ما جرى، ناقش التحذيرات التي أهمل سماعها، والالتفات إليها. دعوى السلام لا أكثر من مكيدة، دبَّرها الأعداء فأحسنوا التدبير، الأطماع هي الأطماع، وما يعلنونه في الظاهر غير ما يعدون له في الخفاء، والخطر قائم وممتد. لم تعد التحذيرات — كما كانت — قطرات في موجات التأييد الكاسحة الغلابة، إنما هي وجهات نظر، تدبرت فرأت ما لم يدقق في رؤيته بقية الأهالي.

•••

هدأت الأحوال، فأمر الإخشيدي بالتحقيق في بواعث ما جرى، تأثرت نفسه في البداية، وأشربت بالعطف على المخالفين. انتوى أن يرسم بالعفو عنهم … لكن نفس ابن حنزابة لم تطاوعه على هذا الرسم، شدد على معاقبة الذين خرجوا على النظام، سرقوا وحرقوا ودمروا. حتى السلام الذي يضع حدًّا لهجمات العصابات الوافدة على مناطق الحدود، أعلنوا تشككهم فيه، ورفضوه.

نوديَ على الناس: فليأمن على نفسه من أخذ أو نهب شيئًا، ثم رده. أما من يكتم ما بحوزته، ولا يعلن عنه، فإن عليه أن يتحمَّل عاقبة فعلته. فإذا أقسم أحد أنه ليس لديه شيء، ثم ثبت عكس ذلك، ضرب بالسياط حتى لا يعاود جريمته!

تولى التهامي عقاب هؤلاء. أودع بعضهم الحبس لمدد تفاوتت بين القصَر والطول. وألزم البعض الآخر غرامات، ووضع آخرين تحت الضرب والجلد، كي لا يتكرَّر ما حدث.

لم يترك الإخشيدي ابن حنزابة على هواه، يفصل في الأمور بما يثبت الظلم، وإنما راجع بنفسه نتائج التحقيق، وسأل كثيرًا في أقوال المتهمين، ودفاعهم عن أنفسهم بأنهم لم يفعلوا ما فعلوا إلا لأن الجوع هدهم، فلم يكن أمامهم إلا أن يثوروا عليه، على الجوع لا على الأستاذ. كادت نفس الإخشيدي ترق، فيأمر برفع الأحكام، أو التخفيف منها.

سأل: هل عزَّت الأقوات بالفعل؟

قال ابن حنزابة: فكيف انتظمت أنفاسهم حتى اليوم؟!

قال الإخشيدي: لماذا صاحوا الجوع؟!

قال ابن حنزابة: هتفوا ضد السلام أيضًا.

شاب صوت الأسود غضب: لماذا؟

قال ابن حنزابة: كل الأسباب واجهة زائفة لهدف خبيث … هو الخروج على حكم سيدي أبي المسك.

تدبَّر الأستاذ ملاحظة ابن حنزابة. من يهاجمون أعوان الأستاذ اليوم، قد تسول لهم نفوسهم بأن يهاجموا قصر الأستاذ في الأيام المقبلة.

هزَّ المخصي رأسه في اقتناع. رفض تفسير ابن رشدين بأن ما جرى كان تعبيرًا عن غضبة الجياع على الظروف الصعبة. سمى ما حدث غضبة اللصوص. حطموا الدور، ونهبوا البيوت وسطوا على المتاجر والحوانيت، وخالفوا ما نص عليه الشرع بوجوب الخضوع للسلطان، من يريد أن يحتجَّ أو يشكو أو يتضرر، فإن أمامه السبيل الواضحة لذلك. ثمة العمال الذين يعد من صميم أعمالهم استقبال الأهالي، والاستماع إلى شكاياتهم، والأمر بحلها. القول بأن الموظفين يعنون بمصالحهم، ولا يعنيهم ما يشكو منه الناس، زعم تنقصه الأدلة. فليرجع قصته إلى القاضي، أو الموظف، أو الأستاذ نفسه، مجلسه يفتح أبوابه كل يوم سبت لمن يحمل مظلمة. لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا حجة بنقصان الطعام لإشاعة الفوضى والدمار الأسود، السبل التي ينبغي اتخاذها واضحة. لو أن كل امرئ اتخذ سبيله الخاص، فكيف تتحقق الفوارق بين الحاكم والمحكوم؟!

أما الهتاف — غير المتوقع — ضد السلام، فإنه يشي بالأيدي الخفية التي تحركت في الستر، همها الإفادة من معاناة الأهالي بما ينشر الفوضى والدمار، ويضع الغد في قبضة الظلام.

أنصت المخصي إلى مرافعة ابن حنزابة جيدًا. سأل، وناقش، وشدد على جلاء ما غمض. ثم هز رأسه في اقتناع بما صدر من أحكام، وأمر بتثبيتها.

۳۹۱-۳۹۰

ملومكما يجل عن الملامِ
ووقع فعاله فوق الكلامِ
ذراني والفلاة بلا دليلٍ
ووجهي والهجير بلا لثامِ
فإني أستريح بذي وهذا
وأتعب بالإناخة والمقامِ
ولما صار ود الناس خبًّا
جزيت على ابتسامٍ بابتسامِ
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنامِ
أقمت بأرض مصر فلا ورائي
تخبُّ بي الركاب ولا أمامي
وملَّنيَ الفراش وكان جنبي
يمل لقاءه في كل عامِ
قليلٌ عائدي سقمٌ فؤادي
كثيرٌ حاسدي صعبٌ مرامي
وزائرتي كأن بها حياءً
فليس تزور إلا في الظلامِ
بذلت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها
فتوسعه بأنواع السقامِ
كأن الصبح يطردها فتجري
مدامعها بأربعةٍ سجامِ
ويصدق وعدها والصدق شر
إذا ألقاك في الكرب الجسامِ
يقول ليَ الطبيب: أكلت شيئًا
وداؤك في شرابك والطعامِ
وما في طبِّه أني جواد
أضرَّ بجسمه طول الجمامِ
تعوَّد أن يغبر في السرايا
ويدخل من قتام في قتامِ
فأمسك لا يطال له فيرعى
ولا هو في العليق ولا اللجامِ
تَمتَّع من سهاد أو رقاد
ولا تأمل كرًى تحت الرجامِ
فإن لثالث الحالَين معنًى
سوى معنى انتباهك والمنامِ٨٥

۳۹۳

هل تراني أخطأت بترك سيف الدولة؟ … السعي بالوشاية لا يختلف في مصر عما ألفت في بغداد، أتلفت — بعفوية — في كل مكان. أفتش عن الأعين المتلصصة، والآذان المتنصتة، حتى في القعدات الخاصة. أحس بفقدان الطريق. تمور التناقضات فيغيب الهدف.

وهكذا كنت في أهلي وفي وطني
إن النفيس غريبٌ حيثما كانا

٣٩٥-٣٩٦

أحاطت بي المؤامرات، فحاصرتني تمامًا. غيوم الخطر ظلَّلت سمائي. المأساة أطلت في نهاية الأفق.

بلغت السعاية مداها بيني وبين المخصي. لعب السعاة دورًا لا ينكر في التدبير ونصب الحبائل وتوسيع الهُوَّة وإحداث الفرقة، وشوا، وأفسدوا ما بيننا، وأضافوا كيدًا إلى كيد.

آثرت السلامة — يعلم الله! — وفضلت العافية، انتويت العودة إلى الشام، المؤامرات تتجدد بتجدد كل صباح. أحيا في جو قاتم بالدسائس، مختنق بالفتن، الجو نفسه الذي خلَّفتُه في الشام، وإن لم أعد أتيه على سيف الدولة — وهو من هو — أخاطبه في ندية، ولا أمدح حتى يلحف في الطلب، فلا أقدم له في كل عام سوى قصيدة واحدة، وربما اثنتين، حين يفضي به اليأس إلى مسارب الغضب.

سيف الدولة! … اشترطت عليه — لما عرفت للمرة الأولى طريقي إليه — ألَّا أكلَّف بتقبيل الأرض بين يدَيه، وألا أخلع سيفي في حضرته، وأنشده شعرًا إلا وأنا جالس، وأنشده طواعيةً؛ فلا أقول بيتًا واحدًا إلا إذا واتتني قريحتي. أخوض غمار الحرب، أفرح للانتصارات، أحزن للهزائم، أتبع فني، أتغنى بالخيل والليل والبيداء والسيف والرمح والطعن والضرب والسرى، والقنا والقواضب والقرطاس والقلم والبطولات، تطير قصائدي في الآفاق، تتردد في كل الأقطار.

هل فررت من ذلك كله، إلى عبودية العبد الأسود؟

•••

هذا عصر يمور بالدسائس والأحقاد والأهواء وفساد النفوس.

الشر يحيط بي من كل جانب، ألحظه في قصر الأسود، في بيوت الأصدقاء، في الأسواق، في الشوارع والدكاكين والمساجد، وأسفل أسوار بيتي، أرصاد وعيون ترافقني في كل مكان، لا تفارقني أينما حللت. لم يعُد أمامي سوى الرحيل، الفرار من هوان الحياة في ظل الأسود، ومؤامرات ابن حنزابة، وسفالات الأعوان، وعنت الأمور من حولي.

– هل يأذن لي مولاي بالعودة إلى الشام؟

ثنى نظرات متسائلة: لماذا؟

قلت: الحنين إلى مواطن الصبا.

– مللت الإقامة بيننا؟

– كل طائر يعود — يومًا — إلى عشه!

وهو يوسط الفراغ بيده: دعك من تعبيرات الشعراء. أكرَمْنا وفادتك، وأجزلنا لك الصلات … فما الذي بدلك؟

– لم أتبدل، إنما هو الحنين إلى موطني.

أطل من عينَيه غضب: من يضمن لي أن قصائد المدح لا يعقبها — في البعد — قصائد الهجاء والذم.

– يصعب أن أبصق في الإناء الذي أكلت فيه!

أشار بيده في جفوة: سأبلغك فيما بعد بقراري.

٤۰۰

بمَ التعلُّل؟ لا أهلٌ ولا وطنُ
ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ
أريد من زمني ذا أن يبلغني
ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ
لا تلقَ دهرك إلا غيرَ مكترثٍ
ما دام يصحب فيه روحَك البدنُ٨٦

٤٠٢

فأين الشباب؟ وأين الزمان؟

٤٠٣-٤٠٤

الحزن — حتى الآن — لم يغادر النفوس. تأثرت كل البيوت مما جرى وكان، في انخفاض النيل، وما تلاه من أحداث.

مع ذلك، فقد كان التهيُّؤ لاستقبال العيد أشبه بالفريضة التي يحرص الناس عليها، لا يلغيها، أو يخفف منها حزنٌ مهما بلغ.

عيد النحر من الأيام المشهودة في مصر، تعطل فيه الدواوين، وتغلق الأسواق والدكاكين، وتأتي الناس من شمال الوادي وجنوبه، لمشاهدة الزينات والاحتفالات والمتفرجات.

كنت قد قررت السفر وانتهى الأمر. أعملت الحيلة، فأظهرت الرغبة في المقام بمصر، وإن بدأت في الإعداد للرحيل. لم أُعلم حتى غلماني شيئًا مما انتويته، وبدأت في إعداده، وإن أسررت بالأمر إلى بعض أصدقائي من أهل مصر، وطلبت المساعدة.

ها هو ذا عيد النحر يقبل، أنسب الظروف للفرار من الأسر. رسم السلطان أن يستقبل العيد بيوم، وتعد فيه الخلع والحملانات وأنواع المبار لرابطة جنده، ورابطة جيشه، وصبيحة العيد تفرق.

يرسل ليلة العيد حمل بغل من المال في صرر. مكتوب على كل صرة اسم من جعلت له، من بين عالم وزاهد وفقير ومحتاج.

بعد صلاة العيد يدخل المخصي إلى القصر الكبير، يجلس على تخت الملك، ويخلع بكساوٍ وأموال على الأمراء وأرباب الوظائف والأعوان، على العادة في كل سنة. يرتدي الجميع التشاريف والخلف والأقبية، ويركبون الخيول من الإصطبل السلطاني، بها سروج وكنابيش، ما بين ذهب وفضة، وتزوج الأيامى، وتنحر النحائر، وتفرق على أرباب الرسوم، وتعتق الرقاب، وغير ذلك.

٤٠٧-٤٠٨ 

العيد.

أُقيمَت الأفراح، ونصبت القلاع والقباب، وأوقدت النيران، وازدانت الشوارع والأسواق والقياس بالأنوار والبسط الثمينة، وامتلأت بالمآكل والمشارب والملابس الفاخرة، وآلات الذهب والفضة والجواهر والملاهي والعزف والرصف. وسارت فرق الملاعب والراقصين والمغنين والمهرجين. وعلت القصور والبيوت بأنواع الزينة. حتى الأخطاط والأزقة، علقت في مداخلها قناديل وشموع، وانشغل الناس بالبيع والشراء، وأعدوا أنفسهم لصلاة العيد.

اجتمع القراء والفقهاء، وأقيمت المطابخ، وهيئت المطاعم الكثيرة، ومدت الأسمطة العظيمة، وضربت الخيام حول الجامع العتيق للنزول للوضوء والصلاة.

بدا الجميع مشغولين بمراسم الاحتفال، وبما يوزعه عليهم المخصي من هدايا وصلات.

أوعزت لمحسَّد والتابعين، فدفنوا الرماح في الرمال، وراء المقطم، والزاد بما يكفي لعشر ليالٍ، وقِرب الماء بما يكفي لعشرين يومًا.

هذه هي الفرصة التي ربما لن يتاح لي فرصة بعدها.

٤٠٩-٤١٠

عيد بأية حالٍ عدت يا عيدُ
بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ؟
أمَّا الأحبة فالبيداء دونهمُ
فليت دونك بيدًا دونها بيدُ
لولا العلا لم تَجُب بي ما أَجوبُ بها
وجناء حرف ولا جرداء قيدودُ
يا ساقيَيَّ أخمر في كئوسكما
أم في كئوسكما همٌّ وتسهيدُ؟
أصخرة أنا؟ ما لي لا تحركني
هذي المُدام ولا هذي الأغاريد؟
إذا أردت كُميت اللون صافيةً
وجدتها وحبيب النفس مفقودُ
ماذا لقيتُ من الدنيا؟ وأعجبه
أني بما أنا شاكٍ منه محسودُ
أمسيت أروحَ مُثرٍ خازنًا ويدًا
أنا الغنيُّ وأموالي المواعيدُ
إني نزلت بكذَّابين، ضيفهمُ
عن القرى، وعن الترحال محدودُ
جود الرجال من الأيدي وَجُودهمُ
من اللسان، فلا كانوا ولا الجودُ
ما يقبض الموت نفسًا من نفوسهمُ
إلا وفي يده من نتنها عودُ
أكلما اغتال عبدُ السوء سيده
أو خانه، فله في مصر تمهيدُ؟
صار الخصيُّ إمام الآبقين بها
فالحُر مستعبَد والعبد معبودُ
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيدُ
لا تشترِ العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمنٍ
يُسيء بي فيه عبدٌ وهو محمودُ
ولا توهمت أن الناس قد فُقدوا
وأن مثل أبي البيضاء موجودُ
جوعان يأكل من زادي ويمسكني
لكي يقال عظيم القدر مقصودُ
من علَّم الأسودَ المخصيَّ مكرمةً
أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟
أم أُذنه في يد النخَّاس دامية
أم قدره وهو بالفلسَين مردودُ٨٧

٤١٨-٤١٩

غادرت مصر — للمرة الأخيرة — فجر يوم الأضحى. تسلَّل قبلي محسد ومسعود والآخرون. الجميع في شاغل باستقبال العيد.

أرسلت إلى أبي بكر الفرغاني — أحد جلساء المخصي — أقول له: إني أجد وجعًا، وللأستاذ عندي رقعةٌ فيها كلام مهم، فتدفعها إليه عشية العيد عند العتمة إذا خلا؛ فقد هنَّيتُه بالعيد. وذكرت عذري في التأخير.

أخذ الفرغاني الرقعة. وخرجت من بيتي في اللحظة التالية، قاصدًا الصحراء، ومنها إلى خارج مصر.

انطلقت — بجوادي — عبر باب الصفاء — الباب الذي دخلت منه — إلى الرملة، فبني جعفر، على غيقة وسلمنت، إلى بلبيس. منها — بمعونة أصدقائي — إلى سيناء. اخترت التيه٨٨ الذي ضل فيه بنو إسرائيل. إلى أين؟ لم يشغلني السؤال بقدر ما شغلني الفرار من الأسد. الرحيل إلى بلاد الله غاية، تتضاءل أمامها كل الغايات.
ألحفت في الهرب، حتى أمنت طلب كافور. رفقت — بعد ذلك — بنفسي وإبلي وخيلي وعبيدي، فسرت معتدلًا، وترفقت بالقافلة. لم أقصد الكوفة مباشرة، وإنما عرجت على الحجاز، سرت فيها حتى قاربت مدينة الرسول، فلم أدخلها. تنقلت في مضارب الأعراب، أربعة أشهر ونيفًا، حتى اطمأننت إلى انعدام ما يريب، فخرجت إلى الشام، ومنها إلى الكوفة.٨٩

علمت أن المخصي بذل كل الوسائل للإتيان بي. كتب إلى عماله في سائر الولايات، وبذل ذخائر الرغائب لمن يبين عن موقعي. ترصدتني العيون بكل مرصد، ثارت ورائي البادية والحاضرة من كل جانب، لكن الأثر كان قد مسحته الرمال. قال بعض البادية: هبه سار، فهل محا أثره؟ وقال بعض المصريين: لعله سلك طريقًا تحت الأرض.

لم يعلم كافور نبأ رحيلي إلا ثاني أيام العيد، بعد يوم وليلة من انطلاقي. أطوي المفاوز وأجتاز الحلل والمياه، سعيًا إلى الخلاص.

وشعر مدحت به الكركدنَّ
بين القريض وبين الرقى
وما كان ذلك مدحًا له
ولكنه كان هجوَ الورى

في الطريق، قال لي صاحبي ابن يوسف: وما رأيك في الجولة القادمة يا أبا الطيب؟ … لقد هجرت سيف الدولة، وهجوته … وها أنت ذا تهجر كافورًا، وستهجوه … أقول: ترى إلى أين سيحل بك المطاف؟

قلت: لم يبقَ يا ابن يوسف — بعد أن يئست من الملوك، وبعد أن سدوا أبوابهم دوني — إلا أمران لا ثالث لهما؛ إما أن أنزل من القمة التي صعدت إليها بعد جهد وكد، وأعود إلى ما كنت عليه في بداية أمري، فأستجدي بشعري صغار الناس وطغامهم؛ أو أن أعود إلى الكوفة، فأقبع في داري، وأهجر الناس جملة، وأقيم بيني وبين الملوك سدًّا؛ فقد كفاني ما لقيت منهم، وكفاهم ما لقوا مني، ولي الآن ثروة تكفل الراحة والنعيم وهناء العيش.

٤٢٣

ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن
يسيء بي فيه كلب وهو محمودُ
جوعان يأكل من زادي ويمسكني
لكي يقال عظيم القدر مقصودُ٩٠

٤٢٩-٤٣٠

أفيقا خمار الهمِّ بغَّضني الخمرا
وسُكري من الأيام جنَّبني السكرا
تسر خليليَّ المدامة والذي
بقلبيَ يأبى أن أسرَّ كما سرَّا
لبست صروف الدهر أخشن ملبسٍ
فعرَّفني نابًا ومزَّقني ظفرا
وفي كل لحظ لي ومسمع نغمة
يلاحظني شزرًا ويسمعني هجرا
سدكت بصرف الدهر طفلًا ويافعًا
فأفنيته عزمًا ولم يفنني صبرا
أريد من الأيام ما لا يريده
سواي ولا يجري بخاطره فكرا
وأسألها ما أستحق قضاءه
وما أنا ممن رام حاجته قسرَا
ولي كبدٌ من رأي همتها النوى
فتركبني من عزمها المركب الوعرَا
تروق بني الدنيا عجائبها ولي
فؤاد ببيض الهند لا بيضها مغرَى
أخو هممٍ رحالة لا تزال في
نوًى تقطع البيداء أو أقطع العمرا
ومن كان عزمي بين جنبَيه حثَّه
وخُيل طول الأرض في عينه شبرا
صحبت ملوك الأرض مغتبطًا بهم
وفارقتهم ملآن من شنفٍ صدرا
ولما رأيت العبد للحر مالكًا
أبيت إباء الحر مسترزقًا حرَّا
ومصر لعمري أهل كل عجيبةٍ
ولا مثل ذا المخصي أعجوبة بكرا
يعد إذا عد العجائب أولًا
كما يُبتدا في العد بالإصبع الصُّغرى
فيا هرمل الدنيا ويا عبرة الورى
ويا أيها المخصي من أمك البظرا
نويبية لم تدرِ أن بُنيَّها النُّـ
ـوَيْبيَّ بعد الله يُعبَدُ في مصرا
ويستخدم البيض الكواعب كالدمى
ورومَ العِبِدَّى والغطارفة الغرَّا
قضاء من الله العلي أراده
ألا ربما كانت إرادته شرَّا
ولله آيات وليسَت كهذه
فإنك يا كافور آيته الكبرى
لعمريَ ما دهر به أنت طيبٌ
أيحسبني ذا الدهر أحسبه دهرا؟!
وأكفر يا كافور حين تلوح لي
ففارقت مذ فارقتك الشرك والكفرا
عثرت بسَيري نحو مصر فلا لَعًا
بها ولعًا بالسير عنها ولا عثرَا
فعاقبني المخصي بالغدر جازيًا
لأن رحيلي كان عن حلب غدرا
وما كنت إلا فائل الرأي، لم أعن
بحزم ولا استصحبت في وجهتي حجرَا
وقد أُرِيَ الخنزيرُ أني مدحته
ولو علموا قد كان يُهجى بما يُطرى
جسرت على دهياء مصر ففُتُّها
ولم يكن الدهياء إلا من استجرا
سأجلبها أشباه ما حملته من
أسنَّتها جردًا مقسطلة غبرا
وأطلع بيضًا كالشموس مطلَّة
إذا طلعت بيضًا وإن غربت حمرا
فإن بلغت نفسي المنى فبعزمها
وإلا فقد أبلغت في حرصها عذرا٩١

٤٣٢

ألحف محمد في تحذيري من العودة إلى بغداد. العراق يعاني سطوة الديلم.٩٢ خلع معز الدولة المستكفي بالله٩٣ وسمل عينيه. لم تعد بغداد هي بغداد، حاضرة الرشيد، زينة الدنيا، بهجة الأيام. شذاذ الآفاق يتحلَّقون الوزير المهلبي.٩٤

– هل تظن أن أولي الأمر في العراق يطمئنون إليك بعد كل ما فعله لك الإخشيدي، وما فعلته بالإخشيدي؟

أهل العراق لا ينسون. وسيف الدولة يعاني المرض وحرب الروم، والكوفة — مسقط الرأس والنشأة، وذكريات الصبا — توهمت أن إقامتي فيها ستمضي إلى آخر العمر … لكن توالي الأيام أتى بالعزلة والخمول، فضقت بكل شيء، أهملت النصيحة، وأمرت بشد الرحال، سعيًا إلى بغداد.

٤٣٤

كنت أسعد الناس حين التقيت بابن جني. لم يخفِ هو أيضًا سعادته. نقل عني الشعر الذي قلته في مصر، وبعد خروجي منها. سألني في أبيات منه، وقرأه عليَّ، وصل إلى قولي:

أغالب فيك الشوق والشوق أغلبُ
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجبُ

وانتهى إلى قولي منها:

لحى الله ذي الدنيا مناخًا لراكبٍ
فكل بعيد الهم فيها معذَّبُ

قال لي: يعز عليَّ أن يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة.

قلت: حذرناه وأنذرناه، فما نفع الحذر. ألست القائل فيه:

أخا الجود أعطِ الناس ما أنت مالك
ولا تعطينَّ الناس ما أنا قائلُ

فهو الذي أعطاني لكافور، بسوء تدبيره، وقلة تمييزه.

قرأ عليَّ قولي في كافور:

وما طربي لما رأيتك بدعةً
لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب
قال: لم تزد على أن جعلته أبا زَنَّة.٩٥

٤٣٥

قبحًا لوجهك يا زمان فإنه
وجه له من كل لؤم برقعُ
أيموت مثل أبي شجاع فاتك
ويعيش حاسده الخصي الأوكعُ٩٦

٤٣٨–٤٤٠

هل عاد أبو الطيب القديم؟

توهَّم الوزير المهلبي أن نزولي في بغداد يغريه بأن أمدحه. قصائدي تخطئ طريقها لغير الملوك والأمراء. المخصي الذي هجوته بقصائد كأنها المدح، كان ملكًا، ألحف المهلبي في رجائه، ووسط الوسطاء، فألححت في اعتذاري. قيل لي إن الوزير أعدَّ لي عشرة آلاف درهم، وثيابًا كثيرة، مقطوعة، وصحاحًا، وفرسًا بمركب. يهبني ذلك كله عند مديحي له … لكن قريحتي لم تسعفني، أو لعلها أبت. لم أمدح غير الملوك. وكنت كذلك أنفر من سخافة المهلبي، وما اشتهر عنه من الهزل، واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه. أذهلني التحلل في مجلسه. حتى القضاة اجتمعوا فيه ليلًا، وشربوا الخمر، فبلغ بهم إلى غمس لحاهم بدنان الخمر، ورش بعضهم بعضًا بلحاهم الثملة.

حرض الرجل شعراء بغداد،٩٧ فأذيعت قصائد لهم، تهجوني وتنال من عرضي. غاظه ما تصور أني قصدته، ففرق ما كان أعده على الشعراء، وزادهم مدة إقامتي من الإحسان والعطاء.

جوابي عن السؤال: لماذا تركت لقاء الملوك؟ … القوة هي العلاج الوحيد لإزالة الحجاب بيني وبينهم. الملوك أرانب في قصائدي، مفتحة عيونهم نيام.

كان ذلك في الزمان القديم، فماذا جرى؟

أتذكر الرسالة التي دست أسفل باب بيتي في مصر الفسطاط: «الحياة أنفقت في مدح الولاة والأمراء والملوك. تخترع معاني الكرم والفتوة، فتنسبها إليهم. ترحل من بلد إلى بلد طلبًا لمنحهم وعطاياهم، تقف على أبوابهم انتظارًا لمنحهم، كأنك المهرج في مجالس اللهو والعبث …»

ضقت بكل ذلك. أبرمت بالإلحاح في طلب المدح. أريد حياة جديدة، مخالفة لما سبق.

لم أكن آمنًا في الكوفة ولا بغداد ولا حلب ولا الفسطاط. لم أكن آمنًا في أي مكان، في أي يوم. أنام وأتوقع ألا أصحو. أدخل على الملك يصحبني السؤال: هل تسعده قصيدتي، فيجزل لي العطاء، أو يرى في كلماتها ما يغضبه، فيدفع بي إلى السجن؟

لم تكن حياة دعة واطمئنان. أنجو من الموت تحت سنابك الخيل، أو بضربات السيوف، فأعاني الجواسيس والبصاصين والواشين والمؤامرات والذل والمهانة، النعل والخف، المطية ولباس القطن الخشن، وعلي الحاجب يجيزني على قصيدة بدينار، وأيام التشرد — عقب الخروج من السجن — خوفًا من السلطان. يصعب أن أدخل أرض الإخشيديين حتى لا يحدث ما حدث من قبل، فأدخل السجن. لا أستطيع أن أدنو من أرض ابن رائق في الشام، وأعالي الفرات. بدر يطاردني، وبدر أثير عند ابن رائق. أتخفى في البادية، حتى عن البدو أنفسهم. أستتر في الحواضر، فلا يعرفني أحد. سيف الدولة يضربني بالدواة في وجهي. أقف بين يدَي المخصي، وكنت أنشد جالسًا عند سيف الدولة.٩٨ ابن خالويه٩٩ يخرج مفتاحه من كمه، فيشجني به، حتى يسيل دمي، فيخضب وجهي. الأمير يرى فلا يصنع شيئًا. ابن الحجاج١٠٠ يمسك بلجام جوادي — بتحريض من المهلبي — وينشد شعرًا مقذعًا، ينال فيه مني، على ملأ من الناس، في جعبتي الصبر وحده، حتى ينتهي.
إلى أي حين أنت في زي محرمِ
وحتى متى في شقوةٍ وإلى كمِ؟
وإلا تمت تحت السيوف مكرمًا
تمت وتقاسِ الذل غير مكرمِ
فثب واثقًا بالله وثبة ماجد
يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفمِ١٠١

٤٤٥

العودة إلى سيف الدولة صعبة، بعد أن قلت فيه ما قلت، وأنا في ضيافة الأسود … وماذا تفيد قصائدي في الهزائم التي لحقت بسيف الدولة على أيدي البيزنطيين؟

٤٤٧–٤٥١

لست أدري، على أي نحو شغلني الأمر، ولا كيف، أو متى اتخذت قراري؟

وفدت الأنباء بثورات المصريين ضد كافور وأعوانه. انهار سلطانه، وانحل أمره، وخضع مطلقًا لعبث الجند، ولسطوة الأعوان والخدم. عجز حتى أن يجمع أطراف الدولة، ويحزم أمرها.

تبادل أعوانه مع العصابات الوافدة مذكرات ووثائق، ووقعوا أوراقًا. خفتت — بعدها — حمية الجند. توهموا السلام في قبضة اليد، ولم يفكروا في الآتي وقادم الأيام. ألفوا حياة الدعة والراحة، وانصرفوا إلى حياة المدن وتنمية الثروات. بنى سمول الإخشيدي مدينة بالقرب من بلبيس، أسكنهم بها، ووفر لها كل وسائل الراحة، المضارب والخيام قبالة — أو بالقرب من — البيوت، والحدائق تتوسط ذلك كله. الملاهي والاستراحات والمدارس والمستشفيات، أنشئت بعناية ملحوظة، فلا يحتاج الجند للنزول إلى المدن إلا للفسحة، أو للزيارة. أغدق سمول عليهم، أسبغ من فضله وإحسانه، فميزهم عن بقية الناس. زاد في مرتباتهم، فبلغت أضعاف ما كان يتقاضاه بقية موظفي المخصي. أضاف إليها علاوات ومنحًا وكسوات، تمنح أول كل عام. خصَّص رواتب يومية من اللحم والخبز والتوابل والعليق. فرق عليهم الإقطاعات الثقال، وخلع الملابس الفاخرة والخيول المطهمة، والعطايا الجزيلة، وأرضاهم بكل ما وسعه.

أدرك المخصي خطورة تدخل الجيش في الحكم، فرضيَ عن هذا الاتجاه، وشجعه، وموَّله من بيت المال، ومن أمواله أيضًا.

خشي الأهالي من ذلك الأمر بالذات. غدر العصابات الوافدة مشهور، ودعاواهم بالسلام لم تمنع جراد الحدود١٠٢ — في عهود سابقة — من أكل الأخضر واليابس. وحين علت الاحتجاجات بأن خيام الجند — أينما كانت — هي للإقامة المؤقتة، وتعلم فنون الحرب. أما العيش الدائم، ففي المدن والقرى، وحيث يسكن الناس … حين حدث ذلك، أعلن سمول الإخشيدي — ومن بعده ابن حنزابة — أن وظيفة الجند رد الأعداء، وحماية الأراضي والثغور، وتجميعهم في المدن الجديدة الجميلة، يعني الحياة في ظل العسكرية، فلا يتأثرون بلين الحياة في المدن.

•••

بدت العودة إلى مصر مطمحًا. تضاءلت أمامه كل الطموحات. لا نبوة ولا إمارة مقابل قصائد. أحن إلى الناس والنيل والأهرام والجوامع والمساجد والأديرة والكنائس، والمقطم والوادي والنواطير والسواقي.

قال لي محسد، وأنا أغادر مصر للمرة الأخيرة: كان الأهالي ينتظرون قصائدك في تنبيه كافور إلى مصالحهم … لا تمدحه ولا تذمه … اكشف له عما يريده الناس … عن احتياجاتهم، وما يبتغون.

•••

من بعيد، أتأمل ما جرى وكان. الملامح تبدو أكثر وضوحًا مما لو كنت داخلها. تحركات أهل مصر وسخطهم وشكاياتهم، وما يعتمل في النفوس من عوامل التمرد والثورة، السلاح الذي يجري تخزينه، المنشورات التي تروي عن الفساد والشرور والمظالم، الأحاديث الساخطة الرافضة الثائرة، منذ الغروب إلى مطلع الفجر، في الأماكن البعيدة والمعتمة، والتي لا يفطن إليها أعوان الأسود.

كل ما جرى هوامش في حياتي، زوائد أتخلص منها بالإهمال، وبهزِّ الرأس. الإمارة أجرت قصائد المدح للمخصي، أحالت السواد شمسًا.١٠٣ طالت المراوغة، فزاد الإصرار على ما أبتغي. أهملت حتى العيون والأرصاد التي لاحقت خطواتي.

من بعيد تغيرت الصورة، قسماتها وملامحها وألوانها وظلالها. يتوضح ما كنت أتغافله، أو أني لم أرَه. هؤلاء الذين لمحوا أو أبانوا، ثم انطلقوا في الشوارع ينادون بالثورة. هل يعيدون النفس الضائعة؟ هل يكرون الخيط إلى بدايته؟ لماذا عانيت الأسر والسجن؟ وما الذي بدل الأمور؟

الولاية هدف، طريقها محفوفة بالظلال والاستكانة وظلم الآخرين، حملني شنآن المخصي على أن أهجو المصريين، أرميهم بالجهل الفاضح. قال لي رسل عبد الرحمن السكندري: أي ذنب جناه المصريون فاستحقوا كل هذا التحقير والازدراء، ذكرني السكندري — بواسطتهم — أنني نزلت بمصر بغير دعوة من أهلها. لم يغرروا بي، وأطمعوني حيث لا مطمع، ولا وعدوني ثم أخلفوا ما وعدوا. هل إخفاقك في الحصول على ما ابتغيت، وما وعد المخصي بتلبيته، ذريعة للنقمة على المصريين، والانتقام منهم؟١٠٤ شتمت المخصي، فشتمت مصر معه، وأضحكت الأمم من أهلها وجهلها، أغاية الدين أن تحفوا شواربكم. أتذكر قول ابن رشدين ونحن جالسان في بيته المطل على النيل: يا أبا الطيب … أنت تطلب الولاية … فهل تطلب من المصريين أن يجاهدوا في سبيل ولايتك … هل يستحلون دماء من يحول دون فوزك بالولاية؟

يلومني رسل السكندري: ما لك لم تذكر الكرامة وعزة النفس، والأمة التي بلا رحم، والأعبد القزم وإحفاء الشوارب، والقفا الذي ينادي من يصفعه؟ لم تذكر ذلك كله يوم النزول إلى مصر، والنزول بساحة آمال كافور، تتملقه، وتسرف في مدحه. هل لو وليت صيدا أو مقاطعة في الصعيد، كنت تهجو المصريين؟ وهل كان المصريون — قبل أن يخلف المخصي وعده — إلا الأسد في مصر الشرى أو عرينه؟!

ألقيت قصائدي في السلاطين والأمراء، لا سواهم من الحكام والوزراء والقادة. فيما عدا فاتك — الذي استأذنت الإخشيدي في مدحه — فإن قصائدي اقتصرت على كافور، مآثره ومناقبه وعطاياه. لو أني عريت بقصائدي ابن حنزابة والقاضي بدرًا وأعوان السوء، لكان السهم أنفذ، والمرمى أولى بالإصابة، لو …١٠٥

يحدثني رسل السكندري: أنت صناجة العرب، ورب قافيتها الشرود، قصائدك ملأت الآفاق بالمدح، وشغلت الدنيا. فماذا لو حققت الفعل ذاته بإعلان الحدث المرتقب؟ تنشر ثورة المصريين على الطاغوت والطغمة الفاسدة؟ تمسي قصائدك الصوت الذي يرتفع في كل الأقطار. يتحدث عن سريان الدم في الجسد الذي توهموه مواتًا؟ انبلاج الفجر من الليل الذي طالت رقدته؟

٤٥٨

إذا استشفيت من داءٍ بداءٍ
فأَقتلُ ما أعلَّك ما شفاكَا
وأنى شئت يا طرقي، فكوني
أذاة، أو نجاة، أو هلاكَا

٤٦٠

أثر فيَّ سؤال عضد الدولة.١٠٦

كان الرحيل إلى مصر قد احتواني تمامًا، فهززت رأسي، أتعجل الموافقة.

استأذنت عضد الدولة في المسير عنه، أقضي حوائج في نفسي وأعود. لم تكن العودة في نيتي ولا تهيأت لها، السفر إلى مصر — عبر الصحراء — هدفي الذي لن أتحول عنه.١٠٧

أذن لي عضد الدولة، أمر فخلعت عليَّ الخلع الخاصة، وقيدت إليَّ الحملان الخاصة وأعاد صلتي بالمال الكثير.

قضيت ليلتي الأخيرة أناوش الشعر، ويناوشني، يهمني أن أرد للرجل بعض ما أسداه لي. هذه — وإن كان لا يعلم — قصيدتي الأخيرة إليه، من واجبي أن أمدحه بما وسعني من حقه أن يصل إليه امتناني:

فلو أني استطعت خفضت طرفي
فلم أبصر به حتى أراكا

لن أنام ليلتي، حتى أستكمل ما بدأت.

٤٦٢

من لا تشابهه الأحياء في شيمٍ
أمسى تشابهه الأموات في الرممِ
عدمته وكأني سرت أطلبه
فما تزيدنيَ الدنيا على العدمِ
ما زلت أضحك إبلي كلما نظرت
إلى من اختضبت أخفافها بدمِ
أسيرها بين أصنام أشاهدها
ولا أشاهد فيها عفة الصنمِ
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي
المجد للسيف ليس المجد للقلمِ
اكتب بنا أبدًا بعد الكتاب به
فإنما نحن للأسياف كالخدمِ
أسمعتني ودوائي ما أشرت به
فإن غفلت فدائي قلة الفهمِ
من اقتضى بسوى الهندي حاجته
أجاب كل سؤال عن هلٍ بلمِ١٠٨

٤٦٤

وقرت بغالي بكل شيء من الذهب والفضة والطيب والتجملات النفيسة والكتب الثمينة والأدوات الكثيرة. إن سافرت، لا أخلف في منزلي درهمًا، ولا شيئًا يساويه. كنت أكثر إشفاقًا على أوراقي: انتخبتها، وأحكمتها قراءةً وتصحيحًا.

٤٦٥

غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا
ولو انَّ الحياة تبقى لحيٍّ
لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ
فمن العجز أن تكون جبانَا
نزلت — لساعات — في بيت أبي نصر. لقيني هاشًّا باشًّا، وأحسن الترحيب بي. رويت له عن ابن العميد١٠٩ وعضد الدولة. ما أفاء كلاهما علي من رعاية وحسن وفادة. سألني وأنا أغادره: على أي شيء أنت مجمع؟

– على أن أتخذ الليل مركبًا، فإن السير فيه يخف علي.

– هذا هو الصواب.

أضاف: والرأي أن يكون معك من رجالة هذه البلدة، الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة، جماعة يمشون بين يديك إلى بغداد.

أدهشتني الكلمات، فسألت: لم قلت هذا القول؟

دارى انفعاله: لتستأنس بهم.

قلت: أما والجراز في عنقي،١١٠ فما حاجة بي إلى مؤنس غيره.

– الأمر كما تقول، والرأي في الذي أشرت به عليك.

أظهرت قلقي: تلويحك ينبئ عن تعريض، وتعريضك ينبئ عن تصريح، فعرفني الأمر، وبين لي الخطب.

قال: أتدري يا أبا الطيب، أنت لم تحسن كسب ود الناس. لو أنك جاملتهم، واتبعت سياسة المداراة، لكففت عن نفسك عداوة الكثيرين.

استطرد في تألم: إن هذا الجاهل فاتكًا الأسدي١١١ كان عندي منذ ثلاثة أيام. وهو غير راضٍ عنك، لأنك هجوت ابن أخته ضبة. وقد تكلم بأشياء توجب الاحتراز والتيقظ، ومعه أيضًا نحو العشرين من بني عمه، قولهم مثل قوله.

قال تابعي مفلح: الصواب ما رآه أبو نصر، خذ معك عشرين رجلًا يسيرون بين يديك إلى بغداد.

غاظني تدخل الخادم فيما لا شأن له به، شتمته شتمًا قاسيًا، وقلت: والله لا أرضى أن يتحدث الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي. إنه عزائي عن الخفراء والمبذرقين.

قال أبو نصر: وأنا أوجه قومًا من قبلي في حاجة، يسيرون بسيرك، وهم في خفارتك.

– والله لا فعلت شيئًا من هذا.

وضغطت على الكلمات: يا أبا نصر، أبخرء الطير تخشيني ومن عبيد العصا تخاف علي؟! والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات، وبنو ضبة متعطشون بخمس١١٢ والماء يلمع كبطون الحيات، وما جرؤ لهم خف١١٣ ولا ظلف١١٤ أن يرده. معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين.

قال: قل إن شاء الله!

قلت: هي كلمة مقولة، لا تدفع مقضيًّا ولا تستجلب آتيًا.

وانصرفت غير آبه، وإن أعملت فكري — فيما بعد — فانتويت السير في الجانب الأيسر من دجلة. تصحبني أسرتي، ويحرسني عبيدي، ويؤنسني الطريق، هؤلاء الذين يقيمون على جانب النهر.

إذا كانت السلامة تصحبني في أعمال فارس، فهل تفارقني في بلاد العرب؟

٤٦٩

هذا هو الثلث الأخير من شعبان،١١٥ هل يتاح لي الوصول إلى مصر قبل شهر الصوم.
١  لاحظنا أن المتنبي لم يشِر إلى تاريخ كل حادثة بتوقيتها. ربما لأن كتابة المذكرات والسيَر الذاتية — بصورتها الحالية — لم تكن معروفةً آنذاك. وقد فضلنا — بديلًا لذلك — أن نشير إلى الأوراق بأرقامها المسلسلة.
وبداية الأوراق من الصفحة السادسة، بما يعني أن المتنبي كتب تمهيدًا، أو مقدمةً، استغنى عنها فيما بعد، أو أنها فقدت مع أوراق أخرى، سيأتي ذكرها في حينه.
٢  بلبيس: هي مدينة بلبيس الحالية. كان بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ. وقد ذكرها المتنبي، فقال:
جزى عربًا أمسَت ببلبيس ربها
بمسعاتها تقرر بذاك عيونها
كراكر من قيس بن عيلان ساهرًا
جفون ظباها للعلا وجفونها
٣  الفسطاط: هي أول مدينة بناها العرب في مصر. وقد بناها عمرو بن العاص (٢١ﻫ) وكان موقعها بين القاهرة ومصر العتيقة.
٤  يقول صاحب «الصبح المُنبي عن حيثية المتنبي» (ص۱۱۰، ۱۱۱): «وكافور هذا، عبد أسود خصي مثقوب الشفة السفلى بطين، قبيح القدمين ثقيل البلد، لا فرق بينه وبين الأمَة. وقد سئل عنه بعض بني هلال فقال:
رأيت أمَةً سوداء تأمر وتنهى. وكان هذا الأسود لقومٍ من أهل مصر يعرفون ببني عياش، يستخدمونه في مصالح السوق. وكان ابن عياش يربط في رأسه حبلًا إذا أراد النوم. فإذا أراد منه حاجة، جذبه بالحبل لأنه لم يكن ينتبه بالصياح. وكان غلمان ابن طغج يصفعونه في الأسواق كلما رأوه، فيضحك، فقالوا: هذا الأسود خفيف الروح. وكلموا صاحبه في بيعه فوهبه لهم، فأقاموه على وظيفة الخدمة. ومات سيده أبو بكر بن طغج وولده صفي. وتقيد الأسود بخدمته، وخدمة والدته فقرَّب من شاء وأبعد من شاء، فنظر الناس إليه من صغر هممهم، وخسة أنفسهم، فتسابقوا إلى التقرب إليه وسعى بعضهم ببعض حتى صار الرجل لا يأمن أهل داره على أسراره، وصار كل عبد بمصر يرى أنه خير من سيده. ثم ملك الأمر على ابن سيده، وأمر ألا يكلمه أحد من مماليك أبيه، ومن كلَّمَه أتلفه. فلما كبر ابن سيده، وتبين ما هو فيه، جعل يبوح بما في نفسه في بعض الأوقات على الشراب، ففزع الأسود منه، وسقاه سمًّا فقتله، وخلت مصر له.»
٥  أخطاط مفردها «خط»، وهي الحارة. وكانت هذه هي التسمية إلى إنشاء القاهرة.
٦  أبو الحسين الناشئ: شاعر مجيد من أهل بغداد، له قصائد كثيرة في أهل البيت. وكان من الشعراء المقربين إلى سيف الدولة.
٧  أبو القاسم الزاهي من أهل بغداد، كان من أشهر شعراء عصره. أكثر قصائده في مدح آل البيت، وإن كتب مدائح في سيف الدولة والوزير المهلبي وغيرهما.
٨  أبو علي الحاتمي هو محمد بن الحسن المظفر. كان من المهتمين بنقد الشعر، وخدم سيف الدولة مع أبي علي الفارسي وابن خالويه وأبي الطيب اللغوي وغيرهم. وكان على صلة بالوزير المهلبي. ويضمر كل منهما للمتنبي عداءً شديدًا.
٩  هكذا بياض في الأصل.
١٠  صيدا: إحدى مدن الشام. وبقية الكلمات مطموسة.
١١  ابن طغج هو أبو محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج، أمير الرملة من قبل الإخشيد. اتصل به المتنبي سنة ٣٣٥ﻫ.
١٢  ابن الفرات (۹۲۱–۱۰۰۱م) هو جعفر بن الفضل بن جعفر، من بني الحسن بن الفرات. ظل وزيرًا مدة ولاية كافور. ثم قبض عليه ابن طغج — عقب موت كافور — ثم أطلق سراحه، فنزح إلى الشام. يكنى بابن حنزابة، نسبة إلى أم أبيه الفضل.
١٣  ابن الخصيب هو قاضي مصر زمن كافور الإخشيدي. كانت له قدرة عالية على الرد على العلماء المعاصرين له، ووضع المؤلفات الخاصة بتلك الردود. وكان عظيم المكانة لدى كافور.
١٤  الكندي مؤلف كتاب «فضائل مصر» الذي أفاد منه المقريزي كثيرًا، وابن القاسم شاعر غنائي مشهور، والنجيرمي عالم النحو الشهير.
١٥  زرابي: شلت.
١٦  محمد بن طغج الإخشيدي (…−٩٣٥م) من أصلٍ إيراني. تولى الحكم في مصر وسوريا في القرن العاشر الميلادي.
١٧  القباب: الهوادج.
١٨  الجامع العتيق: المقصود به جامع عمرو بن العاص.
١٩  هذا هو مطلع القصيدة الأولى التي ألقاها المتنبي مدحًا لكافور. وقد أخذ النقاد عليها — فيما بعد — أنها بدأت بذكر الموت في مجال المدح.
٢٠  سريع المدمعة: أي أن عينَيه سريعتا الاستجابة للدمع.
٢١  المارستان: المستشفى.
٢٢  الحبوس: أوقاف لوجه الله.
٢٣  عبد الرحمن السكندري: خلَت كل المراجع من ذكر هذا الاسم. ومرد غياب الرجل عن كتب المؤرخين — في تقديرنا — أنه لم يكن من أهل الدولة، أو المشهورين في زمانه، وإن كان تأثيره في تطورات الأحداث واضحًا، كما سيأتي.
٢٤  ترة: ثأر.
٢٥  بقية الجملة غير واضحة.
٢٦  البصَّاص في زمن المتنبي، هو المخبر، أو الشرطي السري، في أيامنا الحالية.
٢٧  عيد الغطاس: عيد لأقباط مصر، يشارك فيه المسلمون. يوافق الحادي عشر من طوبة. يحرص فيه البعض على أكل أطعمة معينة، وعلى الغطس في النيل، اعتقادًا أن في ذلك أمانًا من المرض، وطردًا للداء.
٢٨  هكذا بياض في الأصل.
٢٩  ابن جني: وُلد بالموصل، وتوفِّي ببغداد في ٣٩٢ﻫ. وكان من أئمة النحو والعربية. وكان يحضر عند المتنبي في حلب كثيرًا، ويناظر في النحو. قال فيه المتنبي: هذا رجل لا يعرف قدره كثيرٌ من الناس … وقال: ابن جني أعرَف بشعري مني.
٣٠  لعل المتنبي كتب هذَين البيتَين، قبل أن يستكمل القصيدة (ثاني قصائده في مدح كافور) وقد ألقاها — فيما بعد — بمناسبة بناء قصر كافور الجديد بالقطائع، بإزاء الجامع على بركة الفيل، بالقرب من حي طولون.
٣١  تشبيه السواد بالشمس جاء في قصيدة المتنبي. أما تشبيه الزلازل برقصات الفرح، فقد جاء في قصيدة لابن القاسم.
٣٢  جبل يشكر: يُشرف على النيل، وعليه جامع ابن طولون، وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، وقيل إن موسى (عليه السلام) ناجى ربه عليه بكلمات.
٣٣  المصالحة هي أن يُفرض على الوارثين أموال باهظة، لتمكينهم من تركة مورثهم.
٣٤  الأحباس: الأوقاف.
٣٥  يشير إلى أنه كان لا يجلس عند كافور، بل ينشده وهو واقف.
٣٦  هذان البيتان من قصيدة للمتنبي، كتبها بعد أربعة أشهر من دخوله مصر. وكان الإخشيدي يحسن وفادته، وإن لم يكِل إليه أمرًا. ومن الواضح أن أبا الطيب كان يستحث الإخشيدي على إنجاز ما وعده به.
٣٧  تختلف اجتهادات المؤرخين في تسمية المتنبي: هل كانت لادعائه النبوة، أو لسببٍ آخر؟ وعمومًا، فإن ادِّعاء المتنبي النبوة، مشكوك فيه لأنه يرجع إلى ثلاث روايات شفاهية. فضلًا عن أن ديوان المتنبي لا يشير — على أي نحو — إلى دعوى النبوة.
٣٨  تؤكد الروايات المختلفة أن أبا الطيب أفاد — إلى غير حد — من ذاكرة قوية، وقدرة على الحفظ والاستيعاب، وحرص على التعلم والتثقف. وقد انعكس ذلك كله في قصائده؛ فهو قد قرأ لفطاحل الشعراء منذ الأعشى وامرئ القيس، إلى أبي تمام، مرورًا بدهبل وزهير والأسعر والأخطل والفرزدق وأبي نواس وبشار والبحتري، وغيرهم إلى زمانه.
٣٩  تخلو كل المصادر التاريخية من ذكر الجماعات الوافدة، وما سببته من مضايقات، دفعت كافورًا إلى حربها، والحد من شرورها، ثم الدخول معها في معاهدة صلح. ولعل تلك الأحداث من صنع خيال أبي الطيب، أو لعلها كانت أحداثًا هامشية مع بعض قبائل الرحَّل، جسَّمها المتنبي على هذا النحو.
٤٠  هكذا في الأصل.
٤١  المخصي: واحدة من التسميات التي كانت تطلق على كافور الإخشيدي.
٤٢  هل كتب المتنبي هذه الأوراق؛ بحيث تجد سبيلها إلى النشر يومًا … أو أنه كتب ما كتب لمجرد التنفيس عما يشغله، ويضيق به … هذه الفقرة ترجح الرأي الثاني.
٤٣  هكذا بياض في الأصل.
٤٤  المؤكد أن الثورة كانت بعض أخلاق المتنبي، منذ ثورته على نظام الحكم في الكوفة، وسعيه الدائب إلى تغييره. وقد دفع من حريته زمنًا في السجن، لقاء دفاعه عن مبادئه.
٤٥  اللاذ: ثياب من حرير، تنسج بالصين تسميها العرب والعجم.
٤٦  سوق القناديل: سوق كبيرة في الفسطاط كانت تحتكر التجارة والمعاملات.
٤٧  الحسبة: هي أمر بالمعروف، إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر، إذا ظهر فعله. وقد شرع الله الحسبة على عباده. وهي تتفق مع القضاء في أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيما يتعلق بحقوق الأفراد، من الغش في الكيل والميزان والدس والتدليس، وتقصر عنها أن والي الحسبة ليس له أن يفصل في الدعاوى المتعلقة بالعقود والمعاملات، إلا إذا أسند إليه السلطان ذلك، فيجمع بين القضاء والحسبة.
٤٨  كل هذه مصادر لبيت المال.
٤٩  الأهراء: مخزن القمح.
٥٠  المكوس في اللغة العربية: الجباية.
٥١  الفسطاط والقطائع والعسكر، كانت تشكل — في مجموعها — مصر الفسطاط.
٥٢  الصوالج: لعبة البولو الحالية.
٥٣  التجريس: هو وضع المتهم، أو المحكوم عليه، بالمقلوب على حمار معلق به جرس، والطواف به في الشوارع.
٥٤  التوسيط: تعبير يطلق على ضرب الجسد بالسيف، في منتصفه.
٥٥  الأشنب: الأبيض الأسنان، الثنيات: الأسنان التي في مقدم الفم، المفرق: موضع افتراق الشعر من الرأس، الأجياد: جمع جيد، العنق العاطل: الذي يخلو من الحلي، المطوق: الذي تطوق بالحلي، الحب: المحبوب.
٥٦  ظن المتنبي أن الإخشيدي يشك في كفاءته، فهو يطلب إليه أن يجربه في هذه القصيدة التي كتبها في العام الأول لمقدمه.
٥٧  الكراع: هي الدواب من مثل البقر والجاموس والخيل والحمير.
٥٨  الجواري: المراكب.
٥٩  يقال إن المتنبي نظم في ابن حنزابة قصيدته التي مطلعها:
بادٍ هواك صبرت أم لم تصبِرَا
وبكاك إن لم يجرِ دمعك أو جرى
لكن الرجل لم يمنح أبا الطيب ما كان ينتظره منه، فلم ينشده إياها وأنشدها فيما بعد، في مجلس ابن العميد، وتلقَّى مقابلًا لها ثلاثة آلاف دينار.
٦٠  بعد وفاة الإخشيد، آلت الأمور إلى كافور. وحاول فاتك أن يُنازعه الملك والوصاية على ابن الحاكم الراحل. ثم قنع بالحياة في إقطاعية له بالفيوم.
٦١  الأسود: من التسميات التي كانت تطلق على كافور الإخشيدي.
٦٢  أبو شجاع فاتك الرومي: مملوك رومي الأصل. كان رفيق كافور في خدمة الإخشيد. فلما مات مخدومهما، وتقرر كافور في خدمة ابن الإخشيد، رفض فاتك الإقامة في مصر، حتى لا يكون كافور أعلى منه مرتبة، فانتقل إلى الفيوم. التي كانت إقطاعًا له، واتخذها مسكنًا.
٦٣  بقية الكلمات مطموسة.
٦٤  لم يرد اسم الشيخ عبد القوي السروجي في كل المراجع التاريخية أو تلك التي تناولت سيرة المتنبي. ولعله من الشخصيات التي أهملتها الأقلام؛ لأنها — في تقديرهم — كانت غير ذات أثر حقيقي.
٦٥  التنوخيون: اسم لعدة قبائل، تجمعوا قديمًا بالبحرين، وتحالفوا على التآزر والتناصر، وأقاموا هناك، فسموا تنوخًا: والتنوخ الإقامة.
٦٦  هكذا بياض في الأصل.
٦٧  لعل سخط المتنبي على الإخشيدي هو الذي أملى عليه هذه الكلمات التي تبدو مجافيةً للواقع.
٦٨  تؤكد المصادر التاريخية أن تغني المتنبي بفروسيته لم يكن عن غلو أو كذب؛ فقد كان — بالفعل — فارسًا شجاعًا. ولم يقرِّبه سيف الدولة منه إلا بعد أن كان ضمن جنوده في معاركه مع الروم. وفي موقعة دارت الدائرة على سيف الدولة، ففر جنده ما عداه في ستة نفر من بينهم أبو الطيب، صمدوا، واخترقوا صفوف العدو، وكُتبت لهم النجاة.
٦٩  عمر بن أبي ربيعة: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي. كان فاسقًا، ويتعرض للنساء في طريقهن للحج، ويشبب بهن. وقد أنكر — لحظة وفاته — كل الحكايات التي نسبها إلى العديد من النساء العربيات، وأنها كانت مجرد خيالات شاعر.
٧٠  المقصود بالعبد الأسود: كافور الإخشيدي.
٧١  الرملة بفلسطين. كانت تابعة لحكم الإخشيد. أميرها — آنذاك — الحسين بن طغج.
٧٢  بقية القصيدة في ديوان المتنبي. وأغلب ظننا أن هذه الحادثة كتبها المتنبي بروح من المبالغة، أو أنها مدسوسة على هذه الأوراق.
٧٣  وهو الخرتيت، حيوان عظيم الجثة، غليظ الجلد، أسوده، قصير القوائم. له قرن واحد.
٧٤  ما هو أشد عليَّ مكانًا.
٧٥  هذه الأبيات من قصيدة للمتنبي. قالها بعد أن رفض كافور خروجه إلى الرملة.
٧٦  في المصادر التاريخية، أن لقاء المتنبي وفاتك جاء مصادفة، دون إعداد سابق.
٧٧  هكذا بياض في الأصل.
٧٨  الثابت تاريخيًّا، أن نقصان النيل، وما نتج عنه من انخفاض في المحاصيل وتفشي المجاعات والأوبئة، حدث بعد رحيل أبي الطيب المتنبي عن الديار المصرية؛ فقد قدم إلى مصر في ٣٤٦ﻫ. وغادرها في ٣٥١ﻫ، بينما قصر الفيضان في ٣٥٢ﻫ. ثم قصر — للمرة الثانية — في ٣٥٦ﻫ، بما يؤكد أن أبا الطيب المتنبي لم يكن شاهدًا على قلة ورود المياه، وما أسفر عنه من نتائج. ولعل أحداث مصر وصلته حيث يقيم، فتناولها كأنه رآها رؤية العين.
٧٩  صلاة الاستسقاء كي يغيث الله المسلمين بالأمطار.
٨٠  تؤكد روايات المؤرخين أن المتنبي — إبان إقامته في مصر — لم يشهد قلاقل أو اضطرابات من أي نوع، وإنما كانت الحياة هادئة، وادعة، والإدارة حكيمة، والحدود آمنة وممتدة — أيضًا — إلى فلسطين، وبعض مدن الشام وبلاد وراء البحر الأحمر. ولعل تلك القلاقل والاضطرابات التي أشار إليها أبو الطيب، مبعثها خياله الشعري، لا الحقيقة الموضوعية.
٨١  حبس المعونة: كان يعرف أولًا بدار الشرطة. ويقع قبلي الجامع العتيق. جدده عيسى بن يزيد الجلودي في عصر المأمون (۳۱۲ﻫ) ثم عرف في ۳۸۱ﻫ باسم المعونة. وتحول إلى مدرسة في عهد الناصر صلاح الدين الأيوبي.
٨٢  يعني القلاقل والاضطرابات التي يتوقع حدوثها.
٨٣  يقصد موظفي كافور الإخشيدي.
٨٤  هنا الفقرات مطموسة.
٨٥  في عام ٤٨٣ه أصابته الحمى. وهذه الأبيات جزء من قصيدة كتبها في وصف تلك الحمى.
٨٦  هذه الأبيات، مطلع قصيدة كتبها أبو الطيب عندما زاد إحساسه بالحصار، وصعب عليه الفرار من مصر.
٨٧  هذه الأبيات من آخر قصيدة كتبها المتنبي قبل الفرار من مصر.
٨٨  التيه: الموضع الذي ضل فيه موسى (عليه السلام) وقومه. وهي أرض بين أيلة ومصر وبحر القلزم وجبال السراة من أرض الشام.
٨٩  دخل أبو الطيب الكوفة في ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة.
٩٠  هذان البيتان من قصيدة للمتنبي — كما سبق — قبل فراره من كافور الإخشيدي.
٩١  هذه القصيدة قالها المتنبي في واسط (بين البصرة والكوفة).
٩٢  بلاد الديلم: تقع في شمال شرق الدولة الإسلامية. وصار للجنود الديلم، في أواخر الدولة العباسية، شوكةٌ وسيطرة على الخلفاء.
٩٣  أبو القاسم عبد الله المستكفي بن المكتفي بن المعتضد. وقد حمل جند الديلم المستكفي إلى دار معز الدولة، فاعتقل بها، وخلع من الخلافة، ونهبت داره، وسُملت عيناه. ولم يزل في دار السلطنة معتقلًا، حتى تُوفِّيَ سنة ٣٣٨ه.
٩٤  المهلبي الوزير: هو الحسن بن محمد بن عبد الله بن هارون، من ولد المهلب بن أبي صفرة. كان كاتب المعز بن بويه. ثم أصبح وزيره.
٩٥  أبا زنة: كنية القرد.
٩٦  هذان البيتان من قصيدة للمتنبي، بعد سماعه بوفاة فاتك.
٩٧  من شعراء بغداد الذين حرضهم المهلبي ضد المتنبي: ابن الحجاج، وابن سكرة، والحاتمي.
٩٨  يشير أبو الطيب إلى أنه كان يشترط على سيف الدولة أن ينشده قصائده وهو جالس، بعكس الحال في مجلس الإخشيدي.
٩٩  ابن خالويه: هو أبو عبد الله الحسين بن خالويه. من كبار أهل اللغة، وله كتب كثيرة في اللغة. أصله من همدان ودخل بغداد، ثم انتقل إلى الشام، واستوطن حلب، وتوفِّي بها في ٣٧٠ﻫ.
١٠٠  ابن الحجاج: هو حسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد الحجاج النيلي البغدادي، أحد شعراء العصر البويهي.
١٠١  هذه الأبيات الثلاثة، كتبها أبو الطيب في صباه. بالتحديد، بعد عودته من البادية. ولعله استعادها لأنها أجادت التعبير عن الرحلة التي كان يعد لها نفسه.
١٠٢  المقصود — هنا — عصابات الحدود.
١٠٣  لعله يعني قصيدته الشهيرة، التي جاء فيها، في مدح الإخشيدي:
تفضح الشمس كلما ذرت الشمـ
ـس بشمسٍ منيرة سوداء
١٠٤  في قراءاتنا للمصادر التاريخية، فإن بعضها يذهب إلى أن المتنبي تجاوز بهجائه كافورًا إلى الشعب المصري. ومعظمها يؤكد أن المقصودَ بكل هجائه — حتى الأبيات التي مست الشعب المصري برذاذها — كافورٌ وحدها.
١٠٥  بقية الكلمات مطموسة.
١٠٦  عضد الدولة: أبو شجاع قنا خسرو بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن أبي شجاع الديلمي، من أعقاب سابور ذي الأكتاف. نسبه ينتهي إلى ملوك بني ساسان. وهو أول من خوطب بالملك في الإسلام، وأول من خطب له على المنابر ببغداد بعد الخليفة، وأول من لقب شاهنشاه. وكان أديبًا محبًّا للشعر والشعراء.
١٠٧  خلت كل المصادر من الجهة التي كان يقصدها المتنبي في ختام رحلته، لكنه — في هذه الأوراق — يصرح بتلك الجهة.
١٠٨  بقية القصيدة، وشرحها، في الديوان.
١٠٩  ابن العميد: هو أبو الفضل محمد بن الحسين العميد يلقب بالأستاذ الرئيس، وكاتب الشرق. كان وزيرًا لعضد الدولة البويهي. صاحب طريقة الشعر المنثور. توفي سنة ٣٦٠ﻫ.
١١٠  الجراز كغراب السيف القاطع.
١١١  سمي فاتكًا لسفكه الدماء، وإقدامه على خوض المعارك.
١١٢  الخمس من أظماء الإبل، وهو أن ترد الإبل يومًا، ثم ترعى ثلاثة أيام، ثم ترد في اليوم الرابع.
١١٣  الخف: الإبل.
١١٤  الظلف: ذو الحوافر كالبقر والغنم.
١١٥  لعله يقصد شعبان ٣٥٤ﻫ الموافق ٩٦٥م. ففي هذا الشهر لقي أبو الطيب المتنبي مصرعه على أيدي فاتك ورجاله. والثابت تاريخيًّا أن المتنبي صادف في طريقه من شيراز إلى بغداد، فالكوفة، فاتك بن أبي جهل الأسدي، على رأس جماعة من أعوانه. وكان أبو الطيب قد هجاه ببائية معروفة، فهجم للانتقام. وتؤكد الروايات أن أبا الطيب تلقى التحذير من تربص فاتك به في «واسط»، وأن أبا نصر الجبلي قال إن فاتكًا الأسدي الذي هجاه المتنبي في الكوفة، قبل سفره إلى ابن العميد يريد به السوء، ونصح له أن يرجئ سفره، أو يستصحب عددًا كافيًا من الحرس، فأبى المتنبي، وواصل رحلته، وليس معه إلا ابنه وغلمانه، حتى لقيه فاتك وأعوانه في النعمانية بالقرب من دير العاقول. وحين هم أبو الطيب بالفرار من وجه مهاجميه قال له أحد غلمانه: لا يتحدث عنك الناس بالفرار وأنت القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال له المتنبي: قتلتني قتلك الله.
ودار قتال، قتل فيه أبو الطيب وابنه وكل أعوانه. وكان في الواحدة والخمسين من عمره. واستولى فاتك وأعوانه على كل ما كان مع المتنبي من متاع وأوراق وأموال. ومن جملة ما كان معه ديوانا أبي تمام والبحتري بخطه.
وقيل إن من بين ما عثر عليه في متاعه، قصيدتان في هجاء كافور، ومدح سيف الدولة، إحداهما تقول:
قطعت بسيري كل يهماء مفزعِ
وجبت بخيلي كل صرماء بلقعِ
وثلمت سيفي في رءوس وأذرع
وحطمت رمحي في نحور وأضلعِ
وصيرت رأيي بعد عزميَ رائدي
وخلفت آراءً توالت بمسمعي
ولم أتَّرك أمرًا أخاف اغتياله
ولا طمعت نفسي إلى غير مطمعِ
وفارقت مصرًا والأسيْود عينه
حذارَ مسيري تستهل بأدمعِ
ألم تفهم الخنثى مقالي وأنني
أفارق من أقلى بقلب مشيعِ
ولا أرعوي إلا إلى من يودني
ولا يطَّبيني منزل غير ممرعِ
أبا النتن كم قيدتني بمواعد
مخافة نظم للفؤاد مروعِ
وقدرت من فرط الجهالة أنني
أقيم على كذب رصيف مضيعِ
أقيم على عبد خصي منافق
لئيم رديء الفعل للجود مدعي
وأترك سيف الدولة الملك الرضا
كريم المحيَّا أروعًا وابن أروعِ
فتًى بحره عذب ومقصده غنًى
ومرتع مرعى جوده خير مرتعِ
تظل إذا ما جئته الدهر آمنًا
بخير مكان، بل بأشرف موضعِ
أما هذه الأوراق، فلم تشر إليها رواية ما، حتى قُيض لمؤلف هذه السطور أن يعثر عليها، ويسعى إلى تحقيقها وتقديمها.
وقد استعنت في تحقيق هذه الأوراق بمصادر ومراجع، من بينها ديوان المتنبي (وقد أحلت القارئ إلى الديوان في شرح القصائد التي تتضمنها الأوراق) الشعر والشعراء لابن قتيبة، الصبح المنبي عن حيثية المتنبي ليوسف البديعي، مع المتنبي لطه حسين، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي، خطط المقريزي، بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس، يتيمة الدهر للثعالبي، المتنبي لمحمود محمد شاكر، ذكرى أبي الطيب للدكتور عبد الوهاب عزام، أبو الطيب المتنبي لمحمد كمال حلمي، المتنبي لشفيق جبري، الأعداد الخاصة بالمتنبي من مجلات: الهلال (١٩٣٥م) المقتطف (١٩٣٦م) دار العلوم (۱۹۳٦م) المورد العراقية (۱۹۷۷م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥