الجزء الخامس

موت السادات

تبددت بارقة الأمل في العدالة بعد جلسة التحقيق. تأكدت أن لا قانون ولا قضاء ولا عدالة. أما هذا الجهاز المسمى بالمدعي العام أو المدعي الاشتراكي العام، فليس إلا جهازًا لإلغاء القانون، وطمس الحق والحقيقة. أين القضاء المصري؟ أين المحاكم؟!

بدأت أشعر وطأة السجن، زميلاتي من حولي صامتات حزينات. انكشف سر المدعي العام، لا أمل في إفراج طالما أن السادات صاحب السلطة.

إلى متى يظل صاحب السلطة؟!

حين يشتد بنا الحزن واليأس، نظن أنه سيظل صاحب السلطة إلى الأبد، أننا سنموت في السجن وندفن تحت الجدار، وهو سيظل قابضًا على السلطة المطلقة بكلتا يديه.

حين يشطح بنا الخيال الجامح نتصور أنه أصيب بمرضٍ عضال، أو شللٍ مفاجئ، يمنعه من الاستمرار في الإمساك بالسلطة.

إذا أصابتنا نوبة أمل مجنونة، يلوح لنا في المنام أو الحلم انقلاب في الجيش يعزله عن الحكم بمثل ما حدث للملك فاروق.

لم يكن لعقولنا الظاهرة أو الباطنة أن يخطر لها أكثر من ذلك.

لم يكن موته أمرًا واردًا لأي عقل أو خيال، في يقظةٍ أو منام. سمعنا أنه يحافظ على صحته. ينام كثيرًا ويعمل قليلًا، ويتريض في الهواء الطلق، ويأكل طعامًا صحيًّا، ولا يفكر كثيرًا. الذين يفكرون يموتون مبكرًا، والذين لا يفكرون تظل أجسادهم قوية. موته ضربٌ من المستحيل، لم نسمح لأنفسنا أن نحلم به. مثل هذه الأحلام قد تضعف الإنسان، وبالغريزة وحدها غابت عنا الأحلام البعيدة.

ثم جاء ذلك اليوم، كنا جالسات على الأرض، ظهورنا إلى الجدار، قلوبنا ثقيلة، عيوننا ملتهبة بالغبار، وجوهنا مبقعة بهباب المدخنة الأسود، أقدامنا مشققة تطل من الشباشب البلاستيك، جلاليبنا معفَّرة بالتراب عليها بُقَع من كل لون، شعورنا منكوشة، جالسات وراء القضبان كحيوانات حبيسة داخل أقفاصٍ حديدية.

رفعت عيني وانفرجت شفتاي لأقول شيئًا، لكني أطبقت شفتي، ماذا أقول، وقد انطفأ آخر بصيص من الأمل؟

وفجأة رأينا «ذوبة» تفتح الباب، وتدخل إلينا وهي تلهث، وجهها الأسمر متوهج بالحمرة، وعيناها كالجمرتين، هتفت بأنفاسٍ كالشهيق: هل عرفتم الخبر؟

– أي خبر!

– السادات ضربوه بالرصاص!

حركة شفتيها وهي تنطق الكلمات بدتْ لي كحركة خارج هذا الكون، واللحظة كلها خارج الكون.

دارت الأرض، ودارت الشفتان السمراوان دورة كاملة كدورة الأرض حول نفسها، أصبح وجه ذوبة شفتين بحجم الكرة الأرضية، تدوران وتلفان وترددان: ضربوه بالرصاص!

لم أكن وحدي التي حدث لها ذلك، رأيت الوجوه من حولي كلها محتنقة بالدم، العيون متسعة، الأيادي تمسك بذوبة، بذراعها، بساقها، برأسها، تهزها، ترجها، يتأكدن أنها يقظة، أنها بكامل عقلها، أنها لا تهذي، وهي تردد بلا وعي: ضربوه، ضربوه!

هيستيريا اجتاحت العنبر، أجساد ترتمي فوق ذوبة بلا وعي، تعانقها، تقبلها، ذوبة تختنق بالعناق والقبلات. تشد نفسها من تحت الأجساد، لا تزال تشهق: ضربوه!

والجميع يشهقن في نفسٍ واحد: ومات؟!

وترد ذوبة شاهقة: معرفش.

وتتجمد عضلات الوجه، وعضلات اللسان، تتجمد عضلات الصدر ويكف الهواء عن الحركة، تكف الصدور عن الحركة، يتجمد اللسان في الحلق، تلتصق الكلمة بالحلق: لم يمت؟

وتشهق ذوبة: معرفشي.

العيون جاحظة تدور حول نفسها كالبندول، زائغة، حائرة، مرعوبة بالأمل الجامح المفاجئ، وهو يتلاشى كالسراب.

الصدور تنتفخ بالأمل، حتى تنفجر، ثم تتقلص وتهوي إلى القاع، قاع اليأس وصرخت واحدة: لو عاش!

وشهقن: لن يرحم أحدًا، سيذبحنا جميعًا، سينتقم منا.

وتتساقط الأجساد بعضها فوق بعض، فوق ذوبة التي لا زالت تشد نفسها من بينهن، وهي تشهق: إذا جاء ضابط المباحث الآن.

تفرقن بعيدًا عنها، الكل يلهث بالانفعال الطاغي، يحاولن التحكم فيه. تشد كل منهن عضلات شفتيها لتغلق فمها، لتكتم صوتها.

همست واحدة: احكي يا ذوبة، كيف عرفت الخبر؟ من ضربه؟ وأين ومتى؟

ساوت ذوبة شعرها الذي نُكش، وجلبابها الذي تهدل تحت الأيادي والأذرع، كأنما خرجت من معركة جسدية. بلعت ريقها وقالت: سمعت الخبر الآن في التليفزيون. كنت في العنبر، وكلنا بنتفرج على العرض العسكري، وفجأة سمعنا طلقات الرصاص، والإرسال وقف، وسمعنا من يقول: إن السادات ضربوه بالرصاص ونقلوه للمستشفى.

كان الوقت ظهرًا، والساعة تقارب الثانية. ما زال أمامنا ساعتان حتى موعد التمام في الساعة الرابعة. لم نكن نخرج «الراديو الترانزستور» من مخبئِه في بطن الأرض إلا بعد ساعة التمام، حين ينغلق علينا البابان الحديديان، وتعود الشاويشة إلى بيتها، وكل إدارة السجن تصبح في البيوت.

وقلت: لا بد أن نخرج الراديو، ونتابع الأخبار.

وهتفن جميعًا في نفسٍ واحد: فلنخرج الراديو!

حتى «فوقية» أكثرنا حذرًا قفزت لتخرج الراديو من المخبأ. و«بدور» التي كانت تعتبر «الراديو» جهازًا شيطانيًّا مصيره جهنم؛ لأنه يغني بخلاعة، هتفت قائلة: لنسمع الراديو!

أخرجنا الجهاز السحري الصغير بحجم كف اليد. أمسكته وحوطته بكفي، قلبي يدق، وضغطته فوق أذني ولم أسمع إلا دقات قلبي، ودقات قلوب الزميلات. رءوسهن إلى جوار رأسي، يقربن آذانهن من ذلك الشيء الصغير بحجم علبة السجائر.

انبعث الصوت السحري يقول: هنا القاهرة.

وتوقفت القلوب عن الدق، توقفت الأنفاس.

تصورنا أنه سيعلن نبأ الوفاة، ودبَّ صمت ثقيل طويل، لا صوت ولا حركة، صدورنا متوقفة، أنفاسنا مقطوعة تمامًا.

وفجأة انطلق صوت مطربة تغني، تجمعت الدماء في عروقنا.

صرخت «فوقية» وهي تلطم خديها: نجا من الموت.

وشهقت الأخريات بشفاهٍ جافة: كارثة.

ارتفع صوت المطربة في العنبر.

صرخت ذوبة وهي ترمق الباب: الشاويشة جاءت يا جماعة، خبئوا الراديو.

كان الراديو في يدي، فكتمت صوته، وأسرعت إلى دورة المياه. اختفيت داخل المرحاض.

من وراء نصف الباب المغلق سمعت صوت الشاويشة، تخاطب ذوبة: ماذا تفعلين هنا يا بنت يا ذوبة؟ لم تمسحي العنبر ولم تكنسي الحوش، اذهبي إلى عنبرك حالًا، لا أريد أن أرى وجهك هنا.

صوتها مضطرب، يخفي شيئًا، لا بد أنها سمعت الخبر، وتريد أن تمنعه من التسرب إلينا.

دب الصمت في العنبر.

مزق الصمت صوت فوقية، صوتها مثل كل يوم هادئ خالٍ من الانفعال. قالت: يا شاويشة، هل هناك أخبار جديدة؟

وجاء صوت الشاويشة أيضًا هادئًا مثل صوتها كل يوم خاليًا من أي انفعالٍ جديد.

قالت: أبدًا، لا أخبار ولا حاجة، الدنيا هي الدنيا.

ذبذبة خفيفة في صوتها، رعشة خفية لا يمكن أن تلحظها أذن، صوت مدرب على إخفاء الحقائق، يصل الصوت إلى أذني، وأنا واقفة في المرحاض، دون أن أرى عينيها.

انتظرت حتى سمعت صوت زميلة تهتف من وراء نصف الباب المكسور: انصرفت الشاويشة.

قلت: ربما تأتي مرة أخرى، أو ربما يأتي ضابط المباحث، سأظل هنا وراء هذا الباب أتابع الأخبار في الراديو، وإذا لمحت أي أحد قادم في الفناء أخبريني بسرعة.

قالت: سأراقب باب الحوش، لا ترفعي صوت الراديو، ضعيه فوق أذنك.

قلت: إنه فوق أذني.

قالت: إذا لمحت أي أحدٍ سأهتف قائلة: يا إله السماوات، هذه هي الإشارة، يا إله السماوات.

كان المرحاض ضيقًا، خانقًا. أسندت ظهري إلى الجدار، أمام وجهي نصف الباب المكسور. إذا حركت ذراعي ارتطم كوعي بالجدار عن يميني أو عن يساري. الثقب المملوء بالبراز والماء العفن يحتل نصف مساحة المرحاض، لا يمكن أن أقف دون أن يكون الثقب بين قدمي.

ثلاث ساعات وقفتها على هذا النحو، كالمصلوبة، ذراع مرفوعة إلى أعلى بالقرب من رأسي، في نهايته ذلك الشيء المعدني المربع ملتصق بأذني، ذراعي الثانية مرفوعة أيضًا، وإصبع يحرك ذلك المسمار الدائري، هنا لندن، هنا القاهرة، صوت أمريكا، مونت كارلو، وأصوات بكل اللغات، وسمعت صوتًا يقول: الإصابة خفيفة، ليست خطيرة في الذراع فقط.

دارت الأرض، انطبقت جدران المرحاض عليَّ، توقفت عن التنفس. تصبب العرق من رأسي وذراعي وساقي، والتصق الجلباب بجسدي.

فتحت الباب بسرعة خوفًا من الاختناق، التفت حولي الزميلات. قلت بصوتٍ خائر يائس: الإصابة خفيفة في الذراع.

وسقطت الأجساد على الأرض، بعضها في إغماء، بعضها في غيبوبة.

قاومت اليأس، شددت جسدي من فوق الأرض. حركت ساقي المشلولتين.

وقلت: سأتابع الأخبار، ربما تكون هذه الأخبار كاذبة، يقاومون الارتباك المفاجئ الذي قد يحدثه موته، ربما يخفون خبر موته، حتى يفيقوا من الصدمة. ويستعدون للدفاع عن مصالحهم في الشرق الأوسط بدونه.

عدت إلى مكاني في المرحاض، صلبت نفسي بين الجدار والباب وبين قدمي الثقب العفن، الإصابة لا تزال خفيفة، لكن صوت المذيع فيه ذبذبة، ورعشة الصوت الذي يخفي الحقيقة، سمعت زميلة تهتف: يا إله السماوات.

تذكرت الإشارة فضغطت بيدي على المسمار وقطعت الصوت. سمعت صوت الشاويشة في الحوش: تصبحوا على خير يا ستات.

– وأنت من أهله يا شاويشة.

ودار المفتاح في باب العنبر ثلاث دورات، انتظرت حتى سمعت المفتاح يدور في باب الحوش الدورات الثلاث، ثم قفزت خارج المرحاض.

جلست على السرير، ومن حولي الزميلات.

رءوسنا متلاصقة، آذاننا نقربها ما أمكن من تلك الثقوب، كثقوب الإبرة، في ذلك الشيء المعدني بحجم كف اليد. الأنفاس تتلاحم والرءوس تتزاحم.

وسمعنا الصوت: هنا لندن.

ودب الصمت، وكتمنا أنفاسنا.

وجاء الصوت الهادئ يقول: جاءتنا أنباء مؤكدة تقول إن السادات توفي، وانتفضت كل الأجساد في الهواء. سقط الراديو على الأرض، ولم تنتبه إليه واحدة.

لحظة خارج من الزمن، وخارج الكون. لا يمكن الإحساس بها، ربما فقدنا حواسنا الخمس، فلم نعد نرى أو نسمع شيئًا.

الأشياء من حولي تدور وتدور. أمسكت رأسي، حلم أم علم؟ وما هذا الذي يدور من حولي؟ الأرض؟ العنبر؟ أأنا التي تدور؟

أفقت على مشهدٍ عجيبٍ «بدور» تدور حول نفسها، بدون نقاب، وبدون عباءة، تدور وترقص، ومن حولها الزميلات المنقبات، يرقصن عاريات الشعر، بدون نقاب أو حجاب، الأجسام تهتز بعنف، والخصر ينثني والبطن ترتج، والرءوس تتمايل والشعور تتطاير.

ومشهد آخر أعجب «فوقية» التي لم تركع في حياتها ركعة واحدة، رأيتها ساجدة على الأرض، رافعة يديها إلى أعلى، وهي تصيح: أحمدك يا رب، ومن حولها الزميلات الأخريات ساجدات راكعات.

يهتفن في نفسٍ واحد: نحمدك يا رب.

كنت أنا مشغولة عن الرقص وعن الصلاة بشيءٍ أعجب، هو محاولة الإمساك باللحظة. أخشى أن تفلت اللحظة وأفتح عيني وأدرك أنه حلم، أتطلع إلى جدران السجن والقضبان، وأقول: ليس حلمًا بدليل أنني في السجن.

وهتفت فوقية بصوتٍ هيستيري، تقلد صوت السادات في خطبه: لن أرحم، وصاحت «بدور»: سبحانك ربي.

لا زلت عاجزة عن الإمساك باللحظة، عقلي يدرك الحقيقة، قلبي ينتفخ بالفرح والأمل، لكن خلية في عقلي لا تزال قلقة متوجسة، لا زلنا وراء القضبان، من قتل السادات؟ وما الذي سيحدث؟ أي شيءٍ يمكن أن يحدث، ربما انقلاب، ربما ثورة، ربما يطلق سراحنا، وربما يذبحوننا داخل السجون. كل شيءٍ وارد وأي شيءٍ ممكن، ما دامت رصاصة انطلقت وقتلت رئيس الجمهورية، وهو محاط بالحراس والبوليس والجيش.

من أطلق الرصاصة؟ وكيف؟

أول مرة في تاريخ مصر، تنطلق رصاصة وتقتل رئيس الجمهورية. أي لحظةٍ تاريخيةٍ أعيشها بجسدي وعقلي، وأنا داخل هذا السجن.

هتفت «بدور»: من قتل يُقتَل ولو بعد حين.

قلبي يدق تحت ضلوعي، الفرح يختلط بالقلق، الحقيقة تمتزج بالخيال. عيناي تتابعان الرقص والسجود، وتنتقلان من السقف إلى الجدران، ومن بعيد يلوح لي وجه زوجي، ابنتي، ابني، لا بد عرفوا الخبر. ماذا يفعلون؟

بدأ الحلم يلوح من بعيد، طردته لحظة، ثم أعدته إليَّ، رأيت نفسي في بيتي، ثم طردت الفكرة، أعدتها إليَّ، ثم طردتها مرةً أخرى.

أنفاسي تتلاحق، صدري يعلو ويهبط. الدم يتدفق في رأسي، شريان في عقلي يكاد ينفجر.

نهضت فجأة وقلت: حتى إذا لم نخرج من هنا يا جماعة؛ فقد تحررت البلد، وهتفنا في نفسٍ واحد: نعم، تحررت البلد.

ولم يغمض لنا جفن تلك الليلة. تدفق الدم في شرايين المخ وطرد النوم، وتسللت الأحلام والآمال، لتبدد ظلام الليل.

سمعنا الطبل والرقص ينبعث من العنابر الأخرى. صوت الشاويشة «نوبتجية الليل» يرن في الليل ويقول لنا من خلال القضبان: مبروك يا سياسيات، مبروك عليكم وإن شاء الله كلكم إفراج، والبلد كلها إفراج إن شاء الله.

ودون أصوات في السجن تنشد: دولا مين دولا مين، دولا عساكر مصريين.

– دولا مين دولا مين، دولا ولادنا الوطنيين.

وهتفت «بدور»: العيد بكرة يا جماعة، العيد الكبير.

وانطلقت الأصوات تغني:

يا ليلة العيد آنستينا، وجددت الأمل فينا.
يا ليلة العيد.

•••

في الصباح جلسنا كالمعتاد. خبأنا الراديو في بطن الأرض، وضعنا الأقنعة على وجوهنا. تظاهرنا أننا لم نعرف الخبر، أننا لا زلنا نعيش في عهد السادات. الحزن مرسوم على وجوهنا واليأس.

دخلت إلينا إدارة السجن بكامل هيئتها، بعضهم يرتدي رباط عنق أسود، وجوههم شاحبة، عيونهم حمراء، لا بد أنهم لم يناموا الليل مثلنا.

قلق يجري في العيون كالزئبق، لا يعرفون ما الذي سيحدث، عندهم أوامر بإخفاء خبر الوفاة عن المتحفظ عليهم.

هتفت «بدور» بصوتٍ خافت: النهاردة العيد، كل سنة وأنتم طيبين.

قالت زميلة من المنقبات: نريد أن نشتري لحمة العيد، كل الناس ستأكل لحمًا في العيد إلا نحن.

قال مسئول السجن: سنشتري لكم لحمًا، وعندكم فلوس في الأمانات.

هتفت «بدور»: لا، نحن لا نأكل اللحم من السوق، لا نعرف من ذبحه، وهل ذبح على الطريقة الإسلامية أم لا؟ نريد أن نشتري فرختين ونذبحهما بأنفسنا. ابتسم مسئول السجن وقال: سنشتري لكم فراخًا صاحية؛ لتذبحوها على الطريقة الإسلامية.

ثبت عيني على وجه ضابط المباحث، عيناه تتحركان بسرعة، قلق واضح يحاول أن يخفيه، ومن تحت القلق شيء كالراحة العميقة أو الفرح الخفي، تنفرج شفتاه كأنما سيلقي علينا بالنبأ، لكنه يتراجع، ويطبق شفتيه في صمت. مسئول السجن أيضًا يخفي سروره، لكن عينيه تفضحانه، عيناه تلمعان بابتسامة، وقبل أن يستدير ليخرج قال: عيد سعيد يا جماعة، وكل سنة وأنتم طيبين.

رأيت ظهورهم من الخلف، ظهور محنية قليلًا، يبدو عليها التعب، القلق، الحيرة، رجال أصبحوا بحكم الوظيفة حراسًا أو جلادين، أو جواسيس على غيرهم من البشر. في أعماقهم الإنسان ما زال قابعًا، كامنًا، ما إن يتغير المناخ الفاسد، حتى يطل الإنسان برأسه، يتشمم رائحة الهواء النقي.

لماذا أخفوا عنا خبر الوفاة؟ هل جاءتهم تعليمات من فوق بإخفاء الخبر؟ أم هي العادة، والتعود، وعادات يكتسبها من يعملون في تلك المهن؟

قبل أن يخرجوا تمامًا من الباب ناديت عليهم، استداروا نحوي، ثبتُّ عيني في عيني المسئول الأكبر معهم، وقلت له: أريد ورقة وقلمًا؛ لأكتب طلبًا للسادات!

كان صوتي عاديًّا كأن السادات ما زال يعيش، رأيت الاهتزازة في العيون، والشحوب في الوجه، رعشة العضلات حول الفم، انفرجت الشفاه عن حركة أشبه بالخوف، الحيرة، المفاجأة، التردد، ثم الصمت.

خيالي القصصي وشيطاني الفني يسجل هذه اللحظة. يرسم الصورة، والمأساة، الإنسان المحبوس داخل الخوف.

•••

لا بد عرفوا أننا نعرف، السجن كله يعرف، العنابر كلها بها راديو، أو تليفزيون، فكيف لا يصلنا الخبر؟

لم يكن في إمكانهم إخفاء الخبر أكثر من يومٍ واحد. في اليوم التالي جاءوا باسِمِين متودِّدين، يتحدثون معنا بلهجةٍ مختلفة.

ضحك أحدهم قائلًا: من يدري ماذا يحدث غدًا؟ هذه هي السياسة، يوم في السجن، ويوم في الحكم.

وقالت «بدور»: ويوم في القبر.

وساد الصمت، لا أحد يريد أن يتذكر حادث الاغتيال. لا أحد يعرف ما الذي يحدث غدًا، صحيح أنه مات، لكن من يضمن أنه لن يصحو مرةً أخرى؟ بعض الناس تصوروه فوق البشر، يعيش أو يحكم مدى الحياة.

عيونهم لا تزال مليئة بالخوف والقلق. لا شيءَ مضمون، ولا أحد يعرف الغيب.

وهل توقع أحد أن هذا الإله الذي جلس على العرش وصاح قائلًا: لن أرحم، أنه سينكفئ على وجهه فوق الأرض، وتدوس الأقدام (وهي تجري بعيدًا عنه) على قبعة رأسه، وعلى الأوسمة والنياشين، وعلى النجمة التي علقها فوق صدره؟

•••

في ٢٨ سبتمبر ١٩٨١م خرجت للتحقيق أمام المدعي الاشتراكي، وعُدت إلى السجن. بعد أسبوع واحد من ذلك التاريخ، في ٦ أكتوبر ١٩٨١م مات السادات بالرصاص، بعد شهر واحد من ذلك اليوم (٦ سبتمبر ١٩٨١م) الذي أرسل فيه رجال بوليسه؛ ليكسروا باب بيتي ويأخذوني إلى السجن.

ولاح أمل الخروج بعد موت السادات. استيقظت كل الأحلام، واستيقظت معها المشاعر الطبيعية، القلق، الانتظار، الترقب.

فقدت الاستقرار والهدوء. لم أعد أستطيع التركيز في شيء، عجزت حتى عن الكتابة، ما إن أمسك القلم حتى يلوح لي وجه زوجي، وابنتي، وابني، ويشغل خيالي، أتصور نفسي حاملة حقيبتي واقفة أمام باب بيتي أدق الجرس، ويفتحون الباب.

أجلس على الأرض الترابية وأحاول التفكير في شيءٍ آخر، لكن خلايا عقلي لم تعد قادرة على ذلك. الحلم الذي لم أسمح لنفسي أن أحلم به قبل موت السادات أصبح هو الحلم الوحيد الذي يملأ رأسي، يطرد كل الأفكار الأخرى، يطرد الراحة، يطرد النوم، يطرد الهدوء أو الاستقرار.

أصبحت عاجزة عن الجلوس، أو الوقوف، أو السكون بضع دقائق. جسمي يتحرك وحده، أجلس، وأقف، وأتمشى في العنبر، ولا أتوقف.

وما إن يرن أي صوتٍ حتى أتلفت، أتصور أن الصوت يناديني، وأن أحدًا يقول أعدي الحقيبة.

•••

لكن الأيام مرت، اليوم وراء اليوم، ولم نسمع عن قرارٍ جديدٍ يلغي قرار السادات بالتحفظ علينا.

بدأ التغيير داخل السجن، سمحوا لنا بقراءة الصحف، وسماع الراديو، والحصول على أطعمة من البيوت، وإرسال خطابات إلى أهلنا.

انتهت فترة التكدير، وحصلنا على ما تحصل عليه المسجونات الأخريات إلا الخروج إلى الفناء، وحُرمنا أيضًا من رؤية أهالينا.

لكن كل ثلاثاء في الساعة الواحدة بعد الظهر يدخل ضابط المباحث يحمل لي رسالة من زوجي، ومن خلفه واحدة من المسجونات أو الشاويشية تحمل عُلب الطعام.

الرسالة قرأها من قبلي ضابط المباحث، قرأها قبل أن أقرأها أنا، يسلمني الرسالة وهو يبتسم قائلًا: دكتور شريف جاء، وهذه رسالته إليك.

الرسالة مفتوحة، وعلب الأطعمة مفتوحة. كل شيء لا بد أن يُفتش بدقة قبل أن يصل إلينا، لكن كلمات شريف على الورق تعيدني إلى الحياة، نقاط ضوء في الظلام.

منذ شتاء ١٩٦٤م وشريف في حياتي. لحظات الحب، لمسات دافئة كشعاع الشمس في الشتاء، حوار ممتع يمتد في الأعماق، الرجال من حوله يبدون في عيني ثرثارين، كالأطفال وهو صامت، لكن إذا ما تكلم صمت الآخرون، قضى في السجن ثلاثة عشر عامًا من شبابه، متواضع إلى حد العظمة، وعظيم إلى حد التواضع، قوي إلى حد الرقة والشفافية، رقيق إلى حد الصلابة والقوة الحقيقية.

نادر كنسمة هواء نقي في سجن القناطر، كرأي صادق شجاع في مجتمعٍ مغشوش، قلت بغضب لضابط المباحث: أيحضر زوجي إلى السجن، فلا أراه؟

قال: الزيارات ممنوعة.

قلت: إذن سأكتب إليه أطلب منه ألا يأتي، لا أريده يقطع كل هذه المسافة لمجرد أن يحمل لي علب الطعام. لا أريد طعامًا، وكتبت الرسالة، وحملها إليه ضابط المباحث.

لكن شريف ظل يأتي إلى السجن كل ثلاثاء دون أن يراني، يترك علب الطعام والرسالة، ثم يمضي بهدوء.

وأصبحت أنتظر الثلاثاء من كل أسبوع، أحوط الرسالة بيدي وعيني وأقرؤها، ثم أعيد قراءتها، وأغمض عيني وأحلم أنني أسبح في بحر من ضوء الشمس.

ما إن يتردد صوت الكروان فجر الثلاثاء، حتى أرى العيون من خلال ثقوب النقاب تلمع، وتنظر إليَّ باسمة: اليوم الثلاثاء يا دكتورة نوال، طبعًا الدنيا لا تسعك اليوم.

وتفتح الزميلات عيونهن باسماتٍ هاتفات: الثلاثاء يا نوال، الثلاثاء.

ومن خلال القضبان أرى ضوء الفجر يمزق ظلال الليل، ونسمة منعشة تبدد الدخان والغبار.

•••

قرأنا في الصحف ذات يوم أن حسني مبارك أصدر قرارًا بإلغاء الإعلانات في الصحف، وعدم نشر صورته كرئيس للجمهورية داخل هذه الإعلانات في المناسبات والأعياد. صفقت الزميلات فرحًا.

كنا نرى صور السادات داخل الإعلانات التجارية عن شركات الأمن، أو أي شركة أخرى، أو أي محل تجاري، ما إن يقبل عيد من الأعياد، حتى يتبارى التجار وأصحاب الشركات على نشر التهاني للسادات، وإعلان التأييد والولاء.

حتى كبار الموظفين في الحكومة والمحافظات، ورؤساء المؤسسات والقطاع العام كانوا يشتركون في هذه الإعلانات، وينشرون صور السادات، وتحتها كلمات الولاء والتأييد.

إعلانات وصور للسادات في كل مكان، عند ناصية أي شارع، في كل ميدان، في كل إعلان، على جميع صفحات الصحف والمجلات، على الشاشة الكبيرة، وشاشة التليفزيون.

لا يمكن أن ترفع عينيك إلى شيءٍ ما دون أن ترى صورة للسادات، مكبرة، أو مصغرة، باسمًا أو مقطبًا، بالملابس العسكرية أو البدلة البحرية، أو البدلة المدنية، أو وشاح القضاء، أو عباءة القرية.

صور وإعلانات كانت تكلف الدولة ملايين الجنيهات، ولا بد أن يشارك كل مسئول في أي قطاع في موكب الإعلانات، وإلا أصبح غريبًا ولا يُطاق، وقد يتعرض للاضطهاد.

وهتفت زميلة: إذن حسني مبارك مختلف، ولا يحب النفاق والزيف.

وقالت زميلة: مواكب النفاق لا تنفع أحدًا، أين كانوا حين مات السادات؟ اختفوا جميعًا مذعورين، تركوه يموت وحده، ويدفن وحده.

وقالت أخرى: جنازة السادات كانت بدون شعب، سار وراءه بعض الأجانب ورؤساء إسرائيل وأمريكا.

وردت زميلة: لا يحزن على الميت إلا أهله، ومن يستفيدون منه.

قلت: هل يمكن أن تتغير الأحوال في بلدنا؟

أمل بدأ يلوح في الأفق، هذا الرئيس الجديد لا يريد دعاية لنفسه عن طريق الإعلانات التجارية أو شركات الانفتاح.

الدعاية الحقيقية لأي حاكم هي عمله، هل يمكن أن نخطو بضع خطواتٍ إلى الأمام؟

ومع ذلك قرأنا بالصحف أن رئيس الجمهورية يعلن أن التحفظ ليس عقوبة.

أصابتنا الدهشة، وقررنا أن نكتب له برقية.

إذا كان التحفظ هو وضعنا داخل السجن، فكيف لا يكون عقوبة؟! خلال حياة السادات رفضنا أن نوجه له طلبًا أي طلب، رفضنا أن نخاطبه أو نرسل إليه أي ورقة أو احتجاج.

لكن الرئيس الجديد ليس هو الذي حبسنا، ويمكن لنا أن نخاطبه، طلبنا ورقة وقلمًا، وجلسنا على الأرض، وكتبنا البرقية كالآتي:

السيد: حسني مبارك، رئيس الجمهورية

قرأنا تصريحكم في الصحف بأن التحفظ ليس عقوبة، ولم نفهم هذه العبارة؛ لأن الحبس وراء القضبان داخل السجن عقوبة في حد ذاته، فما بال أن نحرم أيضًا من الحقوق القانونية والإنسانية للمتهم تحت التحقيق. لا زلنا حتى اليوم محرومات من حق تحديد التهم الموجهة إلينا. ولم يبت في وضع من تم التحقيق معه. وما زلنا محرومات من مقابلة المحامين والأهل، وتفرض الرقابة على مراسلاتنا مع أسرنا. ولا يصلنا ما يفيد وصولها إليهم، ولا يُسمح لنا بالخروج إلى فناء السجن مثل بقية المسجونات العاديات، ونعيش داخل عنبر التسول. في مكانٍ مشبع بالدخان والتراب وبخار الجاز المحروق، والحشرات الناقلة للعدوى، مما يوقع بنا أبلغ الضرر المادي والمعنوي، ويجعل من التحفظ عقوبة مضاعفة، وليس عقوبة واحدة.

وقعنا جميعًا على البرقية، وسلمناها لضابط المباحث، وطلبنا الرد عليها.

ولم يصلنا أي رد، لم نعرف هل وصلت البرقية أم لا. سألنا ضابط المباحث عنها فقال: سلمتها لرئاستي في المكتب، ولا أعرف عنها من ذلك، ولا بد أنها وصلت.

مرت الأيام والأسابيع، ساد التشاؤم، تبدد الأمل، بدأ المرض يهدد صحة بعض الزميلات، أصيبت إحداهن بنزيفٍ وطلبت طبيب أخصائي في أمراض النساء من خارج السجن.

اكتشفنا أن سجن النساء ليس به طبيب أو طبيبة لأمراض النساء.

إحدى الزميلات كانت حاملًا في الشهور الأخيرة، وبدأت تُصاب بنوبات ضعف وإغماء.

أما أنا فقد بدأتْ آلام العمود الفقري بسبب النوم غير المريح، ورطوبة الأرض، والهواء البارد يدخل في الليل من بين القضبان، مع انتهاء الخريف وبداية الشتاء.

ارتجفت إحدى الزميلات من البرد ذات ليلة، شحب لونها وارتعشت أطرافها، وقالت: لا بد أن يسدوا الباب والنوافذ. لا أستطيع أن أبقى داخل هذا العنبر في الشتاء.

صاحت زميلة أخرى: سأموت إذا قضيت الشتاء هنا.

بدأت كلمة «الموت» تتردد على ألسنة الزميلات، الجو خانق مقبض، دخان المدخنة تضاعف، وازداد سوادًا وكثافة. قطعة السماء فوق الحوش الترابي أصبحت رمادية بلون التراب، ذوبة مرضت ولم تعد تأتي إلينا. والشاويشة خطواتها ازدادت بطئًا وثقلًا. تلف حول رأسها شالًا أسود، وفي قدميها جورب سميك أسود، فتحية القتالة أخذوها في المشغل.

قلبي ثقيل، في أعماقي صراع ضد المرض، وضد الموت، وضد التشاؤم، لكن الوجوه من حولي شاحبة. العيون ضاعت منها فورة الغضب، نظرات يائسة مستسلمة كأنما تنتظر دورها في الموت.

•••

فتحنا عيوننا في الصباح على خبر في الصحف، أحد زملاءنا المتحفظ عليهم مات في السجن.

صاحت الزميلات في سجن الرجال: وسوف يأتي إلينا حالًا.

استيقظت غريزة الدفاع عن البقاء، تلاشت النظرة اليائسة المستسلمة، ورأيت العيون تتأرجح بالبريق الجديد كالشعلة، كاليقظة الأخيرة قبل النفس الأخير.

التحفز الإنساني قبل انتهاء الإنسان.

بدأت الأجسام تدبُّ فيها الحركة، حركة شبه مجنونة لا تكف ولا تهدأ، وسؤال واحد يخترق خلايا المخ الراكدة، فيبعث فيها حركة، وحيرة شبه مجنونة لا تسكن ولا تهدأ: ماذا نفعل؟ الموت يقترب فهل نسكت؟ هل نموت؟ واستيقظ المارد في أعماقي، مرددًا كلماته: لن نموت، وإذا متنا فلن نموت ساكتات، لن نمضي في الليل دون ضجة، لا بد أن نغضب ونغضب.

وتجمعنا على شكل دائرة، رءوسنا متجاورة، حتى «بدور» و«فوقية» رأيتهما معنا داخل الدائرة، وقفنا متجاورات، متلاصقات تستند الواحدة على ذراع الأخرى.

ماذا تفعل؟

نحن أربعة عشر، ولكل واحدة ذراعان. ثمانية وعشرين ذراعًا، لو أمسك كل ذراع بشيءٍ ما يمكن أن نضرب الباب ونكسره.

انطلقت كل واحدة فينا تجري داخل العنبر، واحدة خلعت عمودًا حديديًّا من سريرها. واحدة رفعت حجرًا ثقيلًا، كنا نجلس عليه كمقعد. واحدة أمسكت يد الهون الخشبي (كنا قد استعرناه من عنبر القتالات لطحن الفول)، واحدة أمسكت حلة نحاس كنا نطبخ فيها العدس. واحدة أمسكت الوابور الحديد، من لم تجد شيئًا أمسكت صحنها من الألومنيوم.

بدأنا نضرب قضبان الباب، ونحن نهتف في نفسٍ واحد: سنحطم هذا السجن، لن نموت دون ضجة.

ارتج الباب الحديد تحت الضربات العنيفة، ارتج السجن بالصوت الذي أصبح كهدير الشلال.

خرج المارد الجبار من أعماق الإنسان المهدد بالموت، القوة الكامنة الحبيسة منذ زمنٍ بعيد، الطاقة المخزونة المكبوتة منذ الماضي السحيق، منذ الطفولة، منذ الولادة، بل قبل الولادة، منذ كان الإنسان جنينًا في بطن أمه.

هرعت إدارة السجن إلينا، ما الذي حدث؟ ما الذي رفع الغطاء عن المارد المحبوس في القوقعة؟

مات زميل لنا في السجن، وكلنا مهددات بالموت. لماذا نظل في السجن ورئيس الجمهورية صرح بأن التحفظ ليس عقوبة؟! لماذا نعاقب بالحبس دون جريمة؟ دون اتهام؟ دون تحقيق عادل؟ دون أن نعرف نتيجة التحقيق؟

تكلم معنا مسئول السجن، وضابط المباحث، ومسئولون آخرون. قالوا: إن المدعي الاشتراكي ينظر في كل الحالات، وسوف يُطلق سراح أي حالةٍ تثبت براءتها.

قلنا بغضب: لا جديد في هذه العبارة، منذ متى يبحث المدعي الاشتراكي الحالات؟ وهؤلاء الأبرياء إلى متى يظلون وراء القضبان؟ وهل يعوضون عن تلك الأيام والأسابيع والشهور التي قضوها في السجون دون ذنب ودون جريمة؟ وقال ضابط المباحث: ليس عندي إجابات على هذه الأسئلة.

وسألنا: من عنده الإجابات؟

قال: المدعي الاشتراكي، والنائب العام، ورئيس الجمهورية.

وانتهت الثورة داخل العنبر كما كانت تنتهي كل مرة بحصولنا على ورقة وقلم، وكتبنا بيانًا إلى رئيس الجمهورية والمدعي الاشتراكي والنائب العام، قلنا فيه ما يأتي:

نعلن احتجاجنا، نحن النساء والفتيات المودعات بسجن القناطر الخيرية، نحن السجينات السياسيات، وبيننا الأم التي حُرمت من إرضاع مولودها، والحامل في الأسابيع الأخيرة بدون الرعاية النفسية والجسمية الواجبة، والأمهات اللائي حُرمن رؤية أطفالهن وأزواجهن شهورًا متتالية، والطالبات اللائي حُرمن الدراسة. نحن اللائي أُخِذن عنوة من بيوتنا ومن وسط أهالينا بغير جريمة، وأُلقِين في زنازين السجن تحت أسوأ الظروف الإنسانية، متعرضات لأنواعٍ شتى من القهر النفسي والمادي، ولأضرارٍ خطيرة، ابتداءً من الأضرار النفسية والمعنوية والأدبية إلى الأضرار الجسمية والاجتماعية والمهنية والعائلية. ولا زلنا حتى اليوم نتعرض لهذه الأضرار التي تمثِّل عقوبة تُمارَس ضدنا رغم التصريحات المتعددة لرئيس الجمهورية الجديد بانتفاء صفة العقوبة على المتحفَّظ عليهم. هذه العقوبة المستمرة بشتى أشكالها، ويكفينا الحرمان من رؤية أطفالنا وأهالينا. ويكفينا ما نحن فيه من إهمالٍ مقصود أو غير مقصود لصحتنا الجسمية والنفسية. ذلك الإهمال الذي أودى بحياة زميلٍ لنا، والذي قد يودي بحياة أي واحدةٍ منا.

ونحن إذ نعلن احتجاجنا على استمرار حبسنا حتى اليوم، نطالب بالإفراج عنا فورًا، وإدانة كل أنواع القهر النفسي والمادي، وكافة أنواع التعذيب المعنوية والجسمية التي يتعرض لها السجين السياسي أو السجينة السياسية، ونطالب بإلغاء القرارات والقوانين المقيدة للحريات، كما نطالب بإيقاف حملات الافتراء والأكاذيب التي تنشرها الصحف.

وقَّعنا جميعًا على البيان، وسلَّمناه لضابط المباحث، وانتظرنا الرد.

•••

في صباح أحد الأيام (يوم ٢٣ نوفمبر ١٩٨١م) فتحت إحدى الصحف (جريدة الأحرار)، فقرأت في الصفحة الأولى أسماء بعض المتحفظ عليهم، وقرأت اسمي بينهم، وأن هؤلاء قد اتهموا بواسطة المخابرات العامة بتنفيذ مخطَّط سوفيتي تشارك فيه قوى الرفض لإحداث حالة من الفوضى بالبلاد من خلال المتاجرة بمشاكل الجماهير، وإذكاء الخلافات الطائفية واستغلال الجماعات الإسلامية، وتحريض الشعب على القيام بثورة تتجه بالبلاد نحو الشيوعية.

كيف تنشر الجريدة هذا الخبر الكاذب؟ إن المخابرات والمباحث لم تستطع أن توجه إليَّ مثل هذه التهمة، ولم يرد في أسئلة المدعي الاشتراكي لي أي سؤال عن مثل هذا التآمر.

فتحت الشاويشة الباب فوجدتني ثائرة غاضبة. هددت بحرق العنبر بالكبريت والجاز، أسرعت الشاويشة تجري، وعادت ومعها ضابط المباحث ومسئولو السجن.

قلت بغضب: سمعتي الوطنية تساوي حياتي، ولن أسكت على هذا الكذاب والافتراء وتشويه السمعة.

لم أهدأ إلا بعد أن أرسل ضابط المباحث إشارة عاجلة باحتجاجي ورغبتي في الرد على الجريدة.

تلك الليلة لم يغمض لي جفن، أي قهرٍ هذا الذي يمارس ضدنا ونحن وراء القضبان، لا نملك الرد أو الدفاع عن أنفسنا؟!

مما زاد غضبي أنني أصبحت أقرأ في الصحف بعد موت السادات مقالات تنقد سياسته وتدعو إلى الوقوف بحسمٍ ضد الفساد والظلم والمحسوبية، وكلمات كثيرة أصبحت تنشر تشبه الكلمات التي سبق أن نشرتها في عهد السادات والتي حبسني بسببها.

الدماء تغلي في رأسي، جسدي يرتعد بالغضب.

أمسكت رأسي بيدي، الأفضل أن أهدأ فأنا ما زلت وراء القضبان، ولا أملك وسيلة الدفاع عن نفسي.

هدأت قليلًا، ثم أمسكت ورقةً وقلمًا، ووجدتني أكتب هذه الرسالة إلى رئيس الجمهورية.

السيد: حسني مبارك، رئيس الجمهورية

تحية طيبة،

رغم وجودي في سجن القناطر، إلا أني سمعت تصريحكم عن أن سيف القانون لن يُفرق بين كبيرٍ وصغير. وقد اقتُرِفَت في حقي جريمتان:

الجريمة الأولى هي: إدخالي السجن منذ ٦ / ٩ / ١٩٨١م، وحتى اليوم دون أي جريمة إلا موقفي المعلن، وكلماتي المنشورة في الصحف دفاعًا عن حرية الرأي والحقوق الأساسية للإنسان والشعب المصري. ويمكن لكم أن تتأكدوا من ذلك بالاطلاع على محضر التحقيق الذي أجراه معي المدعي الاشتراكي.

أما الجريمة الثانية فهي: تشويه سمعتي الوطنية والأدبية، وأنا داخل السجن لا أملك وسائل الدفاع أو الرد. وقد نشرت جريدة الأحرار في صفحتها الأولى بتاريخ ٢٣ / ١١ / ١٩٨١م خبرًا كاذبًا يلوث اسمي الوطني الناصع البياض، ويصور للرأي العام أن التهمة التي وُجهت إليَّ هي الاشتراك في تنفيذ مخطط سوفيتي لإحداث فوضى بالبلاد، هذه التهمة التي لم تجرؤ المخابرات أو المباحث على توجيهها إليَّ.

ويزيد وقع هاتين الجريمتين عليَّ حين أقرأ في الصحف اليوم كلمات هي نفسها الكلمات التي سبق أن كتبتها، والتي بسببها دخلت السجن، لكنهم اليوم أصبحوا يتسابقون لكتابتها بمثل ما تسابقوا بالأمس لإدانتها.

كل ذلك وأنا لا زلت بالسجن أنتظر الإفراج، إلا أن الإفراج عني لا يعني خروجي من السجن فحسب، ولكنه يعني أيضًا تطبيق الوعد الذي أخذته على نفسك، وقد أكدت بأنك لن تعد شيئًا تعجز عن الوفاء به.

وقد وعدت أن سيف القانون لن يفرق بين كبيرٍ وصغير. فهل يتجه سيف القانون ضد كل من اشترك في الجريمتين السابقتين؟ وهل يمكن أن ترد لي حقوقي القانونية والإنسانية والوطنية والأدبية التي أُهدرت على مدى الشهور والأسابيع والأيام؟

إن سمعتي الوطنية وكرامتي الأدبية تساوي حياتي تمامًا، لا فرق فأنا لم أرثهما عن أبٍ أو جد، ولم تمنحهما لي سلطة أو منصب، لكني بنيتهما على مدى السنين بكفاحي وإصراري، واستطعت أن أصنع بهما اسمي: نوال السعداوي، الكاتبة المصرية، المعروفة بقلمها الحر، وفكرها الشجاع الأصيل، في مصر وفي الوطن العربي وفي العالم كله.

فهل يمكن أن تفي بهذا العهد الذي قطعته على نفسك؟ أرجو ذلك، وشكرًا وتحية.

انتهيت من كتابة الرسالة، حين سمعت صوت الكروان، نهضت من السرير وسرت إلى الباب، دسست رأسي بين القضبان، نسمة الفجر الرطبة المنعشة، وضوء الشفق يزحف من بعيد، صوت الكروان يتردد متقطعًا كالشهقات، كالنداء، كالنشيج، كطفلٍ يشهق بالضحكات أو البكاء.

وجه ابني يلوح في الظلام، عيناه تلمعان ومن خلفي سمعت صوت الزميلات المنقبات، أذان الفجر والصلاة.

ارتديت الحذاء الكاوتش، وبدأت التمرينات الرياضية، الحركات العنيفة تشعرني بالراحة، العرق يتصبب غزيرًا، يغسل الأرق ويغسل التعب.

وضعت رأسي تحت الماء البارد، الآن فقط أشعر بانتعاش، وجوع أو ظمأ مجنون لكوبٍ من الشاي.

لم أكد أحوط الكوب الساخن بيدي، حتى سمعت المفتاح يدور في الباب، ورأيت المأمور منتصبًا أمامي.

قال بانفعالٍ يكتمه: دكتورة نوال، أعدي حقيبتك وتعالي معي.

انتفضت واقفة: إلى أين؟

قال: لا أعرف.

قلت: إفراج؟

قال: لا أعرف.

حوطتني الزميلات، لا بد أنه إفراج.

قلت: إذا كان إفراجًا؛ فلماذا لا يقول ذلك. لا بد أنها جلسة تحقيق أو انتقال إلى سجنٍ آخر.

تركني المأمور لأعد حقيبتي، أقاوم الإحساس بالفرح، ربما لا يكون إفراجًا وقد أعود إلى السجن مرةً أخرى.

لكن إذا كنت سأعود مرةً أخرى، لماذا يطلب مني إعداد حقيبتي؟

دسست الملابس في الحقيبة، في علبة كرتون صغيرة وضعت أصابع السلك الألومونيوم، مجموعة من «رولو» الشعر (سلك على شكل أصابع تلف به النساء شعرهن) لم أكن ألف شعري بهذه الأصابع السلكية، لكني كنت قد خبأت داخلَها كل أوراقي ومذكراتي كل ليلة.

أسرعت كل زميلة تناولني رسالة صغيرة، وهي تهمس في أذني: «لو خرجت إفراج أرسلي هذه إلى أهلي.»

خبأت الرسائل داخل حذائي الكاوتش، ومعها رسالتي إلى رئيس الجمهورية.

كنت أتوقع أن يفتشوني عند الباب، لكن أحدًا لم يفتشني. رأيت باب السجن الكبير مفتوحًا على مصراعيه. وكل شيء من حولي يجري ويلهث. سلمني المأمور بسرعة الجنيهات الباقية لي في الأمانات، وبطاقتي، وأشيائي التي أخذها مني أول ليلة جئت فيها إلى السجن. الكل يبدو متعجلًا، الضباط يلهثون.

عيونهم ترمقني بشيءٍ غامضٍ يشبه الاحترام أو الرهبة.

قادوني بسرعة إلى سيارة ملاكي صغيرة. جلست في المقعد الخلفي، انطلقت السيارة تجري وتلهث، حتى السائق يبدو وكأنه يلهث.

تلفت حولي بدهشة: ما الذي حدث؟

– خير إن شاء الله.

– إلى أين تحملونني؟

– خير إن شاء الله.

– لا أفهم شيئًا.

– سنحملك إلى مكانٍ معين.

– ما هو هذا المكان المعين؟

– ستعرفين حين تصلين.

من لهجتهم أحسُّ أن شيئًا ما خطيرًا قد تغير، ما هو؟ وما هذه الرحلة الجديدة نحو المجهول، وإذا كانت «خيرًا» كما يقولون، فلماذا هذا الإخفاء والتكتم؟ ولماذا تكون رحلة سرية بهذا الشكل؟!

طوال حياتي أتشكك في أي شيءٍ «سري»، لا أطيق الهمس، والتخفي، وعدم المواجهة.

لماذا لا يقولون الحقيقة؟!

أسندت رأسي إلى مسند السيارة، رجلان يجلسان أمامي؛ أحدهما يسوق، والآخر ينظر إلى الطريق. رجلان غريبان عني تمامًا، لم أرهما إلا الآن، والسيارة الفولكس الصغيرة كالعلبة الحديدية تنطلق بهذه السرعة الجنونية إلى أين؟

أهي محاولة خفية سريعة لإعدامي وإخفاء جثتي في بطن الأرض؟

أهو إفراج؟ ولكن هل يخفى الإفراج بهذا الشكل؟ ولماذا؟

أسئلة عديدة تدور في رأسي، أرتفع إلى قمة التفاؤل والفرح، ثم أهبط إلى حضيض اليأس والغضب.

من حقي أن أعرف إلى أين يحملونني، سواء إلى الجنة أو الجحيم، لا يهم إلى أين أذهب، ولكن الأهم أن أعرف. أنا إنسانة ولست «طردًا» يُحمل من مكانٍ إلى مكان. المعرفة حق لي، وليأخذوني بعد ذلك إلى حيث يشاءون.

الطريق المجهول يبدو مخيفًا ومفزعًا، وإن كان في نهايته الفردوس.

السيارة تطير فوق الأرض بسرعةٍ عجيبة، وأنا داخلها أهتز كريشة في مهب الرياح. عيناي ترقبان الشوارع والناس. اتسعت عيناي بدهشة، رأيت امرأة تسير في الشارع، وتحرك ذراعيها بحريةٍ غريبة. يبدو أنها في طريقها إلى بيتها.

السير في الشارع أو العودة إلى البيت أعجوبة، أمر خارق العادة. ضربٌ من المستحيل.

منذ متى لم أسر في الشارع، ولم أعد إلى بيتي؟ منذ ثمانين عامًا؟ ربما أو في زمنٍ آخر غير الدنيا، ربما منذ كنت طفلة أو تلميذة في الابتدائي.

لمحت امرأة تقود سيارة، وتنحرف في طريقٍ جانبي، ورجلًا يدخل إلى محل بقالة. كيف يتحرك الناس بهذه البساطة في الشوارع؟!

الحرية على رءوس الناس لا يراها إلا المسجون.

توقفت السيارة أمام قصرٍ كبير، هبط الرجلان بسرعة، وهبطت أيضًا.

قال أحدهما: ستقابلين السيد رئيس الجمهورية الآن.

خفقة قلبٍ سريعة وابتسامة حذرة. ما زلت أحمل السجن داخلي، والسجن هو أن تشك فيما تسمع، حتى ترى بعينيك وتلمس بيديك وتتأكد بنفسك.

في البهو الأنيق رأيت ثلاثين وجهًا من المتحفَّظ عليهم، بعضهم مندهش لا يصدق بعد. بعضهم فرح يغلبه الفرح، بعضهم متألم يسترجع آلامه.

أصواتهم تتعانق، قلوبهم تخفق، الضوء قوي مبهر يؤلم العيون المرهقة، عيون شابة وعيون عجوز. وعيون ليس لها عمر، كأنما أكبر من الزمن لا تشيخ ولا تموت. عيون الإنسان المصري البسيط يدخل بحذائه المترب وملابسه المعفرة بتراب السجن، ليقول كلمته أمام التاريخ.

مد يده نحوي وصافحني، يده مفتوحة مخلصة صريحة ومباشرة. تلاشى السجن ومعه الشك من داخلي، تحررت وأمسكت حريتي بيدي، وفي أذني يرن صوته، كلماته مخلصة صريحة، مختصرة ومباشرة، كلمات كانت تشتاق إليها آذاننا: العدالة، المساواة، الحرية، الإنتاج، العمل، احترام الرأي المخالف، الديمقراطية، مصر عربية إفريقية، سيف القانون لا يفرق بين كبيرٍ وصغير، الحرب على الفساد والقضاء على استغلال الأقلية المتميزة للأغلبية المطحونة.

أعطيته رسالتي، قرأها كلها، ثم رفعت يدي، وقلت كلمتي. قلت: إن الحاكم مهما صلح لا يستطيع أن يحكم وحده كفرد، وأن هناك دائمًا طبقة تعزله عن الناس، وتحوِّل الشعب إلى أغلبية متفرجة سلبية، وأن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق دون أن تكون هناك ضمانات قانونية لحماية كل صاحب رأيٍ من بطش السلطة، وإلا فسوف يقضي الخوف على عقول المصريين والمصريات.

انتهى اللقاء، ثم خرجنا. تلفت ورائي، ظننت أنهم سيحملونني مرةً أخرى إلى السجن، إلا أن أحدًا لم يقترب مني. سرت بحذرٍ نحو باب الخروج، أوقفني أحد الصحفيين وأنا خارجة عند باب القصر، وصاح مندهشًا وهو ينظر إلى حذائي: حذاء كاوتش في قصر العروبة؟ قلت وأنا أخطو إلى الشارع أحمل حريتي في عيني كضوء الشمس، ولماذا تنظر إلى حذائي يا صديقي؟ انظر إلى عيني.

•••

وقفت في الطريق مذهولة، أحمل حقيبتي. الناس من حولي تهرول إلى أعمالها، والسيارات في سباقٍ جنوني على أرض الشارع.

لا أحد يتوقف وينظر إلى وجهي، لم أنظر إلى وجهي في المرآة منذ دهر، هل وجهي كما كان؟ ألا يلحظ أحد تراب السجن فوق ملامحي؟!

حركت ذراعي وساقي، وسرت مثل الناس. هل أصبحت واحدة من الناس؟ هل أنتمي إلى هذا العالم، ويمكنني أن أستقل تاكسيًا وأعود إلى بيتي؟ هكذا ببساطة؟!

توقفت لحظة، وضعت الحقيبة على الأرض، لمحت تاكسيًا مقبلًا، فأشرت له بيدي. توقف التاكسي.

ركبت وقلت للسائق: الجيزة.

وانطلقت السيارة.

كل شيءٍ بدا كالحلم، شارع الجيزة كأنني لم أرَه منذ قرن، وشارع النيل، والكوبري، ثم انحرفت السيارة، وتوقفت ورأيت باب بيتي.

ما زلت أسير كالنائمة، ضغطت بإصبعي على جرس الباب، انفتح الباب، ورأيت وجه زوجي.

لحظة كالخيال، كتلك المشاهد التي تحدث في القصص والروايات. من الزنزانة إلى قصر رئيس الجمهورية إلى ذراعي زوجي في بيتنا.

كل ذلك في صباح يومٍ واحد هو ٢٥ نوفمبر ١٩٨١م، التاريخ الثالث المحفور في ذاكرتي، ومعه ٦ أكتوبر، ٦ سبتمبر، ٢٨ سبتمبر.

أربعة تواريخ كلها في خريف ١٩٨١م، وكلها في مصر.

عاد ابني وابنتي في الساعة الثالثة بعد الظهر، اختبأت لأراهما دون أن يرياني، رأيت عيونهما وهما يتطلعان إلى مقعدي الخالي إلى المائدة، وسريري الخالي في غرفة النوم.

حزن عميق مكتوم، حوَّل عيون الأطفال إلى عيون عجوز.

لو رأيت عيونهما هذه لانهزمت داخل السجن، لكن خلايا عقلي دفنت ملامحها في مكانٍ ما لا أدريه، وخيالي عجز عن أن يرسم الحزن في عيونهما، وناديت عليهما، وكانت لحظة أخرى خارج الكون والحقيقة. التفَّت ذراعاي حول الجسمين اللذين لم يعُودا جسمَي طفلين، والعيون التي لم تعد عيون أطفال.

وفي العناق رأيت اللمعة تعود إلى سواد العين، والطفولة كلها تعود، ومعها الحنين وشوق ثمانين عامًا من البعد والألم العميق، وشيء في أعماقي يقول: انتهت هذه المرحلة من حياتي، والآن بدأت مرحلة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤