الفصل الثامن

خاتمة

ما الذي تعلَّمناه عن التطور خلال السنوات المائة والأربعين التي أعقبتْ نَشْر كلٍّ من داروين ووالاس أفكارهما للمرة الأولى؟ كما رأينا، نظرتُنا الحديثة مقارِبةٌ على نحوٍ مُثير للدهشة لنظرتهما، في ظلِّ وجود إجماع قوي على أن الانتخاب الطبيعي هو القوة الرئيسية المرشِدة لتطوُّر البنى والوظائف والسلوكيات. والاختلاف الأساسي هو أن التقدُّمَ الحادث على صعيدين بات يعني أن عملية التطور من خلال الانتخاب الطبيعي المؤثِّر على الطفرات العشوائية بالمادة الوراثية صارَتِ الآن أكثرَ جدارةً بالثقة عمَّا كانت عليه في بداية القرن العشرين؛ أولهما: أننا نملك مجموعةً أكبر من البيانات التي تبيِّن تأثيرَ الانتخاب الطبيعي على كل مستوًى من التنظيم البيولوجي، من الجزيئات البروتينية إلى الأنماط السلوكية المعقدة. وثانيهما: أننا بتْنا نفهم الآنَ أيضًا آليةَ الوراثة، التي كانت لغزًا مستعصيًا على داروين ووالاس. لقد صارت جوانبُ عديدةٌ للوراثة مفهومةً في الوقت الحالي تفصيلًا، بدايةً من الكيفية التي تُخزَّن بها المعلوماتُ الوراثية داخل الدي إن إيه، ووصولًا إلى الكيفية التي تتحكَّم بها هذه المعلوماتُ في سمات الكائن من خلال البروتينات التي تحدِّدها هذه المعلوماتُ، ومن خلال تنظيم مستويات إنتاجها. علاوةً على ذلك، نفهم الآن أن العديد من التغيرات في تتابعات الدي إن إيه ليس له تأثيرٌ يُذكَر — أو ليس له تأثيرٌ على الإطلاق — على عمل الكائن، بحيث إن التغيُّرات التطورية في التتابعات يمكن أن تقع بواسطة عملية الانحراف الوراثي العشوائية. تمكِّننا تكنولوجيا تحديدِ تتابعات الدي إن إيه من دراسة تبايُنِ المادة الوراثية نفسها وتطوُّرها، ومن استخدام الاختلافات بين التتابعات في إعادة بناء علاقات النسب بين الأنواع.

وهذه المعرفة بعلم الوراثة، إلى جانب فهمنا أن الانتخاب الطبيعي يحرِّك تطوُّرَ السمات الجسدية والسلوكية للكائنات، لا تعني وجودَ تحديد وراثي صارم لكل جوانب تلك السمات؛ فالجينات تُرسِي فقط النطاقَ الممكن من السمات التي يمكن أن يُظهِرها الكائنُ الحي، أما السمات التي يُظهِرها الكائن بالفعل فأمرُها يعتمد على البيئة الخاصة التي يجد الكائنُ فيها نفسَه. لدى الحيوانات العليا، يلعب التعلُّمُ دورًا رئيسيًّا في السلوك، لكنَّ نطاقَ السلوك الذي يمكن اكتسابُه محدودٌ بفعل البنية المخية للحيوان، التي هي بدورها محدودة بفعل التركيب الوراثي للحيوان. ينطبق هذا بالتأكيد على كل الأنواع؛ فلن يتعلَّم كلب أبدًا الحديثَ (كما لن يصير إنسانٌ قادرًا على أن يشمَّ رائحةَ أرنب من على مسافة بعيدة). وبين البشر، هناك أدلةٌ قوية على اشتراك كلٍّ من العوامل الوراثية والعوامل البيئية في إحداث اختلافات في السمات العقلية، وسيكون من قبيل المفاجأة ألَّا ينطبق الأمرُ نفسه على نوعنا، شأننا شأن الحيوانات الأخرى. معظم التفاوت بين البشر موجود بين أفراد داخل تجمُّعات محلية، أما الاختلافات بين التجمعات فأقل للغاية؛ ومن ثَمَّ لا يوجد أساسٌ لمعامَلة المجموعات العِرقية بوصفها كياناتٍ متجانِسةً منفصلة، فضلًا عن نسبة أي «تفوُّق» وراثي لأي جماعة منها. هذا مثال للكيفية التي يمكن أن يقدِّم بها العلمُ معارفَ ترشد قرارات الناس بشأن القضايا الاجتماعية والأخلاقية، وإنْ كان لا يمكنه أن يحدِّد بدقةٍ ماهيةَ تلك القرارات.

إن السمات التي نعدُّها أكثرَ سمات البشر جوهريةً، مثل قدرتنا على التحدُّث والتفكير الرمزي، علاوةً على المشاعر التي ترشد علاقاتِنا الأسريةَ والاجتماعية، من المؤكد أنها تعكس عمليةً طويلة من الانتخاب الطبيعي بدأت منذ عشرات الملايين من السنوات، حين بدأ أسلافُنا العيشَ في مجموعات اجتماعية. وكما رأينا في الفصل السابع، فإن الحيوانات التي تعيش في مجموعات اجتماعية يمكنها أن تطوِّر أنماطًا سلوكيةً ليست أنانيةً خالصةً، بمعنى تعزيز بقاء الكائن أو نجاحه التكاثري على حساب بقاء غيره أو نجاحه التكاثري. من المغري الاعتقادُ بأن مثل هذه السمات، كمعاملة الغيرِ بإنصافٍ، تشكِّل جزءًا من تراثنا التطوري بوصفنا حيواناتٍ اجتماعيةً، تمامًا كما أن الرعاية الأبوية للأطفال لا بد أنها تمثِّل بالتأكيد سلوكًا مُطوَّرًا شبيهًا بذلك الذي تُظهِره حيوانات أخرى عديدة. ونؤكِّد مجددًا على أن هذا لا يعني أن كلَّ تفاصيل سلوك البشر خاضعةٌ لسيطرة الجينات، أو أنها تمثِّل سماتٍ تزيد من صلاحية البشر. علاوةً على ذلك، هناك صعوبةٌ كبيرة تكتنف إجراءَ اختبارات دقيقة للتفسيرات التطورية للسلوكيات البشرية.

هل ينطوي التطوُّر على تقدُّمٍ؟ الإجابة «نعم» مدوية؛ فقد تطوَّرَتْ أنواع أكثر تعقيدًا من الحيوانات والنباتات من أشكال أقل تعقيدًا، ويُظهِر تاريخُ الحياة تقدُّمًا عامًّا من الكائنات الوحيدة الخلية البدائية إلى الطيور والحيوانات. لكن لا يوجد في نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي ما يقترح أن هذا أمر حتمي، وبطبيعة الحال تظلُّ البكتيريا أحدَ أكثر أشكال الحياة وفرةً ونجاحًا في العالم. يشبه هذا الأمر شيوعَ الأدوات العتيقة التي لا تزال مفيدةً، مثل المطرقة، إلى جانب أجهزة الكمبيوتر في عالمنا المعاصر. إضافةً إلى ذلك، هناك أمثلة عديدة على اختزال التعقيد التطوري، مثل الأنواع التي تقطن الكهوفَ والتي فقدَتْ حاسةَ البصر، أو الطفيليات التي تفتقر للبنى والوظائف الضرورية من أجل البقاء المستقل. وكما أكَّدْنا في أكثر من موضعٍ، فإن الانتخاب الطبيعي لا يستطيع أن يتنبَّأ بالمستقبل بشكل مسبق، وهو يَركُم فحسب النُّسَخَ المفيدة في ظل الظروف السائدة، وكثيرًا ما قد يوفِّر التعقيدُ المتزايد طريقةَ عملٍ أفضل، كما في حالة الأعين، ومن ثَمَّ سيُحابيه الانتخابُ الطبيعي؛ وإذا لم تَعُدِ الوظيفةُ ذاتَ صلةٍ بصلاحية الكائن، فليس من قبيل المفاجأة أن تضمحل البنيةُ المرتبطة بها.

التطور أيضًا يعمل بلا رحمةٍ؛ فالانتخاب يعمل على شحْذِ مهارات الصيد والأسلحة التي يمتلكها الكائنُ المفترس، دون اعتبارٍ لمشاعر فريسته؛ وهو يطوِّر أدوات الطفيليات لتصبح بارعةً في غزو أجساد عوائلها، حتى لو تسبَّبَ ذلك في معاناة شديدة لتلك العوائل. وهو يتسبَّب في تطوُّر الشيخوخة، بل يمكن للانتخاب الطبيعي أن يؤدِّي إلى انحدار مستوى خصوبة النوع بحيث ينقرض تمامًا حين تسوء البيئة التي يعيش فيها. ومع ذلك، فإن نظرتنا لتاريخ الحياة التي كشف عنها السجلُّ الحفري، وكشف عنها التنوُّعُ الهائل في الأنواع التي تعيش اليومَ، تجعلنا نتعجَّب من نتائج أكثر من ٣ مليارات عام من التطور، بالرغم من حقيقة أن كل هذا إنما نتج «من حرب الطبيعة؛ من المجاعات والموت»، بحسب تعبير داروين. يمكن لفهم التطوُّر أن يعلِّمنا الكثيرَ بشأن موضعنا الحقيقي في الطبيعة، بوصفنا جزءًا من طيف هائل من الكائنات الحية التي أنتجَتْها القوى العمياءُ للتطور، وهذه القوى التطوريةُ منحَتْ نوعَنا تلك القدرةَ المتفردة على التفكير، بحيث يمكننا أن نستخدم بصيرتَنا في تحسين «حرب الطبيعة». ينبغي لنا أن نُعجَب بما أنتجه التطور، وأن نحرص على ألَّا ندمِّر هذا الإرثَ بأفعالنا الجشعة الحمقاء، وأن نحافظ عليه من أجل أبنائنا؛ وإذا فشلنا في عمل هذا، فسينقرض نوعنا، شأنه شأن العديد من الكائنات الحية البديعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤