الفصل السابع

توفيق فتًى ما يزال شابًّا وقد كان عادي القسمات، فإذا رأيته لا تستطيع أن تميزه بشيء معين، فهو أسمر الوجه سمرة خفيفة، واسع العينين إلى حد ما، خفيف الشعر والحركة معًا، وكان يرتدي الحلة الإفرنجية ويحرص على أن يطوق عنقه برباط، وليس يعنيه أن تكون الحلة أو رباط العنق أو الحذاء على شيء من الأناقة، فقد كان شحه الشديد يجعله لا يشتري إلا أرخص الملابس، معتقدًا في فلسفة البخلاء أن أحدًا لن ينتبه إلى رخص ما يرتديه.

أما متولي فقد كان على شيء من السمن، وكان يرتدي الملابس البلدية، ولكنه كان يحرص على أن يكون ما يلبسه من نوع جيد في غير إسراف ولا بخل.

وكان ابنه سعيد نحيف القوام لا يخلو وجهه من ملاحة، وكان يرتدي القميص والبنطلون فإذا حل الشتاء زاد عليهما بلوفر من الصوف.

•••

بات توفيق ليلته في فندق بسيدنا الحسين، وسافر في اليوم التالي إلى البلدة ولقيته صبيحة في ابتسامة عريضة، وقد كان وجهها يزداد جمالًا حين تبتسم، فقد كانت ذات وجه أقرب إلى الاستدارة ولها شعر تجيد تصفيفه، وكانت ما تزال نحيفة فآثار الحمل لم تكن ظهرت عليها طبعًا. قالت: الحمد لله على سلامتك.

– الله يسلمك.

– إن شاء الله يكون المشوار خيرًا؟

– خير كل الخير. اشتريت شقة لنا. وأما أموري الأخرى فقد سارت على خير ما يرام.

وكان توفيق قد تعوَّد في حديثه مع صبيحة ألا يطلعها على شيء من أعماله أو آماله، فقد بدا له منها في وضوح أنها لم تكن تُعنى بشيء من هذه الأمور، فليس يعنيها من زوجها إلا ما كان متصلًا بشخصها، أو البيت الذي تعايش زوجها فيه. فلم يكن غريبًا على توفيق أن لم تسأله عن شيء إلا الشقة.

– هل الشقة حلوة؟

– على النيل.

– كم حجرة؟

– ثلاث حجرات واسعة وفسحة نستطيع أن نضع فيها المائدة.

– مبروكة إن شاء الله.

– والأثاث هل سنشتريه من هناك أم من هنا من البندر؟

– لا من هناك ولا من هنا. ما له هذا الأثاث؟

– هذا الأثاث من أيام زواج أبيك الله يرحمه.

– وإن كان من أيام زواج جدي.

– شقة جديدة أليس من الطبيعي أن يكون أثاثها جديدًا؟

– الطبيعي أننا نأخذ هذا الأثاث.

– وأنت إذا جئت إلى هنا؟

– سأحتاج إلى سرير وكرسي ومنضدة. نترك هذه الأشياء ونفرش بباقي الأثاث الشقة الجديدة.

– وإذا جئت إلى هنا وزارك بعض الناس، ألا يجدون كرسيًّا يجلسون عليه؟

– نترك أربعة كراسي.

– أهذا معقول؟

– هذا هو المعقول.

– يا عالم شقة جديدة نؤثثها بأثاث أكل عليه الدهر وشرب.

– اسمعي، لا مناقشة في هذا.

– ما دام معك ما تستطيع أن تجدد به أثاث بيتك …

– ولا كلمة.

وانقطع الحوار. فصبيحة إن تكن تستطيع أن تنسرب إلى عميق بخله لتشتري فستانًا أو اثنين، فهيهات لها وألف هيهات أن تجعله يشتري أثاثًا جديدًا.

•••

كان لتوفيق بعض الديون عند الناس وكان لديه لكل دين إيصال أمانة. فطاف على المدينين واستخلص منهم أمواله غير عابئ بالدماء التي نزفت من المدينين ليسددوا له ديونهم.

وكان المدينون جميعًا يعلمون أن لا شيء في العالم يستطيع أن يزحزحه عن هذا الوعيد. فكلهم لم ينسَ كيف تزوج ابنة الشيخ إسماعيل.

•••

وضع توفيق أثاث بيته جميعًا في سيارة لوري وترك من الأثاث ما أخبر به صبيحة. وركب هو وصبيحة بجانب السائق بينما سافر الحمالان في ظهر السيارة مع الأثاث.

وحين رأت صبيحة الشقة رضيت عنها، وإن كانت ما تزال غاضبة بعض الشيء أنها لم تستطع أن تقنع زوجها بشراء أثاث جديد. إلا أنها كانت تعرف بخله الشديد، وكانت قد تعوَّدت عليه واحتسبت في شأنه الله فهو نعم الحسب ونعم الوكيل.

•••

لم يكونا قد انتهيا من رص الأثاث حين فوجئا بالمعلم متولي وزوجته الأولى تفيدة البرشومي يدخلان من باب الشقة الذي كان مفتوحًا، ووراءهما سعيد يحمل صينية كبيرة مغطاة وضعها على المائدة.

وفوجئ بهم توفيق وصاح متولي: أهلًا وسهلًا.

– أهلًا بكم في مصر. هذه زوجتي تفيدة، أما سعيد فأنت تعرفه.

– أهلًا. وهذه زوجتي صبيحة.

– صممت أن أتغدى عندك اليوم.

– الواضح إنك أنت الذي ستغديني.

– لا فرق.

– تفضلوا بالجلوس. يا وهيبة أعدي المائدة.

وقالت تفيدة لصبيحة: مرحبًا بكِ في مصر. واضح أنكم لم تنتهوا بعد من رص الأثاث، دعيني أساعدك.

– يا أهلًا بكِ كثر خيرك. الباقي حاجات بسيطة.

– وما له؟ فقط نجعل الرجال يقعدون ويدي في رص الأثاث على يدك.

وجلس متولي وتوفيق وسعيد في غرفة كان بها بعض الأثاث. وقال متولي: زوجتك قريبتك؟

– هي ابنة رجل طيب من بلدنا، وهي حامل.

وسمعت تفيدة هذه الكلمة وصاحت صبيحة: أنت حامل؟

وفي بعض الخجل قالت: نعم في الشهر الثاني.

– إذن تقعدين مع الرجال واتركيني مع وهيبة نرص كل شيء.

– هل هذا معقول؟

– هذا هو المعقول الوحيد.

وانصاعت صبيحة وجلست مع الرجال. ودار الحديث الذي لم تشارك فيه صبيحة بشيء يذكر، فقد كان الحديث كله حول مدبولي وما يصنعه بمتولي. وانتهى بتوفيق قائلًا: لا تفكر فيه أنا عندي دواؤه.

– تعمل فيَّ معروف العمر.

– فقط أعطني بعض الوقت.

– عندك من الوقت ما تشاء.

– حتى أعرف العاملين معك، وأعطي نفسي فرصة للتعرف على العمل في الوكالة.

– بسيطة.

– توكل على الله.

•••

سار العمل بين الشريكين على خير ما يكون، فقد كانا متوافقين في أخلاقهما الخاصة بالعمل. ولم يؤثر شح توفيق على عملهما معًا فقد كان متولي يشجِّع هذا البخل في التجارة، فالعائد منه ينتفع به الشريكان. ومرت الأيام وغيَّر متولي رأيه في توفيق، ذلك الرأي الذي ثبت في ذهنه حين كان توفيق يماكس الحاج خيري الوزَّان في شراء الشقة.

•••

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤