تصدير

أكثرُ هذا الشعر قديمٌ وأكثره لم يسبق نشره. جرى به اللسانُ طوعًا لمناجاة النفس في ظروفٍ متعددة يشملها الاضطرابُ والثورةُ الفكريةُ والسياسيةُ، فما يدعو إلى نشره الآن سوى حبُّ المشاركة الروحية لمن شاء من الأدباء أن يجلس إلى هذه المائدة المعنوية التي تجمع ألوانها بين الغذاء الدَّسِم والفاكهة، وبين الحلوى والدواء المرِّ، مقرونة بأخلص صلواتي الروحية. وشجَّعني على ذلك أن مختارات من هذه القصائد — وأخصُّ بالذكر الوطنية والاجتماعية منها — منسوخةٌ ومتداوَلةٌ بين الأدباء لما فيها من صدى نفوسهم الحزينة وشعلة آمالهم ومرارة قنوطهم في هذا العهد الصاخب بالتيارات المتناقضة.

وقد حرصتُ على استبقاء نصوصها الأصلية إرضاءً للناقد الأدبي الذي يسرُّه متابعة التطوُّر في ذهنية الشاعر وعواطفه وأسلوبه وتفاعله الأدبي والفكري مع بيئته، وإرضاءً لذكرياتي ووجداني وشعوري حينئذٍ. وهي أول ما يعنيني إن لم تكن في الواقع كل ما يعنيني إرضاؤه.

وقد أسميتُ هذا الديوان «الشعلة» إذْ وجدتُ شِعْرَهُ أبعدَ ما نظمتُه نفوذًا وهدايةً وتأثيرًا بين شعري الوطني والاجتماعي، وقد جاء في دور انتقالٍ والنفوسُ جامحةٌ والخواطر مضطربةٌ والحريات معطَّلةٌ. ولم تسمح الظروفُ بطبعه من قبلُ لاعتبارات سياسية، ولكنَّ ذيوع جانب من شعره بين الجمهور المثقَّف كان برغم ذلك عظيمًا إلى حدِّ أن نُسِبَتْ غير واحدة من هذه القصائد إلى بعض الشيوخ من شعرائنا المعروفين وأخصُّ بالذكر قصيدتي «الناسخ والمنسوخ» و«اليد النكراء».

وقد نشأت هذه الحركةُ في البيئات المدرسية أولًا حيث كان لمطابع الفالوذج دورٌ مستورٌ في نشر الشعر الوطني والسياسيِّ، وكاد يصبح نصيبي من هذا اللون من الشعر مجهولَ النَّسب كما أُصيبتْ قصائد شتَّى من قبلُ لشعراء آخرين. ورأيتُ أنَّ الوقت قد حان الآن لطبع هذا الديوان كحلقةٍ في تاريخ الشعر المصري إبَّان الحركة الوطنية الحديثة، وإنْ كانت قد سبقتْها حلقاتٌ من لون هذا الشعر في دواويني المتقدمة وفي دواوين غيري من الشعراء، هذا إلى أن الديوان يشمل كذلك غير قليل من الشعر الوجداني والشعر الوصفي الخالص.

ومهما يكن من نزوعي إلى الشعر الفني الصافي وإلى الروح الإنسانية العامة فلا بدَّ لي من الاعتراف بأنَّ نفسَ الشاعر نُهزةُ المؤثرات الوطنية متى ما ارتبطتْ بالمبادئ الأدبية السامية؛ ومِنْ ثمَّة نشأ الشعرُ الوطنيُّ الحيُّ. وليس لي بطبيعة الحال أن أُزكي هذا الشعر وإنما عليَّ واجب تدوينه ونشره تاركًا للأدباء أن يتذوَّقوه ويستوعبوه أو يُغفلوه ويهملوه حسب أذواقهم ونزعاتهم الأدبية، والخيرُ كل الخير في اختلاف هذه الأذواق.

وإذا كنتُ أعْنى بنشر هذا الشعر الذي هو من فلذات قلبي وعرائس خواطري فليس للتكسُّب ولا للشهرة، ولا لأيِّ اعتبار دنيوي، ولا للذة معنوية مألوفة، فإنَّ الحافز الوحيد لي هو إحساسي أنَّ هذه الكلمات تحمل أجزاءَ رُوحي وتؤلِّف صحائف نفسي وتنطوي على صورة من المثل الأعلى الذي أعشقه أو على أقرب خيال له؛ لذلك أعرضها بروح صوفيةٍ على مَنْ تجاوبَت بيني وبينهم أصداءُ نفوسنا فاندمجت عواطفنا المشتركة في وحدة صافية. فهذه المتعة الصوفية — متعة التجاوب النفساني والاندماج الروحي — هي التي تحفزني إلى نشر هذا الشعر كيفما كانت قيمته الفنيَّة.

وقد ذكر بعضُ حضرات النقَّاد أن كلَّ ما يتمنونه عليَّ هو الاستجمام وتجنُّب الإسراع في قرض الشعر. واستشهدوا بشعر لي تفضلوا فعدُّوه من أروع الشعر العصريِّ فلما نظرتُ فيه لم أجده غير شعر أمليتُه ارتجالًا. فلم أرَ بُدًّا من ذِكر كلمة للحقيقة التاريخية التي يندر أن تُنصفَ في النقد الأدبي، ولم أرَ مناصًا من أن أصرِّح بأني لم أتنبَّه كثيرًا إلى أمر هذه السرعة النظمية ولا أعتد بها، وكل ما أعرفه أن العاطفة تجيش في نفسي أو التفاعل الفني لأثر أو كائنٍ يغالبني فلا ألبث بعد زمنٍ طويلٍ أو قصير أن أردِّد صَدَى وقعه في قلبي بنغمةٍ من النغمات إما ارتجالًا أو رويًّا، بسرعة أو ببطء، حسب فيضه وقوة ذلك الفيض، وربما كان الوقتُ الفاصلُ بين عامل التأثير وقرض الشعر من أثر ذلك الإيحاء مديدًا، وربما كان وجيزًا، وكذلك وقت النظم ذاته. وعندي أنه لا يعني الفنَّ شيءٌ من ذلك وإنما يعنيه قيمةُ الأثر الفني وحده الذي يُخرجه الفنَّان. وإذا كنتُ سريعَ النظم اعتيادًا فالحقيقةُ أنَّ الزمن الذي أصبُّ فيه هذا الشعر قد يتفق أو لا يتفق والزمن الذي يُخْلق فيه هذا الشعر بنفسي، وليس لي حولٌ في صدِّه بأية صورة من الصوَر، فما تزال العاطفة تلجُّ بنفسي ثم تلجُّ حتى أعبِّر عنها وإلَّا استولى عليَّ الضيقُ والكمدُ. فهذه هي أنفاسٌ وفلذاتٌ من صميم وجداني لا يجوز أن أسألَ عن صورة خلقها ولا عن ظروفه، وإنما أقدمها في هيكل الفن قرابين وصلوات.

أحمد زكي أبو شادي
ضاحية المطرية ديسمبر ١٩٣٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤