الجزء الأخير
فتحت عيني في الصباح، فلم أرَ السقف الأسود، أغمضت عيني، ثم فتحتهما. لم أر الجدران المشققة الكالحة ولا القضبان الحديدية فوق الباب.
أغمضت عيني ثم فتحتهما. رأيت المكتبة البيضاء وصفوف الكتب، صورتي في الإطار إلى جوارها صورة زوجي، وجه ابني يطلُّ من الباب، صوت ابنتي تغني في الحمام.
أغمضت عيني وعاد إليَّ صوتي وأنا أغني تحت الدش، وبين قدمي الثقب المملوء حتى الحافة بالصراصير السوداء الطافية. رفعت البطانية الدافئة الناعمة من فوقي، وانتفضت واقفة. زميلاتي ما زلن هناك، لم يخرج في قرار الإفراج الأول إلا واحدة وثلاثون سجينة منهم أنا وصافيناز.
تلفَّتُّ حولي، الوجوه الثلاثة أمامي، العيون الست من حولي، تحوطني، أملأ عينيَّ بملامحهم، أحفر الملامح في ذاكرتي، من يدري؟ ربما نفترق. قد أعود إلى السجن، اليوم أو غدًا أو بعد عام. لا شيء مضمون، لكن السجن لم يعُد ذلك الشبح المجهول المخيف. وزميلاتي ما زلن هناك، ترى ماذا يفعلن الآن؟ ولماذا لم يُفرج عنهن؟
وأغمضت عيني ورأيتهن أمامي، جالسات على الأرض المتربة، وجوه شاحبة مرهقة، عيون قلقة مؤرقة، أقدام معفَّرة اسودت كعوبها، وانتفضت جفوني مفتوحة.
قلت: لنذهب الآن.
قال: إلى أين؟
قلت: إلى السجن.
حنين مفاجئ غريب، ولم يندهش زوجي، وقال بهدوء: زمالة السجن ليست كأي زمالة.
سارت بنا السيارة في طريق القناطر الخيرية، عن يميني الحقول الخضراء الممتدة، وعن يساري النيل.
تذكرت الرحلة المجهولة في هذا الطريق نفسه، وإلى جواري الضابط، ومن خلفي رءوس الرجال والبنادق. أدرت رأسي ونظرت إلى الخلف، علب الطعام على المقعد الخلفي، تشبه العلب التي كان يرسلها إليَّ كل ثلاثاء.
حركت رأسي ناحيته، أصابعه الطويلة النحيلة حول عجلة القيادة، عيناه شاخصتان إلى الأمام، مزيج من السعادة والحزن، والتفت ناحيتي. حوطت يده بيدي، وقلت: كل ثلاثاء كنت تقطع هذه المسافة الطويلة.
فقال: كل ثلاثاء، كنت أظن أنني سأراك.
رفعت رأسي نحو الطريق، أصبحت القناطر خلفنا، وانحرفت السيارة داخل الطريق الجانبي، ثم السرداب الطويل، اختفت رائحة الزرع والنيل، ملأت أنفي رائحة التراب.
في نهاية السرداب رأيت العمود الطويل يسد الطريق، توقفت السيارة عند العمود. برز من جانب الطريق رجل نحيل عيناه تلمعان وتتحركان بسرعة كعين قاطع طريق. أسرع يجري بظهرٍ منحنٍ وشدَّ العمود. ارتفع العمود في الهواء عن مساحة تسمح بمرور السيارة، ثم سقط مرة أخرى، وأغلق الطريق خلفنا.
انفتح الباب الضخم، حفل استقبال، المسئولون والضابطة والشاويشة، كلهم عيون تلمع، وأصوات كالرنين ترحب: أهلًا أهلًا، السجن نوَّر، رأينا صورتك في الصحف بالأمس مع رئيس الجمهورية.
حملت الشاويشة علب الطعام إلى الزميلات في العنبر، وعادت تخبئ في صدرها ورقة مطوية، خبأتها في حقيبة يدي.
في طريق العودة رأيت سيارة تسرع خلفنا، ثم تقطع الطريق علينا وتقف أمامنا. أوقف زوجي السيارة وهبطنا، ورأيت المسئول البوليسي الكبير ذا العصا، تصورت أنه سيأخذني مرةً أخرى إلى السجن، لكنه اقترب مني باسمًا، وهمس في أذني: «إذا قابلت السيد نائب الرئيس النبوي إسماعيل اذكري اسمي، إن لي ترقية متأخرة.»
ثم ركب سيارته، وانصرف مسرعًا.
لا بد أن الدم هرب من وجهي؛ لأن زوجي نظر إليَّ وتساءل: ماذا حدث؟
وقلت بدهشة: تصور؟
وقال بهدوء: نعم أتصور.
فتحت حقيبتي، قرأت الورقة المطلوبة: «حاولي كل جهدك مع الأطباء، حتى تنتقل إلى مستشفى القصر العيني أو مستشفى الدمرداش.»
وتوجهنا بالسيارة إلى كلية طب عين شمس، أحجم زملاؤنا الأطباء عن المساعدة إلا زميلًا واحدًا، رئيس قسم الأمراض النفسية، أخلى للسجينات غرفة في القسم، وفي اليوم التالي انتقلت الزميلات من السجن إلى تلك الغرفة، وبعد أيام صدر قرار بالإفراج عنهن جميعًا.
وفرقتنا الأيام ومشاغل الحياة، لكن ما إن ألتقي بواحدة من الزميلات في أي مكان، حتى نتعانق ونتذكر أيام السجن. كأنما للسجن وحشة، أو كأنما الزمالة في السجن لا تُنسى، ولا تموت، ومن يدري ربما تعود.