الفصل الأول

الحصان الشاطر هانز وخيول شاطرة أخرى

اشتُهِر في بداية القرن الحالي حصانٌ في ألمانيا أَطلقَ عليه صاحبُه اسم: «الشاطر هانز»؛ وذلك للأفعال الخارقة التي كان يقوم بها هذا الحصان، فذاع صيته في جميع الأوساط العلمية المعنيَّة بدراسة سلوك الحيوان.

ولم يُدرَّب «الشاطر هانز» على القيام بمختلِف الأفعال كالتي نشاهدها عادةً في الأفلام السينمائية، وإنما درَّبه صاحبه على القيام بأعمالٍ من نوعٍ آخر، هي أن يجمع ويطرح ويضرب ويقسم ويُجرِي عملياتٍ حسابية مُعقَّدة، فكان رأس المسألة يُقرَأ على الحصان أو يُكتَب على سبورة أمامه، وإذا به بعد هنيهة يعبِّر عن الجواب بدق الأرض بإحدى قائمتَيْه الأماميتين عددًا من المرات يساوي جواب المسألة.

وكان هانز قادرًا على معرفة الوقت من ساعة الحائط، كما كان يجيب على أسئلة مثل: «بين أي الرقمين يكون عقرب الساعات، إذا كانت الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والعشرين؟» كما أنه كان قادرًا على ذِكْر تاريخ اليوم ويتهجَّى الكلمات بل والجمل! وقد عمد صاحب هذا الحصان في تدريبه على التهجِّي إلى إعطاء رقم لكلِّ حرف من حروف الهجاء، ثم ينطق بالحرف بصوت عالٍ، ثم يُمسِك بإحدى قائمتَي الحصان الأماميتين ويدقُّ بها الأرض عددًا من المرات يساوي رقم الحرف، وبعد مجهود طويل كان صاحب الحصان ينطق بالحرف فيدق الحصانُ الأرضَ بنفسه العددَ الصحيح الذي يساويه، ومن ثَمَّ تدرَّج معه صاحبه على تعليمه تهجِّي الكلمات، ومن بعدها الجُمل المفيدة.

وبطبيعة الحال لم يكن كثير من الناس مستعدًّا لتصديق قصة هذا الحصان الشاطر، فكانوا يحجون إلى صاحبه حيث يوجِّهون إلى الحصان أسئلةً شتَّى، كان يجيب عليها إجابةً صحيحة في حضور صاحب الحصان أو في أثناء غيبته، فبرهن لهم صاحب الحصان على شطارة حصانه وأن ثقته فيه ليس لها حدٌّ.

وعندئذٍ ذاع صيت «الشاطر هانز» في جميع الأوساط العلمية وغير العلمية، بل وفي كثير من أنحاء الدنيا، وهنا شُكِّلت لجنة من علماء الحيوان والسيكولوجيين البارزين لاختبار الحصان، فكتبت لجنة الامتحان تقريرها: «تحت ظلٍّ من الاحتياطات الكاملة التي اتُّخِذت في أثناء الاختبار، بحيث لم يكن ثَمة شكٌّ في وجود حِيَل من أي نوع توحي إلى الحصان بمعرفة الإجابة.»

وعلى هذا نجح الحصان في الامتحان نجاحًا باهرًا وهلَّل لهذه النتيجة جميع أولئك الذين كانوا يؤمنون بذكائه، وعلى رأسهم صاحب الحصان بالطبع.

على أنه لم تمضِ سوى بضعة أسابيع من كتابة اللجنة تقريرَها حتى تمكَّن أحد العلماء من أن يُثبِت أن الحصان الشاطر هانز لا يفكر تفكيرًا حقيقيًّا، فقد سأل الحصان أسئلة لم يعرف أيٌّ من الحاضرين الجواب عليها، وذلك بأنه عمد إلى كتابة الأسئلة على بطاقات، وكان يضع البطاقة أمام الحصان بحيث لا يراها أحد حتى السائل نفسه، وعندئذ سقط الحصان في الاختبار سقوطًا شنيعًا، ولم يستطع أن يجيب على أيٍّ من الأسئلة المطروحة عليه حتى أبسطها، بل راح الحصان يدق الأرض بإحدى قائمتيه إلى ما لا نهاية، وكان يبدو عليه كأنما هو في انتظار إشارةٍ تطلب منه التوقُّف عن العدِّ، كما بدا على الحصان أيضًا أنه لم يكن يُعِير التفاتًا كبيرًا للسؤال بقَدْر ما كان جُلُّ همِّه منصبًّا على صاحب السؤال، وسرعان ما فهم العالِمُ المُمتحِن مغزَى تلك الإشارات، فهي تتكوَّن من حركات ضئيلة غاية في الضآلة وبشكل عجيب، تبدو على صاحب السؤال عندما كان يعرف السؤال ويعرف عدد الدقات التي ينبغي أن يقوم بها الحصان، فإذا ما وضعتَ نفسك في مكان السائل وسألت الحصان عن مسألةٍ ما، فإنك تبدأ على التوِّ في حلِّ المسألة وتتوصَّل إلى الجواب عليها، وعندما يبدأ الحصان في الدق ويصل إلى العدد الذي استقرَّ في ذهنك فسوف يختلج وجهُك وتبدو منه إشارةٌ ما، أو تبدو من رأسك أو جسمك إشارةٌ ما، قد تكون ضئيلة غاية في الضآلة، وقد تكون خفيَّة لا يحسُّ بها أحد من الحاضرين، غير أن الحصان يدركها منك ويقف عن العدِّ، فيعطيك الإجابة الصحيحة!

ولكي يتأكَّد العالِمُ الممتحِن من سلامة تفسيره، فقد استطاع أن يجعل الحصان يعطي أيَّ جواب يريده هو، أي الممتحِن، ففي رأيه إذن أن الحصان، وهو يدرس الحساب، كان يقرأ في وجه مدرِّسه الخَلَجات التي تبدو فيه، أو الإشارات التي كان ينمُّ عنها رأسُه أو جسمه عندما يصل إلى الإجابة الصحيحة، على أن الممتحِن لم يتمالك من إظهار إعجابه الشديد بمقدرة الحصان الفائقة، بل غير العادية، في إدراك تلك الحركات الضئيلة والغاية في الضآلة، ولم يستطع أن يجد لها تفسيرًا.

وقد علَّقَ أحد السيكولوجيِّين المبرَّزين على قصة الحصان الشاطر بقوله: «إن المقدرة الفائقة على التدريس التي توفَّرت لدى صاحب الحصان الشاطر وصبره الذي لا مثيل له، لم يُغنِيا فتيلًا في إذكاء أي تفكير إدراكي في الحصان.»

وهكذا ظلَّ الجدل يدور حول مقدرة الحيوان على التفكير بين التأييد والإنكار، ثم ركد الموضوع إلى حين، على أنه عاد من جديدٍ بظهور تقارير منشورة عن مجموعةٍ من الخيول عُرِفَت باسم «خيول إلبرفلد»، وقد بزَّت هذه الخيولُ الشاطرَ هانز، بل لعلها تفوَّقت على كثير من البشر إذا ما نحن صدَّقنا التقارير المنشورة عنها، فقد قيل عن هذه الخيول إنها مستطيعة أن تستخرج الجذور التربيعية لعددٍ كبير من الأرقام، بل وأن تحلَّ مسائلَ حسابيَّة مُعقَّدة مثل:

على أن مقدرة تلك الخيول لا تتضح من مجرد وصف المسائل الحسابية التي كانت تحلُّها وحسب، وإنما تكمُن مقدرتها الحقيقيَّة في المدة التي أمضتها في تعلُّم الحساب؛ فقد كان عمر تلك الخيول يتراوح بين عامَيْن وعامَيْن ونصف عام، وجِيء بها من حظيرة خيول ومُنِعت من الاختلاط بالناس. وبدأ تعليمها في اليوم الثاني من شهر نوفمبر، ثم استطاعت أن تحلَّ مسائل بسيطة كتلك التي أوردناها على سبيل المثال في شهر مايو من العام التالي، وهذا يعني أن تعليمها استغرق نحو ستة أشهر فقط.

على أن الخيول كانت قادرةً على حلِّ مسائل الجمع والطرح والضرب في الرابع عشر من نوفمبر؛ أيْ بعد اثني عشر يومًا فقط، وكانت ساعات الدراسة لا تعدو ساعةً ونصفًا في كلِّ يوم؛ أي إنها تعلَّمت المسائل الحسابيَّة الأوليَّة في ثماني عشرة ساعة فقط!

على أنه إذا ما حلا لنا أن نحكم على هذه البراعة فلْنُجرِ موازنةً بين هذه الخيول والبشر؛ وذلك بأن نتصوَّر أننا أوفدنا رجلًا أُميًّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة إلى بلدٍ لا يعرف لغةَ أهلها كالصين أو اليابان مثلًا، ثم كلَّفنا أستاذًا ماهرًا من أهل تلك البلاد بأن يعلِّم ذلك الرجل أصولَ الحساب، وسوف يعلِّمه إيَّاها بالإشارة بالطبع، فكم من الأيام يمضيها هذا المعلم في تعليم ذلك التلميذ الأُمِّي إذا ما أمضى معه ساعة ونصفَ ساعةٍ في كلِّ يوم؟

على أن خيول إلبرفلد كانت في موقف أسوأ من ذلك التلميذ الأُمِّي؛ لأن التلميذ قد يفهم من مدرسه مع مضي ساعات تعليمه بعض الكلمات ومَغْزاها، بينما الخيول لن تفهم من مخارج الكلمات شيئًا؛ لأنها لا تعني في الواقع شيئًا يُذكَر بالنسبة لها، وسوف يصعب علينا أن نتصوَّر بشرًا يبلغ من الذكاء درجةً يصل بها إلى مستوى خيول إلبرفلد في وقت قصير كهذا، وفي مأزق من الجهل بلغةِ أستاذه!

ومهما يكن من أمرٍ فقد حقَّقت الخيول الشيءَ الكثير، وإن ما فعلَتْه لا دخلَ له فيما نسمِّيه بالتفكير المجرد في الإنسان، وبطبيعة الحال يكون من الخطل في مجال العلم التجريبي المجادَلة من الاعتبارات العامة في أن شيئًا ما مستحيل؛ ذلك أنه من أيسر الأمورِ القولُ عن شيء بأنه مستحيل عندما لا نريده أن يكون صحيحًا. على أنه في المثال الحاضر لا بُدَّ من إجراء تجربة، وقد ثبتت صحة هذه الحجة بالدليل الذي قدَّمه الخبير الدانمركي إيدلبرج عن خيول إلبرفلد، فقد اختبر هذا الخبير السيكولوجي الخيولَ واستطاع في النهاية أن يقف على سرِّها؛ فقد كان الحصان منها يعرف جواب المسألة المطروحة أمامه من إشارةٍ طفيفة جدًّا تبدو من حارسه الذي درَّبه وعلَّمه الحساب، فإذا ما غاب هذا الحارس في أثناء الاختبار لما استطاع الحصان أن يُجِيب على أيٍّ من الأسئلة المطروحة أمامه، بل إن الخبير إيدلبرج فهم وسيلة الحارس واستطاع بها أن يحصل من الحصان على الإجابة التي يريدها، خطأً أم صوابًا.

وعلى الرغم من فضح سرِّ الحصان الشاطر هانز وخيول إلبرفلد، فإنه لا يزال يحلو لأصحاب السيرك أن يدرِّبوا خيولهم على نفس المنهاج، ويقدِّموها في أثناء العرض على أنها حاسبة ماهرة، ويختاروا من بين النظَّارة مَن يطرح على الحصان سؤالًا فيجيب عليه بدقِّ الأرض بإحدى قائمتَيْه الأماميتَيْن عددًا من المرات يساوي الإجابة الصحيحة، فينتزع من الجمهور الإعجابَ الشديد بالتصفيق الشديد، وقد شاهدت هذا في سيرك توني الذي زار القاهرة منذ بضع سنين.

على أن قصة الشاطر هانز أو قصة خيول إلبرفلد أو غيرها من الخيول، قد أثارت في الأوساط العلمية المعنيَّة بدراسة السيكولوجية جدلًا واسعًا، وانقسم السيكولوجيون فيما بينهم إلى فريقين:

فريق يرى أن الحيوان مجرَّد من الوعي أو العقل من أي نوع، ورأيُ هذا الفريق ليس جديدًا، وإنما يذهب إلى ديكارت الذي كان يعتبر الحيوانات مجرد آلات ذاتية الحركة، أما الفريق الآخر فكان من رأيه أن الحيوان مُهيَّأ بجميع مميزات البشر العقلية، ويُعرَف هذا الرأي بمذهب التشبيهيَّة الإنسانيَّة Anthropomorphism، وهو مذهب قديم أيضًا لم يبدأ مع نظرية داروين عن نشوء وأصل الأنواع، بل إلى ما قبل ذلك بكثير، وكثيرًا ما كان ينحو العامة نحو الموازنة بين الإنسان والحيوان فيتحدثون عن «الأسد النبيل» أو «النمر الشَّرِس» أو «الثعبان اللئيم» أو «الحمامة الوديعة»، ويتَّخذون من الأخيرة رمزًا للسلام، بل ويصفون أفرادًا من البشر بأن لهم سَحْنة «القرد» أو «الحمار» أو «ابن عرس» وهلم جرًّا.
وقد تأثر كثير من العلماء المشهورين بمذهب التشبيهيَّة الإنسانيَّة هذا، وربما يطيب لنا أن نقرأ ما كتبه أحدُ أولئك وهو العالم الألماني المشهور بريم Brehm — صاحب الموسوعة الكبيرة عن حياة الحيوان — عن الصفات السيكولوجية العامة للثدييات، فيقول بريم: «إن للثدييات ذاكرة وذكاء ومزاجًا، وكثيرًا ما تكون لها شخصيات فرديَّة محددة، كما يمكنها أن تفرِّق بين الأشياء وأن تَعِي الفروق في الزمن والحيِّز واللون والنغم، كما أنها قادرة على أن تتعرَّف على الأشياء وتحكم عليها، ثم تتعقَّل وهي تعرف الأخطار وتفكِّر في الطرق التي تتجنَّبها بها، وهي تُظهِر الحبَّ والكراهية وتحب الأليفَ والصغار، وتعبِّر عن الشكر والولاء، والاحترام والازدراء، والغضب والرقة، والمكر والمهارة، والأمانة والخيانة، والحيوان الماهر يحسب للأشياء حسابها قبل أن يُقدِم على شيء منها، والحيوان الحسَّاس الشهم! يُخاطِر بحياته وحريته طوَعًا ليُشبِع حاجاته الغريزيَّة، وتحرص الثدييات على الحياة الجماعية حرصًا شديدًا وتضحِّي بذواتها من أجل خير المجموع، وهي تكبح من شهواتها وتصبر على الحرمان، كما يظهر فيها استقلال للإرادة وقوة العزيمة.»

•••

وثمة مثالٌ آخَر نقرؤه عن فون أليش الذي وصف به كيف تتجه الشمبانزي (البعامة) الأم نحو صغيرها وتنظر إليه، «فجميع ما في الصورة يبدو إنسانيًّا بحتًا، فالأم جالسة هنالك وصغيرها بين ذراعَيْها، وعلى حين فجأةٍ ترفعه إلى أعلى وتحرِّك رأسَه نحوها ثم تملي منه ناظرَيْها في صمت، ويصعب على المرء أن يراقب هذا المنظر بدون أن يفكِّر في أن الأشياء التي فعلَتْها البعامة لا يمكن إلَّا أن تكون إنسانيةً تمامًا.»

وقد قصدت من التمهيد للكتاب بهذه القصص أو تلك التعليقات عن وعلى الحيوانات، أن أطرح على القارئ أمثلةً من سلوكها لعله قد وقف على تنوُّعها بعض الشيء، وإن كان الحديث على هذا المنوال وإظهار التعجُّب من طبائع الحيوان أو الإعجاب به، لن يقرِّبَنا من فهم موضوع سلوكه قليلًا أو كثيرًا؛ وعلى ذلك فينبغي لنا أن نبدأ عند هذا الحدِّ في دراسته دراسةً مرتَّبة منظَّمة كأيِّ علم من علوم المعرفة البشريَّة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤