مُقدِّمة

سيكون هذا الخيط وصْل ما بينك وبين الماضي فعُدْ إليه، عُد إلى نفسك؛ فلا شيء ينشأ من لا شيء، ولن يعتمد مستقبل أمرك إلا على ماضيك الذي كنتَ فيه، وحاضرك الذي أنت عليه.

أندريه جيد: ثيسيوس

تُعاني الفصحى هذه الأيام وهنًا وذبولًا لم يعد محلَّ جدال؛ فالرَّكاكة أصبحت ظاهرةً عامة ومناخًا شاملًا، واللحن في مبادئ اللغة أصبح قاسمًا مشتركًا، لا بين عامة الناس فحسب، بل بين خاصة الأساتذة والإعلاميين والأدباء! وإنَّ لغةً تستعصي على سدنتها وأحبارها لهي لغةٌ تفقد طبيعة اللغة ووظيفتها، وتستحق من الجميع وقفةً للتدبر والمراجعة والتمحيص.

العربية لغةٌ كأي لغة، تجري عليها نواميس اللغات، وتخضع لقوانين علم اللغة العام، غير أنها في ذلك تقف حالةً خاصةً بين اللغات ونسيج وحدها؛ فهي أعرضُ اللغات متنًا وأطولها عمرًا، العربية لغةٌ جسيمةٌ هائلة الجِرم؛ لأسبابٍ حتمت ذلك:
  • أولًا: أنَّها في الأصل ليست (بمعنًى ما) لغةً واحدة، بل هي المجموع الجبري للغة العربية المشتركة ولهجات القبائل الموثقة.١
  • ثانيًا: أنَّها بعد الفتوحات بسطت ظلها على أصقاعٍ متراميةٍ من الأرض، وقضت على لغاتٍ قديمةٍ فيها (كالسريانية واليونانية والقبطية … إلخ) بعد أن نُقِل إليها، بالترجمة والتعريب، عصارة هذه اللغات وخبرات أهلها الذين أَسلموا واستَعرَبوا؛ فصارت العربية في أدبها وعلومها نتاج كل هذه الأمم، وصارت، من حيث الرصيد العلمي والحضاري، مجموعًا جبريًّا لعدَّة لغاتٍ عريقة!
  • ثالثًا: أنَّها صِينَتْ، برغم التوسع الجغرافي، من التفتُّت إلى لغاتٍ منفصلة؛ بفضل كتابٍ جامعٍ وعقيدةٍ موحدة وعلماء أفذاذ؛ فامتد بها الأجل أكثر من سبعة عشر قرنًا من الزمن محتفظةً بأسسها ونحوها وجذرها الثلاثي، وهي مزية لم تُتح لأي لغة من اللغات.

من شأن هذه الظروف التَّاريخيَّة الخاصَّة، وهذا الامتداد الجغرافي والزمني، وهذه البسطة الأفقية والرأسية، أن تجعل من العربية لغةً ضخمةً واسعة، صعبةً بطبيعة الحال، صعوبة الاكتناز والثراء والغنى، وإذا كان قدرنا أن نبذل في تعلمها جهدًا أكبر مما يبذله غيرنا في لغته فإن جهدنا فيها لا يذهب دون مقابل.

يتضمن الكتاب الذي بين يديك مراجعةً شاملةً لفقه اللغة العربية، تتناول قصتها من مبدئها إلى منتهاها، عسانا أن ندرك ما لهذا الكائن الجميل المقيم معنا وفينا من جلالٍ وحسب؛ فنحتشد لنصرته، ونتنادى لإنقاذه.

(١) أخطاء النحاة

في الفصل الأول والثاني تجد عرضًا مفصَّلًا لعملية جمع اللغة العربية على أيدي النحاة الأوائل، أخطأ النحاة في جمع اللغة وتقعيدها أخطاءً منهجيةً معروفة، عرضنا لها بشيء من التفصيل، وأخذناها بحجمها، ووضعنا أمرها في نصابه.

قد تكون لبعض الأخطاء ثمارٌ حلوةٌ، وعواقب محمودة، ونواتج بَعديةٌ سائغة تتجاوز منشأها، وتصبح قِيمةً بحقها الشخصي! مثلما ينتج اللؤلؤ عن خطأٍ حلَّ بالمحار؛ فتغمدته حظوة الزمن:
  • خلط اللهجات كان خطًّا منهجيًّا بغير شك، أفضى إلى لغةٍ جسيمةٍ داخلها عنصرٌ اصطناعي؛ لغةٍ متخمة بالمترادف والمشترك والأضداد والغريب؛ لغة لم يتحدث بها أحدٌ في أي وقت على نحوٍ طبيعي؛ ذلك أنها ليست لغةً واحدةً، كما قلنا، بل حزمة لغات، غير أن هذه الجسامة صارت وديعة الزمن؛ الزمن الذي يُقصي ويصطفِي، ويَعجِم ويُجرِّب؛ فأخذها بالتنقيح والنخل، واجتبى منها الأجمل والأسلس، فاستوت في النهاية لغةً بديعةً قسيمةً تامةَ الخلق خلابةَ البنيان.

  • وأخطأ النحاة حين استندوا إلى الشعر في أغلب شواهد اللغة، وهنا أيضًا لا نعدم أثرًا إيجابيًّا لهذا الخطأ المنهجي؛ فاللغة التي استمدت مادتها وشواهدها من الشعر لا يمكن إلا أن تكون «لغة شاعرة»، تؤثر النغم وتكره الثقل، وتعرف الحذف والإيجاز واللمح، ويدخل المجاز منها في الصميم.٢

ثم عرضنا لرأي النحاة في نشأة اللغة وطبيعتها. لم يكن الإطار المعرفي الذي يفكر داخله النحاة ليسمح لهم بأكثر مما رأوه، واستثنينا عبد القاهر الجرجاني الذي كانت نظريته في «النظم» استباقًا مدهشًا لكثير من الأفكار الفلسفية واللغوية المعاصرة.

ثم انتقلنا في فصل «اللغة والمنطق» إلى قضية النحو العربي، وبينَّا أن تاريخ النحو كان تاريخ صراعٍ بين ثقافتين: ثقافة العرب وثقافة الموالي، كُتب فيه النصر، للأسف، لثقافة الموالي الذين بالغوا في تضخيم النحو وأثقلوه ومَنطَقوه، وجمدوا اللغة وأبعدوها عما ألفته في «بيت أبيها» من رحابةٍ وسماحة وسجية، وهذه تذكرةٌ تحمل في ذاتها دعوةً إلى إعادة «تعريب النحو»! وتخليصه من اللحاء الأرسطي الثقيل، الذي أضرَّ بالعربية وخنقها وأوحى إلى الناس أن يهجروها.

وفي فصل «التغير اللغوي» نَوَّهْنا إلى ظاهرة التغير وعرضنا، بشيء من التفصيل، لأسبابه وأنواعه، والتوتر القائم بين فكرة «التغير» وفكرة «اللحن» في أذهان اللغويين القدماء والمحدثين، وبينَّا أن الخطأ المشهور لا يعود خطأً؛ إذ إنَّ شرعية اللغة الشيوع! وعرضنا نماذج من «تصحيح الصحيح»! جعلنا منها فرصًا لتصويب الفكر قبل الكلمات، وبينَّا أنَّ كثيرًا مما يقال له «خطأ» في اللغة هو خطأ اللغويين أنفسهم هواة «قُلْ ولا تقُل»، الذين ثقل على أذهانهم الركام الأرسطي فعزلهم عن السليقة العربية، وأفقدهم الفطرة اللغوية فجعلوا يخطِّئون الناس ويبثون فيهم اليأس من الفصحى والتوجس منها.

وفي فصل «العامية والفصحى» عرضنا لقضية ازدواجيتنا اللغوية التي تهدد العقل العربي بالانشطار والتشوش، وبينَّا أن سد الفجوة بين العامية والفصحى لا يكون باحتقار العامية، بل بمهادنتها واسترفادها، ورصد فصيحها وترويجه وإدراجه في مناهج التعليم، حتى يأنس النشء بلغتهم التي يدرسونها ولا يعودوا يحسون في دراسة الفصحى أنهم يتعلمون لغةً أجنبية.

وفي فصل «تعريب العلم» اقتحامٌ لهذه المسألة الشائكة المعلقة، بينَّا فيه أن التعريب ضرورة ملحَّة: قومية وعلمية ونفسية ولغوية، وأن التقاعس عن التعريب هو انتحارٌ جماعي بشع، وتخلٍّ عن أمانةٍ تاريخيةٍ علينا أن نحملها ولا نشفق منها.

وفي فصل «مزايا العربية» بيَّنا، بحيدةٍ وموضوعية، ما تتمتع به العربية من فضائل بنيويةٍ ودلالية، وعرضنا لقضية غياب فعل الكينونة ودلالته الفلسفية، واحتمال وجود منهجٍ علمي وفلسفي مضمرٍ في قلب العربية علينا أن نستكشفه ونستوحيه.

وفي فصل «ضرورة الإصلاح» عرضنا لمعنى الإصلاح وخصائصه، واقترحنا ما أسميناه «نظرية الاستعمال» كوصفةٍ شاملة للإصلاح اللغوي في مجال التقعيد والتعليم والتعلم، وأشرنا بسهمٍ إلى الطريق الثالث الذي ينبغي أن نتخذه في مسِيرنا إلى الفصحى الجديدة التي علينا أن نؤسسها، مثلما أسس دانتي الإيطالية، تواتينا في ذلك رياح الكوكبية وقوى العولمة التي تحلُّ لنا، من حيث لا نحتسب، مشكلة الحرف العربي، وتعكس الميول اللغوية القديمة؛ إذ تقرب اللهجات وتوحد اللغة وتمنع انشعابها، وتيسِّر نشرها وتعلُّمها، وتلقيها على مسامع الناس بالغدو والآصال، وقلنا: إنَّ تلك فرصةٌ سانحة علينا أن ننتهزها ولا نضيعها.

(٢) إحياء التراث

ليس ثمة تناقضٌ بين تجديد اللغة وإحياء التراث كما قد يبدو للنظرة السطحية العجلى، فالحق أن العربية لغةٌ معمرة، تنمو من داخلها بالاشتقاق والتعريب، ويظل جذرها الثلاثي حاضرًا عتيدًا، ويظل ماضيها موصولًا بحاضرها يغذوه ويمسكه ويمده بأسباب النماء.

بإهاب كل مُجدِّدٍ كبيرٍ كلاسيكيٌّ كبيرٌ، وفي طي كل تجديدٍ شيءٌ من الإحياء! وإن جيلًا نسي ماضيه لهو جيلٌ شائخٌ لا مستقبل له. ليس إحياء التراث غيابًا في الماضي أو اغترابًا عن الحاضر وغفلة عن الآتي؛ فلا بناء بغير دعائم، ولا سُمُوق بغير جذور، ليس إحياء التراث ترفًا بل ضرورة، ولا سُباتًا بل هو الصحو واليقظة والإفاقة، إنه ضرورة لكل أمة تريد أن تسترد وعيها وتستعيد توجهها وتتعرف خط سيرها. إن حاضرًا بلا ماضٍ هو ذهولٌ وشرودٌ وفقدان ذاكرة، وضربٌ في التيه بعد ضياع الخرائط واشتباه الطرق والتباس الأمام والوراء.

ألفاظ مهجورة: من التجديد أن نبعث بعض الألفاظ المهجورة التي هي أكثر إسعافًا لنا من المشهور وأكثر حداثةً من الحديث! ألستَ ترى أن نصف ألفاظ العلم هي جذورٌ وضمائم لاتينية ويونانية كانت ميتةً فأحيتنا؟! كذلك الأمر في العربية:
  • هناك ألفاظٌ نهجرها لأننا لم نجدها ذات نفعٍ لنا أو غَناءٍ في حياتنا الجديدة.

  • وهناك ألفاظٌ تهجرنا لأنها لم تجدنا أكفاءً لها، ولما كانت تَذْخَره لنا من ذَهبِ المعنى.

  • هناك ألفاظٌ تموت عنا.

  • وهناك ألفاظٌ نموت عنها.

(٣) خطورة القضية اللغوية

تولد كل الأجنة عاريةً إلا جنين الفكر فيولد متلبِّسًا باللغة.

تعسِت فكرةٌ رانت على البشر دهورًا تقول إن اللغة مجرد وسيلةٍ للتعبير عن الفكر ونقله إلى الآخرين، تعرض له من خارج وهو تامٌّ مكتمل كأنها غلاف الهدية أو كساء البدن أو وعاء السائل.

إنَّما شأن اللغة أبلغ من ذلك خطرًا وأبعد نفوذًا وأشد هولًا.

اللغة هي ذخائر المقولات وخزائن المفاهيم، بحيث يستحيل عليك أن تفكر تفكيرًا مركبًا ثريًّا بلغةٍ ساذجةٍ فقيرة.

اللغة هي «دالة الفكر» ونماذج الرؤية، بحيث لا تملك أن ترى من العالم إلا بقدر ما تسمح لك لغتك أن ترى.

اللغة هي حاملة العالم، وأطلس الوجود، بحيث لا بجانبك الصواب إذا قلت إن حجم وجودك هو حجم لغتك.

هكذا يتبين لنا مبلغ السَّفَه الذي نأتيه إذا نحن تخلَّينا عن هذه اللغة الجميلة الجليلة بعد كل الذي بلغته من الثراء والارتقاء.

التعريب شرط الحداثة والتغريب حياةٌ بالانتساب.

من الحذق حين نثاقف العالم الغربي المتحضر أن نأخذ عنهم، ونهضم زادهم، ونتمثله تمامًا، ونحيله، بحكم التمثُّل ذاته، إلى كياننا وبنيتنا، لا أن نمنحهم أنفسنا ونتقمصهم تقمُّصًا رخيصًا، ونضحي بحقيقتنا دون مقابل.

آية الهضم التام أن يتحول المهضوم إلى الهاضم، فأنت، كما يقول بياجيه، حين تهضم الملفوف وتتمثله تحوِّله إلى أنسجتك وبنائك العضوي ولا تتحول أنت إلى ملفوف! كذلك الحال في هضم الفكر الغربي وتمثله، فمن شأن الفكر الذي تستوعبه بالفعل أن يتَعضَّى فيك ويذوب في كيانك ويصطبغ بصبغتك؛ فلا نكاد نتبين من ملامحه الأولى شيئًا إلا من طريق الظن والاستنباط، فهو يغيرك ويطورك فيما يتشتت داخلك ويتبدد فيك.

ذلك هو الفهم الحق والتمثل الأصيل.

وحالما تبينَّا في خطابك فكر غيرك كما هو، وتجلَّت لنا ملامحه بتمامها، فهو الدليل على أنك لم تقدر على هذا الفكر ولم تفهمه، وإن كنت تستظهره وتردده، إنه الفكر الذي لم تستوعبه بل استوعبك، ولم تهضمه بل هضمك.

ذلك هو التقليد السطحي والتقمص الرخيص.

لكي نقول: إننا استوعبنا الحداثة حقًّا يتعين أن نرى الحداثة استعربت وتحدثت العربية، ولكي نقول: إننا فهمنا العلم حقًّا؛ ينبغي أن يكون لدينا ما يثبت أن العلم نفسه فهم العربية، أي تعرَّب وتوطَّن في معجمنا وطاب له المقام! وما دون ذلك هو استعمالٌ من الظاهر، هو تمسُّحٌ وتقوُّلٌ وتخلفٌ مقلوب.

إن لدينا منتسبين كبارًا يعيشون بيننا في الشرق كمواطنين بالانتساب في العالم الغربي، يتلبَّسون بالنموذج الأوروبي الأمريكي، ويتشدقون في مجالسهم بالإنجليزية، ويوقعون بها أعمالهم ورسائلهم، إن أسلوبهم يثير الشفقة، وإنجليزيتهم، بحكم الانتساب ذاته، ركيكةٌ عجماء، يظن هؤلاء أنهم متحضرون مجددون، وهم غارقون إلى الأذقان في تقليد آخر، لقد نسوا لغتهم التي لن يبدعوا إلا بها، واستعاروا لغة غيرهم التي لن يعرفوها إلا بالنقل والوساطة، ولو عرفوا من اللفظ معناه المباشر فإنهم في عَمَهٍ عن شحناته وظلاله، وإيحاءاته وتداعياته، وتجلياته الثانية وأقانيمه الأخرى، ومَنشَئه في التاريخ ومسيره في الزمن، وهم بذلك يخسرون البُعد الثالث للغة، ويتبنون لغةً مسطَّحةً مصمتة لن يفكروا بها إلا تفكيرًا مسطحًا مصمتًا.

إن حياة الانتساب هذه تضحيةٌ بالحياة وتنازلٌ عن الإرث ونفيٌ للذات، ووقرٌ وفقرٌ وخزي، لقد باع أصحابنا أنفسهم مجانًا وصاروا مسوخًا لا تروق أعينَ الشرق أو الغرب، واختاروا أن يكونوا أذيالًا لا عمل لها إلا التبعية، ولا مكان إلا المؤخرة.

(٤) في ظل الفصحى

اللغة «جِينٌ» آخر.

فكما أن الجينات شفراتٌ أو مخططات يسير وفقًا لها الكيانُ البشري جسميًّا ونفسيُّا، فإن اللغة شفرةٌ ومنظورٌ ونماذج رؤية تشكل وعينا وإدراكنا الخاص للوجود، وتحكم وجهتنا في الفكر والفعل، وطريقتنا في تصور ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.

بهذا المعنى تكون العروبة قَرابةَ رؤيةٍ بقدر ما هي قَرابة دمٍ، وتكون الدعوة إلى الفصحى دعوةً إلى الوحدة، وإلى لمِّ الشمل، وإلى اجتماع الإخوة بعد افتراقٍ وشتاتٍ وغُربة.

عادل مصطفى
٢٥ / ٢ / ٢٠١٠
١  يقول د. محمد كامل حسين: «… ذلك أنَّ اللغويين جمعوا كل ما سمعوه من العرب على اختلاف قبائلهم ولهجاتهم، وسموا ذلك كله اللغة العربية، وهي مجموعة لغات تتفق في أمور كثيرة وتختلف في أمور كثيرة» (مجلة مجمع اللغة العربية، ج٢٢، القاهرة، ١٣٨٧ﻫ/١٩٦٧م).
٢  يقول أدونيس في «الشعرية العربية»: «فالمجاز في اللغة العربية أكثر من أن يكون مجرد أسلوب تعبيري، إنَّه في بنيتها ذاتها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤