مقدمة

يُولَد الإنسان وتُولَد معه انعكاسات وغرائز يخضع لها وتكون ركنًا هامًّا في حياته، وإن كان يستطيع أن يتحكَّم في بعضٍ منها بالتعلم، إلَّا أنه عاجز عن التحرُّر من بعضها الآخر، فسلوكه بها سلوكٌ عميقُ الجذور، لا يستطيع أن يحيا إلَّا به؛ لأن كينونته معتمدة عليه، وكذلك هي الحال مع الحيوان، سوى أن قدرته على التحكُّم في الغرائز أقلُّ، وعلى التعلم أقلُّ كثيرًا جدًّا من قدرة الإنسان، على أننا، ونحن نؤمن بنظرية النشوء والارتقاء، لَجديرٌ بنا أن نتتبع أنماط السلوك المختلفة من أبسط صورها؛ أي كما تظهر في أبسط حيوانات الدنيا، إلى أعقدها كما نجدها في الفقاريات العليا — الطيور والثدييات — التي نتدرج منها إلى الإنسان أرقاها جميعًا، فنجمع الحقائق عن عالم الحيوان ليُتَفهَّم تطوُّره وتُتَفهَّم العلاقة الكامنة بين شُعَبه وطوائفه ورُتَبه، وكذلك لكي نخلص إلى تفسير كثير من الظواهر التي يخضع البشر في سلوكهم لها.

فماذا لو تعمَّقنا في سلوك الكلب مثلًا نحو رنين الجرس عندما يسمعه لأول مرة؟ إنه يقلق وينبح ويجري هنا وهنالك، على أنه لن يفعل شيئًا من ذلك إن تكرَّر سماعه لرنين الجرس كلَّ يوم بعد أن يكتشف أن هذا الرنين لا يعني شيئًا له. كذلك هي الحال إن دأَبنا على تأنيب طفلٍ ما كلما رأيناه لأنه لا يستذكر دروسه مثلًا، فإن هذا التأنيب يفقد قيمته، ولن يعني شيئًا له مع مُضِي الوقت، والأفضل أن نقسط في التأنيب ولا نُفرِط فيه.

•••

وقد وجد الإنسان أيضًا أن أفضل الوسائل في تربية الخيول الشَّرِسة هي إيقاع العقوبة البدنية الشديدة عليها حتى تنكسر إرادتها، فأراد أن يطبِّق هذه الوسيلة على أطفاله ليكسر إرادتهم بتوقيع العقاب البدني الصارم عليهم فيُطِيعوه الطاعةَ العمياء. وكان ذلك هو المبدأ في تربية الأطفال في القرن التاسع عشر. على أن حالة الإنسان في هذا المثال تختلف عن حالته في المثال الأول؛ ذلك لأن الإنسان كي ينشأ النشأة الصالحة ينبغي أن تكون له إرادة، لا أن نسلبها منه، وأن يكون له بعض الحرية في الحكم على الأشياء، فرجع الإنسان عن تلك الطريقة في تنشئة الأطفال، واتَّبع معهم طريقةً جديدة أخرى بعد أن عرف أن ما قد يصلح للحيوان لا يصلح للإنسان في جميع الأحوال؛ لأن سلوكهما مختلف بالطبع، ومن ثَم لا ينبغي أن يكون القياس كاملًا.

وهكذا تقوم الحاجة إلى دراسة سلوك الحيوان، وهكذا ينبغي أن يهتم بها علماءُ الحيوان وعلماءُ سلوك الإنسان والأطباءُ النفسانيون، فقد كتب دافيد كاتز، أحد المبرَّزين في دراسة هذا العلم: «إن علم الحيوان الذي يقتصر على التصنيف والشكل والتكوين، ولا يتعرَّض للسلوك الحقيقي للحيوان، هو علم ناقص بكلِّ تأكيد.»

على أن مجال البحث في سلوك الحيوان في مصر يكاد يكون معدومًا، وإن كان تدريسه قد حظي مؤخرًا ببعض العناية في بعض الجامعات، على أننا نرجو أن تشمل هذه العنايةُ البحثَ كلَّه بإقامة معامل البحوث، حتى تنطلق منها الأفكار الجديدة، لِنُسهِم مع شعوب الأرض في دفع رَكْب المعرفة إلى الأمام.

وقد جذبني موضوع سلوك الحيوان، بعد أن وقفت على الفائدة المرجوَّة من دراسته وتدريسه، حتى رأيت أن أكتب هذا الكتاب للمكتبة الثقافية؛ لأن المكتبة العربية خلوٌّ من هذا الموضوع. وقد حاولت أن أجنِّب القارئ العربي كثيرًا من المصطلحات التي يُشحَن بها كلُّ فرع من فروع العلوم المختلفة، وذلك لكيلا تكون مادة الكتاب دافعة للسأم، غير أنني لم أغفل اللبَّ العلمي، بل على العكس من ذلك أبرزته إبرازًا أرجو أن يكون واضحًا، حتى لا يكون الكتاب سردًا لمشاهَداتٍ معينة فيما يُسمَّى بطبائع الحيوان، سوف ينساها القارئ بعد تلاوتها، بل قصدت إلى أن يدرس معي القارئُ أصولَ سلوك الحيوان وقواعده وأُسسه حتى يطمئن إلى أنه لم يضيِّع وقته هباءً.

وقد اخترت لأول أبواب الكتاب قصةً عن حيوان، تختلف عن معظم القصص في أنها قصةٌ حقيقية، وهي قصة طريفة حقًّا، وقد قصدت منها إلى أن يتمعَّن القارئ فيها ويتأمَّل، ويخلص منها إلى النتائج التي يراها، ولعله يرى بعد قراءة الكتاب أن يعيد تلاوة تلك القصة، فيحلِّلها التحليل العلمي المرتكِز على أسس السلوك وقواعده.

الدكتور أحمد حماد الحسيني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤