كارليل وزوجته

كان كارليل من رجال الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر، وكان يُعنى بانتقاء الألفاظ، يتخير منها ذوات الرنين الفخم والصوت الضخم، وكان يبعد في هذا حتى يسف ويبهرج، ولكنه كان مع ذلك يفكر تفكير العبقري، ويستشف الحقائق من أستار الأوهام، ويخلص في تفكيره إخلاص العابد في صلاته. وهو أول أديب إنجليزي عُنِيَ بالأدب الألماني عناية جدية، وعرَّفه إلى أمته. وقد ألَّف جملة كتب خالدة، أهمها كتاب «الثورة الفرنسية»، وكتاب «الأبطال»، و«فريدريك ملك بروسيا».

وتُؤثر عنه حكم وأقوال بارعة، هي مضرب الأمثال الآن عند الكتاب، وباعثة التفكير عند جملة القراء، فمن ذلك قوله: «إنما الإنسان الحي أحجية ظاهرة، فهو يمشي بين أبديتين. ولو لم نكن عميانًا كالخلد، لقدرنا إنسانيتنا بالخلود، ولما صارت قيمة مركز الشخص ونفوذه وما إليهما إلا كل شيء، فإذا قلت إنك إنسان فقد قلت كل شيء.»

وقوله: «أليست حقيقة الفكر أنه وحي؟»

وقوله: «إذا فكرت وأنضجت الفكرة، هل تجد شيئًا أعجب من شيء؟ إني أنا لم أرَ أحدًا قام من بين الموتى، ولكني رأيت آلافًا قاموا من العدم. وليست بي قوة تحملني طائرًا إلى الشمس، ولكن لي من القوة ما أرفع به ذراعي، وهذا العمل ليس أقل غرابة من ذلك.»

نشأ كارليل في عائلة أمية في اسكوتلاندا، وقد انتظم في سلك طلبة الدين بنية أن يصير راعيًا لإحدى الكنائس، ولكنه لم يسر إلى نصف الطريق حتى عرف من سريرة نفسه أنه لم يُخلق لهذا العمل، فتحوَّل عنه إلى الأدب، وسار إلى أدنبره حيث قرر أن يكتب ليعيش، وأن يعيش ليكتب.

وعرف وهو في أدنبره فتاة تُدعى مس ولش، كانت متطرفة من بعض العلوم والآداب، تغشى أندية الأدباء، وتُكثِر من المناقشة والبحث، وكانت إلى ذلك جميلة ممشوقة. فلما تعارف الاثنان رغب كل منهما في الزواج بالآخر؛ فقد رأت فيه الفتاة أمائر العبقرية والشهرة المستقبلة، ورأى هو فيها فتاة ذكية جميلة، فاتفقا على الاقتران.

وتم زواجهما سنة ١٨٢٦، وكان عمرها ٢٦ عامًا، أما عمره فكان ٣٢ عامًا، وكان كلاهما يحب الآخر؛ إذ لم يكن كارليل يطمع في شيء من هذا الزواج إذا لم يكن يحبها، ولكن من الناس مَن يتهم مس ولش بأنها تزوجته وهي لا تحبه، وإنما كانت ترمي إلى اكتساب الشهرة باقتران اسمها إلى اسم أديب كبير لا بد أن سيشتهر قريبًا. ولكن يُرَد على هؤلاء بأنها تزوجته وهو في فاقة بالغة، بحيث إنها ضحت براحتها وعانت معه صنوف الآلام، وهي تخدمه خدمة العبيد عدة سنين، فإن كانت قد أدركت بذكائها أنه سيشتهر، وأنها ستنتفع من هذه الشهرة، فهي لا بد أيضًا قد أدركت أن هذه الشهرة بعيدة، وربما لا تتحقق مطلقًا.

وكلا الفرضين جائز، وإنما دعانا إلى افتراضهما أن زوجة كارليل عانت في زواجها آلامًا عدة، واتهم زوجها بالقسوة والفظاظة والخروج عن طور المروءة، فإن كانت قد تزوجته عن حب وإخلاص فعدم اتفاقهما بعد ذلك من صنوف الصدف، التي قد يكون فيها كارليل مسئولًا أو غير مسئول. أما إذا كانت قد تزوجت به وهي لا تحبه، فقد وقعت تبعة شقائهما عن كارليل.

وعاش الزوجان في بدء زواجهما في كوخ منفرد في نجد مقشعر شمال أدنبره، لا ينبت فيه إلا الضئيل من النباتات. وكانا وحيدين لا يؤنسهما أنيس سوى أخ لكارليل كان قد ابتنى كوخًا قريبًا من كوخهما. وأخذت الوحدة تفعل أفاعيلها في أعصاب الزوجة؛ فقد كانت تقوم بأداء جميع ما يحتاج إليه البيت، ولم يكن كارليل ممن يرتاحون إلى مؤانسة الزوجة، وبخاصة إذا كانت هذه المؤانسة تنطوي على جدال علمي أو أدبي؛ لأن كل لذته في ذلك الوقت، بل كل عمله كان ينحصر في القراءة والكتابة والتفكير. وهذه الأعمال جميعها تحتاج إلى الوحدة.

وأخذت زوجته لكي تهدئ أعصابها، تتعود معاطاة الشاي والتبغ ثم الأفيون، ولكن هذه المخدرات لم تكن إلا لتزيد التوتر في أعصابها؛ فكانت حياتها تتراوح بين توتر قد يكون مصحوبًا بتهيج، وبين إعياء قد يبلغ حد الخور والمرض.

وانتقلا بعد ست سنوات من كوخهما إلى لندن، وكان يزورهما لورد أشيرتون وزوجته، فقام في ذهن زوجة كارليل أن زوجها يعشق زوجة هذا اللورد، وصارت الغيرة تأكل في صدرها كالسوس، حتى كانت تقضي الليالي وهي مسهدة لفرط اهتمامها لهذا الأمر. والأغلب أن هذه الغيرة لم تكن سوى نتيجة تهيجها وضعف أعصابها؛ لأن كارليل كان على خلق عظيم. وكان اللورد أشيرتون يزوره ويستزيره، دون أن تدخل إلى قلبه أقل ريبة.

وماتت زوجة كارليل قبل وفاة زوجها بنحو ١٥ عامًا. ويُقال إن كارليل حزن عليها حزنًا عظيمًا، وتذكَّر ما قاسته معه، فأذن للمؤرخ فرود أن يكتب تاريخ حياتها، يجمعه من الخطابات المتفرقة المرسلة إليها منه أو من غيره، والمرسلة منها إليه أو لغيره من الناس. وقد فعل ذلك فرود واستخرج من هذه المجموعة أن كارليل أساء معاملتها.

وهناك مَن يعزو آلام هذه الزوجة الشقية إلى أنها كانت تشتهي أن يُولد لها ولد، فلما لم تنل مأربها من ذلك، تحولت هذه الشهوة المحبوسة، وانطلقت في ميادين أخرى، فصارت تكايد زوجها وهو يكايدها، حتى ساءت العشرة، وفسدت بينهما الزوجية.

ولكن من الخطابات التي أرسلتها إلى زوجها ننقل هذا الخطاب التالي، وهو لا يقرؤه رجل إلا ويشعر بأن فيه من التعبيرات ما يدحض هذه التهمة:

حبيبي

لقد قلت إنك ستسأم، وإني أرجو في قلبي أنك الآن تسأم، فما أحلى أن أشفيك من هذا السأم بالقبلات عندما أعود، فستأخذني، وتسمع مني كل صغيرة جرت لي، وسيخفق قلبك عندما تعرف مقدار اشتياقي لكي أرجع إليك. يا أعز أعزائي، ويا أحب أحبائي! ليباركك الله. إني أفكر فيك في كل ساعة، في كل لحظة. وإني أحبك، وأعجب بك كإعجابي بأعظم شيء. ليتني الآن عندك، فأطوقك بذراعي، وأجعلك تنام نومًا هنيئًا ما شعرت بأرق منه منذ سافرت. لك المساء الخير. اذكرني في أحلامك.

وخلاصة القول وأرجحه، أن كارليل لم يسئ إلى زوجته، وإنما كانت ظروف صناعته تحبِّب إليه الوحدة، وهذا شر ما تكرهه المرأة في زوجها. ولم يُرزقا الأطفال، وهم سلوى الأم وعزاؤها وقت فتور الحب. ثم كانت عادة تعاطي المخدرات، وهي وحدها تكفي لهدم أقوى الأعصاب، فكانت هذه الظروف مجتمعة علة شقاء هذين الزوجين وسببًا في ذهاب حبهما السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤