الإمبراطورة كاترين

من غرائب التاريخ أن أكبر رجل فرنسي امتلك قلوب الفرنسيين، ورفع شأنهم التاريخي، لم يكن فرنسيًّا بل كان إيطاليًّا. وكذا الحال في روسيا؛ فإن أكبر مَن ملك زمام الأمة ونال أكبر مكانة في قلبها، كان امرأة ألمانية.

ولكن هذين الأجنبيين، نابليون في فرنسا، وكاترين في روسيا، كانا يمتازان بالميزة الكبرى التي رفعتهما إلى مقامهما السامي، وهي أن كلًّا منهما اندغم في الأمة التي تولى حكومتها، فصار منها قلبًا وقالبًا، يخدمها بعقله وقلبه.

فقد كانت روسيا في منتصف القرن الثامن عشر تحكمها الإمبراطورة إليصابات، ابنة بطرس الأكبر، ولم يكن لها خلف شرعي لكي يرث العرش، فأخذت تبحث عمن يليها، وأخيرًا عقدت ولاية العهد على ابن أختها الأمير بطرس في سنة ١٧٤٢، وكان فتى في السابعة عشرة، خلوًا من جميع خصال الملوك، يقضي نهاره في الشراب، ولا يجالس سوى أوشاب الناس وحثالتهم. وكان أبله، يتسلى بالسخائف، يجمع الكلاب فيصفها ويعاملها كأنها جنود، ويجمع الفئران، ثم يأخذ في تعليمها وتأديبها، فإذا أخطأت عقد لها مجلسًا عسكريًّا، وحاكمها، وحكم عليها بالإعدام.

وبحثت الإمبراطورة إليصابات عن زوجة له، وطلبت له أخت الإمبراطور فريدريك الثاني الألماني، فأبى رأفة بأخته أن تقع فريسة لهذا الوغد الأبله، وشفقة عليها أن تعيش في ذلك الوسط الروسي. وكانت روسيا إذ ذاك معدودة بين البلاد الهمجية في العالم. والحق أنها كانت في ذلك الوقت أقرب إلى آسيا في العادات والأخلاق والأنظمة منها إلى أوروبا.

وأخيرًا اهتدت إلى أميرة ألمانية فقيرة تُدعى صوفيا، وكانت فتاة في السادسة عشرة من عمرها، بروتستانتية المذهب كسائر أهل بلادها، فلما كانت سنة ١٧٤٤ عُقد زواجها على الأمير بطرس، بعد أن غيَّرت مذهبها واسمها؛ صارت أرثوذكسية، وصارت تُدعى كاترين.

وعاشت مع زوجها جملة سنين وهو يناكدها وينغص عليها عيشها، لا هم له سوى كلابه وفئرانه وشرابه، ولا يأنس إلا بإخوان الكأس، يصابحهم ويماسيهم، وهو في سكر متواصل، وقد تعلَّم منهم صنوفًا من السفالات، وكثيرًا ما أعنت زوجته، وهي فتاة ساذجة قد نشأت على الصرامة الألمانية، يساومها ممارسة هذه السفالات، فتأبى وتستغيث.

وكان طبيعيًّا جدًّا أن تفتح كاترين عينيها بإزاء هذا الحيوان الذي صار زوجها، تشيم بارقة حب في أولئك الأمراء الذين يترددون على القصر، وكانت قد أكبت على اللغة الروسية حتى ثقفتها، وصارت لا تخرج للناس إلا في مظاهر روسية، فأحبها الجمهور، ومالت إليها القلوب. وكان من بين المترددين على القصر رجل تبدو على وجهه أمارات الرجولة، يُدعى أورلوف، فجرأته على أن يتقرب منها، ونشأ بينهما حب دام عدة سنين.

ولم تبلغ كاترين الثلاثين حتى كان لها جملة أولاد، يشك الكثيرون في أنهم كانوا أولاد زوجها، لعلاقتها بأورلوف هذا؛ ولأن الشجار بينها وبين زوجها لم يكن ينقطع.

وماتت الإمبراطورة إليصابات، وارتقى الأمير بطرس العرش، وهنا يذكر المؤرخون إصلاحين عظيمين قام بهما بطرس هذا، ولكن الحقيقة أنه ليس له فيهما أدنى فضل.

فإنه عندما ارتقى العرش، شد من عزيمته، ونوى أن يستقيم وينظر في شئون أمته، ولكن هذه العزيمة الشريفة، كما يحدث كثيرًا في أمثاله، لم يكن فيها من القوة سوى ما في المصباح، يشب لهبه قبيل الانطفاء الأخير، فسرعان ما عاد إلى شرابه وكلابه. ولكن حدث، وهو في جمع حافل من هؤلاء الأوشاب، الذين كان يجمعهم حوله للشراب، أن دخل عليه ضابط غيور يغار على العرش وعلى مصلحة البلاد، فوجده سكران، فأخذ يخطب فيه، ويحثه على خدمة بلاده، ويذكر له مجد آبائه، وقدم له خلال ذلك مشروعين للإصلاح. وامتزجت حماسة خطبة الضابط بحرارة الخمر، حتى تنحى الإمبراطور، وأخذ أوراق المشروعين ووقَّع عليهما، وهو لا يدري ما يفعل.

وكان أحدهما يقضي بإلغاء مكتب الشحنة السرية التي آذت الناس كثيرًا، والآخر يرد إلى النبلاء بعض حقوقهم التي كانت قد انتُزعت منهم.

ولكن بطرس عاد ثانيًا إلى شرابه، وعادت إليه عصابة السوء التي كانت تساقيه، وأبطره السلطان، فصار يستبد ويقذف السباب على زوجته الإمبراطورة كاترين جهرًا أمام الناس في الحفلات الكبرى، فمن ذلك أنه أعلن مرة أن ابنها البكر ليس ابنه، وإنما هو من نسل عشاق الإمبراطورة.

وكانت هذه التهمة تكفي وحدها لطلاق الإمبراطورة أو قتلها، فأخذت هي الأخرى تكيد له، وتبحث عن طريقة تقضي بها على حياته، وأخيرًا دبَّرت بعناية مع عشيقها أورلوف مؤامرة لخلعه. ولكن قبل أن تختمر المؤامرة علم الإمبراطور بطرس بها، وتحرجت عندئذٍ الحال، وخشيت هي أن تقدَّم للمحاكمة وتُعدم، فسارعت إلى جواد وامتطته، وسارت إلى الثكنة التي يقيم بها الجنود الروس في بطرسبرج، وناشدتهم المعاونة على خلع الإمبراطور. وكان هؤلاء الجنود يكرهون بطرس لميله إلى الألمان، وتأليفه حرسًا منهم ويؤثره على الروس.

فتقدم إليها الضباط بجنودهم، وأقسموا لها يمين الولاء، وخرج الجميع في أثرها حتى قبضوا على بطرس، وساقوه أسيرًا في إحدى القلاع، وذهب إليه أورلوف، وحاول أن يجرعه سمًّا، ولكن بطرس، كما هو الشأن في عدد كبير من البله، لم يكن ضعيف العضلات، فقاوم أورلوف فعمد أورلوف إلى جوزة عنقه، فقبض عليها، واعتصرها، حتى خرج الدم من أذني بطرس، ولم يتركه إلا بعد أن مات.

ولم تكن كاترين ترغب في كل ذلك، ولكنها لم تجد بدًّا من الرضى بعد أن نفذ السهم، وصارت من ذلك الوقت إمبراطورة روسيا المتحكمة في حظوظها.

وكانت عندما لجأت إلى الثكنة تستنجد بالجنود، قد خرج إليها ضابط جميل الوجه والقوام، وقد وقف أمامها وقفة الأدب والاحترام، ثم أشار إلى أن خوذتها ليس عليها ريشة، وفي الحال انتزع ريشته، وتقدم ووضعها برفق على خوذة الإمبراطورة. وليس من شأن هذا العمل أن يُنسى في تلك الظروف الخطيرة؛ ولذلك تذكرته الإمبراطورة بعد قتل زوجها، واستدعته إليها.

وكان هذا الضابط يُدعى بوتمكين، وكان يختلف عن أورلوف من حيث تمدينه، وتوحش أورلوف؛ فقد كان رجلًا مهذبًا أنيقًا في ملابسه، يحب الكتب، ويدير الحروب، بينما لم يكن في أورلوف من الصفات التي تحبها الإمبراطورة سوى جرأته ورجولته.

فأنعمت على أورلوف، وغمرته بألطافها، حتى تركها راضيًا مسرورًا، واستأثرت ببوتمكين. وتبين لها بعد أن عرفت بوتمكين، أن حبها الماضي لم يكن سوى شهوات متوثبة، أما هذا الحب فهو دائم متواصل، ذلك فيه حرقة الجوع وأنانية الطمع، أما هذا، فكله عطف واستسلام وحنان.

ولم تكن كاترين جميلة من حيث الجسم؛ فقد كانت ربعة، متناسبة أعضاء الوجه، الذي لم يكن فيه مما يفتن سوى حاجبين أسودين ثقيلين، يشتد ظهورهما؛ لأن شعر رأسها لم يكن فاحم اللون مثلبًا. ولكنها كانت ذكية، لها قدم في الآداب، وكانت تكاتب فولتير، وكثيرًا ما دعته إلى القدوم إليها فأبى.

وأحبت كاترين بوتمكين، وأنعمت عليه إنعام الإغداق، حتى بلغت ثروته بعد سنتين من معرفته بها نحو ٩ ملايين روبل، وكان لا يعرف ضياعه، لكثرتها وسعة مساحتها، ولكنه هو نفسه كان أيضًا مخلصًا في حبه لها، فلم يكن يبالي أن يضيع هذه الثروة الضخمة لكي يرضيها أو يترضاها؛ فقد بنى لنفسه قصرًا في بطرسبرج، وكان يدعوها إليه فيه، ويعقد لها الولائم الفخمة، تُزري ولائم الملوك، وتذكِّر الناس أنطونيوس وكليوبطرة؛ فقد دخلت الإمبراطورة في إحدى زياراتها مكتبة بوتمكين، فوجدت من الكتب ما زُين جلدته بالجواهر الثمينة، كالماس والياقوت، وفتحت بعض الكتب الأخرى، فوجدت الأوراق مؤلفة من البنكنوت الإنجليزي، وحدث أن الإمبراطورة أرادت أن تزور وادي نهر الدينيبر في صحبة بوتمكين، فلكي يسرها ويوهمها بعمار البلاد أمر فبُنيت أكواخ على شط النهر من الخشب والقماش، كما تُبنى على مسارح التمثيل. وأمر أناسًا يقفون إلى جنب هذه الأكواخ، ويهتفون لها كلما مرت بهم.

وقد حارب بوتمكين الأتراك، ونال عدة انتصارات، اتسعت بها الإمبراطورية الروسية، ولكن كاترين لم تكن تحبه لهذه الانتصارات وإنما لشخصه، وما ترى فيه من شدة تعلقه بها وولائه لها، فكان إذا بعُد عنها، ورافق الجيوش في الجنوب لمقاتلة الأتراك، لا تهتف إلا باسمه، وإذا كان في بطرسبرج فلا تفارقه.

ومات بوتمكين وهو في جنوب روسيا، وحزنت عليه كاترين أشد الحزن، وبقيت لا تذكره إلا باللوعة والأسى، حتى ماتت بعده بخمس سنوات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤