في أصول الإنشاء

١

ليس في الأدباء والمتأدبين من لم يسمع، على الأقل، بكتاب «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر»، والمعروف أنه من أمهات كتب الأدب العربي. لكن قلَّ فيهم أيضًا، حتى الذين تدارسوه، مَن حفظ اسم مؤلفه، كذلك أنا: لقد قرأت الكتاب في ليالٍ معدودات، متحدثًا إلى صاحبه كأني أعرف من هو، ثم لا أدري كيف رجعت إلى الصفحة الأولى لتأخذ عيناي هذا الاسم الكريم: ضياء الدين أبي الفتح نصر الله بن محمد بن محمد بن … الخ. فقلت: لأمر ما جدع اسم الرجل — رحمه الله — وعرف بصاحب المثل السائر.

من فصول «المثل السائر»، تأليف … ذلك العلامة الفاضل، فصل في الطريق إلى تعلم الكتابة، نقتطف منه هذه النبذة: «فيقوم — أي الكاتب — ويقع، ويخطئ ويصيب، ويضل ويهتدي، حتى يستقيم على طريقة يفتتحها لنفسه، وأخلق بتلك الطريقة أن تكون مبتدعة غريبة لا شركة لأحد من المتقدمين فيها: هي طريق الاجتهاد، وصاحبها يُعدُّ إمامًا في فن الكتابة، كما يعد الشافعي وأبو حنيفة ومالك من الأئمة المجتهدين في علم الفقه، إلا أنها مستوعرة جدًّا، ولا يستطيعها إلا من رزقه الله لسانًا هجامًا، وخاطرًا رقامًا …» يذكرني هذا القول بما في الجبل من الطرق: هنالك الطريق الرَوْد الرحبة المطمئنة، وهنالك الطريق الصعبة الضيقة المستوعرة. ولا خلاف في أنَّ الذين يسلكون الجدَد هم أكثر من الذين «يُقوْدمون».

يزعم صاحب المثل السائر أنه توصل بعد العناء الشديد إلى الطريق الصعبة، فسلكها آمنًا العثار، والحق أني لم أجد في الكلام الكثير — كلامه — الذي يؤيد به زعمه ما يكفي لإقناعي، لكن هذا لا يقدح في رأيه الجيد الذي أتيت على ذكره، فإن مدح الرجل نفسه شيء، ومدحنا رأيه شيء آخر كما يقولون.

وبعد؛ فماذا عنى بقوله: «لسان هجام وخاطر رقام»؟ لا إخاله عنى غير الجرأة على الألفاظ والمعاني، فإن لم يكن كذلك فهو لم يجئ إذن ببدع من القول. بيد أنَّ الجرأة على الألفاظ وتراكيبها، سواء في الشعر أم في النثر، لا تكون — أو لا تصح أن تكون — إلا من عارف باللغة، عريق في أساليبها، وذلك هو الكاتب أو الشاعر الذي نقول حينما نقرأ له معجبين: «ما لهذه اللغة في يده كالعجينة يصنع منها ما يشاء، ليعطينا خبزنا اليومي نحن الفقراء؟!» وأما الجرأة على المعاني فلا تكون إلا من امرئ يأتي إلى هذه الدنيا وكأنه ليس من أهلها، فيقول الناس إنه ساحر أو إنَّ به مسًّا من الشيطان. وما «عبقر» إلا موضع يكثر الجنُّ فيه، ثم نسب العرب إليه كل شيء تعجبوا من قوته وجودته وحسنه، فقالوا: «العبقريُّ والعبقرية.»

ينصح صاحب المثل السائر متعلم الكتابة بحفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وعدة من دواوين فحول الشعراء. و«الحفظ» هذا كان له في ثقافة العصور السالفة شأن عظيم، وقد وجد أيضًا في علماء البيان المتقدمين من أشاروا على متعلم الكتابة بأن ينسى ما حفظه؛ لئلا يغلب عليه التقليد، فلا يظهر طبعه ولا يُعرف إبداعه.

وربَّ قائلٍ: إنَّ العبقرية هبة من الطبيعة لا يجدي المحروم منها حفظه مهما اتسع، ودرسه مهما عمق، بل إنَّ كثرة الحفظ والدرس قد تقتل عنده ملكة الابتكار والتوليد، وتجعل منه رجلًا من حبر وورق، لا من لحم ودم.

هذا قول حق لا نجادل فيه، فإن كثيرًا من كتابنا هم ذلك الرجل المسيخ الذي لو قطعت شرايينه لما أخرجت إلا حبرًا، ولو مزقت لحمه لما أخذت إلا ورقًا. ولكن ليس بالفنان العبقري كل من أراد أن يكون كذلك، والعبقري نفسه مدين للذين تقدموه أجمعين، بل لعله أكثر الناس دينًا كما أنه أكثرهم غنًى، وهو ما عناه أحد كتاب الفرنسيس بقوله ناظرًا من هذه الناحية: «النبوغ أو العبقرية صبر طويل.»

بيد أنَّ هذا لا يمنع من أنَّ الكتابة فن له قواعد وأصول، وضعت بعد الاختبار الطويل، ينبغي أن تُدْرَس وتُجاد معرفتها للعمل بمقتضاها، ومن أنَّ للكتابة نماذج باقية على الزمان، ينبغي أن يُنظر فيها بتذوق وروية وإمعان.

والشرط الأساسي أولًا وآخرًا هو أن يستمد المرء عناصر فنه وأدبه من الينبوعين اللذين لا يشحُّ سلسبيلهما أبدًا؛ أعني الكون والحياة: كون لا تنفد روائعه، ولا تُحدُّ صوره، وحياة لن تزال متطورة ومتحولة، فكأنه بعث مستمر في خلق جديد.

يقول أناتول فرانس: «لا ينبغي للصغار أن يقرءوا في الكتب. يوجد أشياء كثيرة جديرة بأن يروها ولم يروها: البحيرات والجبال والأنهار، والمدن والأرياف، والبحر ومراكبه، والسماء وكواكبها.» وليست نصيحته هذه للصغار وحدهم بل للكبار أيضًا. من منا يستطيع أن يقول: «لقد كبرتُ على هذا الكون وعلى هذه الحياة … هما كتابان لا بأس بهما، لكن انتهيت من قراءتهما. ماذا تريد؟ إني «ختمت» …» من يستطيع — بالله عليك — أن يقول هذا إلا رجل من ورق وحبر!

٢

أكثر أدبائنا — ولا أغالي — حقيقون أن يبيتوا كشافة قبل أن يصبحوا أدباء، الكتاب منهم والشعراء. بل إني أذهب إلى أبعد من هذا فأقول: من الواجب عليهم إذا أرادوا حقًّا أن يكونوا كتابًا وشعراء أن يجتازوا أولًا مدرسة الكشاف، فإنهم في هذه المدرسة قد يكتسبون الصفات والمزايا اللازمة لكل أهل الفنون، أو ينمون هذه الصفات والمزايا إن تك كامنة فيهم.

لو شئت يومًا أن أتمثل الأديب في بلادنا، أو أن أتخيل أنموذجًا وسطًا لأدبائنا، لما قامت في ذهني إلا صورة واحدة هي صورة رجل من ورق وحبر، ولا تكاد تجدُ فرقًا إلا في لون الحبر ونوع الورق. سلْ هذا «الآدمي» الآن عن حواسه الخمس وعن يقظتها، وعن نهمها وعن ظمأها، وسط مجالي الطبيعة وأحداث الحياة، يقلْ لك بسذاجة لا حدَّ لها: «هل غادر الشعراء؟» أو هو في الأغلب لا يجيبك بشيء؛ لأنه لم يفهم ما أردت. والسعيد السعيد من وجد تحت إبطه بيتًا من الشعر أو مثلًا سائرًا، فتناوله بخفة ورشاقة، فلا يسعك إلا أن تقول معجبًا رغم أنفك: «لله! ما أسرع خاطره! وما أجود حافظته!» ثم تصافحه مودعًا، فلا يسعك إلا أن تقول: «أُفٍّ له! لقد ترك في يدي أثرًا من حبره وريحًا من ورقه.» بيد أنه غدًا — ومن يجيرنا من الغد؟ — سيطلع علينا بقصيدة من نظمه، أو يهبط بمقالة من نثره، فيطعننا بها طعنة مميتة، لولا لطف الله بعباده.

إنَّ الكاتب أو الشاعر الحقيقي يستمد من الطبيعة والحياة أولًا وآخرًا، فإذا كان ثمة معين لا يشحُّ ماؤه ولا تنفد مادته، فذلك هو لا مراء. أما الأديب أو المتأدب الذي يحسب أنَّ في دراسة الكتب وسعة الرواية ما يكفي لجعله شاعرًا مفلقًا وكاتبًا مبدعًا، فقد ضلَّ سبيلًا؛ إذ إنَّ هذا دون الكفاية. والأديب حقًّا من كان على اتصال دائم يقظ بهذا الوجود الذي يحدِّث عنه، وبهؤلاء الناس الذين يتحدث عنهم إليهم، وهل الأدب إلا حديث عن الناس وعن الوجود؟! ذلك هو الأديب حقًّا وصدقًا، لا كما عرَّفته عصور الصناعة بأنه راوية للشعر، حافظة للأمثال، محيط بالأخبار، آخذ من كل فنٍّ بطرف وهلم جرًّا. ليكن في إحاطته بالأخبار كالأوقيانوس، وفي روايته للشعر كألف ديوان، وفي حفظه الأمثال كمجموعة الميداني، وفي أخذه بأطراف الفنون كشبكة الصياد، فهو وشأنه. لكن هذا كله لا يساوي عندي قليلًا من الخبرة المباشرة الشخصية بالحياة والناس، وشيئًا من الاتصال الحقيقي الحيِّ بالطبيعة والوجود.

ومن هنا رأيُ عامة الناس في الأديب واستخفافهم به، حتى ليكادوا ينظرون إليه نظرهم إلى طفل لا يعرف من الحياة قليلًا أو كثيرًا، فإذا قذفت به الأقدار يومًا في ذلك البحر الزاخر كان لا محالة من المغرقين. وهو رأي عامة الناس، لا سيما أولئك الذين تستغرقهم حياة الكسب والعمل، كالتجار وأرباب الصناعات. فإن هؤلاء لا يتحدثون إلى شاعر، بل لا ينظرون إليه إلا أزهرت على شفاههم بأسرع من لمح البصر ابتسامة ذات مغزى: «هذا مخلوق عجيب يعيش في قافية كما تعيش دودة الحرير في شرنقتها!»

في مدرسة الكشاف يتعلم الأديب — إن شاء الله — أنَّ الطبيعة والحياة والناس أشياء لها وجود حقيقي، ولها قيمة، فلا تُعدُّ العناية بها عبثًا ولهوًا وإنفاقًا للعمر في غير طائل. وفيها يتعلم أنَّ الحياة في الطبيعة ومع الناس — على الأقل بقدر ما يعيش في الكتب — حياة جديرة بأن يحياها، حسبُهُ منها أنها تحول دون مسخه رجلًا قرطاسيًّا، بل حسبه منها أنه إذا لم يُقدر له أن ينفع بأدبه، فقد انتفع هو بعمره.

لا بأس … لا بأس بأن يظل «الأديب» رجلًا من لحم ودم!

٣

يقول أحد كتاب الفرنسيس: إنَّ للأدب قديسين أخيارًا ضحوا من أجله بحياتهم كلها، أمثال بلزاك وفلوبير، وإنَّ له شهداءَ أبرارًا أمثال الشاعرين بودلير وفرلين، وإنَّ في ساحته المنصورين الأمجاد، أمثال كورناي وراسين وشاتوبريان وهوجر، فيجب أن نحتفل في كل فرصة؛ تكريمًا لفضائل رجال الطبقة الأولى؛ طبقة القديسين الأخيار، ولضروب العذاب التي لقيها رجال الطبقة الثانية؛ طبقة الشهداء الأبرار، ولعظمة الطبقة الثالثة؛ طبقة المنصورين الأمجاد.

ويريد الكاتب الفرنسي بهذا تشجيع الأدباء الأحياء، وتثبيت قلوبهم في معمعان الحياة الأدبية؛ ليصبروا على الشدائد؛ وليؤملوا خيرًا من المستقبل إذا بخسهم الحاضر حقهم في ذيوع الصيت ورفعة المقام. ذلك أنَّ تنازع البقاء في عالم الأدب بالغ أشدَّه عند الغربيين، فلا يفوز في مضماره إلا نفر قلائل، في حين أنَّ المغمورين لا يحصيهم العد. ويقول الكاتب الفرنسي أيضًا: «ينبغي إذن أن يكون لطائفة الأدباء دين، فلولا إيمانهم بالفن والجمال لكانوا يرزحون بأعباء الحياة، ويضيقون ذرعًا بما يعانون من بأسائه.»

وقديمًا شكا أدباء العرب من حرفة الأدب، ولعنوا «شق القلم» الذي يقطر منه الرزق الشحيح بما لا يقيم الأود … شكوا، لكنهم ظلوا أدباء لا ينتقلون من هذه الحرفة المشئومة إلى غيرها من الحرف المباركة. فكأنما في الأدب سحر لا رقية منه. كدت أقول: كأنه داء ليس يبرأ المصاب به. ولا ريب أنَّ الأديب يجد في الاشتغال بالأدب لذة ونعيمًا، هما كل نصيبه من لذات العيش ونعيم الدنيا، أو هما أفضل نصيبه، إن يك مقدرًا له أن يجد اللذة والنعيم فيما سوى الأدب.

بل ما لي لا أقول إنه داء، وهو عشق كسائر أنواع العشق، يتيم المرء ويملك عليه لُبَّه ومشاعره، ويستغرق قواه جميعًا؟! وإذا كنت في فصل سابق سخرت من الشاعر الذي يعيش في قافية، كما تعيش دودة الحرير في شرنقتها، وأنحيت على الأديب باللائمة الشديدة؛ لأنه لا يكاد يصلح لهذه الحياة العملية فهو فيها حاضر كالغائب؛ ولأنه في غفلة عن الدنيا وما فيها، كالنائم المفتوحِ العين، الشاخصِ البصر؛ فقد رميت إلى غير ما نحن في صدده الآن. أردت حينذاك أنَّ أدباءنا — إلا ما ندر— لا يعنون بمادة أدبهم العناية المطلوبة، وما تلك المادة إلا مشاهدات الأديب واختباراته لما حوله ولما في نفسه، فإن انفعالاته وسط مجالي الطبيعة وأحداث الحياة، والصور والأفكار التي تقوم في ذهنه لدى كل مشهد وكل حادث كنوز غالية تخزنها الأيام في حافظته، وقيمتها في أنها الصلة النابضة بين أدبه وبين الطبيعة والحياة. إنَّ أدباءنا لا يعنون بمادة أدبهم، ولا يكنزون المشاهدات والاختبارات، ولا يهتمون بأن يصلوا ما بين أدبهم وحياة الناس الذين عندهم ينفق هذا الأدب أو يكسد وليس في المريخ. إنَّ أدباءنا يوفرون عنايتهم على الألفاظ الطنانة والتراكيب الجاهزة، فهم نسخٌ لا تكاد تختلف نسخ عن كتاب واحد، نسخ متشابهة.

هذا ما أردته حينذاك.

أما كون الأديب قد يحب أدبه أو فنه حبًّا يستغرق قواه جميعًا ويستنفدها، حبًّا يملك عليه لُبَّه ومشاعره، حتى ليضحي من أجله بحياته كلها سعيدًا ناعمَ البال، ولا يهمه إلا أن يخرج للناس آية فن باقية على الزمان، فطوبى لأمة تنجب مثل هذا الأديب! والكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير الذي ذُكِرَ اسمه في رأس هذا الفصل بين قديسي الأدب هو ذلك الرجل: كان لا إله واحد عكف على عبادته وعلى خدمته آناء الليل وأطراف النهار، وكان الأدب إلهه المعبود، لكنه كذلك عاش كثيرًا ورحل رحلات كثيرة، دام بعضها شهرين كاملين مشيًا على قدميه، وكان يحمل هراوةً وكيسًا ودفترًا من الورق الأبيض سوَّده بسرعة.

«هذه رحلة أديب؛ رحلة في سبيل الأدب، وهذا فلوبير من أئمة الأدب الفرنسي «في مدرسة الكشاف».» فلما عاد من رحلته اعتكف في داره مترهبًا، مخلصًا وجهه لفنه الحبيب، وللطرفة الأدبية التي يريد إخراجها. ولدينا من ذلك العهد رسالة كتبها إلى إحدى صواحبه يقول فيها: «أنفقت ثماني ساعات على تنقيح خمس صفحات، وأرى أني اشتغلت جيدًا.» لقد جُمِعت رسائل جوستاف فلوبير في أربعة أجزاء ضخمة، وغالبًا ما يقع القارئ على مثل هذه الجملة التي أزفها إلى كتابنا وشعرائنا العباقرة الجبابرة؛ راجيًا أن لا يبالغوا في احتقار ذلك المجتهد المسكين الذي عاش كثيرًا، وجرب كثيرًا، ورحل رحلات كثيرة، ثم أقر في غير خجل بأنه أنفق ثماني ساعات على تنقيح خمس صفحات.

٤

الآن وأنا لأول مرة في حضرة هذه الآلة العجيبة التي يسمونها (الراديو)، يخيل إليَّ أني أوتيت، بضرب من السحر، قدرة خارقة لا عهد لي بها من قبل، كجبار من جبابرة الأساطير تأخر عصره، فهو ماثل على شفير الأبعاد، بين سمع الزمان وبصره، يرسل صوته في المجهول … فهذا الصوت وكأنه كائن ذو وجود ذاتي تركني وراءه كالمشدوه، وأخذ يطوف وحده في الآفاق على غوارب الأثير، طويلًا عريضًا، سمينًا هزيلًا، متبددًا متجددًا، متقطعًا متصلًا، وكأنها نفخة الصور. قلنا إنه ضرب من السحر، فهل أنتم مصدقون؟

ولله! ما أشد قصاص الحياة إذا قاصَّت! وما أبلغ نكاية الأقدار حين تُغرى بالنكاية! فكثيرًا ما طبت نفسًا بالهمس الخفيف، والتورية الخفية، ولحن الكلام الذي مدحه بشار بقوله:

وخير الكلام ما كان لحنًا …

فها أنا أقف هذا الموقف على شفير الأبعاد، وأرسل ذلك الصوت في غيابة المجهول، وأمسي في خبر كان من أساطير الأولين، وهذا جزء مني قد يكون أخصَّ ما بي، ينفصل عني ويستقل بوجوده، كالرجل الذي يتركه ظله في قارعة الطريق، حردان غير واقف لوقوفه، ولا متحرك لحركته، وهذه الآلة الخبيثة الماجنة تطول الصوت وتعرضه، وتسمنه وتهزله، وتبدده وتجدده، وتقطعه وترقعه، وأنتم تسمعون!

ولكن لا بأس علينا، فأنا أعرف كيف أثأر لنفسي، إذ أجعل أول رسالة (أو ألوكة) يحملها عني الراديو إلى أبناء الضاد في تحية الكتاب، وأعني القراءة، ذلك أنَّ نفرًا من أدباء الغرب وحكمائه يزعمون أنَّ من الراديو خطرًا على الكتاب، كما كان من السينما خطر على المسرح، فهم ينادون بالويل والثبور، وعظائم الأمور.

ليس من شأننا في هذا الشرق الأدنى الفصل في تلك القضية المركبة وأمثالها التي تثار في ديار الغرب جيلًا بعد جيل، فإن قضايانا — ولله الحمد — ما زالت بسيطة، ودليل ذلك أنَّ في الغرب أناسًا ينعون الشعر كل عام، ويقيمون حول قبره المناحات، مرتاعين من طغيان المادة على الروح، ونحن نشهد أنَّ الشعر عندنا حي يرزق، رغم أنَّ أهله لا يرزقون، وقد غلا بعضهم في هذا الزعم غلوًّا كبيرًا، فتنبئوا بأن الراديو سيلاشي حتى الصحف السيارة والعياذ بالله، إذ يعيضنا عن الجريدة التي تقرأ بالجريدة التي تسمع. ولكن أكبر الظن أنَّ هذا الراديو لا تسول له النفس الأمارة ارتكاب تلك الجرائم، كل تلك الجرائم، وأنه لن يلاشي شيئًا. إن هي إلا حاجة جديدة يضيفها الإنسان إلى حاجاته الأولى، وقد لا تكون هذه المدنية التي ننعم فيها ونشقى، غير مصنع دائم لحاجات جديدة وآلات مستحدثة.

بعد هذه المقدمة التي أقول إنه لا بد منها، وتقولون إنكم في غنى عنها، بعد هذه المقدمة المختلف فيها، وقبل ولوج الموضوع المتفق عليه؛ أحب أن أذكر لكم اسم كاتب يكاد يكون منسيًّا، لا لأنه عاش منذ ألف عام، بل لأنه فيما عدا ذلك كتب في مواضيع خاصة لا يقبل عليها عامة القراء، وهي أصول الإنشاء، ولأبي الفرج قدامة بن جعفر كتيبان، أحدهما في «نقد الشعر» والآخر في «نقد النثر» يتضمنان بضعة عشر رأيًا جديرة بالروية، لكنها مطوية، قلما يعنى بها أدباء هذا العصر، فهي كقطع الذهب القديمة الدفينة في بطن الأرض، بل في خزائن الصيارفة، والناس محرومون تداولها، وكأني بها تنتظر من يكلف نفسه عناء استخراجها، وإظهار رونقها وصفائها، وطرحها في السوق، بل يمكن القول إنَّ كثيرًا من الآراء الغريبة شكلًا، الجديدة زيًّا ومظهرًا، التي نتلقفها من كتب الغرب، قد نجد لها أصولًا في كتب السلف المهجورة، بمعنى أنه إذا راقتنا وأعجبتنا، فهل يؤذينا أن نصل بينها في زيها العصري الحديث، وبين ما في تقليدنا من نوعها، أم تكون بالضد أجدى علينا وأمثل بنا؟

إنَّ قدامة بن جعفر يستهل رسالته في «نقد الشعر» بقوله: «ومما يجب تقدمته وتوطيده قبلما أريد أن أتكلم فيه أنَّ المعاني كلها معرَّضة للشاعر، وله أن يتكلم منها فيما أحب وآثر، وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان من الرفعة والضعة، والرفث والنزاهة، والبذخ والقناعة، وغير ذلك من المعاني الحميدة والذميمة أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة.»

ألا ترون في هذا الشرح الموجز خلاصة حسنة، أو بالأقل إشارة صريحة إلى نظرية «الفن للفن»، التي قام لها أهل الفكر في ديار الغرب وقعدوا من زمن غير بعيد، لا سيما ما قد يستنتج من هذا الرأي، وهو أنَّ الفنون — وفي جملتها الأدب — تكون بالأصل مجردة خلوًا من كل هم أخلاقي أو وعظي أو تعليمي؟ للشاعر وللناثر أن يتناولا أي المعاني شاءا، وأي المواضيع أحبا، بشرط أن يتوخيا الإجادة وأن يجيدا.

يقول قدامة بن جعفر أيضًا في موضع آخر من كتابه «نقد الشعر»: «إنَّ الشاعر ليس يوصف بأن يكون صادقًا، بل إنما يراد منه إذا أخذ في معنى من المعاني كائنًا ما كان أن يجيده في وقته الحاضر، لا أن ينسخ ما قاله في وقت آخر.»

ولعمري إذا لم يكن الأمر كذلك فكيف تريدون أن يكون شكسبير عطيلًا وديدمونة وكاسيو وياغو على السواء في قصة واحدة؟ ثم كيف والشاعر الإنكليزي خلق في قصصه المسرحية عالمًا برمته، حشد فيه الشخصيات المتنوعة المتضادة؟ حتى قال إسكندر دوماس الأب: «إنَّ شكسبير بعد الله سبحانه هو أكثرنا خلقًا.»

وهذه النظرية، نظرية الكذب في الفنون والآداب، عُني بها في الزمن الأخير أوسكار وايلد، حتى جعل منها مذهبًا قائمًا بذاته، وهو يؤكد لنا أنَّ وظيفة أهل الفن أن يخترعوا لا أن يؤرخوا، وأنهم ليسوا مطالبين بأن يصفوا لنا الوقائع كما هي على علاتها، فهذا أمر يطلب من مخبري الصحف وشهود المحاكم وأضرابهم.

يقول وايلد إنَّ ثمة عالمين اثنين: أحدهما موجود، ولا ينبغي لنا أن نتكلم عنه كي نراه؛ لأننا فيه نعيش، والآخر هو عالم الفن الذي ينبغي أن نتحدث عنه، وإلَّا لم يكن له وجود. ذلك أنَّ وايلد عاصر دعاة المذهبين الواقعي والطبيعي في الآداب والفنون، وكان همهم تصوير الواقع تصويرًا شمسيًّا، وتقليده تقليدًا صرفًا، فهاله يومذاك وحزَّ في نفسه ما يسميه «انحطاط الكذب في الفنون»، وأخذ يدعو الشعراء والكتاب، وبالجملة أهل الفن، إلى إحياء «فن الكذب الذي أضاعه أهله». ويقول إتيان راي: «الكذب خَلْقٌ» أو إبداع. وهو بهذه الكلمة الموجزة الكلية يبدأ كتيبه في فضل الكذب، كأنما مزية الخلق هذه رأس المحاسن التي ترفع من شأنه. أضف إليه تعريفه الكذب، ذلك التعريف الجامع المانع: «هو إخبار بغير الواقع عن قصد وروية.» وقد استعمل العرب «اختلق» في المعنى ذاته ومن المادة عينها، وقال شاعرهم:

من كان يخلق ما يقو
ل فحيلتي فيه قليلة!

وكان نقدة الأدب من العرب يقولون: «من فضائل الشعر أنَّ الكذب الذي أجمع الناس على قبحه حسن فيه، وحسبك ما حسَّن الكذب واغتفر له قبحه.» ولعلهم كانوا يعنون بهذا القول غلبة المديح الكاذب على سائر أنواع الشعر في عصور الزلفى إلى الملوك والأمراء، بينما يرمي دعاة هذا المذهب في الغرب إلى أبعد من ذلك؛ إذ يعنون أنَّ الأديب الذي ينظم قصيدة أو يؤلف قصة إنما يخلق عالمًا خياليًّا مختلفًا عن عالمنا الحقيقي على وجه ما، وأشخاصًا غير الأشخاص الذين يروحون ويغدون في هذه الدنيا على مشهد منا، وبعبارة أوضح: إنَّ العالم الذي ينقلنا إليه أهل الفن لا يعدو أن يكون من باب الإيهام والتخييل، فهي خدعة من قلم الأديب أو من ريشة المصور. ولكن إذا ذكرنا الآن الحديث النبوي: «إنَّ من البيان لسحرًا»، وقول رؤبة الراجز:

لقد خشيت أن تكون ساحرًا
راوية مرا، ومرا شاعرًا

وهو — كما ترون — يقرن الشعر بالسحر أيضًا، ثم رجعنا إلى كتاب «العمدة في الشعر وفنونه»، وجدنا تأويل ذلك عند ابن رشيق الذي يقول: «إنَّ السحر للطافته وحيلة صاحبه يخيل للإنسان ما لم يكن، وكذلك البيان يتصور فيه الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق.» فنقدة الأدب من العرب إذ قرنوا الشعر بالكذب ذهبوا هم أيضًا، على ما نرجح، إلى معنى أبعد غورًا وأوسع مدى من غلبة المديح الكاذب على سائر أنواع الشعر. وهذا البحتري يقول بلسان الشعراء، مخاطبًا غير الشعراء، كأن أولئك صنف من الخلق، وجميع من عداهم صنف آخر:

كلفتمونا حدود منطقكم
في الشعر يكفي عن صدقه كذبه!

ويقول الإمام الجرجاني في التعليق على هذا البيت: «أراد: كلفتمونا أن نجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسنا فيه بالقول المحقق حتى لا ندعي إلا ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به، ويلجئ إلى موجبه.» فكأنه خطاب من الشعر إلى النثر، أو إلى كل ما ليس بشعر …

وهكذا نرى أنَّ الشقة ليست بعيدة بين الرأيين الغربي والعربي في البيان والشعر، وفي وظيفة الفن وعمله، بل قصارانا أن نفصِّل بلغة العصر واصطلاحه حقيقة عرفها العرب من قديم الزمان.

مرَّ بنا أنَّ الفن في جوهره محض كذب واختلاق، أو إيهام وتخييل، وأنَّ دنياه خدعة من قلم الأديب، أو من ريشة المصور. فهل أتاك أيضًا أنَّ الكذب حاجة في نفس الإنسان، حاجة لا دافع لها، فيكون من وظائف الفن، بل من أجلِّ وظائفه شأنًا كفاية تلك الحاجة؟

يزعم نيتشه أنَّ الأوهام والضلالات كانت، ولم تزل، القوى المعزية للإنسان، المسلية إياه، وأنَّ الحقائق كانت، ولم تزل، عاجزة عن تأدية هذه الخدمة الواجبة بتعزيته في اتراحه وتسليته عن همومه، وقد نشأ عن ذلك أن أصبحت أمسَّ حاجة يحسها البشر، حاجتهم إلى الفرار من الواقع الذي هم فيه، والنجاة منه. فكان خير ما وُفقوا إليه من الوسائل لبلوغ هذه الغاية؛ «الحب والفن»، وكلاهما يصدر عن الخيال، معلم الخطأ والضلال، أي الملكة النفسية التي لا يسعها أن تجعل مجانين البشر عقلاء، فهي إذن تعمل على أن تجعلهم سعداء.

لسنا ننكر أنَّ ثمة فنًّا يقوم بتقليد الطبيعة، ويدعو إلى «أخذ نسخ طبق الأصل» عن هذا الواقع الذي نحن فيه، ولكنْ أفضلُ من هذا الفن في كفاية الحاجة التي وصفها نيتشه وكثيرون غيره من المفكرين والحكماء، ذلك الفن الآخر الذي لا يستسلم إلا لخطرات الحياة، فيسحر الناس باختراعاته الجميلة، وتلفيقاته الأنيقة. كل ما في هذا الفن محض كذب، ولا شيء فيه بقصد الحقيقة، فهو لا يكون تبعًا لبيئته وعصره، ولا للناموس الأخلاقي والأوضاع الاجتماعية، ولا لصدق النظر وصحة الفكر، بل إنه — كما يقول إتيان راي أيضًا — يسكن عالمًا مسحورًا لا تلج بابه الحقيقة المملة المحزنة، بل فيه تسرح الأساطير والخرافات والأوهام والرموز حرة طليقة، تحت سماوات خيالية، تزينها الكواكب الدرية.

ولله ما عند الشعراء من أكاذيب مستحبة!

إذا صح أنَّ الفن في جوهره كذبٌ، ليست الحقيقة من همومه ولا إظهار الحقيقة من غاياته، وأنَّ الفن بأكاذيبه المستحبة يؤدي للإنسان خدمة من أجلِّ الخدم، بتعزيته في اتراحه وتسليته عن واقعة الممل، فهاكُم قضية ثالثة نأتي الآن على ذكرها، وهي أنَّ الحقيقة في الفنون هيئة ميسورة، على حين أنَّ الأكاذيب الجميلة التي تستهوي الأفئدة وتسحرها ليست هينة ولا ميسورة، وبالحقيقة أيُّ الأمرين أيسر على الفنان: أن يصف لك شرطيًّا بلباسه الرسمي على منصة في ساحة الشهداء، بيده هراوة ليست كعصا موسى، فيوهمك أنه بسحرها يحرك السيارات، أم أن يصف إحدى الجنيات الحسان والكواعب الأتراب؟ بشرط أن يجيد الوصف في الحالين، وإجادة الوصف ليست تنال إلا بقوة الإيهام والتخييل، تلك القوة التي تحملك من دنيا الواقع إلى دنيا الفن. ثم أي الأمرين أيسر على الفنان؟ أن يصف روضة موجودة فعلًا، ويؤذن لنا بالتنزه فيها كل مساء، أم أن يصف لك جنات النعيم التي وُعد المتقون؟

وفي هذا المعنى أيضًا يقول أناتول فرانس: «ليس موضوع الفن حقيقة. ينبغي أن تطلب الحقيقة في العلوم؛ لأن موضوعها الحقيقة، ولا يجوز أن تطلب في الأدب الذي لا يصح أن يكون موضوعه شيئًا غير الجمال.»

فما هو هذا الجمال الذي جعله أناتول فرانس موضوعًا للأدب ولسائر الفنون؟ أهو جمال الطبيعة، أم ثمة نوع آخر من الجمال، مستقل متميز، نسميه: جمال الفن؟!

إنَّ العامة وكثيرًا من الخاصة لا يفرقون بين هذين النوعين، رغم أنهما مختلفان جدًّا. فهم يطلبون في الفن ما يروقهم في الحياة؛ أعني أنهم يسألون المصور أن يصور لهم، والمثَّال أن يمثل أناسًا كالأناس الذين يُعجبون بهم في هذه الدنيا، وأشياء كالأشياء التي يحبونها في الواقع ويشتهونها، وهم يسألون القصاص أن يختار لقصصه أبطالًا من ذلك الطراز، جديرين، لو كانوا من لحم ودم، بالحب والعطف والتجلة والإعجاب، ثم أن يحدثهم في النهاية — والأمور بخواتيمها — عن غلبة الحق على الباطل، والفضيلة على الرذيلة، وإلَّا فإن هذا المؤلف لا يقوم بواجب فنه. يريد العامة أن تكون الفنون، وفي جملتها الأدب، مرآة تنعكس على صفحتها الصقيلة المثل العليا التي تقوم في أذهانهم: ليس ثمة إلا جمال واحد هو الجمال الذي يعرفونه في الطبيعة والحياة، سواء أكان ماديًّا وهو جمال الجسد، أم معنويًّا وهو جمال الروح، وما عداه فقبحٌ (مادي أو معنوي أيضًا) لا يستطيع الفن، مهما أوتي من قوة السحر أن يقلبه جمالًا يستهوي الأبصار ويخلب الأفئدة. فإذا نحن قلنا إنَّ الفن قادر على أن يجعل تلك الصور المنكرة القبيحة في الطبيعة صورًا جميلة مستحبة فيه، فقد قلنا إذن قولًا إدًّا، وخبطنا على غير هدى. ولله، ما أكثر القصص التي تستغل في العامة هذا الذوق الآفن، وتمدهم في ضلالهم! فإنها تؤلف نوعًا على هامش الأدب، هو الأدب التجاري الصرف الذي لا هموم فنية فيه، ولا قيمة له غير الثمن الذي يشرى به.

قد تكون صورة الغادة الحسناء غاية في القبح، إذا خرجت من يد رسام عاجز أحمق، كما تكون صورة المرأة الدميمة آية في الجمال، إذا خرجت من يد رسام لبق صناع. ألست ترى فلاسكيز ورامبرند وغيرهما من مشاهير الرسامين تزدان جدران المتاحف بطرفهم الفنية التي تمثل أناسًا لو بصرت بهم في الطريق لوليت منهم فرارًا، وملئت منهم رعبًا، لكنك — الآن وقد أمرَّ عليهم أولئك الفنانون ريشتهم الساحرة — تقف عندهم وتدنو منهم وتقبل عليهم، معجبًا مأخوذًا؟ إذا لم يكن إلا جمال واحد هو الجمال الطبيعي، ولم يكن من عمل للفن إلا أن ينقل لنا هذا الجمال الفذ ويمثله لأعيننا، فلا بأس أن نجعل تلك الآيات أو الطرف الفنية طعمة للنار، وبئس المصير!

فالشرط الأول والآخر إذن، هو ذلك التجويد الذي أوصى قدامة بن جعفر بأن يتوخاه الشاعر، حينما أجاز له كل شيء، ولم يلزمه إلا بهذا الشيء، والحق أنه فيما نحن بصدده كل شيء. ولا يعني هذا أنَّ الجمال الطبيعي والجمال الفني ضدان لا يجتمعان، بل قد يجتمعان فعلًا، فليس ما يخطر على القصاص أن يصور لنا في قصته بطلًا متحليًا بالصفات التي تعجبنا في الحياة، أو حديقة غناء نود لو نقضي في ظلالها ساعة من ساعات النعيم، أو موقف شرف وكرامة يتمنى أغلب الناس أن يكون لهم مثله، ولكن ليس ما يخطر عليه أيضًا أن يصور لنا نقيض تلك الصور جميعًا، فإذا أجاد وأحسن كان لزامًا علينا أن نقول: إنها لصورُ فنٍّ جميلة.

روى مؤرخو الآداب الغربية أنَّ المدرسيين (أو الكلاسيين) من الإغريق واللاتين والفرنسيس، كانوا يرون الجبال قبيحة، أو أنها ليست على شيء من الجمال، فلما جاء الرومانطيون رأوا على الضد أنها جميلة رائعة، غاية في الروعة والجمال، وأنها جديرة بأن تكون مادة للآداب والفنون. وكذلك كان المدرسيون من الفرنسيس يرون في الحدائق المنضدة، المجملة على الطراز الفرنسي في عهد لويس الرابع عشر، مثلًا أعلى في الجمال، فقال الرومانطيون بعدهم إنها غاية في القبح، وإنَّ المثل الأعلى هو في الطبيعة العذراء التي لم تنضد تنضيدًا، ولم ترصف رصفًا، ولم تزينها يد الإنسان.

وهكذا يختلف نظر الناس إلى الطبيعة وجمالها باختلاف الأزمنة، فتكون آداب الأمم وفنونها مجلى لهذا الاختلاف، ويرى عصرٌ حسنًا ما لم يره العصر الغابر على شيء من الحسن، فكأن للطبيعة وجوهًا شتى تبدو وتغيب، وكأن الآداب والفنون مرآة عجيبة تحفظ لنا كل تلك الوجوه الزائلة، المتجددة أبدًا.١
١  حديث أذيع من راديو بيروت في أول تشرين الثاني سنة ١٩٣٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤