الأدب المصري المعاصر

النقد ووظائفه

الآن وقد نهض جيلنا، يحق لنا — بل يجب علينا — أن نحصي التراث لنرى ماذا عَمل من يكبرنا سنًّا، وماذا بقي علينا أن نعمل؛ لنسير على بينة كما ساروا، واثقين من أن مراجعة القيم ورسم النهج وتخطيط الأفق هو دائمًا من عمل الشباب عند نضجه؛ إذ سرعان ما تسلمنا الحياة بطول معاشرتنا لها إلى المحافظة، اللهم إلا أن نستثني العبقريات الفذة التي تظل شابة أبد السنين. ومن البيِّن أنه لا بد في كل نزعة ثائرة محددة من شيء من السذاجة أو ما يسميه الناس سذاجة، نستطيع معها أن نستخفَّ بالصعوبات، وأن نعمى ولو مؤقتًا عما نستهدف له من أخطار، عندما نجاهد في سبيل الحق مَن بأيديهم القوة والبطش.

والناظر في أدبنا الحديث يلحظ أن الجيل السابق قد نجح في شيء وأخفق في أشياء.

وأكبر ظواهر الإخفاق فيما يبدو هو خضوع ذلك الجيل لضغط الهيئة الاجتماعية. نعم، إنني لا أجهل أن امتداد الزمن بالحياة كثيرًا ما ينتهي بنا إلى الصلح معها، فالشيوخ عادة أكثر رضًا وتفاؤلًا من الشبان الساخطين المتشائمين. كما أعلم أن طول التجارب كثيرًا ما يبصرنا بحدود للممكنات لم نكن نفطن لضيقها أيام حداثتنا، بل إن كل تجربة عبءٌ يُثقل خطانا. وأضيف إلى ذلك أنه قد يكون من الخير لحياتنا الاجتماعية أن ترتد هجماتنا عن بعض المقومات التي في نهوضها ضرورة لاستقامة الأمور واطرادها على نحو يشفع فيه الثبات لما عداه. وبالنفس من اليقظة ما يبصرنا بأن للحياة المادية قسوة كثيرًا ما تُلين أصلب العزم، وثمة الطموح وإغراء الشهرة وسحر الجاه وشهوة السلطة الزمنية وما إلى ذلك من نزعات، ولكني رغم كل هذا أتساءل: ما بال معظم كتابنا قد انتهوا بالكتابة عن «محمد»؟ أهو إيمان من يشعر باقترابه من اليوم الآخر؟ ذلك ما نرجوه، ولكن ثمة أمر لا شك فيه، هو أننا قد وصلنا إلى درجة التزمت. ولكن هالني يومًا أن أرى أحد كُتَّابنا المعروفين باتساع الأفق يدعوني إلى أن أسقط من حديثٍ لي بالراديو كلمة «حوريات» ترجمة لعرائس الغابات المعروفة في الأساطير اليونانية؛ خوفًا من أن يتهمني أحد بالمروق عن الدين لاستعمال لفظة وردت في القرآن، وأنا بصدد الحديث عن خرافات الوثنية اليونانية!

إذن، بقي لنا أن نعود إلى التقاط الأسلحة التي ألقاها سابقونا، وأن نناضل دون حرية الرأي وكرامة الفكر البشري وتقديس حقوقه غير باغين ولا معتدين.

وكان نجاحهم أوضح ما يكون في المجال الفني؛ إذ استطاعوا أن ينتقلوا بالنثر العربي الحديث — بل بالشعر — في السنوات العشر الأخيرة من اللفظ العقيم إلى التعبير المباشر ومن الصنعة إلى الحياة: من «حديث عيسى بن هشام» إلى «دعاء الكروان»، وكان «للديوان» وأمثاله من كتب سابقينا في هذا التطور فضل كبير. ولقد استطاعوا أن ينقلوا معنى الأدب وفن الكتابة، كما يفهمه الأوروبيون إلى المتخلفين منا، بحيث لم يعد اليوم لأنصار المذهب اللفظي السقيم في بلادنا نفوذ يذكر.

وسار الزمن سيرته فلم نعد نرى «موازين» حتى أصبح النقد إما سبابًا أو إعلانًا، فهذا يريد أن يحطم «الأصنام»، والجمهرة العظمى لا هم لها إلا أن ترضي هذا أو ذاك بالإعلان عن كتبه إعلانًا متنكرًا في صيغة النقد الأدبي، وأكبر ظني أن معظم هؤلاء النقَّاد المحترفين لا يقرءون ما يكتبون عنه فيما عدا العنوان وبعض صفحات.

وليس هذا بالنقد الذي يستطيع الجمهور أن يثق به فيعمد إلى قراءة ما يستحق أن يُقرأ أو رؤية ما يجب أن يُرى من مسرحيات وأفلام، على نحو ما نرى في المجلات الأوروبية التي تحرص — في الباب العام الذي تخصصه للنقد — على الأمانة في هداية الجمهور أمانة مستنيرة صادقة الذوق.

وليس هذا بالنقد الذي يدرس عن قريب ما يريد أن ينقد، فيولِّد ما فيه من معانٍ يضعها تحت بصر القارئ الذي لا يملك عادةً من الوقت ولا من الخبرة ما يستطيع معه أن يستخرج من النص كلَّ ما فيه. بل إن الناقد الحقيقي ليضيف إلى النص الشيء الكثير، يخلقه خلقًا بفضل ما في الكتب الجيدة من قدرة على الإيحاء، وهذا من حقه بل من واجبه ما دام لا يتعسف فيخرج المعاني غير مخرجها أو يحملها ما لا تطيق. وفي الحق أن النقد الجيد خلق جديد؛ إذ سيان أن نحس ونفكر ونعبر بمناسبة كتاب أو بمناسبة حادثة أو مشهد إنساني، وكل تفكير لا بد له من مثير.

وليس هذا بالنقد الذي يستطيع أن يساهم في توجيه الأدب وجهة الأمانة العقلية والصدق في العبارة، وما أحوجنا إلى الأمانة والصدق في كل مظاهر نشاطنا المادية والروحية! وهما في مجال الروح ألزم. والأدب فيما أرى أقوى عامل في مراجعة القيم وتفنيد باطلها من صحيحها، والأدب أسلم مناهج حياتنا، وإنه لمن الإجرام أن ننزله منزلة السلع فنجامل هذا الكاتب أو ذاك بأن نتحدث عن كتابه، كما نعلن عن «صابون النمر» أو «اسبرو الروماتيزم»، وذلك في غير نفع لأحد، فالكاتب نفسه لا يخدعه هذا النفاق، وإلا كان من الغفلة بحيث لا يستحق أن يسمى كاتبًا، والجمهور قد طالت خديعته حتى استيقظ ففقد الثقة في الكثير مما يقرأ عن الكتب والكُتَّاب.

وأنا أعلم ما في هذه الصفحات من جهد، ولكني أقدمت لغرضين؛ أولهما: أن أكون هاديًا لجمهور القُرَّاء، أسبقهم إلى قراءة ما يقع تحت يدي من الكتب، فإن وجدت فيها خيرًا أظهرت ذلك الخير، ودعوت غيري إلى مشاطرتي إياه، وإن لم أجد حدثت القُرَّاء عن تجربتي لعلها تنفع، ولو في تلك الحدود الضيقة التي يفيد الناس من تجارب غيرهم. وثانيهما: أن أكون عونًا للكاتب الجيد على أن يؤدي رسالته لدى الجمهور، سواء أكان هذا الكاتب ناشئًا ينبعث عنه الأمل أم منتهيًا قد وفق إلى أن يخلف على رمال الزمن وقع أقدامه.

وإنه ليسرني أن أقود الجمهور خلال ما يكتب أدباؤنا الذين انتهوا إلى أوج المجد، ولكن على شرط ألا يقع هؤلاء الكُتَّاب فريسة لنجاحهم نفسه، فتعقم نفوسهم بالزهو وتفسد أمانة عقولهم، فلا يأخذون أقلامهم بالجهد معتمدين على ما اكتسبوا من مجد أو شهرة. وكم لدينا من كتاب قد أصبحنا نحس أنهم لا يشقون في العناية بما يكتبون، ولا في التفكير فيه، لوثوقهم — فيما يظنون — من إقبال الجمهور عليهم، ولو كانت كتابتهم هذرًا وسخافة، وأصحاب المطابع والمجلات يقبلون بلهفة ما يقدمون إليهم؛ إذ يضمنون من ورائه الرواج المادي بفضل حمق الجمهور في تعلقه بالأسماء، أكثر من تعلقه بقيمة ما يقرأ، وفي هذا استخفاف بعقلية القراء اليقظين ذوي النظر السليم، كما أن فيه قضاء مبرمًا على الكتاب أنفسهم، وخسارة كبيرة تنزل بتراثنا الروحي وثقافتنا الراهنة التي نريد أن نبنيها بناءً أصيلًا، والتي ما زلنا عند الحجارة الأولى من أساسها. وكتَّابنا الأفاضل يعلمون حق العلم أن أول واجباتهم إن كانوا حريصين على المجد الحقيقي؛ المجد الذي يفلت من طوفان الزمن، المجد الباقي لا تهريج الجماهير، هو أن يأخذوا أنفسهم بالجهد المتصل والمراقبة المستمرة والقسوة اليقظة في المقال وفي الكتاب بل في الحديث إلى الناس مجرد حديث يتبدد أنفاسًا، فالتفكير أمر شاق والعبارة عنه أشق.

فليحذروا إذن أنفسهم، وليحذروا النجاح!

وثمة مشكلة السينما والراديو والمجلات والجرائد، والذي لا شك فيه أن هذه الوسائل قد احتلَّت في حياتنا، بل حياة كل الشعوب، مكانًا لا يدانيه مكان الكتاب، والأمر في بلادنا أوضح؛ إذ نرى الإقبال على المشاهدة والاستماع أكبر من الإقبال على القراءة، وذلك بحكم قانون أقل الجهود الذي يسيطر على حياة الكسالى من أمثالنا أشد سيطرة. والقراءة على قلتها لا تكاد تمتد إلى الكتب القوية، بل تقتصر على الجرائد والمجلات التافهة، وهذه حالة محزنة يجب التماس علاج لها. وأنا لا أشك في أن للمسألة الاقتصادية وفقر الناس دخلًا في هذه الظاهرة، ولكني أعتقد أن هناك ما يمكن عمله من الناحية الثقافية أيضًا؛ وذلك بكسب النقد لثقة الجمهور ثم دعوته إلى القراءة، ففيها ما يرفع القلوب ويهذب الإحساسات وينير العقول ويربِّي الخُلق، بل فيها ما يجدد الحياة ويذهب بمللها.

وأمر السينما والمسرح والراديو والكثير من المجلات متروك بين أيدٍ أخشى ألَّا تستطيع أداء رسالتها، بل إنها قد لا تعرف أن لها رسالة، وهذا إجرام في حق الشعب وحق الوطن؛ ولهذا يجب أن يُعنى بها النقَّاد، فهي وإن تكن أشياء فانية عابرة محدودة الأثر في تثقيف الشعوب ثقافة حقيقية، إلا أنها واسعة الانتشار شديدة الضرر. وليس من شك في أنه من الواجب أن نساهم في تجميل حياة مواطنينا وحمايتها والدفاع عنها إلى جانب ما نستطيع أن نكتب لأنفسنا أو للخواص من الناس.

وبعد، فقد حقق الجيل السابق ما استطاع تحقيقه، وها نحن بدورنا نسعى إلى أن نخطو الخطوة الأخيرة ليدخل الأدب المصري المعاصر والتفكير المصري المعاصر في التيار الإنساني العام.

وسبيل ذلك هو — بلا ريب — الإخلاص لأنفسنا، فلكل نفس فيما أعتقد أصالتها، ولعل في النقد ما يساعد تلك النفوس على إدراك ما تمتاز به من عناصر تنميها فتؤتي ثمارها.

وأكبر نقص في أدبنا، على ما أعتقد، هو بعده عن الألفة Intimacy فهو قلَّما يهمس. وهل لذلك من سبب غير ضعف الإخلاص فيه وغلبة المهارة عليه سواء في الصياغة أم في التفكير؟

كثير من كُتَّابنا في حاجة إلى التواضع، بل إلى السذاجة ليأتي أدبهم مهموسًا على نحو ما أتت معظم الآداب الخالدة.

هذا، وكثير من كُتَّابنا على الدولة أن تنجو بهم من ضرورات الحياة؛ لكي يحسوا لأنفسهم ويفكروا لأنفسهم في هدوء واستجمام، وعندئذٍٍ سنجد أنفسنا فيما يكتبون.

«بجماليون» والأساطير في الأدب

وأخيرًا أخذت الأساطير تشق سبيلها إلينا، حتى رأينا كاتبًا كالدكتور طه حسين يكتب في روايته «أديب»: «لقد ماتت قناتنا أيها الصديق! ماتت ودفن فيها — أو صرف عنها — ذلك الإله الشاب من آلهة الأساطير الذي كان ينطلق فيها فرحًا، هادئًا وادعًا، مستبشرًا يرسل البِشْرَ من حوله، جميلًا ينثر الجمال عن جانبيه، مات هذا الإله الشاب فدفن في مجراه، أو طرد هذا الإله ورُدَّ عن مجراه، وفني في الإبراهيمية فأصبح ماء من الماء، وجرى لا يتميز عن غيره، لا يعرفه أحد ولا يعرف هو أحدًا، لا يثير في نفوس الناس حزنًا ولا فرحًا، ولا تجري ألسنتهم بالحديث عنه، نسيه الناس ونسي هو الناس، بل نسي نفسه أيضًا. إنك لتعرف أن آلهة الأساطير لا حياة لهم إلا إذا أقيمت لهم المعابد وأقاموا هم المعابد، فإذا هدمت معابدهم فقد ماتوا أو طردوا من الأرض طردًا، فقد هدم معبد هذا الإله الشاب وماتت القناة، فمات هو أو نفي من الأرض وأصبح حديثًا كغيره من الآلهة الذين أصبحوا أحاديث.»

ولو أنك بحثت عما خلف هذه الفقرة الطويلة من معنًى لم تجد غير خبر يلقي به مواطن إلى مواطنه، فالأديب الذي نشأ في نفس القرية التي نشأ فيها طه حسين قد عاد إلى بلدته فوجد أن ترعتهم قد ردمت بعد أن كانت تنساب من الإبراهيمية إلى القرية، وحزن الأديب لزوالها أو قل: حزن طه حسين الذي دل في موضع مما كتب على إلفه للأمكنة وإحساسه بها إحساسًا مرهفًا، واحتال الكاتب على شفاء نفسه مما تجد، فلجأ إلى الأساطير اليونانية التي خلعت على الأشياء صفات الإنسان أو صفات الآلهة، والأمر بعد سيان؛ إذ إن آلهة اليونان قد خلقهم هذا الشعب على شاكلة البشر. وعلى نحو ما جعل هوميروس من نهر الإسكامندر في الإلياذة إلهًا يصارع البطل «أخيل»، ترى طه حسين يجعل من قناة بلدتهم إلهًا شابًا سرعان ما يُنسى وينسينا أنه أسطورة أو إله خرافة، وإذا بالإله شاب إنسي يموت ويدفن في القناة أو على الأصح يفنى بفنائها، وإذا بالكاتب يمزج بين حياة هذا الشاب وحياة من حوله، وينفث فيه فيضًا من العاطفة قد بلغ من التأثير في نفس القارئ مبلغًا، ما كانت الألفاظ — مهما رقت — بمستطيعة أن تصل إليه بغير هذا التشخيص.

وها نحن نرى اليوم الأستاذ توفيق الحكيم يتناول أسطورة «بجماليون» اليونانية الأصل ليتخذ منها وسيلة لعلاج مشكلة نحس أنها تعني الكاتب، مشكلة الحياة التي لا يجد الفنان سبيلًا إلى الصدوف عنها، مهما أصاب من نجاح، هي أبدًا تلاحقه وتقتضيه حقوقها. وإلى هذا فطن اليونان فجرت إحدى أساطيرهم بأنه قد كان في جزيرة كريت فنان بارع عقد عزمه على ألا يتزوج ليوفر حياته على الفن، أو لأنه قد نفر من مظاهر استهتار النساء، كما رآهن بأعياد فينوس إله الحب، تلك الأعياد الصاخبة التي كانت تقام بمدينة «أماتونتوس» على الساحل الجنوبي للجزيرة؛ حيث كان معبد تلك الآلهة. وغضبت فينوس من كبريائه فألقت بقلبه حب تمثال عاجي من صنعه اسمه «جالاتيه»، واشتعلت بحواس الفنان المسكين رغبات الحياة، فضرع إلى الآلهة أن تنفث الروح بالتمثال، ورق قلب الآلهة لضراعته فاستجابت، وتزوج بجماليون من جالاتيه وكان له منها ولد هو «بافوس» مؤسس مدينة «بافوس» مدينة الحب الشهيرة بجزيرة كريت.

وشاء شيطان «الحكيم» أن يجسم جانبي النزاع في نفسه، فلجأ إلى أسطورة يونانية أخرى هي أسطورة «نرسيس» أي النرجس؛ وذلك أن خيال اليونان رأى النرجس ينمو دائمًا على شواطئ الغدران فاخترع له أسطورة. قالوا: إن النرجس كان في الأصل شابًّا جميلًا يعرف أنه جميل، وكان يطيل النظر في مرآة المياه ليتمتع بجماله، فنسخته الآلهة زهرة لا تزال إلى اليوم تنبت على حافة المياه لتطل في صفحتها. وجاء علماء النفس المحدثون فاتخذوا من معنى هذه الأسطورة اسمًا لمرض نفسي هو غرام الشخص بنفسه على نحو ما يغرم بفتاة، حتى أصبحت تلك «النرجسية» Narcissisme من أبحاث المشتغلين بذلك العلم. ورأى الحكيم أن نرسيس يستطيع أن يرمز إلى تلك النزعة القوية التي تدعوه إلى الحياة وتصرفه عن الفن، فحزم أمره واتخذ من نرسيس حارسًا لتمثاله، اتخذ من حياته حارسًا لفنه. وترك الكاتب لنرسيس الحرية في أن يلهو مع فتاة يونانية عرفت منذ عهد سوفوكليس بالحكمة هي «إيسمين»، وكأني بالكاتب لا يخشى على نرسيس منها شيئًا، وإنما هي ملهاة، عرضت نفسها على نرسيس فقبلها، وهي لن تؤدي به إلى الطغيان على بجماليون، لن تنصر الحياة على الفن، وفي هذا ما يحزن فلإيسمين في النفس قداسة.

وكم كنت أود لو التمس الحكيم لنرسيسه فتاة أخرى، إيسمين في ذكرياتي هي إيسمين سوفوكليس … إيسمين العزيزة النبيلة، وما إخالها إلا منتقمة لذكراها الخالدة، وقد زُجَّت إلى حيث لا تدرك لوجودها معنًى.

ومزج الحكيم بين بجماليون ونرسيس، فالشخصيتان هما الفنان نفسه بجانبيه: جانب الحياة التي يجب أن يأخذ منها بنصيب، كما يأخذ جميع البشر، وجانب الفن الذي يريد الكاتب أن يوفر عليه كل نشاطه. ومن ثم نرى نرسيس يهرب ذات مرة مع جالاتيه نفسها، ولا تجد إيسمين في ذلك غضاضة قوية، ولا يجد بجماليون للغَيرة ألمًا؛ وذلك لأن إيسمين متعة عابرة، ولأن نرسيس هو بجماليون نفسه، فالأمر إذن لا يعدو انتصار الحياة في برهة من أيام الكاتب أو الفنان، وهو بعد انتصار لا يضير الفن، إذا سار الفن مع الحياة؛ سارت جالاتيه مع نرسيس.

وهكذا تعقدت حياة بجماليون بين يدي الحكيم، حتى طال تردده بين الحياة والفن، فآنًا يفرح ويطمئن إلى جالاتيه المرأة، وآنًا يعود فيحن إلى جالاتيه التمثال.

وأما القارئ فيشهد كل ذلك بعقله، وكأن تلك الشخوص أفكار مجردة، هامدة تتحرك لمجرد علاج مشكلة تدور بالعقل … العقل البارد الذي لا يهز.

وبدأ يتضح اتجاهان في استخدام الأساطير عندنا؛ فهذا طه حسين يجعل من قناتهم شابًّا، كان يملأ الدنيا بهجة، ثم يموت الشاب فنحزن لموته، وهذا توفيق الحكيم يتخذ من بجماليون ونرسيس وإيسمين رموزًا لعلاج إحدى مشاكل حياة الفنان، مشاكله الجسيمة يعالجها على نحو عقلي معقد مبسط.

ولنتمهل قليلًا لنرى ماذا فعل كُتَّابنا بالأساطير وماذا فعل كُتَّاب غيرنا من الشعوب، لنرى بوضوح كل ما يمكن كسبه لو أننا استطعنا أن نحسن استخدام ذلك الجانب الإنساني الرائع من خرافات الأولين: يونانيين كانوا أو عربًا أو هنودًا، ففيها كلها ما يغذي العقل والقلب، ويفتح أمام النشاط ميادين لا حدَّ لغناها، ونحن اليوم على أبواب تطور خطير في حياتنا الروحية والفكرية؛ إذ من كان يظن في أوائل هذا القرن أن كتابنا سيرون في إحدى ترع الصعيد إلهًا شابًّا، أو يشقون شاعرًا أو كاتبًا من شعرائنا أو كتابنا كالأخطل مثلًا أو ابن قتيبة إلى بجماليون ونرسيس، إلى فن وحياة يراوغان ويتداخلان؟ وهذا اتجاه يبشر بالخير، خليق بأن يجدد حياتنا, ولكن على شرط أن يكون التجديد إنسانيًّا عميقًا جميلًا، وأما إذا أخذنا بالقشور والهياكل تاركين اللباب والمعاني الدفينة، فسنفقد عندئذٍ أصالتنا دون أن نستعيض عنها بأصالة أخرى، وإنا لندعو إلى تعميق حياتنا والمد من آفاقها. وإنه لمن قصر النظر أو الجهل أن نظن أن تراثنا العربي يكفي اليوم ليغذي نفوسًا تعلم وتحس في قرارة الإنسان وفي آيات الطبيعة أو في الصلة بينهما حقائق جميلة، لم يصل إليها التفكير العربي إلا مجزأة مفككة، أو ضائعة في خلال الألفاظ التي طالما أصبحت في أدبنا عبثًا يقصد لذاته. وإنه لمن قصر النظر أو الجهل أن نرى مضاضة في أن نأخذ عن كبار مفكري الإنسانية وأدبائها دروسًا، نشد بها من قدرتنا؛ حتى نستطيع النهوض على أقدامنا والسير مع هؤلاء الرجال جنبًا إلى جنب.

وأساس الأخذ عن الغير والإثراء به هو الفهم؛ الفهم العميق. وكل فهم صحيح تملك للمفهوم، ونحن نستطيع أن نتملك كل ما خلف البشر من تراث روحي، أساطير كانت أم حقائق، على ما في تلك الاصطلاحات من تحكم غير صادق في أغلب الأحيان؛ فكم من أساطير يصح أن تسمى حقائق، وكم من حقائق تكشف عن أساطير. والأمر بعد سيان، فما نريده هو أن نملك كل ما تصل إليه عقولنا، وسنرى عندئذٍ كيف ننمي هذه الثروة الروحية، بل إنها ستنمو نموًّا ذاتيًّا بما فيها من قوًى كامنة، كالمال يولِّد بعضه بعضًا ما خلصت لنا ملكيته.

هذا التملك هو سر ما وصل إليه الكُتَّاب الأوروبيون من خلق جديد استقوا مادته من التراث القديم، فاليونان اتخذوا من الأساطير الشعبية التي كانت شائعة في القبائل الأندو أوروبية الأولى، مادة لأجَلِّ وأعمق ما خلف البشر من أدب وتفكير، وخلفهم في ذلك اللاتين ثم الفرنسيون في أدبهم الكلاسيكي. والأمر لا يقف عند الأدب، بل يمتد إلى كل الفنون، وفي متاحف العالم أجمع لوحات لا عداد لها، وتماثيل نحتت في كل الأزمنة وفي مختلف البلاد بوحي من تلك الأساطير.

وموضع العبرة فيما فعل الكتاب الأوروبيون هو نفث الحياة في أساطير الأولين وتقريبها من حياتنا وتسخيرها لفهم الإنسان، فها هو برناردشو يكتب «بجماليون»، ويبلغ حرصه على الحياة ألا يتصور تمثالًا من العاج أو المرمر، بل فتاة حية من دم ولحم، بائعة زهور لم تكن حياتها شيئًا قبل أن يعثر بها بجماليون، كانت بائسة لا تعرف من الحياة إلا القليل، ولم يكن لها غير تلك النبرة المؤثرة؛ نبرة كوكني لندن، لهجة الشعب المتواضع، لهجة باعة الأسواق المشردين المنبوذين، عثر بجماليون بالفتاة، ولم يزل يلقنها نغمة الطبقة الممتازة، ويبصرها بطرق حياتهم، حتى أصبحت متعة للأبصار وبهجة للنفوس. وكان بجماليون لا يحب فيها أول الأمر غير كبرياء الخالق، كبرياء الفنان الذي يحب نفسه فيما يخلق، ولكن نجاح الفتاة وإقبال الرجال عليها لم يلبث أن نفذ إلى غرائز بجماليون كرجل، فأخذ يحب الفتاة لنفسها، يحبها على غير وعي منه حتى كان يوم أدرك فيه مدى هذا الحب، أية حياة تملأ المسرحية! وأية إنسانية تجري في نواحيها! أي تميز للشخصيات! وأية حركة متدفقة في المواقف والأوضاع! ثم أية وحدة في البناء!

أين كل هذا من الأفكار المجردة؟ وأين كل هذا من مشكلة حياة الفنان المبسطة التي لا نكاد نراها إلا في خطوط هندسية ومقابلات بين الحياة والفن، بين المرأة والتمثال، ومن حولها شخصيات أشبه ما تكون بقطع الشطرنج أو بعرائس الخشب التي تحركها على مسارح الأطفال خيوط تجتمع كلها إلى يد واحدة، هي فكرة الفن والحياة وما بينهما من تعارض لا أكاد أفهمه في فن يسعى إلى خلق الحياة، وكيف يخلقها وهو يجهلها؟! يقول ديهاميل لفتاه: «لا تنسَ أن تعيش، عش أولًا، عش بكل قواك ثلاثة أشهر لتكتب ثلاثة أيام، واكتب ثلاثة أيام لتملأ ثلاث صفحات.»

وإلى هذا النوع من الأدب الذي تشيع فيه الحياة يتجه إيماني بحيث لا أطمئن إلى الأدب المجرد، أدب الفكرة الذي يصدر عنه الأستاذ الحكيم، فهو أدب سهل.

نعم، من السهل أن نتخذ من أشخاص الأساطير رموزًا نحركها للتدليل على فكرة ما، ومن هذا النوع رواية شيللي عن «بروميثيوس الطليق» ورواية أندريه جِيد عن «بروميثيوس غير المحكم الوثاق» ففي كل منهما علاج لأفكار. عند شيللي صراع بين الخير والشر، بين الآلهة والإنسان، وعند جِيد بين الضمير والجسد، بين الهيئة الاجتماعية والإنسان. ولكن ثمة أشياء تشفع لشيللي وجيد، فشيللي شاعر، كتب مسرحيته شعرًا وفيها من جلال الصور وندرتها وقوتها وجمالها ما يثير الخيال ويلهب النفس. وجيد مفكر عميق نافذ، رمزيته إشارات دالة وإيحاء بعيد، نلهث في متابعته. والذي لا شك فيه أن إيجاد الشخصيات ونفث الحياة فيها وتركيز طبائع البشريين بين حناياها بما تحمل تلك الطبائع من مصائر وآلام، أمر أشق وأروع وأجمل وأضمن للخلود من العبث بالأفكار، وبخاصة إذا كانت أفكارًا مطروقة قريبة المنال.

وإذا كان الأديب لا ينجح في أن يثيرني ولا في أن يرسم أمام خيالي نماذج لي ولك، أتعرَّف فيها على ناحية من حياتي أو اتجاهات نفسي أو موضع من مواضع قوتها أو ضعفها، فماذا إذن يستطيع حين يتناول إحدى تلك الفكر الملقاة كأعراض بمفترق الطرقات؟

ألا ليت للحكيم قدرة على الانفعال والتأثير، ألا ليت له قدرة شاعر كشيللي على اقتناص الصور وإيقاع الشعر، أو قدرة «شو» على نفث الحياة والإمعان في الواقع، ألا ليت له قلبًا وخيالًا يعدلان عقله!

ولقد كان الحكيم يستطيع — وقد عز الانفعال وعز الخيال — أن يخفف من طغيان التفكير بشيء من «الهيومر» على نحو ما رأينا أحد كُتَّابنا الموهوبين يسمى عصارة قلبه الساخر «حصاد الهشيم» و«قبض الريح». وأما الحرص على الخلود والجهر بالرغبة فيه والتصبب عرقًا في الجري وراءه، فأشبه ما يكون «ببراميل الدناييد» التي لا قاع لها. والخلود كالمرأة الجميلة، الخلود كالحياة لا بد من التحفظ معه والبعد عنه وعدم التكالب عليه لنظفر به. وبهذا وحده نستطيع أن نسيطر على ما بأيدينا وأن نقوى على مواجهته في غير ما ضعف ولا تهافت. والسيطرة قوام الخلود، السيطرة على المادة التي نصوغها.

وبعد، فقد كنت أخشى أن تظل مرامي الكاتب مختفية في ضباب الأسطورة وخلف رموزها؛ ولذلك حاولت أن أؤدي ما أراه واجبًا على كل ناقد، فاتجه جهدي إلى تقريبها من القُرَّاء وربط الشخصيات بعضها ببعض، وإيضاح المعاني التي قد تفلت من القارئ البادئ.

ولقد تفضل الأستاذ الحكيم فأهداني كتابه، فلم أجد ردًّا للتحية خيرًا من أن أقربه لقرائه الكثيرين المعجبين، وأما ما بسطت من رأي يتجه إلى نوع من الأدب يخالف منحي «بجماليون» فقد كان الإيمان رائده.

سوء تفاهم وفن الأسلوب

لعل دراسة الأساليب أشد أبواب النقد تخلفًا في أدبنا الحديث، ولعل تأثرنا بالأدب الأوروبي كان أضعف في هذا الاتجاه من تأثرنا بالتفكير الأوروبي. والذي يبدو لي هو أن هذه الظاهرة كانت من أكبر الأسباب التي عمَّت معنى الأدب عندنا وأنزلت الاضطراب بمنهجه؛ وذلك لأن الأدب، كما قال لانسون: «هو المؤلفات التي تكتب لكافة المثقفين، وتثير لديهم بفضل خصائص صياغتها، صورًا خيالية أو انفعالات شعورية أو إحساسات فنية»، فهو إذن غير التفكير الفلسفي، وهو غير التاريخ وغير النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسة. وإذا كان النقَّاد يجمعون على أن محاورات أفلاطون مثلًا أو كتب برجسون أو تاريخ فرنسا لمشليه تدخل في الأدب؛ فذلك لأن في «صياغتها ما يثير صورًا خيالية أو انفعالات شعورية أو إحساسات فنية»، وهذه حقيقة هامة يجب أن تستقر في نفوسنا حتى لا يذهب جهد أدبائنا فيما لا أدب فيه ولا ضمان معه للخلود، الأدب صياغة.

والناظر في أدبنا الحديث يجد عدة أنواع من الأساليب، فثمة أسلوب طه حسين الذي يعرفه الجميع، أسلوب سمح تسلم الصفحة منه عند أول قراءة كل ما تملك، فلا تشعر بالحاجة إلى أن تعود تستوحيها جديدًا، ولكنك رغم ذلك تحمد للكاتب يسره، أسلوب واضح الموسيقى، يكشف في سهولة عن أصالته، فيقلده الكثيرون بوعي منهم أو بغير وعي، ولكنه مع ذلك موسيقى نفس، أسلوب عذب.

«إن السعادة لخير ما يحقق مذهب «أنشتين» في النسبية، فكل شيء في الحياة من لذة وألم نسبي … وليست اللذة والألم يعتمدان على الشيء الخارجي فحسب، بل هما نتيجة تفاعل بين الشيء الخارجي والنفس. ويختلف هذا التفاعل اختلافًا كبيرًا باختلاف النفوس، فليس الألم من الحر والبرد يعتمد على درجة الحرارة وحدها، بل إن صح أن يكون الترمومتر مقياسًا لحرارة الجو فلا يصح أن يكون مقياسًا لألم النفس من الحر. وليس لهذه الحال ترمومتر مشترك يتساوى فيه الناس، إنما لكل إنسان في الألم من الحر والبرد ترمومتره الخاص؛ ولذلك ترى من يموت من الحر ومن يموت من الضحك من الحر» («فيض الخاطر» ج١، ص٣٤٢-٣٤٣).

تقرأ هذه الأسطر لأحمد أمين فتخرج منها بفكرة «أن الألم واللذة أمران نسبيان وأنهما نتيجة لتفاعل بين النفس وما يحيط بها»، ثم تنظر فإذا الكاتب يعرض لك نفس الفكرة بعدة طرق ويحتال على نقلها إليك بكافة أوجهها فتهم بأن تصيح: وما عملي أنا إذن؟ ولِمَ لا يترك لي حظ تنمية فكرته فأشاركه عمله وأجد من لذة الجهد الشخصي ما يغريني بقراءته؟ لِمَ لا يترك فكرته مركزة فتحتفظ بقدرتها على الإيحاء؟ إننا لا نريد «الفكة»، بل نريد «جنيهات صحيحة». وفي هذا التشبيه على ابتذاله ما يوضح حقيقة هذا الأسلوب، فالجمل بسيطة صغيرة ليس فيها من التماسك والتداخل ما يُجري في التفكير وفي العبارة ذلك «السيل الموسيقي» الذي يميز بين الأساليب تبعًا لطبيعته، أسلوب يترك القارئ في موقف سلبي؛ لأن الكاتب لم يترك له شيئًا، أسلوب جزئيات لا موج فيه، أسلوب واضح، ونحن في حاجة إلى ظلال وأسرار ولو من حين إلى حين، أسلوب تجاور لا بناء، أسلوب تعليمي.

ثم أسلوب الزيات: «نشأ بين لِدَاتِه من أطفال القرية، كما ينشأ الزنبور بين النحل أو الثعبان بين الحمام، فكان لا ينفك ضاربًا هذا بعصًا أو قاذفًا ذاك بحجر، أو خاطفًا لعبة من بنت أو سارقًا شيئًا من بيت! فلما جاوز حدَّ الطفولة دخل في خدمة الفجَّار والمُجَّان، فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم» («الرسالة» ٤٦٤).

شيء أشبه ما يكون بأسلوب «المقامات»، وأنا لا أكره المقامات بل أعدها كنزًا ثمينًا في تراثنا الأدبي لم نعرف بعد كيف نتذوقه، ولكن الزيات لم يقصد إلى كتابة «مقامة»، بل مقالة يصور فيها رجلًا لقيه فعلًا في الحياة، فما هذه الصنعة التي تُخرج التصوير من الواقع الحي إلى الأدب المصنوع؟ ومن منا يقرأ جملًا كهذه ثم يتصور أو يصل إلى أن يتوهم أن هذا الرجل موجود؟ ولو أن ذلك كان ممكنًا لما سأل القُرَّاء الزيات عن حقيقة ذلك الرجل، كما رأيناهم يفعلون على صفحات «الرسالة»، وأين هذا من الأسلوب القصصي أو التصويري الذي يجعلك تتوهم الخيال حقيقة أراد المؤلف أم لم يرد؟ ولَكَم من روائي قاضاه الناس؛ لأنهم رأوا أنفسهم فيما صور! ولَكَم من روائي يصر قراؤه على أنه هو نفسه بطل روايته رغم احتياله على الواقع وحرصه على تعميته، بل إن من الروائيين الخياليين من يحتال بعدة طرق حتى يعطيك ما يسمونه بالفرنسية «وهم الحقيقة» L’illusion du reel فما بال الزيات إذن يأبى إلا أن يفسد بالصنعة نغمات الواقع؟ ثم لِمَ كل هذه «السمترية» وفيمَ اصطناع «البرجل والمسطرة»؟ ومتى كان الأسلوب هندسة من هذا النوع التخطيطي؟ أما من نزوة لشيطان الأدب تكسر هذا الاتساق؟ أما من نفضة قلم تتلف قليلًا من هذا الكمال المضني: «زنبور بين النحل أو ثعبان بين الحمام»، «ضاربًا هذا بعصًا قاذفًا ذاك بحجر»، «خاطفًا لعبة من بنت أو سارقًا شيئًا من بيت»، «في خدمة الفجار والمجان، يخدم أولئك بتدبير الجرائم وهؤلاء في إعداد الولائم» يا لله! ولِمَ لا يخطف لعبة من ولد وهو مجرم كبير؟ ولِمَ لا يسرق من حقل وذلك أيسر من السرقة من بيت؟ وهل هو حقيقة لم يخطف إلا من بنت؟ ولِمَ لا يسرق إلا من بيت؟ أم هو مجرد أدب وصناعة؟ وهو يخدم المجرمين بتدبير الجرائم، ولكن لِمَ لا يخدم المجان بإعداد المقاصف! وهل الوليمة أشهى من المقصف أم هي ضرورة السجع؟
أسلوب الزيات المصنوع صنعة محكمة، صنعة كاملة، ولكن الصنعة تُبعدنا عن الحياة، ولكن الكمال يُمَلُّ. وهناك في أساليب كبار الكتاب ما يحسبه البلاغيون والنحويون ضعفًا وعيبًا، ولكنه أمارة الأصالة ودليل الطبع، وإذا كان في جلال أسلوب «شكسبير» أو «فليري» ما يسمونه كسر البناء Rupture de Syntaxe، فكيف لا يطمئن جهد الزيات حتى يقيم الموازين ويقيس المسافات.

وبعدُ، فهذه كلها وغيرها أنواع من الأساليب، وأنا وإن كنت أعتقد أن أيًّا منها لم يبلغ بعدُ ما نرجوه في لغتنا من خلق أساليب تجمع بين الموسيقى والإيحاء والطبيعية، على أن تكون الموسيقى خفيفة دفينة عميقة لا تحاكى، وأن يكون الإيحاء عن غنًى وتركيز لا عن غموض وعجز عن تملك الفكرة، وأن تكون الطبيعية نتيجةً لجهد طويل وصناعة مستترة وتثقيف محكم، كالضوء الداخلي يشع دون أن يعشي الأبصار، أو كالرجل اللبق، يعرف كيف يلقى الناس ويحييهم ويحادثهم في يسر، طال إلفه له حتى أصبح كالطبع المفطور، أقول: إنني رغم ذلك مغتبط بوجود هذه الأساليب المختلفة، مؤمن بأن أصحابها قد ساهموا وسيساهمون في تربية أذواق الناشئين ليحققوا ما يمكن أن يكون جيلهم قد عجز عنه، وما قد يعجز عنه جيلنا نحن أيضًا؛ لأننا لا نزال حديثي عهد بفن الأساليب، ولا بد لنا من أن نتتلمذ في ذلك زمنًا ما لكبار كُتَّاب أوروبا الذين لم نأخذ عنهم — كما قلت — سوى التفكير.

وأما الأسلوب الذي لا أستطيع أن أقبله والذي أرجو أن نحيد عنه؛ فهو الأسلوب الذي يشبه أسلوب بشر فارس في «سوء تفاهم». وأنا إذ أقول الأسلوب أقصد إلى كل هذا النوع من الأدب، وهو بعد أسلوب له نظائره في كل الآداب، ولقد حاربه دائمًا خير النقَّاد والكُتَّاب، هو أسلوب الشويعر «تريسوتان» في كوميديا موليير «النساء العالمات»، أسلوب المتحذلقات في كوميدياه الأخرى «المتحذلقات المضحكات»، وهو قد يسمو قليلًا فيصل إلى أسلوب «ماريفو» المسمى ﺑ «الماريفوديه» Marivaudage، ولقد يبلغ بأصحابه الغرور أن يسموه «الأسلوب الفني»، كما فعل جونكور وأخوه، انظر إلى هذين الأخيرين يقولان في وصف مدام جرفزيه Gervaisais بطلة رواية لهما وهي في مجلس أصدقاء: «هنالك وقد أحسست في دلال بالجهد من حمل رشاقة قدها: أكتاف مضناة ورقبة فرعاء، أخذت تنصت في رفق وبلبها شرود، حتى لكأنه لا ينصت منها غير ابتسامة وجهها إلى ذلك الحديث المهشم الذي كانت تتبادله تلك الحلقة الضيقة التي جلست على مقاعد كستها طنافس صورت عليها فضائل الدين.»
لننظر في القصة الأولى من المجموعة، وعنوانها «قصة ستكمل» على نحو ما كتب شوبيرت «سمفونية ناقصة» وهي قصة رجل تافه متسكع مغرور، نحس أن الكاتب يسلم له بأنه ملك مسيطر على قلوب النساء، وأنه يستطيع بتصنيع البرود والقسوة والسفسطة أن يسبي الحسان، ثم امرأة يشعرنا بأنها ستخضع لهذا الرجل رغم أنفها؛ لأنه واسع الحيلة خبير بالفتيات. الرجل في عقلية ما يسمونه بالفرنسية «بالجيجولو» والمرأة «عاهرة»، والقصة تبتدئ بالمرآة تنظر فيها المرأة، وكم في المجموعة كلها من مرايا! وعند بطل القصة «أن روح الرجل مصباح كهربي، زره تحت ضغط أصبع المرأة»، و«المصباح الكهربي» و«الزر» أشياء حديثة رأيناها جميعًا، ولكن ماذا نقول في «البطلة» التي أرسلت خادمها إلى صندوق البريد بأسفل السلم لينظر، هل جاءها خطاب من صاحبها العزيز أم لا؟ و«هبط الخادم ومعه قلب هبط ثم صعد الخادم واجمًا فلم يصعب القلب»، أين ذهب؟ ذلك ما لم يحدثنا عنه المؤلف، أهذا هو أسلوب القصة التي هي «حنية من صدر الحياة تنتزع»، كما يقول الكاتب نفسه في أحد أحاديثه الذي حرص على أن يصدر كتابه ببعض فقراته بعد أن نشرته مجلة «المكشوف البيروتية» (العدد ٢٣٢، ١٤ / ١١ / ١٩٤١م)، ونقلت صفوته «المقتطف» (عدد فبراير سنة ١٩٤٢م)، و«الثقافة» (العدد ١٦٢، ٣ / ٣ / ١٩٤٢م)، وفي الفرنسية Journal d’Egypt (القاهرة، ١٤ / ٢ / ١٩٤٢م). ما هذا القلب الذي يهبط ثم يجرؤ ألا يعود فيصعد؟ والمؤلف يستطيع بلا ريب أن يحمل بطله على أن يطلب إلى المرأة أن تكون «برقًا يلتوي في سماء مغبرة»، وأما أن يلعب بالقلب كرة القدم، فهذا ليس أدبًا ولا أسلوب أدب.

والقصة الثانية «طبق فول» تبتدئ أيضًا بالمرآة، هكذا «كانت المرآة لا يعوزها سوى الصفاء، وفي الأشياء ما يعوزه الأهم. فيعجب كيف يكون … إني أعرف برلمانًا يفتقر الحين بعد الحين إلى ثقة الأمة.» وأنت تعجب لهذا المهارة المسرفة التي تجمع بين صفاء المرآة وثقة الأمة بغير رابطة إلا أن تكون هذه النقط الدقيقة التي وضعها المؤلف بين جملتيه! والمرآة العاشقة توحي إلى المؤلف «بأن الإحساس السخي ولد في زرقة سماء لم يرد وصفها في كتاب، ثم هبط على جناح التفدية حتى سمرة الأرض، فضاع خيره في الأزقة القاتمة والسهول البائرة بين براثن الجشع وقهقهات الاستخفاف.» وهذا لا ريب بؤس بشري يدعو إلى الحزن؛ إذ فيه أكبر «استخفاف» بالمعنويات، فقد كنا نقول: «السماء الزرقاء» و«الأرض السمراء» فأصبحنا اليوم نسمع «زرقة سماء» و«سمرة الأرض» ولِمَ لا؟ أليس في ذلك تجديد؟ أليس فيه تجريد للصفة وإضافة للموصوف؟ ألم ترَ له شبيهًا عند الفحول؟ أليس هو «الأسلوب الفني» العزيز المنال؟ ومع ذلك يمجه كل ذوق سليم. ثم إن بطل القصة «يركز أوتاد نهاره في المطعم وينصب خيمة الليل في القهوة»؛ أي إنه «بلغتنا» ينفق نهاره في المطعم وليله في القهوة، ولقد تكون لليل خيمة وإن كنت أظنها أكبر من أن تحويها قهوة وأرفع من أن تطمئن إلى الصخب، وأما «أوتاد النهار» فذلك ما لا علم لي به وإن كنت أعلم أن الخيمة هي التي تحتاج إلى أوتاد.

ومؤلفنا لا يكتفي بالإسراف والتكلف، والجمع بين ما لا صلة بينه، وزج الملاحظات الاجتماعية أو الأخلاقية أو السياسية؛ حيث لا محل لها، بل يأبى إلا أن يعقب على معظم فقراته، مستخرجًا العبر النادرة، فبطلة «طبق فول» تلبس «معطفًا منزعجًا على كتفها وحذاءً له كعب، طوله طول أنفها … التناسب مع شرائط الفتنة»! وهكذا ندرك فن الكاتب: حرصه على التفاصيل، وإقامة النِّسب بين طول كعب الحذاء وطول أنف امرأته المسكينة! ونحس بسخريته اللطيفة الفنانة تطالعنا من ثنايا تعقيبه الرابع «المنزعج»: «التناسب من شرائط الفتنة»! ونظر لطيف أفندي إلى المرآة (طبعًا!) «بمؤخرة عينه يلومها على عكس وجهه وقد تنبه أن الماء لم يحيه بعد.» ومعنى الجملة الأخيرة فيما أظن «أنه لم يكن قد غسل وجهه»!

وفي القصة الثالثة «السفينة» يصف المؤلف أثاث حجرة، فإذا بها «طنافس، لو قصدت بها إلى أمريكا الشمالية فبعتها لرجعت وفي قبضتك ما يجذب فريقًا من نواب أمة راقية.» فانظر إلى المرور من الوصف إلى هذه الحقائق السياسية الدفينة، ثم تصور قيمة هذه الطنافس، أليست غالية جدًّا؟! و«أمينة» بطلة القصة تستند إلى «شطء» النيل: أمينة «نيل آخر» وبودي أن لو جعلها «جدولًا»؛ ليستريح الكاتب فلا يعود يدهش عندما يرى سفينة تسير في النيل ويتساءل: «هل تستأذن الماء في الجريان أو تعتذر إليه عن شقه؟» وهذه أشياء ما أشك في أنها قد فاتت السفينة، وأملي أن تفوت السفن كلها إلى يوم الدين وألا يلاحظ ذلك أحد.

وقد يغلب الكاتبَ شعوره الإنساني فيشرك القارئ معه: «أيها القارئ الجوعان مع رقة حال، أنت أدرى بفضل الخبز الكثير.» فأي رقة وأية إنسانية وأي فهم لحقائق النفوس! «والبورش» التي هي شربة خضار روسية: «حساء تلتقي فيه ألوان البقول بعد تبعثرها في الحقل، تلتقي هالكة في لحدٍ واحد.» واللحد هو «القدر» أو «الصحن» الذي تقدم إليك فيه، ولكن الصحن البائس أصبح «لحدًا» يشعرك ببؤس صاحبه وينشر في الجو تلك الرومانتيكية النادرة المؤثرة.

والمؤلف يرى رجلًا جالسًا إلى جواره على مقعد بأحد شوارع باريس أمام مسرح فيخيل إليه «أن يحمله إلى داخل الأوبرا لأن يكون أخف محملًا على سمعه وضربانًا في قلبه» من أن يثقل على الرجل فيقص عليه مأساته، ثم يرى في الأقصر بائع عقود «في عينيه سلم أضواء من الأبيض حتى الأرجواني، فكأنما طول تحديقه إلى عقوده وهو يزينها للناس ترك في مقلتيه بريق الأحجار، إلا أنه بريق كاذب.» فهل رأى أحد بصرًا أحَدَّ من هذا البصر الذي يرى سلم أضواء في عيني هذا البائع النصاب؟ وهل نفذ أحد إلى نفسية هؤلاء الباعة نفاذ مؤلفنا الذي ترجم لنا نفاقهم وكذبهم وخداعهم بألوان أعينهم، وفسر وجود كل تلك الألوان بها هذا التفسير الرائع؟!

وأخيرًا، كم جلس مؤلفنا مع صديقه زكي في قهوة «تعدت على استقلال الشارع وليس فيها امرأة»؛ وذلك لأنه قد وضعت بعض كراسيها على الرصيف، وهذا طبعًا اعتداء على «استقلال الشارع» وما نسمع نحن باعتداء على الاستقلال حتى نغضب وتثور عزتنا القومية، خصوصًا وأنه ليس لهذه القهوة المعينة ما يشفع لها وقد خلت من النساء.

وبعد، فقد قال الأديب الصادق الذوق المرحوم طه إبراهيم في كتابه القَيِّم «تاريخ النقد عند العرب» في معرض الحديث عن مذهب أصحاب البديع كأبي تمام ومن نحا نحوه: «إن صاحب البديع يفكر مرتين: مرة للفكرة ومرة لتحويرها والتلطف بها حتى تسكن للبديع. من المعلوم أن الصياغة حركة ذهنية عند الكاتب والشاعر، فإن تعقدت هذه الحركة لم يكن لنا أن ننتظر إلا عبارات معقدة وإلا نفَسًا فاترًا، كلما هم باطراد وقف به الحرص على الزخرف، وحال بينه وبين الجيشان والاسترسال تلمُّسُ المحسِّنات؛ ولذلك فإن التكلف أول ظاهرة في مثل هذا الشعر.» وهذا الحكم دون ما يستحق أسلوب بشر فارس وأدبه؛ وذلك لأنه لا يفكر مرتين فقط بل عشر مرات، والأصالة ليست في الإغراب ولا في تسمية الأشياء بغير أسمائها، ولا في تضخيم التوافه، ولا في التكلف الثقيل المعيب، وإنما الأصالة في النفس وموسيقاها، الأصالة في الطبع واسترساله، فهل ترانا نؤدي خدمة إلى بشر فارس، عندما نقول له هذه الحقائق التي يجب أن يسمعها من رجل مخلص كان يود أن يستمتع بما في قصصه أمثال «خريف» و«مبروك» من واقعية مؤثرة، وبما في «قيثارة مغترب» من جو شعري نافذ، وأخيرًا بما في «رجل» من رمزية موحية، وموضوع هذه القصة جدير بالنظر لما نحسه جميعًا من أن التطلع إلى ما لا قِبل لنا به خليق بأن يقتل فينا العنصر الإنساني. نعم، كنت أود أن أستمتع بكل ذلك وحاولت أن أستمتع، ولكن التكلف أتلف عليَّ متعتي، التكلف البادي في كل شيء حتى في عناوين القصص وطريقة كتابتها «بخط المؤلف» ووضع «المشتمل» أي الفهرست، وحتى في استشهاد الكاتب بنفسه وتقفيته عنوان الكتاب بجملة من روايته «مفترق الطرق»، وكتابة عنوان المجموعة باللغتين العربية والفرنسية، ثم في الإهداء إلى «من هذبنني فشعرت»، وأخيرًا في شرح مذهبه في القصة نقلًا عن حديث له أوردنا أسانيده في أمانة كما أوردها المؤلف نفسه، وهذه توافه يجب أن يسمو فوقها الأدب. وإنا لنأمل تكرار ما سبق أن قلته عن وجوب التواضع والإخلاص وصدور الأديب عن طبعه وترك الطنطنة إلى الهمس الصادق، كما أني على ثقة من أنه ستظهر عندئذٍ في أسلوب بشر فارس تلك الموسيقى التي حطمها التكلف واحتباس النَّفَس والانتقال من المحسوس إلى المعنوي انتقالًا مصطنعًا، كما ستظهر وحدة النسيج ويختفي ما نراه عنده اليوم من تنافر بين الألفاظ المهجورة الثقيلة النغمة، والألفاظ التافهة المبتذلة التي تشبه العامية.

«أرواح وأشباح» الشعر والأساطير

جميل جدًّا أن نتخذ من الأساطير مادة للشعر، وقد سبقنا إلى ذلك شعراء كبار، ولكن على شرط أن ننجح كما نجحوا. وما يجوز أن نمل تكرار ما قلناه من وجوب تملك موضوعنا، كما تملكوه؛ إذ إننا لن نستطيع أن نخلق من أسطورة معروفة قيمًا فنية جديدة ما لم نتمثلها حتى تصبح جزءًا من أصالتنا، ولا أدل على صحة ما نقول من النظر فيما فعل شعراء ثلاثة مختلفون بمناحيهم النفسية اختلاف شنييه وشيلي وكيتس.

شنييه شاعر فرنسي ولد لأم إغريقية غذته بالروح اليونانية الخالصة، فإذا به في سذاجة القدماء ورقتهم ولطف حسهم. تناول هذا الشاعر أساطير اليونان يقصها في يسر لا يبغي منها غير التأثير العاطفي الذي تحركه وقائع بسيطة يرويها بأسلوب سهل ونغمات سيالة؛ فهيلاس فتًى جميل يذهب إلى النهر يستقي الماء في إناء، وتلمحه عرائس اليم فيقع في قلبهن، وما يزلن به إغراءً وسحرًا حتى يجتذبنه إلى المياه التي تطويه أمواجها، ويختفي الفتى وصوت صديق له يناديه. وفتاة تارنت جميلة حملتها القلاع إلى زوجها القصي، وفيما هي فرحة تبتسم للمستقبل وقد نهضت بمقدم السفين، ترسل بصرها المشرف في آفاق السماء؛ إذ هبت عاصفة حملتها إلى اليم، وعصافير السماء تغرد فيزيدنا تغريدها شجوًا، وهذا كل ما نجده عند شنييه: موسيقى وإحساس.

أما شيلي فعقل يفكر؛ ولذا لم يَعْنِهِ من الأساطير غير معانيها الرمزية. وهو إلى جانب ذلك شاعر؛ ولذا نراه يعالج الفكر بأسلوب الشعر، وصور الشعر، وموسيقى الشعر، وهذا واضح في روايته عن «بروميثيوس» حيث يتخذ من هذه الشخصية الخرافية رمزًا للبشرية التي تثور ضد ظلم الآلهة، وقد أصبحت الإنسانية عنده خيرًا صراحًا، وأصبحت الآلهة شرًّا عنيدًا. ومن البيِّن أنه لولا عبقرية شيلي الشعرية، لجاءت روايته باردة ميتة ككل شعر يصدر عن الفكر المجرد، وإذن فباستطاعة الشاعر الموهوب أن يجازف بقيثارته في عالم الرموز — على مشقته وخطره — على أن يلون الإحساس الفكرة، وأن ترفع الصور الشعرية من استوائها البارد.

وكيتس يمثل اتجاهًا ثالثًا، فهو شاعر الصيغ والأوضاع المجسمة، يرى بعض الأواني التي كانت توضع على قبور الموتى من الإغريق القدماء، ويتأمل فيما يحلي جوانبها من صور جميلة فيتبع ببصره خطوطها، وكأن بصره الريشة التي خلقتها، ويصف ما يرى فينفث فيه الحياة، إذا به يثير فينا ضروبًا من الانفعال الفني فنشاركه إحساسه، بل نشارك الصور حياتها، وهو يسائل تلك الصور فينطقها بأسرارها.

وها أنا اليوم في «أرواح وأشباح» للشاعر علي محمود طه، فأرى صورًا مغرية وحيلًا في الطباعة تهش لها العيون، ثم أفتح الكتاب وآخذ في القراءة فتنطوي النفس وينفر الإحساس.

وفيمَ الإغراب وأجمل الشعر أشده سذاجة! وفيمَ الزج بسافو وبليتيس وتاييس وتلك أسماء تاريخية أو خرافية، لها دلالتها في كل العقول، ومن عجب أن تبحث عن شيء من تلك الدلالة في أقوال كل منهن فلا تجد شيئًا، وتلاحقك الصور التاريخية التي تعرف عنهن وأنت تقرأ فتتلف عليك إحساسك وتثير بك الغيظ، ولكم من مرة تتساءل: لِمَ هذه الأسماء الحبيسة في حقائقها التقليدية؟ وبودك لو أخذت قلمك ومحوتها من كل النسخ لتحل محلها أسماء أخرى، بل أرقامًا إن عزَّت الأسماء الشعرية. ويبلغ بك الحنق أقصاه عندما تنظر في مقدمة القصيدة، فترى الشاعر قد قدَّم إليك هذه الشخصيات نثرًا، كما يعرفها الناس، وتنظر في الشعر علَّك ترى فيه إيضاحًا لهن وتمشيًا مع ما عرضه المؤلف عنهن في المقدمة، فتحار ويذهب لُبُّكَ؛ «فسافو» لم تعد الشاعرة الحسية التي نعرفها، وهي في أقوالها أقرب إلى الهدوء والنظر الفلسفي الذي يلتمس الأعذار ويحاول فهم النفوس منها إلى الشاعرة الإغريقية المسرفة العنيفة «التي كانت تحس برغبات الحياة، تسيل تحت إهابها رعشة كلما رأت من تحب.» وبليتيس عنده لا تمت إلى شاعره بيير لويس بسبب قريب أو بعيد، فأين التي تقبل على الرجال بحواسها الملتهبة من بليتيس شاعرنا التي كثيرًا ما تثور فيها كبرياء النساء؟ وأخيرًا أين تاييس التي ترقص وتذهب بألباب الرجال؟

وهرميس، أي خاصية من خواصه نلمحها فيما عرض الشاعر، اللهم إلا أن تكون قيادته للأرواح؟ ونحن بعدُ لا ندري لِمَ جعل منه المؤلف في مقدمته «المكلَّف بقيادة الأرواح الأثيمة إلى الجحيم»! والذي يعرفه كافة المثقفين عنه — ومعرفتهم هي الصحيحة — أنه «قائد الأرواح إلى العالم الآخر»، هو البسيكوبومبوس Psychopompos، وهذه اللفظة اليونانية تترجمها القواميس الفرنسية عادة بقولها: Conducteur des ames aux enfers ومعنى هذه الجملة هو ما ذكرت، فمصدر خطأ الأستاذ محمود طه ترجمته عن الفرنسية فيما أظن ترجمة غير صحيحة؛ إذ إن لفظة enfers في الجمع ليس معناها الجحيم، بل العالم الآخر إطلاقًا، وإنما المفرد هو الذي يفيد هذا المعنى، وحيث فهم الأستاذ من كلمة enfers معنى الجحيم كان من السهل أن يضيف كلمة «الآثمة» للأرواح ليستقيم الكلام. ونحن لا نقف عند هذه الغلطة، فهي مهما تكن تافهة، ونحن الآن نتحدث عن محمود طه الشاعر لا محمود طه العالم بالفرنسية، أو الباحث في الأساطير، ومن العدل ألا نحاسبه إلا عن شعره فهو عبقريته وهو ميدانه.

ومع ذلك فثمة مسألة أخطر، فشاعرنا يريد أن يتخذ من أساطير اليونان مادة لشعره كما يتخذ لشخصياته أسماء إغريقية، وإذن فمن حقنا أن نناقش طريقة فهمه لليونانيات؛ وذلك لأنه إذا جاز أن نتساهل في شيء فإنه لا يمكن أن يكون هذا التساهل في فهمنا للمادة التي نصدر عنها، وفي جملة الشاعر الخاطئة ما يدل على أنه لم يأخذ نفسه بعناء دراسة أساطير اليونان ومعتقداتهم الدينية كما يجب.

وذلك لأن فكرة الإثم والجحيم، بل فكرة المصير بعد الحياة لم تعرفها الديانة الأولمبية، ولم تظهر في بلاد اليونان إلا بتأثر المعتقدات الأجنبية التي أتتها من مصر وسوريا وبلاد الشرق الأخرى، وهي لم تتسلل إلى ديانة زِيُس التي ينتمي إليها هرميس، وإنما ظهرت في شعائر أنصار أورفيوس وفيثاغورس، ثم في أسرار إلزيس Eleusis، وهذا تيار ظل بعيدًا عن أساطير اليونان وديانتهم التقليدية، وفيه فقط نجد فكرة الإثم، وفكرة الثواب والعقاب ومصير الأرواح. وأما هرميس فكان يقود كل الأرواح إلى العالم الآخر المظلم، الذي نرى الجميع يرهبونه.

وهذه الملاحظة تقودنا إلى منهج الشاعر عامة وطرق علاجه لموضوعه، ففي كتابه ما يدل على العجلة وعدم الروية، سواء في وحدته أو في تفصيله، بل في صياغته الشعرية ذاتها، وهذا اتجاه يجب أن نقاومه لما يجره من جنوح إلى الإغراب والغموض والتفكك وما يسببه من إفساد للنغمات وهلهلة في الاطراد وضعف في السبك.

وفي الحق: ما هي «أرواح وأشباح» وعلام يدل هذا العنوان الجميل؟ أهي حقًّا أرواح وأشباح؟ وإذا كانت فكيف نظمها خالقها؟ أهي ملحمة؟ أهي قصيدة فلسفية؟ أهي قصة … أهي ديوان؟ ونحن بعدُ لا نحرص على أية لفظة مما ذكرت، فللشاعر أو الكاتب أن يقدم لنا ما يريد، وعلينا أن ننظر فيه كما هو، وما يجوز أن يدفعنا كسلنا العقلي إلى التماس «خانة» نضع الكتاب فيها لنستريح، ولكني أظن أنه من حقنا أن نناقش وحدة الكتاب.

وأنا أنظر في أوله فأراه أفلاطوني النزعة، وهذه بلا ريب أنبل النزعات، ولقد أوحت إلى أفلاطون بنثر فيه من الشعر ما لم يتوافر للكثير من القصائد. فالشاعر يحدثنا عن صعود النفس إلى مستقرها الأول؛ حيث عالم الخير والحق والجمال، وينبئنا بأنها ستعود إلى الأرض فيما يشبه البعث وهنا ستحدثنا عن:

مشاهد شتى وعتها العقول
وغابت صواها١ عن الناظر
وجود حوى الروح قبل الوجود
وماضٍ تمثَّل في حاضر٢

وهذا موضوع رائع يبشر بملحمة فلسفية كتلك التي كتبها لوكريس الشاعر اللاتيني مثلًا عن «طبائع الأشياء»، ومع ذلك من منا لا يحس بالتنافر الواضح بين الوزن والموضوع؟ ومتى كان «المتقارب» من الغنى والجلال والضخامة، بل طول النفَس بحيث يتسع لفكرة أفلاطونية؟ وهلا يذكر الأستاذ محمود طه كما نذكر جميعًا كيف أن شعراء خالدين قد فشلوا في شعر الملاحم، وكان فساد إحساسهم بالموسيقى من أكبر أسباب هذا الفشل؟ وهلا يذكر بنوع خاص «فرنسياد» الشاعر الفرنسي المبدع «رونسار» وكيف هوت؟ وقد أجمع النقَّاد على أن استعمال الشاعر للبحر المكون من عشرة مقاطع بدلًا من البحر الإسكندري «١٢ مقطعًا» الذي يلائم الملاحم كان من أسباب هذا الفشل. بل ألم يفطن ابن العميد إلى وجوب اختيار الوزن والقافية اللذين يلائمان موضوع الشعر؟ «المتقارب» أهزل وأنحف وأخف من أن يحتوي فكرة فلسفية، إن فيه ما يترك في النفس فراغًا ويشعرها بأن الموضوع قد ضمر وضاع جلاله.

ولقد رأيت لتلك الظاهرة شبيهًا عند العقاد في قصيدته «ترجمة شيطان»:

صاغة الرحمن ذو الفضل العميم
غسق الظلماء في قاع سَقَرْ

وهي قصيدة طويلة يقص فيها الشاعر حكاية ضافية عن الشيطان وسقوطه فيما يشبه «الملحمة»، وأنا لا أدري كيف اختار «الرَّمَل» لموضوع كهذا؟!

ولكني أسارع فأقرر أن محمود طه شاعر رغم كل شيء، وما عليك إلا أن تنظر في أسلوبه فترى أن الصيغ النثرية في شعره كقوله: «وتنطق بالمثل الثائر»، «سيسلكه الفن فيمن سلك»، «يبقى صداها إذا ما هلك»، «فلا كان بعثًا ولا قدرًا»، و«آخرة العاشق المنتحر» «وأضحيت شيئًا ككل الرجال وأضحيت شيئًا ككل النساء»، وأمثال ذلك قليل بالنسبة لأسلوب العقاد الذي لا أرى فيه إلا القليل من الشعر.

ومن غريب الأمر أن يقع محمود طه في نفس السخف الذي وقع فيه العقاد، فالعقاد يدعونا في أول قصيدته إلى أن نخف مهرولين «لنسمع أعاجيب العبر»، وكذلك يفعل محمود طه، فيختم مقدمته بقوله:

هو البعث فاستمعوا واقرءوا
حديث السماء عن الشاعر
فيا للعجب! متى اهتم الشعراء إلى هذه الدرجة بأن يستمع إليهم أحد أو لا يستمع؟ أليس في ذلك ما يُضحك؟ وفي الحق إنها لظاهرة عجيبة! فالذي عرفناه ورأيناه عند الشعراء القدماء — لا المحدثين — هو أن يتجه الشاعر أو الروائي إلى القُرَّاء، بل على الأصح إلى المشاهدين في المسرح، ليكسب انتباههم وعطفهم عليه، وهذا عندما كانت تقام مسابقات بين الشعراء، وأضيف إلى ذلك أن هذه العادة لم تكن معروفة إلا في الكوميديا، فأنت تجد بلوتس Plautus اللاتيني مثلًا يتجه في البرولوج إلى الحاضرين يخاطبهم ويدعوهم إلى الحكم له، كما يمهد لسماع مسرحيته التي يلخص لهم وقائعها، وكذلك كان يفعل شعراء الإغريق القدماء، فتجد أرستوقانيس يخاطب الجمهور في الجزء من الكوميديا المسمى «البراباز» Parabasis وفي حديثه عادة ما يُضحك ويؤدي إلى الأغراض التي ذكرتها.

والآن ماذا يقصد العقاد ومحمود طه بهذين البيتين؟ إن كانا قد قصدا إلى الإضحاك فقد نجحا، وذلك عن نفسي، فقد خيِّل إليَّ أني في سامر أو عند «حاوي».

وهذا يؤدي بنا إلى مسألة خطيرة، هي ما يجب أن نعلمه جميعًا من حاجاتنا إلى التواضع والاختفاء قليلًا، فالقارئ لا يعنيه فيما أظن أن يعرف الكثير عن عبقريتنا وتمدُّحنا بها، وإعلائنا لشأنها، وتقديرنا لما يصدر عنها من شعر، ويا ويل عبقرية لا تعرف إلا مدح نفسها!

وبعد، فنحن في حاجة ماسة إلى أن نحارب عدة عادات سخيفة عندنا، منها أن ينفق الشاعر نصف قصيدته اعتذارًا عن تأبِّي الشعر عليه، ألا فليسكت إن لم يكن لديه ما يقول! أو شكواه من ضيق الألفاظ عن إحساسه، أو الإشادة بملكته وتخليده للناس ولنفسه، وكذلك يفعل الكثير من خطبائنا، وهذه أخطاء في الذوق أضخم من أن نحتاج إلى الوقوف عندها.

ولكن ثمة ما هو أخبث من ذلك لأنه أرق وأرهف، فلقد رأينا الأستاذ الحكيم يعالج في «بجماليون» مشكلة حياة الفنان، وها نحن اليوم نرى محمود طه يتحدث أيضًا عن الفنان وعلاقته بالمرأة؛ إذ إن هذا هو جماع «ملحمته»، وتلك ظاهرة مخيفة، فهي تدل على أن أدباءنا أكثر وعيًا بفنهم مما ينبغي، مع أن مشكلة الفن ليست مشكلة إنسانية عامة.

ثم إني وإن كنت لا أنكر على الأستاذ محمود طه أن يجمع في نظرته إلى الفن والحياة، بين النظرة الرومانتيكية التي تجعل من الفنان «صدًى عابرًا وروحًا مجنحة الخاطر» وبين النظرة الحسية التي ترى في فمي الحبيبين «شقين من قبس مستعر»، وتجعل الشاعر يشم في أنفاس فتاته «رغبة يهتف بها جفنها المنكسر»، «وتضح به الشهوة الجائعة»؛ «فيشم رائحة الجسد المحترق» على نحو ما كان يفعل بودلير الذي تتلمذ له محمود طه على ما يظهر في هذا الاتجاه، أقول: برغم أنني لا أنكر عليه شيئًا من هذا، فإنني كنت أرجو أن ينجو بنا من الابتذال، فمعظم معانيه مطروقة، والجمل الجميلة التي ذكرتها هي كل ما استطعت التقاطه من أقواله الكثيرة في هذه الأغراض.

ونحن بعد نستطيع أن نغتفر لمحمود طه ولغيره من الشعراء ابتذال معانيهم، فالمعاني أشياء تافهة في الشعر، ولكن على شرط أن تخلق الصياغة من هذه التوافه قيمًا فنية، على نحو ما فعل أبو تمام مثلًا من المعنى القريب — معنى نَيْل الصحراء من جسم البعير — قوة شعرية دافقة رائعة بقوله:

رعته الفيافي بعدما كان حقبة
رعاها وماء الروض ينهلُّ ساكبه

وأمثال ذلك مما يحتاج إلى صبر على الصياغة وقدرة عليها لم يتوافرا دائمًا لشاعرنا.

انظر إلى قوله مثلًا عن حدق إحدى الحوريات: «تؤجان بالنظرة الرائعة»، ثم تساءل: أين تقع «الروعة» من «الأجيج»؟ وهل لهذا التنافر من سر غير العجلة، أو قوله عن الشاعر: «ألم يبعد الحسن في زهرها»، وما في ورد الحبيبة من ابتذال ذهب بجمال صدر البيت «ألم ينسم الخلد من عطرها»، ما هذا الحشو الذي يحرص على ذكر الزهر بعد العطر؟!

ولقد نحس من حين إلى حين أن الشاعر يصدر عن مذهب أدبي بعينه، وهذا جميل، ولكن على أن يصدقنا الذوق؛ فبودلير مثلًا يكثر من الجمع بين المتناقضات كقوله: «النور القاتم» وما شاكل ذلك، ويأتي شاعرنا فيقول:

وأحفر بعد الردى قبره
هناك على قمة الهاوية
وأغرس في قلبه زهرة
من الشر راويةً نامية

ونحن نترك «زهرة من الشر» فقد قالها بودلير، بل هي عنوان ديوانه، ولكن ما «قمة الهاوية»؟ وهل لها صورة واضحة في خيال الشاعر أم هي صنعة المذهب؟

ولقد يحدثنا فرلين حديثًا سهلًا ساذجًا مؤثرًا صادقًا عن بؤسه، وقد أخذت تتقاذفه بقاع الأرض «كورقة ميتة»، ولقد يخبرنا «بانتحاب قيثارة الخريف» في أذيته، فيأتي شاعرنا يقول:

إذا ما هوت ورقات الخريف
أحس لها وخزات السنان
وقيثارة الريح ما لحنها
سوى الريح في جفوة أو حنان

يالله! ولِمَ هذا التهويل والجري وراء المعاني المقتسرة البعيدة الخالية من كل صدًى إنساني؟ إن في ورقة فرلين الميتة ما يحز في نفسي حزًّا لا يستطيعه سنان محمود طه، وفي انتحاب قيثارة الخريف من الأسى ما يعز على جفوة رياح محمود طه وحنانها.

وبعد، فنحن في حاجة إلى أن نهمس، نحن في حاجة إلى التواضع، التواضع الإنساني الأليف القريب إلى النفوس، نحن في حاجة إلى أدب إنساني صادق مخلص؛ لأن نفوسنا في ظمأ إليه. ألا فلنعد إلى قلوبنا ولنحملها على أن تقول في بساطة ما تجد وسوف نرى جمال حديثها، ولنتخذ الأساطير مادة لإحساسنا وهياكل لصورنا الفنية، ولكن في أمانة وفهم ونزول على معانيها. وأما الطنطنة، وأما إقحام أنفسنا وعرضها في كل حين على القارئ حتى يمل وينفر، وأما الحديث عما لا نجيده، فلا.

وبعد، فعند محمود طه أشياء جميلة حقًّا ولكنها قليلة، وأنا على تمام الثقة من أنه شاعر موهوب وأنه يستطيع خيرًا من هذا، ولكن على شرط أن يتخلى عن الإغراب وأن ينسى نفسه قليلًا. ثم لا بد له من القسوة على نفسه وعدم التساهل في الصياغة؛ فثمة حشو في بعض الأبيات وثمة هلهلة، وثمة محاولات لتضخيم العبارة عن أشياء تافهة. والذي لا شك فيه أن شاعرًا يقول:

وهامت على ظمأ روحها
وكم ملئوا الكأس من خمرها

قادر على الشعر الجيد، فهل تراه فاعلًا؟ ذلك ما نرجوه ليكون شعره حجرًا في أدب مصري يستطيع حقًّا أن يثبت للأدب الأوروبي الذي لا بد لنا من مثله.

«نداء المجهول» والأدب الواقعي

لا أريد أن أتعجل القول عن تيارات أدبنا الحديث؛ لأني شديد الحذر من كل تعميم لا يصدر عن استقصاء، وها أنا أقصر القول على كتاب واحد لكل مؤلف. ومع ذلك، فإنني كلما عاودت النظر في الكتب الأخرى لأدبائنا الذين أتحدث عنهم وجدت أننا لا نبعد كثيرًا عن الصواب عندما نحاول استخلاص اتجاه كل منهم من الكتاب الذي ننقده، بل أظن أنه باستطاعتنا أن نرسم منذ اليوم تخطيطًا عامًّا لمذاهب أدبائنا.

وللنظرة الأولى يبدو أن لدينا في القصة: الاتجاه التاريخي الذي ابتدأه جرجي زيدان، وجاء فريد أبو حديد فجدد من معناه وحدد من وسائله، وأوشك أن يخلقه خلقًا جديدًا في «الملك الضليل» و«زنوبيا»، وتبعه في ذلك شاب ينبعث عنه الأمل هو علي أحمد باكثير كاتب «أخناتون» و«سلَّامة القس» و«جهاد» التي نالت إحدى جوائز وزارة المعارف، والقصة التحليلية تمثلها «سارَة» للعقاد، ثم أدب الفكرة الذي يصدر عنه توفيق الحكيم، ومنحى طه حسين الذي يتميز بموسيقاه وتدفق عواطفه، وأخيرًا لدينا الأدب الواقعي الذي برع فيه محمود تيمور.

وهذه بعدُ اتجاهات عامة لا نزعم أن بينها فواصل قاطعة، فقد يكون في القصة التاريخية تحليل دقيق، وقد يكون في أدب الفكرة شخصيات واقعية، وقد يجتمع النفاذ النفسي إلى انهمار الإحساس، بل قد لا يخلو واقع تيمور من نغمات الشعر. ولكنني رغم ذلك مطمئن إلى التقسيم إن لم يكن بدٌّ من التحديد العام، وأنا أرى بعدُ فيه نفعًا؛ إذ قد يساعد الكتاب والقُرَّاء على التحمس لهذا المذهب أو ذاك والدفاع عنه والاقتتال في سبيله، مما يجدد أدبنا ويوضح سبله.

وها أنا اليوم أعرض «نداء المجهول» كنموذج دقيق للأدب الواقعي، وأنا أقدر أن القارئ قد يصيح بي: رويدك، لقد ضللت الطريق ﻓ «نداء المجهول» ليست قصة واقعية، وكاتبها وإن يكن قد عرف بقصص الواقع فقد تجدد فنه وكتب هذه القصة من نوع جديد. هذه قصة أسرار، قصة مغامرات، نداء المجهول، فأين هذا من الواقع؟ ومتى كان المجهول واقعًا؟

وأنا أعرف هذا الاعتراض وقد سبق أن قرأت قصص تيمور الأخرى، إن لم يكن كلها فمعظمها، ومع ذلك أصر على أن «نداء المجهول» قصة واقعية وأن محمود تيمور لم يتغير ولم يتجدد ولا تنكر لماضيه ففنه هو هو، وأسلوب الرجل هو الرجل نفسه، ولننظر في ذلك.

وأول ما يطالعنا من تلك القصة هو أنك لا تستطيع أن تلخصها في جملة، فهي غير «بجماليون» المبنية على فكرة التعارض بين الفن والحياة وتحريك الشخصيات كرموز لعلاج تلك الفكرة. وهي غير «دعاء الكروان» التي تجد فيها كل شيء: الشعر في صوت الطائر، ووصف أخلاق الريف المصري في ليالي العمدة، والدراما في قتل هنادي، والقصص التحليلي في غرام آمنة بالمهندس، وأما وحدة القصة فأوضح ما تكون في موسيقى المؤلف وسحر أسلوبه.

«نداء المجهول» بهو شجبت به عدة صور، ولكنها صور ليست ساكنة فهي تتحرك ملائمة بين حقائقها النفسية وما سيقت إليه من مغامرات، أتريد أن تعرف تلك الصور، بل أن تعرف أصحابها وتميزهم من بين الناس كافة؟

دعنا من الراوي فهو المؤلف نفسه، وما لنا أن نقسو على الكاتب فنطالبه بأن يخرج عن حياته فيرسم لنفسه صورة لأن مصادفات الحياة قد ساقته إلى أن يكون أحد أبطال الرواية، وانظر إلى زملائه؛ فالشيخ «عاد» صاحب فندق في لبنان قد «تعوَّد أن يظهر أمامنا بملابسه الشرقية البديعة، القفاطين الوطنية ذات الألوان الزاهية والجبب الحريرية الفضفاضة الموشاة بالقصب، دائم الابتسام يروح فيها ويغدو بمشيته المتزنة الهادئة ووجهه الصبيح المشرق فتخاله سلطانًا من سلاطين ألف ليلة …» وأنا أعترف مع القارئ أن لو اتفق لي أن ذهبت إلى لبنان وبحثت عن الشيخ «عاد» بين أصحاب الفنادق ما استطعت أن أميزه في يسر؛ لأن الكثيرين منهم يلبسون القفاطين الوطنية ذات الألوان الزاهية والجبب الحريرية الفضفاضة الموشاة بالقصب، كما يبتسمون بوجوه صبيحة فيشبهون سلاطين ألف ليلة، ومع ذلك فلنغتفر للكاتب إهماله في عدم تدقيق البصر وتمييزه للشيخ «عاد» بشيء يفرق بينه وبين غيره. ولعل للراوي عذره، فهو معجب بالشيخ «عاد»؛ لأن الرجل «حلو الحديث، غاية في السماحة وكرم الضيافة»، وهو بعدُ قد دل في القصة على شجاعة نادرة وروح كامن للتضحية بل المجازفة النبيلة، وفي هذا ما يدعو الكاتب بلا ريب إلى ألا يرى فيه غير كل جميل، في روحه وفي ملابسه، وألفاظ الجمال عامة لا تحديد فيها وهي ليست من الواقعية في شيء كثير.

ولنترك إذن الشيخ «عاد» فصورته ممحوة المعالم وقسماته الروحية لا تجد لها في نفوسنا مستقرًّا من اللحم والدم، ولكن لننظر إلى نزلاء الفندق الذين اشتركوا في «الحكاية»، فثمة «رجل سوري مترهل الجسم، له رقبة مجعدة ناحلة كرقبة النسر الهرم اسمه «كنعان» يدعي أنه أستاذ للتاريخ في دار الفنون باستانبول … نراه دائمًا في الحديقة؛ حيث يفترش العشب الأخضر ويتوسد حزمة من الهشيم ويمضي يدخن النارجيلة في اطمئنان.»

وهذه صورة بل لوحة لا يمكن أن يخطئها أحد، وهبنا لاقينا الرجل بحديقة الفندق أتحسب أننا لا نعرفه للحظتنا؟ وهل بعد «رقبته المجعدة الناحلة كرقبة النسر الهرم» من أمارة مميزة؟ هذه قسمة من الواقع، طوبى لمن يقع على مثلها، ما أحدَّها ملاحظة وما أقواها عبارة، وكنعان «يدعي» أنه أستاذ للتاريخ في دار الفنون ﺑ «استانبول»، ولقد يكون هذا صحيحًا لأن الراوي لم يجزم بشيء، ونحن أيضًا لا نستطيع أن نجزم بشيء. ولكن كنعان على أي حال أستاذ «فريد» «أصيل» «متفيقه»، شخصية تدعو إلى الابتسام، وقد عالجها المؤلف في عبث Humour نافذ، ألا تراه يقص علينا كيف أن «حبيبًا» الخادم لا يجد حرجًا في أن يأخذ من الأستاذ كنعان صحفه خلسة؟ ولِمَ لا و«حبيب» يلاحظ أن تلك الصحف تظل في لفائفها أبد الدهر، وأن الأستاذ عندما يضيق بها ذرعًا يرصها تحت السرير لتكون طعمة للفيران … لا شك في أن «حبيبًا» مصيب عندما يرى أنه أولى بها من الفيران.
ولقد يتحدث الراوي مع الشيخ عاد و«مس إيفانس»؛ السيدة الإنجليزية — التي سيأتي ذكرها عما قريب — عن قصر حديث منحوت في الجبل، فيُنحِّي الأستاذ كنعان فمه عن مبسم النارجيلة، ويقول: «كان يجدر بكم أن تسألوني في هذا الأثر العظيم. إنه من بقايا الرومان، وعمارته بيزنطية بحتة، والذي شيده الإمبراطور يونان …» فتبتسم لهذا العلم الغزير الذي يجمع بين الرومان والطراز البيزنطي وإمبراطور يونان! ولا عجب، فالأستاذ كنعان مثال خالد للعالم المتفيقه المغرور الكسول المضحك، الأستاذ كنعان هو ما يسمونه بالفرنسية Cuistre لوصف مثل هذا الأستاذ الجليل. وابتسامنا من الأستاذ كنعان لا يلبث أن ينقلب ضحكًا صراحًا عندما نراه يحدث الراوي عن تلك المنطقة الجبلية: إنك لو سألت حصباء هذا الوادي، واستجوبت صخور ذلك الجبل، لروت لك ما عانيت من مشقة في بحثي واستقصائي. أنت تجهل بلا ريب أني أعد محاضرة في طبقات أرض هذه المنطقة وأطوارها في التاريخ.

– بحث ممتع بلا ريب.

– ولكنه متعب يا ولدي، أتصدق أني قضيت ليلة أمس لم يغمض لي جفن، وأنا مكبُّ على أوراقي وكتبي والقلم لم يبرح يدي لحظة؟

– كان الله في العون.

– والآن أنا في حاجة إلى التمدد قليلًا في الحديقة، أليس لأبداننا علينا حق؟»

أية سخرية في هذا الحوار الممتع! وأي صدق في تصوير هذا الغرور الملتوي، وذلك التواضع الكاذب! هذا حوار كاتب كبير.

وتصل مهزلة الأستاذ كنعان الذي يحدثنا الراوي نفسه بأنه عالم كبير إلى غايتها، عندما تتفق الجماعة على السير إلى الجبل لاكتشاف «القصر المسحور» المنحوت في الصخر، ويأتي الصباح والقافلة تنتظر الأستاذ كنعان على باب الفندق، والأستاذ لم يظهر بعد. وقالت «مس إيفانس»: نذهب إليه «وقصدنا إلى حجرة الأستاذ كنعان، فراعنا صوت غريب يتجاوب في أرجائها، فأنصتنا فإذا به غطيط مزعج يعلو ويهبط في نغمات ساذجة، وفي حشرجة، فتقدم «الشيخ عاد» ودق الباب، فلم يجبه إلا الغطيط، وتابع دقه والنائم على حاله يملأ الجو بصوته الكريه وأنفاسه الجافة.

وأخيرًا تقدمتُ (الراوي) لأعاون الشيخ في دق الباب، ولكن لا حياة لمن تنادي! وقامت رغبة صادقة في استطلاع سر هذا الغطيط غير الطبيعي، فاستأذنت صديقتي وصديقي وجعلت أنظر من ثقب المفتاح، فإذا بي أرى «الأستاذ كنعان»، جالسًا على سريره يتميز غيظًا وهو منهمك في إرسال غطيطه العجيب، يوهمنا به أنه مستغرق في نوم عميق، فرفعت رأسي وأشرت إلى «مس إيفانس» أن تنظر ففعلت، ثم أشارت هي إلى «الشيخ عاد» أن ينظر ففعل، وتبادلنا النظرات المصحوبة بالابتسامات، وتركنا المكان نمشي على أطراف الأصابع.»

ولو أنني رأيتهم في ذلك اليوم لاستغرقت في الضحك. هذه لوحة يجمع الخيال بين عناصرها فتضحك: الأستاذ كنعان الذي يتناوم، بل يغط في نومه؛ خوفًا من صعود جبل يعرف حصباءه، وهؤلاء الإخوان الذين يرونه من ثقب الباب متربعًا على سريره يتميز غيظًا وهو منهمك في إرسال غطيطه العجيب؟ ثم منظرهم وقد تبادلوا النظرات المصحوبة بالابتسامات، ثم يتركون المكان على أطراف الأصابع كي لا يوقظوا الأستاذ. أليست هذه صورًا من واقع الحياة؟ إن شخصية الأستاذ كنعان وكل ما كان لها من أحداث أنموذج بشري صادق، لو لم يكن في الرواية غيره لكفى لتعتبر من عيون الأدب الواقعي.

فكيف بنا لو نظرنا إلى تلك الشخصية الأخرى العجيبة، شخصية «مجاعص»؛ دليل الرحلة إلى القصر! نراه لأول مرة في حديقة الفندق؛ حيث كان يجلس الراوي مع «مس إيفانس»، وإذا «بحبيب» الخادم ينبئ بقدومه، ويسمح له بالمجيء، وغاب «حبيب» هنيهة ثم عاد ومعه رجل منبسط القامة، عريض الجوانب، مكتنز العضلات، له شارب غليظ كأنه مصنوع من الأبنوس، ورقبة كأنها الجذع العتيق … ينظر إلينا نظرات حادة كأنه يزدرينا، واقترب الرجل من «مس إيفانس» وحياها، فأحسنت لقاءه، ثم التفتتْ نحوي (نحو الراوي)، وقالت وهي تتلطف في بسمتها: أقدم لك دليلي الذي أعتمد عليه في ارتياد هذه المنطقة. ودنا الرجل مني وصافحني في شيء من التحفظ، وقال بصوت خشن وهو يفتل شاربه، أو بالأحرى يداعبه مزهوًّا: «محسوبك مجاعص ابن الجبل … أعرف هذه الجهة ومخابئها وطرقاتها، كما أعرف أصابع يدي … يمكنني صيفًا وشتاءً أن أسير في الليل، كما أسير في النهار، لا تعوقني ظلمة ولا رياح ولا لصوص ولا ضوارٍ ولا …»

ونحن وإن كنا لن نستطيع أن نميزه عندما نذهب إلى لبنان — إن قدر لنا ذلك — بنفس السهولة التي سنميز بها «الأستاذ كنعان» ذا الرقبة المجعدة الناحلة كرقبة النسر الهرم، إلا أننا فيما أظن سننجح في التعرف إليه، خصوصًا إذا ذكرنا أخلاقه، فهذا المسكين رغم مكابرته الساذجة قد انتهى بأن أظهر هلعًا واضحًا عندما وصلت الجماعة في رحلتها في الجبل إلى مفاوز مخيفة. ولعل له العذر في ذلك؛ فقد تكالبت عليه المحن فانهارت به الصخور مرة وجرح، ولولا شجاعة «الشيخ عاد» الذي تدلى بالحبل لينقذه من الهاوية التي سقط فيها لمات. ومع ذلك، فقد انتهى به الأمر إلى الموت في سقطة أخرى في القصر نفسه، وفي ذلك اليوم لم تُجْدِ شجاعة الشيخ عاد شيئًا، فإنه عندما نزل بالحبل إلى الهاوية التي سقط فيها مجاعص وجده جثة هامدة، مهشم الرأس، فعاد به ودفنوه، وكللت «مس إيفانس» قبره بالورد.

وقد حزنا لموته لأن الراوي نفسه قد حزن هو ورفيقاه؛ إذ عثروا وهم عائدون ببغلتين كاللتين كانتا معهم في الذهاب، واللتين اضطروا إلى التخلي عنهما لضيق المفاوز، وتأملوا في البغلتين فوجدوهما محجلتين كبغلتيهم، ولكن أنَّى لهم أن يجزموا بشيء، وهل كان يستطيع أن يجزم بشيء كهذا غير المسكين «مجاعص»؟ وقال الراوي: «صحيح هما محجلتان، ولكن ليس هذا دليلًا قاطعًا … لو كان المرحوم «مجاعص» بيننا لأنقذنا من هذه الحيرة بالخبر اليقين.» وبهذه الجملة البسيطة، بهذه الحادثة الصغيرة استطاع الكاتب أن يحيي ذكرى مجاعص في نفوسنا، بل وأن يلونها تلوينًا عاطفيًّا بالغ الرقة.

والآن لم يبقَ في «البهو» غير حبيب الخادم و«مس إيفانس»، وحبيب خادم ككل الخدم، وإن كان مغرمًا بالقراءة، وهذا نادر حتى بين الأسياد، وأما «مس إيفانس» فبطلة القصة فيما يظهر، وإن كنت عن نفسي لا أعدل «بالأستاذ كنعان» أحدًا، لا لأنه أستاذ فحسب؛ بل لأنه «الأستاذ كنعان» الذي سأراه أمام بصري وسأبتسم، بل قد أضحك كلما ذكرته.

«مس إيفانس» سيدة إنجليزية قليلة الكلام محبة للعزلة، أتت إلى لبنان عقب أزمة نفسية، أوحت إليها بفلسفة عارضة في الحياة، زبد نفضه الألم على السطح.

«كانت مثلنا تسعى للاستمتاع بتلك الزخارف البراقة حتى تكشَّف لها المجتمع عن حقيقته وبان لها زيفه وبهتانه. وثقت بدنيانا هذه فأودعتها أعز ما تملك، أودعتها قلبها، ولكنها ردت إليها هذا القلب مطعونًا فكرهت دنيانا … كرهتها.»

حب خاب، مأساة النساء بل والرجال منذ أن وجد الزمن وإلى أن يفنى الزمن، والنفس إذا حزَّت فيها الآلام حاولت أن تتمثَّل بأي شيء، بالمغامرة مثلًا، وهذا ما كان. «فمس إيفانس» قد سمعت بوجود قصر مسحور في الجبل، وقد تسقَّطت أحاديثه فنزعت إلى السير إليه، وكأن مجهولًا يناديها منه نداء لاقى صدًى بنفسها التي لم يعد يعمرها شيء، فاتسعت لنداء المجهول. وكوَّنت «مس إيفانس» — بمحض المصادفة — قافلة صغيرة للبحث عن القصر، أفرادها هم من ذكرت: الشيخ عاد، وراوي القصة، ومجاعص، ثم هي. وساروا في رحلة شاقة تجدها في القصة، حتى انتهوا إلى القصر، وهنا قد يقول القارئ: ولكن هذه مغامرة خيالية! أبدًا فالقصر حقيقة واقعة بناه الشيخ «بشير الصافي»، وكان رجلًا عظيم السلطان تؤازره عشائر شتى، وكانت له مع الدولة العثمانية مواقف مشهورة، وكان الولاة يرهبون جانبه ويجاملونه ما استطاعوا، ويضمرون له الشر للإيقاع به عند إمكان الفرصة، ولكن فطنته وسعة حيلته جعلته يخشى أن يتنكر له الدهر، فاختار مكانًا في ركن يخفيه الجبل يصعب الاهتداء إليه، وشيد فيه قصرًا محصنًا يعتصم به هو ومن معه إذا اضطرهم الأمر إلى الاختفاء.

وكان ذلك منذ زمن العثمانيين، وأما الآن فقد آل القصر إلى حفيد الشيخ بشير، إلى يوسف الصافي. ولقد كانت لهذا الأخير قصة مؤثرة؛ إذ إنه أحب فتاة وطلبها إلى أبيها، ولكن الأب رفض وهَمَّ بتزويجها إلى رجل آخر، رغم حب الفتاة ليوسف. واتفق الشاب مع حبيبته على أن يقتلها ويقتل نفسه، وفعلًا قتلها في ليلة زفافها، وأما هو فقد ضعفت يده عن قتل نفسه، ولئن شاع بين الناس أنه قد انتحر فإن هذا لم يكن صحيحًا؛ إذ هام على وجهه وما زال يتخبط في بقاع الأرض حتى انتهى بالوصول إلى قصر جده. وهناك أقام مصدر رعب لكل من يدنو من القصر، يهيل عليه الصخور أو ينصب له الشرَك، حتى شاع وذاع أن القصر مسحور. وكانت بالقصر حدائق دانية الجنان استطاع أن يحيا فيها يوسف ربع قرن بأكمله.

وصلت القافلة إلى القصر بعد أن نجت من حبائل يوسف بحسن توفيق، فقد شاء القضاء ألَّا يصيب خنجره منهم أحدًا، بينما استطاع «الراوي» أن يصيبه بطلقة نارية من غدَّارته، وهنا أخذت «مس إيفانس» تُعنى بأمر يوسف الجريح، ويوسف يهذي فيناديها ﺑ «صفاء» واهمًا أنها خطيبته التي كانت تحمل هذا الاسم، وفي ذلك ما يحرك قلب «مس إيفانس» ويرنِّح خيالها، حتى إذا شفي الرجل وثاب إلى رشده، لم يعد يناديها بهذا الاسم الجميل، وكأنه فطن إلى أنها غير حبيبته التي غادر الأحياء من أجلها. ونحن بعدُ لا ندري ماذا أحسَّت «مس إيفانس» عندما عرفت تلك الحقيقة ورأت يوسف يناديها ﺑ «مس إيفانس»، فهذه أسرار نضيفها إلى غيرها مما يملأ نفس «مس إيفانس» وإن تكن كلها أسرار واضحة، هل هي إلا فراغ النفس؟ فراغها المؤلم.

وأيًّا ما يكون الأمر فقد ضاقت «مس إيفانس» بالبقاء في هذا المكان الموحش، وأصبحت تقول: «إني أسمي هذه العزلة مرضًا اجتماعيًّا … لكل امرئ في الحياة رسالة يجب أن يؤديها لبني جنسه، فإذا نكص على عقبيه عُدَّ ذلك فرارًا من الميدان.» وهذا تحول عجيب في فلسفة «مس إيفانس» في الحياة، ولكن ألم أقل لك: إن فلسفتها زبد نفضه الألم على السطح؟

وغادرت القافلة المكان عائدة بعد أن فقدت «مجاعص»، ولكن «مس إيفانس» ظلت «تقضي وقتًا غير قصير تطيل النظر إلى الجهة التي يقوم فيها قصرنا المسحور …» وفي اليوم الثالث من الرحلة صحا الراوي من نومه واجتمع ﺑ «الشيخ عاد» لتناول الفطور، ولكنه لم يجد «مس إيفانس» فسأله «الشيخ عاد» عنها فلم يجبه، بل اقتصر على ابتسامة «هادئة مديدة» فيها معنى الاستسلام والاستخفاف بكل شيء، إلى أين ذهبت؟ ألم تفهم؟ لقد استجابت لنداء المجهول الذي كانت تبحث عنه، عادت إلى يوسف إن لم يكن بدٌّ من الإفصاح. أما ما كان من أمرها بعد العودة إليه فذلك ما ليس لنا به علم؛ إذ إن الراوي لم يحدثنا عن شيء بعد هذا، ولي ولك أيها القارئ، وسيكون للأجيال المتلاحقة بعدنا أن نفكر في مصير «مس إيفانس» التي ستهز خيالنا لزمن طويل.

ولعل القارئ يعود فيسائلني: هل «مس إيفانس» هذه من الحياة حقًّا، أم هي خيال شاعر؟ وأنا في الحق لا أكاد أتصور هذه الفتاة العجيبة في وضوح؛ لأن الراوي كان أيضًا معجبًا بها، بل لقد داعب حبُّها قلبَه فلم يمعن فيها النظر، كما لم يمعنه الشيخ «عاد». وهنا تظهر حقيقة أدبية كبيرة، تفسر لنا كيف أن الأدب الواقعي أمعن في وصف الشاذ القبيح الدال، منه في وصف الجمال، فصفات الجمال — كما قلت — ألفاظ عامة كلها من نوع الكلمات المبتذلة التي تلوكها ألسن اليافعين واليافعات: «فلان زي القمر» و«فلان زي البدر» وأمثال ذلك، وهكذا يقول الراوي عن «مس إيفانس»: «وجلست على المقعد متمددة فظهرت معالم جسمها الفاتن وحدقت في السماء بعينيها الصافيتي الزرقة اللتين تكشفان عن عراقة منبت وسلامة قلب.» وهذه أوصاف جميلة موحية، أجلها عن الابتذال، ولكن هل أفادت تحديدًا، وهل في لغة الجمال تحديد؟ كم في العالم من «مفاتن جسمية» وكم فيه من «أعين زرق صافية تكشف عن عراقة منبت وسلامة قلب»! ونحن نلتمس للراوي العذر، فهذه مشكلة لا حل لها إلا أن نغير لغة البشر، وهو بعد قد تورط في التعلق ﺑ «مس إيفانس» حتى لقد أصابته الغَيرة من يوسف. وإلى اليوم ما زلت أفكر في الأثر الذي خلفته بنفسه تلك المغامرة.

نداء المجهول إذن قصة واقعية، واقعية في تفاصيل موضوعها، واقعية في طريقة قصصها، واقعية بشخصياتها. ولئن أحاط «مس إيفانس» جو من الشعر فإنه لا يستطيع أن يُخفي ما فيها من حقائق نفسية، فهي شخصية نفسية إن لم تكن شخصية من دم ولحم، «نداء المجهول» واقعية بأسلوبها. ولتيمور أسلوب أصيل، أسلوب خطفات دالة موجزة مركزة موحية دقيقة، أتريد أمثلة؟ اذكرِ أسماء الأعلام وما فيها من بيان، الشيخ عاد والأستاذ كنعان ثم مجاعص، مجاعص بنوع خاص وما فيه من «جعاصة» تدعونا إلى الابتسام المشفق.

وأخيرًا «صفاء» وإن لم نخلُ من دهشة لاتفاق اسم «الصافي وصفاء» فقد تم في سهولة مسرفة كنت أود لو نجا منها تيمور. ثم اذكرْ جُملَه ولوحاته العديدة في القصة: «ورأيت الشمس تنحدر الهوينى في الأفق، وقد «أخذ يبتلعها خضم الضباب القاني وقت الغروب في الجبل» المترامي بأطراف الوديان الزاحف علينا من طلائع الليل.» أَوَ لست ترى المنظر، أوَ لست تحس بزحف الضباب؟! اذكرِ «الرعاة بوجوههم الطويلة المشدودة البشرة»، ثم تصور مجاعص وهو يحاول «إخضاع» لقمة كبيرة حشا بها فمه، وقارن صورته هذه بصورته أثناء الرحلة: «ومر بعد ذلك يومان أيضًا، وأوشك الزاد أن ينفد على الرغم من تقتيرنا فيما نأكل منه («فيما نأكل منه»، حشو هممنا بحذفه)، واعترض «مجاعص» وجوم غريب وغشيته كآبة صماء»، ولم يعد «يسمعنا مبالغاته المستفيضة في وصف شجاعته والإدلال بخبرته، وتراخى شارباه وانحنت قامته، وكان إذا صادفته في الطريق عقبة كئود طمح ببصره إلى السماء وصرخَ من أعماق قلبه: الله يخرب القصر ويحرق اللي بناه!»

ثم هذه اللوحة التي كأنها رُسمت بريشة مصور ماهر يعرف كيف يجمع شخصياته ويميز بينها، لوحة أفراد الرحلة وهم بمأوًى في إحدى الليالي: «ثم رأينا المأوى وقد بدأت تنيره أشعة القمر فتنهدت طويلًا وطفت بعيني فألفيت «مس إيفانس» منكمشة بجواري تدور برأسها الدقيق حولها، وعيناها لامعتان كما تلمع الماسة المصقولة، والشيخ «عاد» ينظر أمامه نظرًا تائهًا مسترسلًا في أحلامه، أما مجاعص فقد كوم نفسه وراح في سبات عميق.»

وأخيرًا، دعنا من هفوات الكاتب كقوله عن نرجيلة الأستاذ كنعان ليلة كانوا ينصتون إلى المعلومات التي استطاع «الشيخ عاد» أن يجمعها عن القصر، ولا تستمع إلى دعواه أنه «انبعث بمائها هدير عالٍ، كأنما هي أيضًا تطالبه (تطالب الشيخ عاد) أن يروي لنا حكاية هذه الفاجعة؛ فاجعة يوسف الصافي»، فهذا ليس صحيحًا وما سمعنا أن نرجيلة تهدر مطالبة بقصِّ حكاية، هذا ظن تافه لا ندري كيف وقع فيه تيمور الدقيق الحس الصادق الذوق. ودعنا من العبارات المحفوظة التي أمقتها؛ لأنه لم يعد لها لون وقد أكلها التحات حتى أصبحت لا تدل إلا على الكسل العقلي الذي يحجم عن البحث عن العبارة الدقيقة، وذلك أمثال: «يقلب له الدهر يومًا ظهر المجن» (ص٤٨)، «ولا حياة لمن تنادي»، فهي أيضًا — على تفاوت في النسب — عبارة بالية، ثم انظر في كل ما بقي، ترَ أسلوبًا دقيقًا لرجل يعرف أسرار اللغة ويحسن استخدامها: «أصبح عند بعض الناس خرافة ليس لها وجود، وعند بعضٍ آخرين، مكانًا تعمره الشياطين»، وتأمَّل في قوله: بعض الناس وبعض آخرين، فهو لم يقل «البعض الآخر» حتى لا يفيد تعميمًا لا يريده، وانسَ لتيمور ابن اللغوي تيمور باشا الجمع «أميال» (ص٥٥)، بدلًا من «ميول» الدارجة الجميلة، ثم تأمل في الصمت «الرازح» (ص٦٥)، و«شحيح البغلتين» و«ما عتَّمت أن غشيني النعاس» (ص٨)، «جسمي يشجب دمًا» (ص٨٢)، و«خطين من الدموع يتهاديان على خديه»، و«كلمة صفاء المنقوشة في الصخر الأملس تتدفق عليها مياه الينبوع فتدعها تختلج حروفها كأن لها قلبًا حيًّا ينبض» (ص١٢١)، ونار المدفأة تتلاعب على سقف المأوى في أشكال بشعة، وذلك في ليلة هاجت فيها نفس الراوي وتألمت وسمع فيها عواء حسبه صدًى «لصوت نفسه العليلة المضطربة»، ثم أطال التحديق «بنظرة الشيخ عاد الثابتة»، وقد بلغ من ثباتها أن حملت الراوي على أن يصدع بأمر الشيخ رغم ما في أمره من مجازفة خطرة، ثم الشعلة «التي لاحت بقاع البئر كأنها بصيص ثقاب» (ص١٣٦)، وأخيرًا تصور «اليأس يعشش في نفسي» (ص١٤٩)، أليست هذه كلها أمارة الدقة عند كاتب يعرف كيف يختار ألفاظه ويرسم صوره، كما يعرف فن القصة وأصولها؟ محمود تيمور كاتب واقعي، كاتب ممتاز، إنني لا أكتم محبتي لأدب هذا الكاتب.

«دعاء الكروان»٣ ومشاكلة الواقع

«دعاء الكروان» قصة يمهد نصفها الأول للنصف الأخير، تبدأ بمأساة وتنتهي بزواج، وبين الحادثتين جرائم ولوحات: منها ما يمت إلى القصة بسبب قوي، ومنها ما يتراخى به ذلك السبب، وإن لم يعدم القيمة الذاتية.

رجل معوج الخُلق في بيئة بدوية، يقع بالشرَك في إحدى مغامراته فيقتله من اعتدى على شرفهم، ويخلف زوجة وبنتين يطردهن أهلهن دفعًا للعار، فيذهبن ليعملن خادمات بإحدى مدن الريف الصغيرة: آمنة إحدى البنتين بمنزل المأمور، وهنادي أختها عند مهندس الري. وتسقط هنادي فتسير الأم ببنتيها إلى بلد آخر؛ حيث ينزلن ضيوفًا بدوار العمدة، ومن هنا ترسل الأم إلى أخيها خبرًا مع إحدى النساء اللاتي يأتين إلى السوق، فيسرع الأخ بالمجيء، ويعلم الأخ بسقوط الفتاة، فيتركهن ليعد في الطريق حفرة يدفن فيها هنادي التي صمم على قتلها في طريق العودة. وتتم الجريمة كما دبرها، تاركة في خيال آمنة أثرًا عنيفًا، ينتهي بها إلى الهذيان عند وصولهم، وقد استحالت عليها الحياة حتى لم تجد مفرًّا من أن تغادر البلدة من جديد بمجرد أن تماسكت قواها، وينتهي بها المسير إلى بيت المأمور؛ حيث كانت أول الأمر، وهنالك تعلم أن المهندس قد استبدل بأختها فتاة أخرى، فتثور حفيظتها، وتود لو وجدت سبيلًا إلى الانتقام. وكانت للمأمور بنت — خديجة — في سن آمنة، وحدث أن خُطبت خديجة للمهندس، وإذا بآمنة تسوقها غرائز غامضة إلى عرقلة هذا الزواج، فتخبر أم الفتاة بما كان بين المهندس وهنادي، وبذلك تصل إلى ما تريد. وبعد عدة مناورات ينتهي الأمر بآمنة إلى العمل ببيت المهندس نفسه، وهنا ينشب صراع قوي دفين بين الخادمة وسيدها، ولا تزال الخادمة تلعب بالسيد، راغبة متمنعة، حتى يقع في حبها. وينتقل المهندس إلى القاهرة؛ حيث يعقد بينهما الزواج.

وهذا هو هيكل القصة العام، وهو في هذا التلخيص يبدو متسقًا موحدًا، ولكن الكتاب عند القراءة يشعرنا بوجود وحدات تكاد تكون قائمة بذاتها، ومن بينها ما يمكن حذفه دون أن يضطرب السياق. فهناك دعاء الكروان، وهو دعاء شعري جميل، تردده آمنة في المواقف الحاسمة، وقد هيأ لها المؤلف حضور هذا الطائر كلما اشتد أمر، وهناك وصف الليالي التي أمضتها الأم وبنتاها عند العمدة، وفي هذا الجزء أشياء يمكن أن تستقيم القصة بدونها، كالحديث عن خضرة ونفيسة، فهما وإن تكونا نموذجين لبعض نساء الريف، إلا أنهما لا تلعبان في حوادث الرواية أي دور. وكذلك الأمر في حادثة قتل شيخ الخفراء التي تلحق بهذا الجزء دون أن نتبين لقصصها وجهًا واضحًا، وهناك منظر القتل الذي نجح المؤلف في تصويره، وحملنا على الإحساس بفظاعته، ثم تصوير هذيان آمنة، وهذا جزء يضعف تأثيره ما فيه من إسراف. وأخيرًا تأتي قصة آمنة مع المهندس، ولعل هذا الجزء هو خير ما في الرواية، لما فيه من فهم عميق لحقائق النفوس، وبخاصة نفوس النساء.

وإنه وإن تكن وحدة القصة من الأسس المهمة في كل عمل فني، إلا أننا نستطيع أن ننظر إلى تلك الوحدة نظرة واسعة، فلا نردها إلى وقائع الرواية، واتصال بعضها ببعض فحسب، بل نمدها إلى الهدف النهائي الذي يقصد إليه كل كاتب، وهو التصوير والتأثير. فالقصاص بتصويره للبيئة التي يحيا فيها أبطاله، يعيننا على فهم نفوسهم، وهو بقصصه لطرف من حوادث العنف التي يأتونها يخلق جوًّا يمهد لما سيقع في القصة ذاتها، وعلى هذا النحو نستطيع أن نفهم ما ساق إلينا المؤلف من أجزاء لم نتبين رابطتها المباشرة بالقصة.

ولكننا على العكس من ذلك لا نستطيع التسامح فيما يجب أن يتوفر لكل قصة جيدة من مشاكلة للواقع L’illusion du reel، وتلك المشاكلة لا نراها متوفرة في كل أجزاء القصة التي بين أيدينا، وذلك لسببين كبيرين؛ أولهما: طغيان المؤلف على شخصياته، وثانيهما: تحجر أسلوبه في طابع خاص يعرفه الجميع.

لنأخذ مثلًا دعاء الكروان: «لبيك، لبيك أيها الطائر العزيز! ما زلت ساهرةً أرقب قدومك وأنتظر نداءك، وما كان ينبغي لي أن أنام حتى أحس قربك وأسمع صوتك وأستجيب لدعائك، ألم أتعود هذا منذ أكثر من عشرين عامًا؟! لبيك لبيك، أيها الطائر العزيز! ما أحب صوتك إلى نفسي إذا جثم الليل، وهدأ الكون، ونامت الحياة، وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم، آمنة لا تخاف، صامتة لا تسمع.» هذا لا ريب شعر ساحر ما أظن نغماته تفارق الخيال عما قريب … ألفاظ مجنحة خفيفة عذبة، ولكم من مرة يعود الطائر فتلقاه آمنة بنفس الحديث، ويستمع القارئ لدعائها فكأنما يأوي إلى واحة ظليلة أو يلقى صديقًا قديمًا، ولكن دعنا نصم آذاننا قليلًا عن سحره لنتساءل عن قائله: أهو حقيقة آمنة، وهي مهما حدثنا الكاتب عن تلقيها العلم مع خديجة عامًا بعد عام حتى ألمت باللغة الفرنسية ذاتها، لا نظنها قادرة على أن تدعو الكروان هذا الدعاء الجميل؟

يقول المؤلف الفرنسي المعروف بومارشيه في مقدمة روايته «فيجاور»: «في إحدى الليالي ونحن بالمسرح قال لي رجل عظيم الذكاء، وإن كان يسرف في ادخاره: أرجوك أن تشرح لي لماذا نجد في روايتك كلَّ تلك الجمل المهلهلة التي ليست من أسلوبك؟

– من أسلوبي يا سيدي؟ لو شاء النحس أن يكون لي أسلوب لحاولت أن أنساه عندما أكتب مسرحية. وأنا لا أعرف أتفه طعمًا من تلك المسرحيات التي نرى فيها كل شيء جميلًا ورديًّا؛ كل شيء هو المؤلف نفسه كيفما كان. عندما يتملكني موضوعي أستدعي شخصياتي وأضع كلًّا في مكانه، وأنا لا أعرف ماذا يقولون، وإنما يعنيني ما سيفعلون، وعندما يأخذون في الحركة أكتب ما يملونه عليَّ إملاء سريعًا، واثقًا من أنهم لن يخدعوني. فلنأخذ إذن في فحص أفكارهم لا في البحث عما إذا كان من واجبي أن أعيرهم أسلوبي.»

ونحن وإن كنا نقدِّر ما في أقوال بومارشيه من إسراف أدبي، وندرك أنه ليس من الممكن أن يترك المؤلف أشخاصه يتحدثون كل بلغته وإلا لأسمعوه العجب، ومن بين أبطال القصة التي بين أيدينا مثلًا السيد والخادم والقاهري والبدوي والصعيدي والبحراوي، إلا أنه مما لا شك فيه أن في أقوال بومارشيه جانبًا كبيرًا من الصحة. وإنه لمن واجب القصاص أن يحتال فيوهمنا بأن قصته واقعية؛ ليكون تأثرنا أتم. ومن وسائل هذا الإيهام — إن لم يكن من أهم وسائله — تنوع الأسلوب وطبيعيته وعدم طغيان المؤلف على شخصياته. وفي «ليالي العمدة» أدلة واضحة على صحة ما نقول، فقد وصف الكاتب مثلًا موقف آمنة من أختها التي كتمت عنها خبر سقوطها، فأخذت تحتال لتعرف السر دون أن تنجح، وفيما هما في جوف الليل رأت آمنة أختها واقفة حزينة يائسة، فنهضت إلى جوارها «ومست كتفها مسًّا رفيقًا»، وهذا حسن، ولكن المؤلف يأبى إلا أن يضيف تلك الجملة الرصينة المضحكة: «لا تُراعي» مع أن «لا تخافي» هي الجملة الواجبة.

ولقد نتج عن عدم اكتفاء الكاتب بتدوين ما تملي عليه شخصياته — كما كان يفعل بومارشيه — أن ظهر تنافر واضح في الأسلوب في بعض المواضع، ففي نفس «الليالي» نرى زنوبة؛ «دلَّالة» البلدة تدعو آمنة إلى أن تقص عليها سبب حزنهن، وذلك لما يبدو عليها من أنها «قارحة، ليس في عينها ملح»، ومع ذلك نجد إلى جانب تلك الجملة الشعبية الدالة جملة أخرى لزنوبة نفسها هي: «أرى على وجهك شيئًا يشبه القحة»، وكيف يمكن أن تعبر زنوبة تعبيرًا فيه كل هذا التحفظ البلاغي والتخفيف في الحكم «شيئًا يشبه القحة»؟! هذا أسلوب المؤلف، وزنوبة بريئة منه. ولقد كنا نفضل بدلًا من هذا التنافر أن يترجم الكاتب إلى اللغة الفصحى ما يريد من تعابير الشعب، ولقد دل على أنه يملك تلك القدرة، فأنطق زنوبة بقولها للأم وبنتيها في معرض التحدي: «ما أنتن أولاء بيننا منذ أمس ولا سمعنا لَكُنَّ صوتًا ولا عرفنا من أَمْرِكُنَّ شيئًا.» ولا ريب في أن تعبيره: «ما أنتن أولاء» إن هو إلا تعريب للاصطلاح العامي الشديد «وانتوا إيه يا ادلعدي!»

ولو أن أسلوب الكاتب كان بطبيعته قريبًا من لغة الواقع لهان الأمر، ولكنه أسلوب فني مصنوع، له خصائصه الثابتة. ونحن نترك الآن جانبًا ما في هذا الأسلوب من جمال لنقف عند ما يعيبه كأسلوب قصصي، وأوضح تلك العيوب أمران:
  • (١)

    عدم الدقة والتحديد الناتجين إما عن عدم اختيار اللفظ المعبر، وإما عن استعمال أشباه الجمل.

  • (٢)

    الإسراف الذي نراه أوضح ما يكون في إشباع المعنى أو الإحساس، أو في الصياغة اللفظية التي تلجأ إلى المفاعيل المطلقة على نحو ملحوظ، وفي هذه العيوب ما يبعد به عن مشاكلة الواقع التي رأينا فيها مبدأً صارمًا لا يمكن التسامح فيه.

خذ مثلًا حديث الدجالة نفيسة مع آمنة وهي توصيها بأن تذهب إلى قرية قريبة؛ حيث مقامُ أحد الأولياء، وحيث توجد امرأة لها «قرين» من الجن يستطيع أن يأتي بالأعاجيب، ترى المؤلف الذي يعرف من أسماء الأعلام الشيء الكثير، بل والنادر ﮐ «ملزمة» اسمًا للأم، لا يخصص هذا الولي باسم، بل يقول: سيدنا «فلان»، ولا يخصص المرأة، بل يقول: دار «فلانة»، وفي هذا ما يضعف من الإيهام بالواقع.

ولقد كان يستطيع أن يقول: سيدنا «محمد» ومنزل الشيخة «فاطمة»، أو أي اسمين آخرين حتى يوهمنا بأن كل هذا قد حدث فعلًا. وكذلك الأمر في استخدامه لأشباه الجمل بدلًا من الألفاظ الدقيقة، كتعبيره عن «الشوكة والسكينة» بقوله: «هذه الأدوات التي يعرفها أهل المدن خاصة، بل يعرفها المترفون من أهل المدن خاصة»، وتعبيره عن القطار ﺑ «هذا الشيء المروع المخيف الغريب، الذي يبعث في الجو شررًا ونارًا وصوتًا ضخمًا عريضًا وصفيرًا عاليًا نحيفًا. والذين يركبونه يستعينون به على أسفارهم، كما يستعين أهل البادية والريف بالإبل حينًا وبالحمير حينًا آخر وبالأقدام في أكثر الأحيان.» هذا، مع أن المؤلف يعرف كيف يتصنع السذاجة البالغة أحيانًا، كوصفه لدهشة آمنة عندما سمعت اللغة الفرنسية لأول مرة وتساؤلها: كيف يمكن أن تكون هناك لغة غير ما تعرف من لهجة مصر ولهجة الريف ولهجة البدو، حتى لكأنها لم تسمع قط «خرستو» بقال «الناصية» يتكلم اليونانية؟

وأما الإسراف فذلك ما يطالعك في أكثر من موقف من مواقف القصة؛ حيث ترى الكاتب يسرف في اللفظ فيذيب الإحساس ويذهب بالتأثير، انظر مثلًا إلى هذه المقابلات اللفظية: «فصوتها مضطرب «ممزق» «يتمزق» له قلبي كلما ذكرته.» وانظر إلى المفعولات المطلقة في قوله: «فهزَّت جسمها هزًّا، ثم انهمرت دموعها انهمارًا، ثم احتبس صوتها فإذا هي تضطرب اضطرابًا عميقًا.» ونحن نفهم المفعولات المطلقة التي تصحبها صفات تحدد من الحدث، وأما تلك التي لا يقصد منها إلى غير التأكيد أو المبالغة فأكبر الظن أن ما قد يساوقها من موسيقى لا يكفي لتبريرها.

وإسراف الكاتب لا يقف عند الأسلوب، بل كثيرًا ما يمتد إلى الإحساس ذاته يبسطه حتى يشف، تقول آمنة في وصف مواساتها لأختها بدوَّار العمدة: «وأنا أجثو إلى جانبها وأضمها إليَّ وأقبلها وأحاول أن أرد إليها الهدوء والأمن وسكون النفس ما وسعني ذلك، حتى إذا مضى وقت غير قصير سكن جسمها بعد اضطراب وانطلقت أنفاسها بعد احتباس، ومضت دموعها تنهمر وآوت إلى ذراعي كأنها الطفل قد استسلم إلى أمه الرءوم، واطمأن رأسها إلى كتفي، وقضت كذلك لحظة ما نسيت ولن أنسى عذوبتها.» ولكن أية عذوبة لن تنساها آمنة، والأختان في موقف يثير الألم المر؟! والذي نعرفه عند كبار الكُتَّاب هو الإيجاز في المواقف الحرجة، وأنا أذكر لفلوبير أمثلةً عديدة لهذه المواقف، منها قوله في «قلب ساذج» عن أم ماتت ابنتها: «وسارت الجنازة، وصعدت مدام أوبان إلى العربة، وأرخت الستائر السود»، تاركًا لنا أن نتصور مبلغ الحزن الذي أخفته تلك الستائر. ومنها قوله عن القديس جوليان الذي قتل أمه وأباه خطأ فلبس مسوح الرهبان: «وسارت الجنازة، وكنت ترى رجلًا في مسوح راهب يتبع الموكب من مسافة بعيدة منكس الرأس.»

وكذلك موقف آمنة وأختها، فقد كنا ننتظر من المؤلف أن يكتفي بأن يشعرنا بما أضنى الأخت المنكوبة من إعياء: «فألقت برأسها إلى كتف أختها»، ثم يتركنا نتصور الباقي. وباستطاعة القارئ أن يقارن كذلك بين وصف المؤلف لهذيان آمنة ووصف فلوبير أيضًا لسان جوليان، ويكفيه ليدرك ما ندعو إليه من وجوب الاعتدال والتركيز أن يوازن بين «ينبوع الدماء» الذي رأته آمنة في هذيانها و«نقط الدم الصغيرة» التي رآها جوليان تقطر من فراش أبويه عند قتله لهما فلازمته أشباحهما أنَّى ذهب.

ومن غريب الأمر أن نرى المؤلف الذي نأخذ عليه هذا الإسراف يعرف كيف يقتصد، فترى الأسلوب الخاطف والحركة الدراماتيكية السريعة، وإذا بك مأخوذ بما تشهد، وقد علقت أنفاسك، على نحو ما تلقى من كبار الكُتَّاب. ولعل وصفه لمقتل هنادي أن يكون من أقوى تلك المواقف وأنجحها.

ولا تقف عدم مشاكلة الواقع عند أسلوب المؤلف أو طغيان شخصيته، بل يمتد إلى بعض وقائع القصة وإلى الطريقة الفنية التي اختارها الكاتب لقصته.

ففي الواقع، منذ البدء نلاحظ شيئًا غير طبيعي، وهو طرد الأم وبنتيها محوًا للعار بعد قتل عائلهن في مغامرة أخلاقية؛ أي عار؟ ذلك ما لا نعلمه، والعار لا يلحق في هذه البيئات غير النساء، وما نظن بدو الريف يطردون نساءهم، وعُرْفُهُمْ أن يقتلنَ المذنبات منهنَّ، وهؤلاء لم يرتكبنَ إثمًا؛ ولهذا كنا نفضل أن يحمل المؤلف الأم وبنتيها على الهجرة سعيًا وراء الرزق أو ضيقًا بالحياة، وأما أن يطردهن أهلهن «ويخرجوهن إخراجًا» فذلك ما لا عهد لنا به.

وأما عن الطريقة الفنية في القصص فقد اختار الكاتب أن يسوق الرواية على لسان آمنة، وهذه طريقة لا غبار عليها، ولكن على شرط أن يأتي القصص طبيعيًّا مسايرًا لنفسية من يقص، ولقد سبق أن رأينا كيف أنه من غير المعقول أن يصدر دعاء الكروان عن آمنة. ونضيف إلى ذلك مثلًا آخر واضحًا لما اضطر إليه الكاتب من الخروج على ما اشترطنا لكي يصل من التحليل النفسي إلى ما يريد، فآمنة هي التي تحلل شعورها نحو المهندس وتتتبَّع مراحله، وهي من وضوح الرؤية والجرأة على الحق النفسي، بحيث لا نظن صدور مثل هذا التحليل عن فتاة في ثقافتها وطبيعتها النفسية، بل لا نظن أن كثيرًا من الفلاسفة أنفسهم يستطيعون أن يجابهوا حقائقهم النفسية في هذه الصراحة والقوة؛ ولهذا نظن أنه ربما كان من الأفضل لو غير الكاتب طريقته في هذا الجزء ليسلم من النقد.

ومع ذلك فنحن حريصون على أن نؤيد ما سبق أن قلناه من أن هذا الجزء من الرواية يُعد بلا ريب من خير ما كتب كتابنا، وأروع ما فيه ذلك التدريج المحكم في الكشف عن نفسية الفتاة وتطور شعورها تطورًا غامضًا غير محسوس من رغبة في الانتقام إلى غَيرة خفية فحب للاستطلاع ثم اهتمام فاحتيال، حتى إذا وصلت إلى ما تريد من معاشرة المهندس أخذت غرائزها تتلون بشتى المواضعات الاجتماعية التي تخفي حقائق النفس. إن في تاريخ هذا الحب الذي يجهل نفسه ولا يزال يراوغ ويداور حتى يتضح لوثيقة إنسانية عظيمة القدر.

«زهرة العمر» وحياتنا الثقافية

١

حمل إليَّ البريد أمس الكتاب الجديد لتوفيق الحكيم، وهو عبارة عن مجموعة «رسائل حقيقية» كتبت بالفرنسية في ذلك العهد الذي يسمونه «زهرة العمر»، وهي موجهة إلى المسيو أندريه، الذي جاء وصفه في «عصفور من الشرق». وقد بدأ الصديقان يتراسلان بعد مغادرة أندريه باريس للعمل في مصانع «ليل» بشمال فرنسا. واستمرت المراسلة إلى ما بعد عودة الحكيم إلى مصر والتحاقه بالسلك القضائي، ثم انقطعت بينهما الرسائل والأخبار وانتهى كل شيء، وجرفهما تيار الحياة كلًّا في واديه.٤ وأما موضوع الرسائل فحياة توفيق الحكيم؛ حياته الفنية: جهاده في تحصيل الثقافة من منابعها الحقة، ومحاولاته في سبيل الخلق الفني، وخواطره في قيمة ما يعمل وخصائص ما ينتج، ولمحات كثيرة عميقة عن التربية الفنية، ووسائل تلك التربية من تفكير وفن وأدب ورثناها عن الغرب والشرق.

لقد انشرح صدري بهذا الكتاب، وأنا بعد لست بغافل عما يمكن أن يكون في هذا الانشراح من عامل الأثرة، فلقد مرت بي أيام شديدة الشبه بما يقص الحكيم، وفي النفس إيمان بكثير من القيم التي أفنى الكاتب في سبيلها زهرة حياته.

والناقد مهما حاول أن يُنَحِّي نفسه عما ينقد لا بد مستجيب لتلك النفس الآمرة في الجهر والخفاء، ولكنني مع ذلك قد أدركت في وضوح أن هذا الكتاب أوسع أفقًا وأعمق أثرًا من حياة الحكيم وما يشابهها من حيوات، إنه مرحلة من مراحل حياتنا الروحية الثقافية، مرحلة أعتقد أنه سيعيننا على اجتيازها، لا بمادتها — فالأمم لا ينقلها كتاب، مهما غزر تفكيره — بل بتوجيهه. سيجتاز تلك المرحلة من قادة الفكر عندنا من يؤمنون بصدق هذا التوجيه، ثم يسايرون خطاه.

وذلك مع تحفظات أبدأ بها لأخلص بعد ذلك إلى قيمة هذا الكتاب الخطيرة. وأولها ما ألاحظ من رهبة الحكيم للحياة، وانطوائه على نفسه، وهو رجل داخلي «لم يتح لي لحظة من لحظات حياتي أن أحزن لحزن الطبيعة وأبتسم لابتسامتها؛ وذلك لأن ما عندي من أزمات داخلية قد شغل قلبي دائمًا عن الطبيعة، إن عيني مصوبتان دائمًا إلى أعماق قلبي.» وهذا في الحق ليس إلا جانبًا من ظاهرة عامة عند الحكيم، فمن البيِّن أنَّ في نفسه شهوةً مسيطرة؛ هي شهوة الفن، وهذه الشهوة هي مصدر ما يجد من قلق وشك وآلام. ولقد اتفق أن ألقى بنفسه إلى أوروبا، وهو المرن التفكير، المفتح النوافذ، السلس القياد، السريع التأثر، الوديع المزاج؛ فإذا بآيات الفنون والآداب تملك عليه أمره ملكًا تامًّا فلا يعود يرى غيرها. وكان في هذا موضع الخطر، فإن المعرفة غير المباشرة من كتب ومحاضرات ومتاحف لم تلبث أن طغت في نفسه على المعرفة المباشرة، فهو يحدثنا أنه كان يفضل البقاء في باريس مُكبًّا على القراءة والتحصيل على أن يصاحب إخوانه المصريين إلى شاطئ بحر أو قمة جبل. وهو يحلل سر إعراضه عن «ساشا» وغيرها — فيما أظن — من فتيات، باستغراقه في تغذية نفسه بألوان الفنون. وهكذا تولدت في قلبه رهبة من الحياة التي أصبح يخشى أن تصرفه عن هدفه، فصدف عن وسائل المعرفة المباشرة من مغامرة في المجتمع، وسياحة في بقاع الأرض، وتقليب البصر في مناظر الجمال والقبح التي نستطيع أن نلاحظها بكل مكان، إذا استطعنا أن ننتزع أنفسنا من انطوائها الداخلي لنشرها في الخارج، على أن نستردها بعد ذلك، أوفر غنًى وأرهف نفاذًا. ولقد كنا نفهم عندئذٍ أن يتجه الحكيم اتجاهًا روحيًّا صوفيًّا خالصًا، ولكنه لم يفعل؛ وذلك لأن معدن نفسه فيما يبدو لم يخلق للتصوف. الحكيم مفكر، مفكر في الحياة: حياته وحياتنا، ولكن تفكيره لم ينهض على الملاحظة المباشرة، قارن بينه وبين بلزاك مثلًا، تدرك الفرق الواضح لساعتك، بلزاك يفكر بحواسه، أما الحكيم فبعقله، ولا أدل على ذلك من أن تراه يعالج كبرى المسائل الإنسانية علاجَ من لم تمسه عن قُرب. استمع إليه يقول عن الحب، هذا اللفظ الخطير الذي لن يبليه ابتذال؛ لأنه جوهر الحياة، جوهر الشباب على الأقل: «يخيل إليَّ أن الحب في هذا العالم عضو سوف يتمكن العلم الحديث من بتره واستئصاله دون أن تخسر الإنسانية شيئًا كبيرًا.» وفي موضع آخر: «وإنك لتعرف أن للحب مقامًا كبيرًا عندي في الحياة، في كل حياة، وربما كان الحب هو الشيء الوحيد الجميل الذي نعيش به ومن أجله نحن البشر.» ما سر هذا التناقض؟ أوَمَا تراه في صدور الرأيين عن العقل؟ أما الحياة فتسخر من كل ذلك، فالحياة لا تعرف الفروض العقلية ومهارة التفكير، الحياة سيل ذو اتجاه واحد.٥
هذا المنحى العقلي هو ما سبق أن أوضحته في نقدي ﻟ «بجماليون». وإنه لمما يشجيني من توفيق الحكيم أن روحه المدركة قد رأت ما رأيت وعبَّرت عنه في قوة ووضوح: «صدقت يا أندريه في قولك: إني أصلح أن أكون رياضيًّا، وإن أفكاري وتصرفاتي تكاد تسير على طريقة هندسية أو حسابية أو جبرية، هذا صحيح، ولا أدري كيف اهتديتَ إلى ذلك، أنا مع الأسف كذلك، وهذا ما سوف يهدم كل عمل مسرحي أو فني أحاول إنشاءه، إن إسقاطي الحياة والعواطف كما هي، وكما يراها ويحسها دهماء الناس، وركوني إلى الطريقة الرياضية في تعريف أفكاري وتأملاتي لَمصيبة كبرى. وإليك دليلًا آخر في قطعة «اللحم» التي أرسلتها إليك، إنك ولا شك لم تجد فيها أية صورة تنطبق على الحياة وعواطف الحياة، ولكن قد وجدتها متمشية مع العقل والمنطق الذي تقتضيه فروض خاصة أنشأتها أنا في البداية. تلك هي الرياضة: فرض وعقل ومنطق، التصوير الحديث أخرج من حسابه العواطف البشرية وجعل أساسه الهندسة والمنطق العقلي الواعي وغير الواعي، والموسيقى الحديثة أيضًا … يا للبلاء! إني أحب الفن الحديث وأقلده أحيانًا وأخشاه وأخشى منه على نفسي.»٦
ودع عنك شك الكاتب في قيمة ما عمل، فهذا الشك لا تعرفه غير النفوس الكبيرة، ودع عنك جهره بهذا الشك، فذلك ما لا يستطيعه إلا الناجحون، ثم انظر معي إلى نمو الروح الهندسية esprit de geometrie كما يسميها بسكال، عند كاتبنا، وطغيانها على ما يسميه نفس الكاتب الفرنسي «روح الدقة» esprit de finesse. ثم ابحث عن أسباب ذلك، أوَمَا ترى أن سيطرة الشهوة العقلية — شهوة المعرفة غير المباشرة — وما استتبع ذلك من انصرافه عن الحياة، وضيقه بها، كما تشهد الصفحات التي يَبرم فيها الكاتب من احتكاكه بالمجرمين في حياته القضائية، كانت من أهم الأسباب الموجهة؟ الحكيم سجين نفسه، سجين عقله.
ولقد حاول كاتبنا الذكي أن يرى في بنائه لموضوعه وتصريفه للحوار أسلوبه الخاص، ولكننا نلاحظ ما سبق أن وضحناه، وهو أن بناءه لقصصه ومسرحياته رائده دائمًا الفكر، والحياة لسوء الحظ أشد نفورًا من أن تنطوي تحت خط من خطوط العقل. والشخصية الروائية، مهما آمنا بالجبر الداخلي، لا بد ممزقة في الحياة كل منهج مرسوم. أوَلا ترى إلى كاتب كدستيوفسكي كيف تتدفق بعض رواياته «العبيط» مثلًا، كما يتدفق سيل الحياة لا يحده شاطئ ولا يسجنه مهد؟! والحكيم كرجل تفكير لم يعد يرى للصورة جمالًا يعتد به، فاللغة عنده «أداة يسيرة لنقل الأفكار النبيلة»،٧ والأسلوب عنده هو روح الكاتب وشخصيته ومنهجه في التأليف. وهذا حق، ولكنه ليس كل الحق. فهناك أيضًا فن العبارة، وما ينبغي أن تدفعنا ثورتنا المشروعة على أدب اللفظ الذي أفسد حياتنا الروحية قرونًا طويلة إلى تحطيم ذلك الفن. فالسجع والتكلف الأجوف، كما عهدناهما لا يقدحان في المبدأ العام الذي تنهض على أساسه جميع الفنون؛ وأعني به فن الأداء. ونحن لا نقول كما قال مذهب من المذاهب الحديثة: إن اللغة كمقاطع الرخام، يصاغ منها الأدب كما تنحت التماثيل، ولكننا نؤمن — ويجب أن نؤمن — أن الكثير من الأفكار الرائعة والأحاسيس العميقة تفقد من جمالها، إن لم تفقده كله، إذا عريت عن جمال الصور. بل إن التفكير والإحساس كثيرًا ما يضيعان إذا عجزنا عن إسكانهما اللفظ الدال، وكم من كتاب يحدثنا عن موضع الصعوبة في الخلق الفني الإنساني فنجده في الاحتيال على الفكر أو الإحساس حتى يطمئن إلى اللفظ. وليس من شك في أن سر الخلود في الكثير من عيون الأدب يرجع جانب كبير منه إلى خصائص الصياغة، ولا أدل على ما نقول من استحالة ترجمة الشعر الخالص.٨
وهكذا نستطيع أن نجمل التحفظات التي نراها:
  • (١)

    عدم الإمعان في الحياة؛ طلبًا للمعرفة المباشرة.

  • (٢)

    شدة وطأة التفكير الرياضي وعدم تنمية روح الدقة التي ترى التفاصيل والمفارقات وتحرص عليها؛ لدلالتها الإنسانية لا لتأييدها لفكرة عامة أو اتجاه مسيطر.

  • (٣)
    عدم الإيمان بجمال الصياغة والشكل Le culte de la forme، مع أنه إيمان بالجمال المطلق، ولنذكر قول أفلاطون: «لو صيغت الحقيقة امرأة لأحبها جميع الناس.»

هذه هي مواضع نقدي للكتاب وصاحب الكتاب، حرصت على البدء بها لأني أقدر مبلغ الأثر الذي سيحدثه هذا الكتاب في النفوس، كما أقدر قوة كاتبه، وقد خشيت أن يجتاح المؤلف القُرَّاء فيما هو محق فيه وغير محق. ولا شك في أن القارئ عندما يقرأ الكتاب، وهذا ما أرجوه أن يفعله، سيحس بإيمان كاتبه إيمانًا لا يدفع، إيمانًا مخلصًا من نفس مخلصة، ثم كم فيه من ضياء، كم فيه من فهم عميق سليم لمعنى الثقافة الإنسانية.

هذا الكتاب سيمثل، كما قلت، مرحلة من مراحل حياتنا الروحية والثقافية وذلك ما سأبينه، وأما ما سبق فلست أتجه به لغير ملكة النقد عند القارئ. وهناك ملكة أخرى هي التي أدعو القارئ إلى أن يتناول بها هذا الكتاب، تلك هي ملكة الفهم، بل ملكة المشاركة في الحس والإيمان.

٢

«قد تسألني: أليس في مصر طبقة من المستنيرين؟ نعم، في مصر بيئة مستنيرة، فيها كثيرون عاشوا في أوروبا وعرفوا الثقافة الأوروبية، وفيهم من يعرف الفن الأوروبي ويتكلم عن المصورين والتصوير، ومن يتكلم عن برامس وباخ وهاندل، ولكن من النادر أن تجد بين هؤلاء من عرف أن الثقافة العقلية الحقيقية شيء والكلام فيها شيء آخر. وقليل من هؤلاء من أدرك أن الثقافة العقلية وحدها ليست كل شيء، الثقافة الكاملة شيء أوسع من ذلك بكثير. إن هؤلاء المتكلمين في الموسيقى والتصوير والفنون يعرفونها برءوسهم ولا يدركونها بحواسهم، إن المطلوب للثقافة ليس مجرد المعرفة، بل الإحساس والتذوق والتغذي بمختلف الفنون. ما قيمة الكلام عن بيتهوفن إذا كانت أعماله لا تهز نفسك هزًّا؟! وما معنى الحديث عن رفاييل، أو فلمنج أو روباننس أو بوتشيللي إذا كانت صورهم لا تعمر رءوسنا ليل نهار، وتحدث ألوانهم وأصباغهم في نفوسنا الأحداث؟! الثقافة ليست كلامًا نملأ به الرءوس، ولكنها يقظة الملكات كلها والحواس. إذا سلمت بقولي هذا فلا أبالغ إذا قلت لك: إنه ليس في مصر عدد أصابع اليدين من المثقفين …» (ص١٢٣).

هذه الحقائق الكبيرة هي الدرس النهائي الذي تتمخض عنه «زهرة العمر». ولكي ندرك معناه البعيد يجب أن نحدد المرحلة التي وصلنا إليها اليوم، وأن نتبين العناصر المكونة لثقافتنا الحالية. والأمر واضح، فهناك منبعان كبيران لتفكيرنا الحالي، بل لحياتنا الروحية كلها.

أما المنبع الأول فهو بعثنا لثقافة العرب في عصورها الأولى، فمصر المعاصرة ليست استمرارًا لمصر الإسلامية، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فأجيالنا الناشئة أكثر معرفة وتغذية اليوم بامرئ القيس وجرير والبحتري مثلًا منها بالبوصيري والبهاء زهير وابن نباتة المصري، ونحن أكثر قراءة «للأغاني» و«الأمالي» منا «لنهاية الأرب» أو «صبح الأعشى». نعم، إن مصر الإسلامية قد آوت الثقافة العربية يوم فرَّت من وجه المغول، ولكنها كانت ثقافة فاترة منحلة سطحية، ولقد كان في ظروف مصر السياسية والاجتماعية ما زاد تلك الثقافة ضعفًا، حتى أصبحت إما دراسات وحواشي وتعليقات وتصانيف، أو أدبًا إنشائيًّا متكلفًا لفظيًّا لا تدب فيه الحياة إلا بمقدار. والذي لا شك فيه أننا لم ننتعش إلا عندما بدأت حركة البعث للقديم، ولعل البارودي أن يكون أول ثمرة لذلك البعث إن لم يكن رائده «بمختاراته» و«ديوانه»، وذلك في مجال اللغة وفن الشعر. كما أن جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده قد جددا من شباب الإسلام بدعوتهما إلى الرجوع إلى التقاليد الصحيحة والعدول عن الخرافات التي كانت قد أوشكت أن تقضي على حياتنا الروحية. لقد حدث في مصر في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ما يشبه إلى حدٍّ ما حركة البعث العلمي التي ازدهرت بأوروبا في القرن التاسع عشر، حدث رجوع إلى القديم وبعث له. وكما أحيا الأوروبيون تراث روما وأثينا، كذلك أخذنا نحن نحيي تراث مكة والمدينة ودمشق وبغداد. وكذلك الأمر في المجال الروحي، فحركة جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام قد صدرت عن روح شديدة الشبه بالروح التي صدر عنها لوثر وكلفن وزونجلي. هذا هو المنبع الأول نشير إليه، ولكنه ليس موضع حديثنا اليوم.

وإنما نريد أن نتمهل عند المنبع الثاني الذي ينقلنا كتاب الحكيم إلى مرحلة جديدة من مراحله، ونعني به المنبع الأوروبي الغربي. والملاحظ في تاريخنا الطويل أن مصر كانت بؤرة للثقافة اليونانية لمدة عشرة قرون كاملة (من ٣٣٠ق.م إلى ٦٤٠م) أعني مدة البطالسة والرومان وبيزنطة، وهذا زمن طويل حتى في حياة الأمم. ومن المعلوم أنه خلال تلك المدة كلها كانت لغة الثقافة والإدارة هي اللغة الإغريقية، وأن اللغة اللاتينية لم تستعمل إلا في الجيش، ومراسلات الحاكم مع الإمبراطور أيام الحكم الروماني. ولقد كان لنا أن ننتظر انتشار الثقافة الإغريقية بمصر بين المصريين، ومع ذلك فإن شيئًا من هذا لم يحدث، فمصر لم تصبح إغريقية في يوم ما، كما أصبحت فيما بعد عربية بسرعة مدهشة. فلقد ظل المصريون بعيدين عن الإغريق، ظلوا يتكلمون اللغة المصرية ويكتبون الكتابة الديموتيقية، كما ظلوا متمسكين بدينهم وثقافتهم الموروثة، وهم لم يتخلَّوا عن شيء من خصائصهم الروحية إلا أمام المسيحية، ولا غرابة في ذلك، فلقد كان الشعب المصري طوال هذا الزمن في بؤس مادي وبؤس روحي بالغ الفقر. ولقد كان المصريون يبغضون الإغريق والرومان قدر بغض هؤلاء لهم، ولم يحدث قط أن امتزج الشعبان كما امتزج المصريون والعرب فيما بعد.

وفي الحق إنها لظاهرة عجيبة، فألف عام كانت كفيلة بأن تبذر بذور الثقافة اليونانية في بلادنا، ولكننا لا نجد أثرًا لتلك البذور. ولقد انقضى ذلك الزمن بفتح العرب لمصر، وإذا بنا نرى الدواوين تعرَّب بعد ستة وستين عامًا فقط من هذا الفتح، وسرعان ما اختفت اللغة الإغريقية بل واللغة المصرية، وأصبحت مصر بلدًا عربيًّا وإسلاميًّا. ولكنه إذا كانت مصر لم تتأثر باللغة الإغريقية عن طريق مباشر، فإنها لا ريب قد ورثت هذا الأثر فيما ورثت من ثقافة العرب. ومن المعلوم أن العرب قد نقلوا فلسفة اليونان وبخاصة فلسفة أرسطو ودرسوها، بل نموها ثم أعادوها إلى أوروبا خلال القرون الوسطى.

ورثت مصر إذن الفلسفة الإغريقية مع ما ورثت من تراث عربي، ولكنها لم تضف إلى هذا التراث خلقًا جديدًا يعتد به، فليس لدينا فلاسفة مصريون نذكرهم مع الفارابي أو ابن رشد أو الغزالي.

والأمر في الأدب كالأمر في الفلسفة، فأدبنا المصري العربي قد انفصل عن التفكير الإنساني، بل الحياة الإنسانية بمعناها العميق.

ولقد استمرت تلك الحالة إلى سنة ١٧٩٨م، وتلك سنة خطيرة في تاريخنا السياسي والروحي معًا؛ وذلك لأننا خرجنا فيها عن وحدتنا وابتدأنا نتصل بأوروبا ونفتح نوافذنا على العالم الحي. لقد كان للحملة الفرنسية في حياتنا من هذه الناحية أبلغ الأثر، ولا شك في أنها كانت من الأسباب التي وجهت نظر محمد علي إلى الغرب عامة وفرنسا بنوع خاص، فأوفد إليها البعثات. وكانت حركة مباركة في الترجمة، نهض بها رفاعة الطهطاوي وتلاميذه في مدرسة الألسن. ولقد استمرت تلك الحركة إلى يومنا هذا، بل لعلها أخذت في التزايد. كما انتشرت معرفة اللغات الأجنبية بيننا حتى رأينا مِن شعرائنا وكتابنا مَن يجيدها كشوقي وإسماعيل صبري وغيرهما. ولكنه بالرغم من ذلك لم تتغير حياتنا الروحية الثقافية حتى السنوات الأخيرة تغيرًا يذكر، والسبب في ذلك هو أن اتصالنا بأوروبا قد تم على نحو ما اتصل العباسيون بالثقافة الإغريقية، فالذي استطعنا أخذه إنما هو التفكير الأوروبي، وأما الأدب وغيره من الفنون فذلك ما لم نستطع أن نتمثَّله. والذي لا شك فيه أن التفكير المجرد لا يكفي لأن يكون منبعًا لثقافة جديدة دائمة التدفق، والأدب والفن على العكس من ذلك خليقان بأن يفجِّرا في النفس ينابيع جديدة؛ وذلك لأن تمثلهما معناه تمثل نوع جديد من الحياة، وليس أدل على ذلك مما نجده من صعوبة في ذلك التمثل. ونحن على ثقة من أن العباسيين لو أنهم استطاعوا نقل الأدب اليوناني وهضمه لتغير التاريخ الثقافي للعرب، ولكن كيف كانوا يستطيعون ذلك، وهم لم يقروا على غير أرسطو من الفلاسفة؟! فأفلاطون نفسه لم يعرفوه معرفة عميقة، وذلك لسبب بَيِّن هو أن فلسفة أفلاطون فلسفة حيوية شعرية، من دعائمها الصور والأساطير، وتلك أشياء كانت بعيدة عن محيط العرب العقلي والشعوري. وأما أرسطو فيمثل الروح الرياضية، روح التفكير المجرد الذي يستطيع كل عقل أن يدركه.

ونحن في عصرنا الحاضر نستطيع أن نجاري التفكير الأوروبي أو أن نضيف إليه إضافات حقيقية إذا اكتفينا بنقل هذا التفكير؛ وذلك لأن الفكرة التي تبنى على فكرة أخرى لا تلبث أن تنحل متعثرة في فتات المنطق، وإنما التفكير الخصب هو الذي نستمده من الحياة ونبنيه على الواقع. وعلى هذا، لا يكون لنا بد إذا أردنا أن نجدد حياتنا الروحية من أن نغير من مقومات تلك الحياة واتجاهاتها وقيمها، وهذا لن يكون إلا إذا تغذينا بالآداب والفنون الأوروبية من تصوير ونحت وموسيقى.

هذا الغذاء الروحي الجديد هو ما يدعونا إليه توفيق الحكيم في «زهرة العمر»، وهو بهذا يدعونا إلى مرحلة جديدة من مراحل حياتنا الروحية، ونحن لا ريب ندرك ما في هذا من مشقة، فثمة طبائع متأصلة وعادات راسخة واتجاهات نفسية عميقة، تنهض في سبيل تلك الدعوة. ونحن لا نجهل أيضًا أن كافة النفوس ليست في مرونة نفس الحكيم وغيره من النفر القليل الذين أفادوا من إقامتهم بأوروبا إفادة حقيقية، ومن حولنا عشرات منهم بل مئات ممن قضوا السنوات الطوال بالغرب، ثم عادوا وقد تكون برءوسهم نظريات كثيرة وآراء لا تحصى، ولكنهم لم يتمثلوا الحياة الأوروبية والإحساس الأوروبي والثقافة الأوروبية بمعناها الصحيح. هذه كلها صعوبات لا شك فيها، ولكننا مع ذلك غير يائسين من الوصول إلى حالةٍ خير من حالتنا الراهنة. وأنا على تمام الثقة من أن كتاب الحكيم سيثير في نفوس قرائه تشوقًا حارًّا للثقافة الحقيقية، وبخاصة في نفوس الشباب الذين لا يزالون في دور التكوين، وهذا هو سر انشراح صدري للكتاب.

والذي أحرص عليه في خاتمة هذا النقد هو ألا يضيق القارئ نفسًا بما يحس من تبرم الكاتب بحياتنا المصرية الراهنة، فتلك حالة نفسية قد يصعب فهمها على مَن لم ينفذ مِن الثقافة الأوروبية إلى مثل ما نفذ إليه الحكيم. ولكنني أؤكد عن خبرة أن تبرُّم الحكيم له ما يبرره، وما ينبغي أن نطلبه إلى الكاتب إنما هو الإخلاص والإيمان بما يقول إيمانًا قلبيًّا، والحكيم هو ذلك الكاتب.

١  الصوى: أحجار توضع كعلامات في الطريق.
٢  أنا أذكر دائمًا خير الأبيات في نظري.
٣  من المعلوم أن هذه القصة للدكتور طه حسين.
٤  مقدمة الكتاب.
٥  ص٣٠.
٦  ص: ٥٥-٥٦.
٧  ص٢١٦.
٨  أريد أن ألفت النظر إلى أنني أناقش هنا رأي الكتَّاب في قيمة فن العبارة، وليس معنى هذا أنه ليس للحكيم أسلوب تعبيري، فهذه مسألة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤