الفصل الخامس

حُسْن الجوار

تساقط الثلج بكثافة في الشتاء. جلست ميج بجوار المدفأة لتقرأ كتابًا، أما جو فأمسكت بمكنسة وجاروف وخرجت لإزالة الثلوج من الممرات، فربما تخرج أختها بيث للسير في الهواء الطلق. كانت جو مفعمة بالحيوية لذا لم تهوَ الجلوس بجوار المدفأة، بل أحبت الخروج من البيت وممارسة الرياضة، بقطع النظر عن الأحوال الجوية. في واقع الأمر، قررت جو ذلك اليوم اكتشاف المزيد عن الفتى لورانس المنعزل.

أحبت جو القيام بأشياء جريئة، لذا ألقت بكرة ثلجية على نافذة لوري. ففتح نافذته وابتسم لها، فلوحت بالمقشة وصاحت: «مرحبًا! هل أنت مريض؟»

أجابها لوري بصوت أجش: «أصابني برد شديد، وأمضيت الأسبوع كله داخل المنزل.»

– «ماذا فعلت كي لا تشعر بالملل؟»

– «لم أفعل الكثير.»

لم يكن مسموحًا للوري بالقراءة، وعندما اقترحت عليه جو أن يأتي أصدقاؤه لزيارته، أخبرها أنهم مزعجون للغاية.

– «ما رأيك في فتاة إذن؟ فتاة تلعب دور الممرضة وتقرأ لك؟»

– «لا أعرف فتاة يمكنها فعل ذلك.»

ضحكت جو: «لكنك تعرفني.»

يا لها من فكرة رائعة! عادت جو إلى منزلها لتطلب الإذن من أمها. في غضون ذلك رتب لوري غرفته ومشط شعره. عندما حضرت جو عند باب منزل السيد لورانس، أحضرت معها الكثير من الأشياء الطيبة. صنعت ميج كعكة، أما إيمي فجمعت باقة من الزهور، وأرسلت بيث قططها الثلاثة الصغيرة. كانت هذه الهدايا مثالية في مساعدة لوري على الاسترخاء. جلست جو فوق كرسي ضخم، وتمدد لوري فوق الأريكة. سألته هل يود أن تقرأ عليه كتابًا، لكن لوري أخبرها أنه يفضل التحدث معها.

تجاذبا أطراف الحديث معًا، فتحدثا عن أسرة جو، واعترف لها لوري أنه استمتع بمراقبة منزلهن من نافذته. تحدث لوري عن معلمه الخاص، السيد بروك، ثم تحدث عن جدِّه، وأخبرته جو أنها لم تذهب إلى المدرسة، وأنها تعمل لدى عمتها مارش. وأفصحت له عن قلقها على أبيها. عندما علم لوري أن جو تحب القراءة مثله، دعاها إلى التجول في المنزل، وبالطبع التوقف أمام المكتبة الرائعة. وفي منتصف جولتهما بالمنزل، رنَّ جرس الباب.

قالت جو: «لا بد أنه جدُّك!»

فقال لوري: «لا تخبريني أنك خائفة منه!»

– «ربما قليلًا، لكنني لا أدري لماذا.»

جاءت الخادمة وأخبرت لوري أن الطبيب قد حضر. أثناء فحص الطبيب للوري في حجرة أخرى، مكثت جو بحجرة المكتبة، ووقفت أمام صورة للجدِّ لورانس.

وظنًّا منها أنها وحدها بالغرفة، قالت بصوت مسموع: «لا ينبغي أن أخشاه، فعيناه حنونتان، مع أن فمه مروع ويبدو عليه أنه قوي العزيمة. ليس وسيمًا كجدِّي، لكنني مع هذا أحبه.»

جاء صوت من خلفها: «شكرًا جزيلًا يا سيدتي.» فالتفتت لتجد السيد لورانس العجوز! يا له من موقف محرج لجو المسكينة التي احمرت وجنتاها خجلًا، فكرت لحظة أن تركض بعيدًا، لكنها ظلت واقفة. عندما نظرت إلى الجدِّ العجوز مرة أخرى تبينت أن عينيه تنمان عن طيبة أكثر مما هو واضح في الصورة.

وبعد فترة من الصمت الطويل، سألها العجوز بصوت أجش: «إذن لست خائفة مني؟»

قالت جو بصوت خافت: «ليس كثيرًا يا سيدي.»

– «لكنك تحبينني رغم ملامح وجهي القبيحة؟»

أجابته جو: «أجل يا سيدي!»

حازت إجابتها رضا السيد لورانس، وفرحت جو حين قال لها إنها تملك روح جدها لأبيها. شرحت له أن سبب مجيئها أنها أرادت أن تكون ودودة مع جيرانها، واتفقا على أن لوري بحاجة إلى بعض المرح. تأبطت جو ذراع السيد لورانس واتجها معًا إلى حجرة المعيشة لاحتساء الشاي مع لوري. سرعان ما تجاذبت جو ولوري أطراف الحديث كالأصدقاء القدامى، ورأى السيد لورانس أن جو لها تأثير إيجابي للغاية على لوري.

أُعجبت جو بالبيانو الكبير، وبعد احتساء الشاي، أقنعت لوري بالعزف عليه، وتمنت لو أن بيث تستطيع سماع عزفه. أخذت جو تتحدث بحماسة عن مهارة لوري في العزف حتى أوقفها الجد عن المديح وودَّعها في عجالة.

عندما خرج لوري وجو إلى الردهة الأمامية، سألته هل فعلت شيئًا أغضب السيد لورانس، فقال لها إن جده لا يحب أن يعزف لوري على البيانو، وأنه سيخبرها بالسبب في وقت لاحق. ثم تعهَّدا بزيارة أحدهما الآخر مرة أخرى.

اندفعت جو نحو منزلها لتخبر عائلتها باليوم الرائع الذي أمضته وهي تحسن إلى جارها. وأصبح لدى كل واحدة من شقيقاتها سبب مختلف لاستكشاف المنزل الموجود بالجوار، فأرادت ميج أن ترى الصوبة الزجاجية، وتمنَّت إيمي رؤية اللوحات والتماثيل الجميلة، واشتاقت بيث إلى العزف على البيانو الكبير. اكتسبت جو لوري صديقًا لها، وفرحت كثيرًا لأنها نجحت في التخفيف من آلامه.

•••

أطلقت بيث على منزل السيد لورانس الكبير اسم «قصر الجمال»، على الرغم من أنها احتاجت إلى بعض الوقت لتستجمع شجاعتها لزيارة المنزل. كانت بيث لا تزال تخاف من السيد لورانس، على الرغم من أنه حاول بث شعور الطمأنينة داخل الفتيات الأخريات. في البداية شعرت الفتيات بالخجل لأنهن لم يستطعن رد الهدايا له. لكن في غضون أسابيع، تناست الفتيات كبرياءهن، وتوطَّدت الصداقة التي جمعت بين لوري وعائلة مارش.

أخبر لوري معلمه الخاص، السيد بروك، كم أن الفتيات رائعات. وكثيرًا ما كانت تفوته الدروس لأنه كان يخرج برفقتهن. لم يكن للوري أم أو شقيقات، وكان يبتهج ويحظى بالمتعة والراحة برفقة الفتيات. لحسن الحظ، رأى جدُّه أن هذا الأمر في صالحه وأخبر السيد بروك ألا يقلق إذا فات لوري درس أو اثنان. قال له: «لنتركه يحظى بإجازة! فهو بحاجة إلى أصدقاء صالحين والتنزه برفقتهم. وعلى أي حال، أعتقد أنني بالغت في الخوف عليه في الآونة الأخيرة.»

حظي لوري بمتعة بالغة مع الفتيات! فقد تزلجوا وركبوا عربات الجليد وعزفوا وأدوا المسرحيات معًا. سرعان ما بدأت جميع الفتيات — ما عدا بيث الخجولة — يتعاملن مع قصر السيد لورانس على أنه بيتهن الثاني. وكما توقعن، أحيانًا كثيرة تذهب ميج إلى الصوبة الزجاجية، أما جو فكانت تتصفح الكتب بالمكتبة، وإيمي كانت تنسخ اللوحات. لكن بيث لم تتجرأ على دخول المنزل المجاور والعزف على البيانو الكبير، على الرغم من اشتياقها إلى ذلك كثيرًا.

لكن عصفورة صغيرة تدعى جو أخبرت السيد لورانس عن حب بيث للعزف. فشرع في مساعدتها على التغلب على خجلها. أثناء زيارة مارمي إحدى الأيام، تحدث السيد لورانس طويلًا عن كبار العازفين والمطربين العظماء الذين شاهدهم. أثار هذا الكلام انتباه بيث فنهضت من الزاوية التي كانت تجلس بها ووقفت تستمع إليه. لكن السيد لورانس تظاهر أنه لم يلحظ الفتاة الصغيرة الخجولة، وأردف: «إن لوري يهمل العزف هذه الأيام، وذلك البيانو الكبير لا يجد من يعزف عليه، إذا أرادت الفتيات التمرن عليه، حتى تظل أوتاره مشدودة فحسب، فسأكون ممتنًا لهن.»

خطت بيث خطوة إلى الأمام ويداها متشابكتان في حماسة وانفعال.

ابتسم السيد لورانس، واستطرد: «ليسوا بحاجة إلى الاستئذان ولن يزعجهن أحد. لذا رجاءً أخبري الفتيات بما قلته، في حالة أن اهتمت أي منهن بالأمر.»

مدَّت بيث يدها الصغيرة، وسلمت على السيد لورانس، وصاحت: «يا إلهي! إنهن يهتممن بالأمر كثيرًا يا سيدي!»

سألها: «هل أنت الفتاة التي تهوى الموسيقى؟»

– «أنا بيث، أحب الموسيقى كثيرًا، وسأحضر للعزف على البيانو إذا كان هذا الأمر لن يسبب لك أي إزعاج.»

أجابها السيد لورانس: «المنزل يكون خاليًا في أغلب أوقات الظهيرة، وبهذا لن تتسببين في إزعاج أحد، لذا عليك أن تأتي وتعزفي كما تحبين. هذا الأمر سيسعدني كثيرًا.»

احمرت وجنتا بيث، كانت لا تزال تخاف منه، لكنها شعرت بارتياح أكثر. عبرت عن امتنانها لهديته الغالية بالضغط على يده بعد أن ضاعت كلمات الشكر منها.

مرر العجوز يده فوق شعرها، وقبَّل جبينها. وقال بصوت خفيض: «كان لديّ فتاة صغيرة عيناها مثل عيناك، فليباركك الله.»

غادر السيد لورانس بعد أن ودَّع السيدة مارمي سريعًا. كانت بيث في حالة من النشوى، ركضت مباشرة نحو دمياتها لتخبرها بما حدث، إذ لم تكن شقيقاتها بالمنزل.

في اليوم التالي راقبت بيث منزل السيد لورانس، وانتظرت حتى خرج لوري وجدُّه من المنزل. وبعد محاولتين أو ثلاث، استطاعت في النهاية الدخول إلى المنزل. وتسللت في هدوء إلى حجرة المعيشة، ووقفت في رهبة تحملق في البيانو الجميل. لقد ترك أحد الأشخاص نوتة موسيقية فوق البيانو. بأصابع مرتجفة، لمست بيث أخيرًا الآلة الموسيقية الضخمة، وتبدَّد خوفها. جلست وعزفت كيفما شاءت حتى جاءت هانا لاصطحابها إلى المنزل لتناول العشاء. بعد تلك التجربة، ذهبت بيث للعزف على البيانو كل يوم تقريبًا. ولم تشك أبدًا أن السيد لورانس هو من يترك لها الأغاني الجديدة وكتب التدريبات، أو أنه يفتح باب مكتبه ليستمع إلى عزفها، أو أن لوري كان يحرص على عدم مقاطعة أي شخص لها. شعرت بيث بامتنان كبير لتلك النعمة حتى إنها سألت أمها هل لها أن تصنع خفًّا جديدًا للسيد لورانس للتعبير عن شكرها له.

وافقت السيدة مارمي بالطبع، وساعدتها ميج وجو على اختيار التصميم والخامات، وشرعت بيث في صنع الخُف. كانت بيث خياطة بارعة، ولم يستغرق صنع الخُف منها وقتًا طويلًا. كتبت رسالة قصيرة، وطلبت من لوري أن يأخذ الخف خلسة إلى حجرة المكتب الخاصة بجده ويضعه فوق المنضدة في الصباح حتى يراه عندما يستيقظ.

انتظرت بيث لتعرف وقع الهدية على السيد لورانس. مرَّ يومان دون أن تسمع شيئًا، فساورها القلق أن تكون قد أغضبت صديقها العجوز. في ظهيرة اليوم الثاني، خرجت بيث للقيام بأمر ما، وعندما عادت وجدت شقيقاتها وهانا في انتظارها عند الباب الأمامي والحماسة تملؤهن.

قالت جو: «تعالي بسرعة، هناك خطاب لك!»

قالت إيمي: «أوه بيث! لقد أرسل لك …»

فوضعت جو يدها فوق فم إيمي، كي لا تفسد المفاجأة الرائعة.

عندما دخلت بيث إلى حجرة الجلوس، شحب وجهها من البهجة والمفاجأة معًا. إذ وجدت أمامها بيانو صغيرًا وفوقه خطاب مكتوب عليه: «الآنسة إليزابيث مارش.»

قالت بيث وهي تلهث: «أهذا لي؟» أمسكت بجو بإحكام خوفًا من أن تصاب بالإغماء في الحال.

أطلقت جو صرخة، وقالت: «أجل! إنه لك، أليس هذا بادرة طيبة منه؟ إنه أروع جدٍّ عجوز في العالم.»

حاولَت إعطاء الخطاب لبيث ومعه مفتاح البيانو، لكن بيث هزت رأسها بالرفض؛ إذ كانت في حالة من الانفعال الشديد، ففتحته جو، وقرأت: «الآنسة مارش، لقد امتلكت الكثير من الأخفاف في حياتي، لكن لم يناسبني أي منها كذلك الخف الذي صنعتِه لي. أود تقديم شيء لك في المقابل؛ هذا البيانو يخص حفيدتي التي فقدُتها، لك جزيل الشكر وخالص التمنيات. صديقك، جايمس لورانس.»

قالت جو: «يا له من شرف عظيم! أخبرني لوري كم كان السيد لورانس يحب حفيدته التي ماتت، وأنه يعتني بأغراضها بشدة، والآن يقدم لك البيانو الخاص بها!»

لم تفق بيث من صدمتها إلا بعد أن جلست وعزفت على البيانو. صاح الجميع في دهشة إنه أروع بيانو سمعوا صوته مطلقًا. نظرت الفتيات في فرحة كبيرة إلى شقيقتهن الغالية وهي تعزف بأصابعها على مفاتيح البيانو الجميل وتضغط على بدَّالاته اللامعة!

قالت جو: «عليك أن تشكريه.» وقد غاب عن بالها أن بيث الخجولة لا يمكن أن تفعل شيئًا كهذا أبدًا.

– «أجل، أعتقد أنني سأذهب إليه الآن قبل أن يزداد ذعري.»

حدثت المعجزة التي أثارت دهشة العائلة، وخرجت بيث من منزلها، ومرَّت بالحديقة، واتجهت نحو منزل السيد لورانس، ودخلت المنزل، وطرقت باب حجرة المكتب.

صاح صوت أجش: «تفضَّل!»

توجهت بيث نحو السيد لورانس، ومدَّت يدها، وقالت بصوت يرتعش: «جئت لأشكرك على …» لكنها لم تستطع إنهاء الجملة. بدا حنونًا وودودًا للغاية حتى إنها عانقته. فكرت بيث في الفتاة الصغيرة التي فقدها، فطبعت قُبلة على وجنته.

تأثر السيد لورانس كثيرًا بدفء مشاعر بيث التي أذابت معها قساوته الظاهرة. أجلسها على ساقيه وكأنه استعاد حفيدته مرة أخرى. زالت مشاعر الخوف عن بيث، وتحدَّثت معه وكأنها تعرفه من قديم الأزل. عندما عادت إلى المنزل، سار معها حتى الباب، ثم صافحها، وابتسم لها وهو يرفع قبعته ليودعها على نحو راق.

لم تصدق شقيقاتها ما حدث؛ فرقصت جو، وكادت إيمي أن تسقط من النافذة وهي تشاهد ما يحدث، أما ميج فصاحت: «لا بد أن نهاية العالم قد اقتربت!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤