مقدمة الطبعة الثالثة
كتبت هذه المذكرات بعد أن خرجت من السجن منذ ثماني سنوات. هل مضت ثماني سنوات؟ كأنما كنت في الزنزانة بالأمس! وهل أنا اليوم خارج السجن؟! لماذا إذن هذا الشعور بالاختناق والانحباس؟ كانت القضبان من حديد، لكنها اليوم من مادةٍ أخرى غير مرئية. تطورت التكنولوجيا، ولم تعد الأنظمة الحاكمة في حاجةٍ إلى سجونٍ وقلاعٍ. نحن على أبواب القرن الواحد والعشرين، وشعارات الديمقراطية مرفوعة في الغرب والشرق والشمال والجنوب. إنها موضة العصر، أمل الشعوب المقهورة، وفزع الدكتاتوريات الموروثة منذ العبودية. تناقضٌ جذري عميق بين الحرية الحقيقية ونظام السلطة الهرمي. يقف فوق قمة الهرم فردٌ واحدٌ، صورته في كل مكان، في السماء والأرض، صوته الوحيد المسموع، رأيه الوحيد الصائب، من حوله بِطانة من الأعوان، مجموعة من الرجال، وجوههم تتشابه في كل عصر، مشيتهم متعرِّجة، ظهورهم محنية، عيونهم لها نظرة غير مستقيمة، يروغون عن المواجهة، ينتظرون الأوامر والتوجيهات، يملكون السياسة والصحافة والمجلات والأدب والفن والراديو والتليفزيون، يملكون النقد والمعارضة في حدود ما هو مسموح، يملكون الجوائز والأوسمة والباب المفتوح إلى التاريخ، والموسوعات القومية، والبطولات الوطنية، وبدلات التمثيل السخية، وهدايا الملوك الرؤساء في الشرق والغرب والأقطار الشقيقة.
بعد أن خرجت من السجن كان أمامي طريقان؛ طريق الأمن والرخاء، والحصول على الجائزة، ولقب الكاتبة الكبيرة، أو الطريق الآخر الصعب، الذي قادني إلى السجن من قبل.
واخترت الطريق الثاني. منذ الطفولة لا أطيع إلا عقلي أو الصوت المنبعث من أعماقي: لا تستسلمي، لا تسيري في مواكب النفاق، لا تكوني واحدة من القطيع، أو موظفي البلاط، كوني نفسَك.
لكن السجن اليوم لم يعد جدارنًا مرئية، أصبح السجن شيئًا أتنفسه في الهواء، حصارًا حول العقل، ورقابة غير ملموسة ولا منظورة. لم تعد هناك قائمة سوداء، وإنما قائمة رمادية شفافة لا تُرى بالعين المجردة.
أعيش وراء جدران غير مرئية، وأعيش الغربة والمنفى داخل الوطن، لكني لا زلت أكتب وليس في العالم قوة تستطيع أن تسلب مني القلم. أسكب عقلي فوق الورق حروفًا وكلمات، لكنهم يملكون قنوات الاتصال بالناس، يسيطرون على أجهزة الإعلام والثقافة والنشر، يملئُون عقول الناس بالحكايات التافهة، يستخدمون كلمة الله لإرهاب كل عقلٍ يفكر، يستخدمون كلمة العدالة لضرب كل مَن يسعى إلى العدالة، وكلمة الديمقراطية لمصادرة الحرية، يقتلون الإبداع في المهد، يخنقون الفكر الجديد بأصابع غير مرئية.
وفي الشارع حين أمشي أرى وجوه الشباب منكسرة حزينة؛ عيون ذابلة مطفأة، بطالة بلا عمل، حياة بلا أمل، وجوه الفتيات شاحبة، الخطوة متعثِّرة، العقل داخل الرأس ملفوف بقماش، العالم شرقًا وغربًا يموج بالتغيرات الهائلة، الأسوار تسقط تحت زحف النساء والرجال والشباب. النظام الهرمي الطبقي الأبوي يهتزُّ فوق قاعدة عريضة بدأت تنهضُ وتثور وتخرج في المظاهرات، لكن هناك رأيًا عامًّا مهما كان، وهناك وعي رغم محاولات تزييف الوعي، ومساحة من الحرية تسمح بالحركة والتمرد.
وهنا التمرد عورة، هنا الوعي إثم، هنا المعرفة خطيئة، هنا الرأي العام غائب، الناس غارقة في هموم البحث عن الخبز، هنا يدخل الإنسان السجن في الظلام بلا جريمة وبلا تحقيق، هنا يموت الإنسان قبل الأوان، هنا يختنق العقل، وتُدفن الموهبة وشجاعة الإبداع.
لكني لا أعرف اليأس، في خيالي حلم حياتي أن أكتب كلمتي ويقرأها الناس، سوف يقرؤُها الناس اليوم أو غدًا أو بعد غدٍ، لا يهم اليوم أو الغد أو بعد الغد، فسوف يقرؤُها الناس.
يناير ١٩٩٠م