الفصل الثاني عشر

تخرج فتحي في كلية الطب وعمل بمستشفى الشفاء، وهو مستشفى خاص. وفتحي مختلف في الملامح تمامًا عن أخته. حين نجد مبروكة سمراء ذات معارف قوية، فالعينان واسعتان والفم ليس كبيرًا والأنف دقيق، ولا شيء من معارفها يعدو على جمالها، الأمر الوحيد الذي تتفق فيه مع فتحي هو النحافة. ولكن فتحي أبيض الوجه سوي الملامح في غير جمال ولا قبح، تعبره عيناك ولا يستوقفهما من معارفه شيء خاص، فهو رجل عادي مثل الملايين من الناس.

وفتحي طبيب باطني، ولذلك كان يكشف على كثيرين من القاصدين إلى المستشفى.

وكان من بين المرضى الذين يراهم مريض عرف أن اسمه نعمان عميرة، وسأله: ما عملك؟

– أعمل في بنك الاستثمار.

– في أي قسم منه؟

– قسم الائتمان.

– هذا مكان مهم جدًّا.

– نعطي لغيرنا ولا ننال مما نعطي شيئًا.

– هذا أمر لا يجوز.

– هذا هو الواقع، مع أنني رئيس القسم.

– سأزورك في البنك ونحاول أن نصلح هذا الواقع.

– أهلًا وسهلًا بك يا دكتور.

– اترك لي أيضًا عنوانك ورقم تليفونك.

– هذه بطاقتي بها كل ما تريد.

– شكرًا … لا تخف على صحتك، ليس بك شيء.

مجرد إرهاق بسيط والدواء الذي كتبته لك سيجعلك مثل الحصان.

– ألف شكر يا دكتور. السلام عليكم.

كان قد عُيِّن مع فتحي في نفس المستشفى اثنان من خريجي دفعته، هما وائل العصفوري وصالح النجمي، وكلاهما ينتسب إلى أبوين غاية في الثراء.

وقد كان فتحي يضيق غاية الضيق ببخل والده وشحه، حتى إنه حين فاتحته صبيحة قائلة بمشهد من أبيها الشيخ إسماعيل عوض: الآن أريد أن أفرح بك، وأنا اخترت لك عروسًا في غاية الجمال. ما رأيك في فريدة بنت عمك متولي؟

– تقصدين أن أتزوج.

– ولماذا لا؟

– يا أمي حرام عليك. هل نجد ما نأكله حتى أتزوج.

قال جده: كيف هذا؟! إن أباك من أغنياء مصر المعدودين.

– وهذا أدهى وأمر، أقسم لك يا جدي إنني كثيرًا ما أترك المائدة وأنا ما أزال جائعًا لم أشبع.

وقال الشيخ إسماعيل: أعوذ بالله، أعوذ بالله. المال مالك إذا استعبدته وعشت به، أما إذا عبدته فهو الوبال عليك في الدنيا والآخرة.

– هذا الكلام لا نسمعه ولا نحس به إلا حين نراك يا جدي.

– أعوذ بالله. ألا تذكرون الله في هذا البيت؟

– لولا صلاة أمي ما عرف بيتنا اسم الله مطلقًا.

– لا إله إلا الله، وما دمت تقول هذا فلماذا لا تصلي أنت؟

– هل كنت رأيت أبي يصلي حتى أصلي؟

– هذه حجة واهية. أتريد أن تكون مثل أبيك في الشح الشديد الذي يتصف به؟

– أعوذ بالله! طبعًا لا.

– إذن لماذا تقلِّده في عدم الصلاة؟ إن الله سبحانه يقول: وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا.

– لا أذكر أن أبي ذكر الله في حياته إلا حين يقسم. وغالبًا ما يكون القسم كاذبًا.

– كره الله هذا والمؤمنون، كره الله هذا والمؤمنون. وما لهذا ولزواجك؟

– وكيف أستطيع أن أطعمها؟

– بمرتبك.

– مرتبي لا يكفي ثمن سجائري.

– مال أبيك لك بعد عمر طويل لا يشاركك فيه إلا مبروكة بالثلث فقط.

– الواضح أن هذا العمر سيكون طويلًا غاية الطول، فصحة أبي قوية والحمد لله.

وقال الشيخ إسماعيل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أتتمنى موت أبيك؟

– لا طبعًا. وإنما أذكر الحقيقة.

– هذا بيت لا أحب أن أجلس فيه. سلام عليكم!

وقام مغادرًا ابنته وحفيده اللذين ودَّعاه، وعادت صبيحة من وداع أبيها وقالت: أنت إذن ترفض فكرة الزواج.

– لن أتزوج إلا بعد أن أصبح غنيًّا قادرًا.

– ومتى يكون هذا؟

– لا تتعجلي، فهذا أمر سيحدث، وسأكون في مثل غنى أبي إن لم يكن أكثر.

– كيف هذا إن شاء الله؟

– أنا أفكر في مشروع يحقق لي هذا وأكثر.

•••

خلت حجرة الأطباء بالمستشفى بفتحي وزميليه وائل العصفوري وصالح النجمي. وانتهز فتحي الفرصة وقال لهما: أين ستذهبان اليوم مساءً؟

وقال وائل: ليس عندي شيء.

وقال صالح: وأنا أيضًا.

قال فتحي: أريد أن ألتقي بكما. ما رأيكما أن نجتمع بمقهى الهيلتون اليوم الساعة السادسة؟

وقبل كلاهما فكرة اللقاء.

وحين اجتمع شملهم بدأ فتحي الحديث: نحن الثلاثة نبذل جهدًا كبيرًا في المستشفى دون عائد.

وقال وائل: هذا أمر طبيعي، فثلاثتنا لم يفتح عيادة.

وقال صالح: وإذا فتحنا عيادة فأمامنا سنوات حتى نصبح من المشاهير، ونكسب منها كسبًا حقيقيًّا.

وقال فتحي مسارعًا: يسلم فمك يا صالح.

وقال وائل: هل عندك علاج لهذا؟

– عندي علاج حاسم.

قال وائل: ما هو؟

– نحن ثلاثتنا آباؤنا أغنياء. فما رأيكم نبني مستشفى خاصًّا؟

قال وائل: أما إنك شأنك عجيب.

– لماذا؟

– أنت لا تنقطع عن الشكوى من أبيك وبخله وشحه وتقتيره عليك! أهذا الأب يعطيك ما تساهم به في بناء مستشفى خاص؟

– مهما وصفت بخل أبي فإنه لا يصل إلى حقيقته.

قال صالح: فماذا أنت فاعل معه؟

– إنه كذلك شحيحٌ مقترٌ طالما كانت الأموال التي ينفقها بغير عائد. أما إذا كانت أموالًا تأتي بأموال فحينئذٍ ينفق عن سعة.

– إذن المستشفى ستكون باسم أبيك.

– شريك معنا فقط.

قال وائل: والله المسألة فيها نظر.

قال وائل: أتعرفان كم يكلف المستشفى؟

قال فتحي: لتكن التكلفة ما تكون.

قال وائل: وهل يقبل آباؤنا أن يقدموا الأموال التي تكفي؟

– من قال ذلك؟

قال صالح: أنت.

– أنا قلت إن آباءنا يساهمون.

قال صالح: وبقية التكاليف؟

قال فتحي: هذا شأني أنا.

قال وائل: بل شأننا جميعًا … قل لنا ماذا أنت فاعل؟

قال فتحي: نحن بأموال آبائنا سنشتري الأرض فقط، وبعد ذلك في البنوك متسع للجميع ولا شأن لكما بهذا الموضوع.

قال صالح: والله الفكرة لا بأس بها، وسأكلم أبي اليوم.

قال وائل: وأنا أيضًا. ولكن هل وجدت الأرض؟

– هذا أمر ميسور. لقد ذهبت ورأيت أرضًا في طريق المعادي أربعة آلاف متر وثمنها ثمانية ملايين جنيه. إذا دفعنا نصفها نستطيع أن نكمل من البنك.

•••

قال فتحي لأبيه: ما رأيك إذا قدمت لك مشروعًا يدر عليك ذهبًا لا تستطيع إحصاءه أو عده؟

– أنت تقدم مشروعًا يأتي بالذهب؟

– نعم. وهل أنا صغير؟

– ليست المسألة بالسن.

– اسمع مشروعي أولًا.

– قل يا فالح.

– نبني مستشفى استثماريًّا.

– أنا؟

– لست وحدك.

– مَن معي؟

– والدا وائل العصفوري وصالح النجمي.

– هل هما ابنا العصفوري والنجمي المعروفَين؟

– إنهما هما.

– إذن أجتمع بآبائهما.

– وهو كذلك.

•••

وتكوَّنت الشركة في هذا الاجتماع من الآباء الثلاثة وأبنائهم الثلاثة. وذهب الستة إلى الأستاذ حسان المهدي لكتابة عقد الشركة على أن يتولى فتحي التعامل باسم الشركة بصفة عضو الشركة المنتدب. ولم يُضِع فتحي وقتًا وإنما قال لحسان المحامي: أريد أن أراك لاتخاذ التدابير اللازمة.

– غدًا في مثل هذا الموعد.

وحين ذهب فتحي إلى حسان في الموعد، قال: أريد أن أكتب على يديك مذكرة بجدوى المشروع.

– نكتبها معًا.

واستغرقت كتابة مذكرة الجدوى ما يقرب من أسبوع. ما إن انتهيا منها حتى كلم فتحي في التليفون نعمان عميرة رئيس قسم الائتمان في بنك الاستثمار: نعمان بك.

– أنا هو.

– أنا الدكتور فتحي توفيق.

– أهلًا وسهلًا. أهلًا يا دكتور.

– ما أخبار صحتك؟

– والله دواؤك نفعني جدًّا.

– الحمد لله. أريد أن أراك.

– تحب أن تجيء إليَّ أم أجيء إليك؟

– هل أنت مشغول الآن؟

– وإن كنت، هل أستطيع أن أُشْغَل عنك؟

– أريد أن أراك وحدك.

– أهلًا وسهلًا، شَرِّف الآن.

– أنا في الطريق إليك.

وذهب فتحي من فوره إلى مكتب نعمان عميرة ببنك الاستثمار، واستقبله نعمان بترحاب كبير قائلًا: أشكرك على علاجك لي، فإن دواءَك قد جاء بأحسن النتائج.

– الحمد لله.

– أنت ابن توفيق بك صبحي الثري المعروف.

– نعم أنا ابنه.

– أهلًا وسهلًا، أنا تحت أمرك.

وأخرج فتحي من جيبه ما أعده من دراسة الجدوى لمشروع المستشفى. وراح نعمان يقرؤها بإمعان شديد، وحين انتهى من القراءة قال لفتحي: مشروع عظيم.

– لقد اشترينا الأرض فعلًا.

– وماذا أستطيع أن أفعل؟

– أريد من البنك عشرين مليون جنيه.

– وماذا عن الضمانات؟

– لو كان فيه ضمانات لما جئت إليك.

– هل تستطيع أن تزورني اليوم في البيت؟

– وهو كذلك.

– هل بطاقتي معك؟

– طبعًا.

– فأنا منتظرك.

واستأنفا حديثهما بالبيت: أنا أستطيع أن أعطيك العشرين مليونًا.

– أنا أعرف ذلك.

– ولكن؟

– طبعًا.

– كم؟

– ما تأمر به.

– أنت تعرف خطورة العملية.

– وأعرف أن مرتبك ضئيل.

– إذن ماذا تُقَدِّرُ لي؟

– ما تقوله نافذ.

– لن أثقل عليك … أريد مليون جنيه.

وصمت فتحي هنيهة ثم قال: والله لا أرد لك كلمة أبدًا.

– على بركة الله.

•••

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤