مناهج النقد

تطبيقها على أبي العلاء

(١) الأدب ومناهج النقد

البحث عن الحقائق في الإنسانيات شاق، لما هو واضح من أن مثل المرء عندما يحاول فهم نفسه، كمثل العين تبغي رؤية نفسها، والنفوس بها وحدات قل أن تتشابه في غير جوانبها العامة التي لا تعني الأدب في شيء، ومثلها في ذلك مثل كل الكائنات، فأنا أعرف شجرة الزيتون أو شجرة الرمان، وأما مطلق شجرة فهذا ما لا أكاد أدركه، وبالمثل أعرف شكسبير أو جيته، وأما مطلق رجل فذلك ما لا وجود له في الواقع، بحيث يخيل إليَّ أن في تفكيرنا فسادًا أصيلًا، مصدره ذلك التجريد الذي مكنتنا منه ألفاظ اللغات.

ولهذا أراني دائمًا شديد الحذر من كل تعميم، فقد أستطيع أن أطمئن إلى تصوير أديب ما لنفسية ما في رواية ما، ولكني أرفض أن أثق بما يقوله الفلاسفة أو علماء النفس عن الإنسان إطلاقًا أو ملكة من ملكاته؛ لأني أحس دائمًا أن حديثهم لا يلقى حقيقة أي نفس ممن أرى حولي.

وإذا صح أن النفوس وحدات غير متشابهة في خصائصها المميزة، وأن التجريد حيلة عقلية، وضح ما في البحث عن حقيقة الأدب وقيمه الفنية من صعوبات.

النقد الذاتي والنقد الموضوعي

يقرأ الناقد القصيدة من الشعر ثم يتساءل عن رأيه فيها، وإذا به يصدر ألوانًا من الأحكام يسمون بعضها «قيمية» وهي ما تدور حول الجودة وعدمها، في سلم للقيم يضعه كل ناقد لنفسه، وبعضها «واقعية» يستمدها من حقيقة ما ينقد، كوصفه للقصيدة بأنها شعر عقلي أو عاطفي أو حسي، وأحكامه في كلتا الحالتين، إما أن تكون مطلقة وإما أن تكون نسبية؛ أي مردودة إلى ملابسات القصيدة، من حالة نفسية لقائلها أو ظروف خاصة بعصره أو ضرورة لموضوع الشعر، أو ما شاكل ذلك مما ينقل الحكم من الإطلاق إلى النسبية.

فإذا كان رأيك عن «قيمة» القصيدة، وكانت أحكامك «مطلقة» جاء نقدك — فيما يقولون — نقدًا ذاتيًّا، وإلا فهو موضوعي.

وهذا قول يبدو سليم المنطق، ولكنك ما تكاد تمعن النظر حتى تحس بوهنه؛ وذلك لأن كل حكم قيمي لا بد راجع إلى حكم واقعي، فالناقد الذي يحتمي وراء ما يسميه ذوقه الخاص إنما يحيلك في حقيقة الأمر على مجموعة من الآراء السابقة المقررة، التي تبلورت في نفسه بوعي منه أو على غير وعي، بحيث نستطيع أن نقول: إن الذوق ما هو إلا راسب من رواسب العقل الخفية.

يقسم ابن قتيبة الشعر — مثلًا — إلى أربعة أضرب: ضرب حسن لفظه وجاد معناه، وضرب حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، وضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وضرب تأخر معناه وتأخر لفظه. وفي تلك التقاسيم والألفاظ ما يدل على أن أحكامه قيمية، بدليل قوله: «حسن» «جاد» «وحلا» «وقصر» «وتأخر» وهي أحكام مطلقة إذا لم يعلقها على توافق بين لفظ ومعنى أو بين قائل ومقول أو بين الشاعر وعصره، فهو إذن ناقد ذاتي.

ومع ذلك ما تكاد تمعن البصر حتى ترى أن أحكامه القيمية هذه تستند إلى حكمين تقريرين سابقين هما اللذان أملياها:
  • (١)

    أولهما: أن اللفظ في خدمة المعنى، وأن المعنى الواحد يمكن أن يعبر عنه بألفاظ مختلفة يحلو بعضها ويقصر الآخر.

  • (٢)

    ثانيهما: أنه لا بد لكل بيت من الشعر من معنًى.

ولنناقش هذين الرأيين.

فأما اللفظ في خدمة المعنى أو للعبارة عنه فنظر جزئي هو الذي تلف ذوق ابن قتيبة على غير وعي منه، بل هو إحدى تلك المسلمات التي أفسدت الكثير من أدبنا العربي ومن نقد نقادنا، وذلك لوجوب التمييز بين نوعين من الأساليب:
  • (١)

    الأسلوب العقلي الذي نستخدمه في العلم والتاريخ والفلسفة وأدب الفكرة إن صح أن يسمى ذلك أدبًا، وعلى هذا الأسلوب تصدق وجهة نظر ابن قتيبة؛ إذ اللفظ عندئذٍ لا يقصد منه إلى غير العبارة عن المعنى، بل نحن نذهب إلى أبعد مما ذهب إليه العرب، فنقول: إن المعنى الواحد لا يمكن أن يعبر عنه إلا بلفظ واحد، فاللغات لا تعرف — ولا يجب أن تعرف — الترادف، وأمر الألفاظ كأمر الجمل، فالكاتب الحق هو الذي لا يطمئن حتى يقع على الجملة الدقيقة التي تحمل ما في نفسه حملًا أمينًا كاملًا، بحيث تصبح العبارة كجسم حيٍّ لا يمكن أن ينتقص منه أو يزداد عليه شيء. والتحدث عندئذٍ عن العلاقة بين اللفظ والمعنى كالتحدث عن شفرتي مقص، والتساؤل عن جودة أحدهما كالتساؤل عن أي الشفرتين أقطع. وإنما لك أن تحكم على المعنى المعبر فتقبله كرأي مصيب أو ترفضه كرأي باطل.

  • (٢)

    الأسلوب الفني: وهذا هو أسلوب الأدب بمعناه الضيق كما يفهمه الأوروبيون بل هو الأدب ذاته إذا سلمنا — كما سنرى — أن الأدب «هو العبارة الفنية عن موقف إنساني عبارة موحية»، واللفظ عندئذٍ لا يستخدم للعبارة عن المعنى، بل يقصد لذاته؛ إذ هو في نفسه خلق فني، فمن اليسير مثلًا أن نقول: «إن وقت الظهيرة قد حان» فنؤدي المعنى الذي نريد أن ننقله إلى السامع، ومع ذلك يقول الأعشى: «وقد انتعلت المطي ظلالها» للعبارة عن نفس المعنى، فنحس لساعتنا أن عبارته فنية: «وسارت الإبل في الصحراء عائدة من الحج»، كما يقول ابن قتيبة، وكما يريد أن يفهم من قول الشاعر: «وسالت بأعناق المطي الأباطح»، ولكن عبارة الشاعر عبارة فنية قصد منها إلى نشر ذلك المنظر الجليل أمام أبصارنا؛ منظر الإبل قادمة من مكة متراصة متتابعة في مفاوز الصحراء، وكأن أعناقها أمواج سيل يتدفق، وكذلك يستطيع مؤرخ أن يقول: إن العرب أنهكوا الفرس، وأما الأعشى فيقول: إنهم تركوهم «وقد حَسَوا بعدُ من أنفاسهم جرعا»، ولقد نصف الصحراء بأنها جرداء تمل عابريها، وأما الشاعر فيقول: «وغبراءَ يقتات الأحاديث ركبُها»، وفي هذه الأمثلة الأربعة أربعة أفعال.

«انتعل» و«سال» و«حسا» و«اقتات» وهي أمارة الفن في العبارة، ولها وظيفتان:

أولاهما: أنها تعبر عن المعنى عبارة حسية؛ لأن كلًّا منها يحمل صورة تدركها الحواس، فالإبل تنتعل الظل، وأعناق المطي تسيل في الصحراء، والفرس يجرعون أنفاسهم، والركب يقتات الأحاديث، وهذه خاصة من أهم خصائص الأسلوب الفني، وأعني بها أن «تصاغ العبارة من معطيات الحواس»، وذلك على خلاف الأسلوب العقلي؛ حيث تكثر المعاني المجردة والألفاظ المجردة التي إن حملت صورة، فصورة عامة كتلك التي نجدها في معظم تلك الألفاظ التي أصبحت «مجازات ميتة» أمثال: الرفعة، الانحطاط، التي لم يعد أحد يفكر فيما اشتقت منه من «رفع» و«حط».

ووظيفتها الأخرى أنها تربط بين عوالم الحس المختلفة، فتحررنا مما اضطرَّنا إليه ضعف عقلنا من تقاسيم مفتعلة؛ وذلك لأنه ليس من الصحيح أن كل حاسة من حواسنا قد ذهبت بطائفة من المدركات، ولا أدل على ذلك من أننا نستطيع أن ندرك الفجر، وأن نحس بنداه في نفوسنا بطرق شتى من حواسنا: عن طريق الأذن عندما نسمع لحنًا موحيًا، وعن طريق البصر إذا ما رأينا أول أشعته رؤية مباشرة أو في لوحة فنان، بل إن من النحاتين من استطاع أن يحمل الحجر وقعه في النفس، بأنْ مثَّل فتاةً تخلع عنها غلائل النوم، وإلى ساقها طائر يبسط جناحيه البليلين. والشعراء بدورهم يصلون إلى ما يصل إليه كل هؤلاء، عندما يحدثنا أحدهم عن بزوغه وقد لاحت بالآفاق «أصابعه الوردية» بما فيها من رقة وصفاء.

وإذا صح أن معطيات الحواس تتلاقى في النفس التي تكون كلًّا لا يعرف تقاسيم العقل، استطعنا أن نفهم معنى الخلق الفني عند الشعراء؛ إذ كثيرًا ما يكون بفضل إمكان تبادل الحواس صورها، إمكانًا نفسيًّا لا شك فيه. فهذا شاعر إنجليزي يطيل التحديق في ضوء المصباح فيقول: «إنه أخذ ينظر إلى الصمت في جوف الضياء.» وذلك آخر فرنسي يتحدث عن أزهار الربيع التي ترسل عطرها إلى السماء كما يرتفع البخور إلى قباب الكنائس، فترى الأول وقد تمثَّل الصمت شيئًا يُرى، بينما بعثت نشوة الربيع بالآخر ما يشبه إيمان اليافع في قوته، فرأى الطبيعة معبدًا تحوطه آفاق السماء وكأن عطر الزهر بخور. ومن الشعراء من يذكر «شربه» «للون» الشمس السائل، ومنهم من «يرى» ضوء أمسية الخريف في نعومة اللؤلؤ.

بل إن منهم من تتلاقى في عبارته وحدة النفس بوحدة الوجود على حد قول بودلير: «إن الأشياء تفكر خلاله كما يفكر خلالها»، وذلك عندما تأخذه نشوة الأحلام، فإذا بذاتيته قد امَّحت لتخلط بما يحوطه من جلال الطبيعة. ولكم من مرة نستمع إلى «همس» الرياح، فنفهم أنفسنا بصور الأشياء، كما نخلع على الطبيعة معاني الإنسان، ولكن تهزنا كلمة كيتس «عندما يأتي إلى جواري عصفور ينقر الحصى يخيل إلى أني أنقر معه وأني أشاطره حياته.»

وفي هاتين الوظيفتين ما يساعد على إيضاح تعريفنا للأدب بمعناه الصحيح «إنه العبارة الفنية عن موقف إنساني، عبارة موحية»؛ إذ من البين أن كل أدب هو قبل كل شيء صياغة لموقف إنساني، وأن بين الأمرين رابطة وثيقة؛ إذ في تلك الصياغة يتركز موقف الكاتب مما أمامه من عالم النفس أو عالم الطبيعة، وفي الصيغة التي يختار ينساب ذلك العنصر الشخصي الذي يميز الأدب عن التفكير المجرد، فهو يضيف إلى موضوع مشاهدته عنصرًا من نفسه أو يتلقى منه عنصرًا، ومن تمازج العنصرين تخرج الصور التي تحقق وحدته النفسية أو تصل بينه وبين العالم الخارجي.

ولتلك الصور قدرة على الإيحاء لا يمكن أن يصل إليها أي تعبير مجرد؛ وذلك لأنه من الثابت أن العبارة الحسية أغنى بقوة رمزها، وما قد يرقد تحتها من احتمالات أو ما تستدعي من إحساسات وخواطر، من العبارة المجردة التي لا تمتلك عادة غير محمولها المحدد.

وهذا هو الأدب؛ إذ فيه عناصره الثلاثة:
  • (١)

    عبارة فنية.

  • (٢)

    موقف إنساني.

  • (٣)

    قوة إيحاء، وقد اتحدت تلك العناصر في وحدة متينة هي وحدة الفن.

وأمر الصياغة في الأدب الفني ليس أمرًا شكليًّا، كما ظن معظم نُقَّاد العرب، فهو ليس أمر مجازات أو تشبيهات تتعلق بظواهر الأشياء، أو تستخدم لإيضاح المعنى أو تقويته، بل أمر الخلق الفني في صميم حقيقته النفسية، كما وضحنا. فالشاعر الذي يشرب لون الشمس أو يحس به في نعومة اللؤلؤ، لا يقصد إلى تجميل معنًى أو تنميق عبارة، وإنما يخلق قيمة فنية، لها أصولها في نفسه، ومن هنا يتمايز الكتاب بطرق صياغتهم، وأدق ما يكون ذلك التمايز في موسيقى كل منهم، والذي لا شك فيه أن لكل نفس موسيقاها الداخلية، وأن الأسلوب هو مرآة تلك الموسيقى، وأن الكاتب الأصيل العميق هو من تحس بموسيقاه دون أن تستطيع إدراكها.

والأمر بعدُ كثيرًا ما يعدو الكتَّاب إلى الشعوب في حدود ما يتشابه فيه أفراد الشعب الواحد، وذلك بنوع خاص في الحكم والأمثال الشعبية؛ ولهذا ترى العربي يحدثك عن «إهداء التمر إلى هجر»، والإنجليزي عن «حمل الفحم إلى نيو كاسل»، والمصري الشعبي عن «بيع المية في حارة السقايين»، وتلك عبارة فنية مختلفة لأداء معنًى واحد هو «إعطاء الشيء لمن لا حاجة له به».

إلى شيءٍ من كل هذه الحقائق لم يفطن ابن قتيبة، فجاء ينقد الشعر في ألفاظه ومعانيه بما يحسبه البعض ذوقًا خاصًّا، وهو في حقيقته رأي سابق مقرر عن خدمة اللفظ للمعنى وإمكان العبارة عن المعنى الواحد بألفاظ مختلفة يحلو بعضها ويقصر البعض كما يقول، دون فهم منه ولا تفصيل لأنواع الأساليب وطرق العبارة، مما أفسد الكثير من أحكامه.

مشكلة المعنى

وكما يرجع ذوق ابن قتيبة إلى رأي في العلاقة بين اللفظ والمعنى، كذلك يستند إلى إحدى المسلمات الأخرى، وهي ضرورة حمل البيت لمعنى من المعاني، وبمراجعة الأمثلة التي أوردها يخيل إليَّ أنه يقصد بالمعنى أحد أمرين:
  • (١)

    فكرة.

  • (٢)

    معنًى أخلاقيًّا.

فأما الفكرة فبدليل أنه ينتقد الأبيات الآتية لخلوها فيما يقول من كل معنًى مفيد:

ولما قضينا من منًى كلَّ حاجة
ومسَّح بالأركان من هو ماسح
وشُدَّت على حدب المطايا رحالنا
ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح

إذ من الواضح أن هذه الأبيات الجميلة التي نثرها ابن قتيبة بقوله: «ولما قطعنا أيام منًى واستلمنا الأركان وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المطي في الأباطح» لا تحمل أية فكرة، وإنما هي قصص فني رائع، سبقنا الجرجاني في «دلائل الإعجاز» إلى إظهار ما بها من صور أخاذة، وخصوصًا في الشطر الأخير «وسالت بأعناق المطي الأباطح.»

ونستطيع أن نضيف إلى ذلك أن الآداب الأوروبية الحديثة قد شهدت مذهبًا قويًّا في أواخر القرن التاسع عشر، مذهب أمثال هرديا Heredia وجوتييه Goutier ممن يقولون بالفن للفن ويجعلون من أسس مذهبهم نظرتهم إلى اللغة نظرة المثالين إلى مقاطع الرخام، أولئك ينتزعون من اللغة صورًا وهؤلاء تماثيل، مع ذلك لم يجرؤ أحد أن يقدح في أدبهم أو يخرجه من فنون الشعر لخلوه من المعاني. وقد رأينا أي دور تلعبه الصور في حياتنا النفسية التي تغذيها كل الفنون، كما رأينا في الأمثلة التي سقناها من الأعشى وغيره تفاهةً ما بها من معنى تفاهة لم تنل مما بها من قيم فنية.

وأما تطلبه لمعنًى أخلاقي فواضح من إعجابه بأمثال قول القائل:

والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع

هذه النظرة — نظرة الفقيه ابن قتيبة — بدورها نظرة ضيقة؛ إذ من الواضح أن مادة الشعر ليست المعاني الأخلاقية، كما أنها ليست الأفكار، وأن من أجوده ما يمكن أن يكون مجرد تصوير فني، كما أن منه ما لا يعدو مجرد الرمز لحالة نفسية رمزًا بالغ الأثر قوي الإيحاء؛ لأنه عميق الصدق على شخصيته. ولعلني لا أعرف لذلك مثلًا خيرًا من قول شاعرنا العربي الدقيق الحس ذي الرمة، وقد حط رحاله بمنزل الحبيبة وتفقدها فلم يجدها:

عشية ما لي حيلة غير أنني
بلقط الحصى والخط في الترب مولع
أخط وأمحو الخط ثم أعيده
بكفي والغربان في الدار وقَّع

فأي معنًى يريد ابن قتيبة من هذه الصور الجميلة الصادقة، صورة شاعر أصابه الحزن بالذهول، فجلس إلى الأرض منهكًا يائسًا يخط ويمحو الخط بأصابع شرد عنها اللب، فأخذت تعبث بالرمال، وفي الغربان الواقعة بالدار ما يملأ الجو أسًى ولوعة، وهل أصدق من هذا وصفًا؟ وهل أقوى منه على إيحاء؟ ولعل صدقه في تناهي بساطته.

وهكذا يظهر لنا ما في نظرة ابن قتيبة من ضيق عندما يتطلب معنًى في كل بيت من الشعر، كما ظهر لنا فساد رأيه في العلاقة بين اللفظ والمعنى، وفي هذا تفسير لضعف ما يسمونه ذوق هذا الناقد.

والأمر عند ابن قتيبة كالأمر عند غيره ممن نسمي منهجهم بالمنهج الذاتي، فأحكامهم القيمية تستند دائمًا إلى أحكام واقعية، بحيث نستطيع أن نخلص من هذا المقال بالنتيجة التي سبق أن عبرنا بأن الذوق ليس في الحقيقة إلا راسبًا من رواسب العقل الخفية، وأن كل نقد ذاتي هو في حقيقته نقد تقريري.

(٢) أبو العلاء والنقد

لعل أبا العلاء من أكثر مَن تناوله النقَّاد بالدرس من بين شعراء ومفكري اللغة العربية، وما نريد اليوم أن نعرض للأبحاث التاريخية التي دارت حوله كأبحاث نيكلسون ومرجوليوث وسلمون وفون كريمر والراجا كوتي، فتلك تستند إلى مناهج في البحث التاريخي، أكثر اعتمادها على الأدلة النقلية، وهي كتب علمية، نصيب الأدب أو النقد الأدبي منها محدود، وهي وإن تكن غنية بالتفاصيل التي لا بد لمن يريد الحديث عن أبي العلاء من الإلمام بها، إلا أنها لا تغني عن ضرورة تخطيها إلى الفهم العام لنفسية أبي العلاء فهمًا لا يستقيم نقد بدونه. بل إنه لمن الواضح أن أمثال تلك الأبحاث قد تميت أبا العلاء بدلًا بما يفيدون من تجارب الغير، ينفذون إليها ويضيفون إلى حيثيتهم الخاصة التي لا يمكن أن تتسع لكل أنواع التجارب البشرية، وتلك مهمة الأدب الأساسية، إذا فقدها لم يعد لوجوده معنًى إلا أن يكون ضربًا من العبث بالأفكار والألفاظ، يلهو به الناس أو يلهون الغير.

وإذن، فالنقد التاريخي تمهيد للنقد الأدبي، تمهيد لازم، ولكنه لا يجوز أن نقف عنده وإلا كنا كمن يجمع المواد الأولية، ثم لا يقيم البناء. وأنا بعدُ لا أجهل فضل هؤلاء الباحثين الذين يتوفرون على الكشف عن وقائع الحقائق، كما أدرك مدى النشوة العقلية التي يجدونها في شق الحجب عما نجهل من تفاصيل، بل أعلم أن من الأبحاث التاريخية ما ينتهي برد العناصر المستقاة عند الشاعر أو الكاتب إلى أصولها التي استمدت منها؛ وبذا تبصرنا بما عندهم من أصالة. ولكني في الحق شديد الحذر من كل تلك الأبحاث، ولا أكاد أطمئن إلى نتائجها من الناحية الإنسانية؛ وذلك لأني لا أفهم الأدب — كما قلت في مقالي السابق — إلا على أنه تعبير فني عن تجارب بشرية. والكاتب أو الشاعر لا يواجه الناس أو الأشياء وفي نفسه عناصر أصيلة ومستقرة، وإنما يواجههم بنفس مجتمعة موحدة كقطرة من المياه لا تمايز بين ذراتها، وإنه لينفعل بالأشياء والناس كما تتردد الأصداء في أنحاء بناء تام، وإن كانت للأديب صفة نفسية فهي على ما أرجح تلك الوحدة التي تختلط فيها الأفكار بالمشاعر والإحساسات، حتى تحس أن في خياله فكرًا وفي شعوره نظرًا.

ونحن إذ نترك النقد التاريخي إلى النقد الأدبي لا نلبث أن نعثر بأنواع من النقد التقريري الذي لا أحسبه أقل خطرًا على الأدب الحي من سابقه، وهنا لا بد من التمييز بين نوعين متباينين من النقد الأدبي.

فهناك نقد الشعراء والكُتَّاب الذين نادوا بمذاهب معينة في الأدب أو الفن، هذا نوع من النقد نسميه إنشائيًّا ولا نعرض له بتأييد ولا تجريح، وإنما يكون مجال الحديث عنه إذا واجهنا ما يدعو إليه، فنقبله أو نرفضه تبعًا لما نبغي من الأدب، فلشاتوبريان مثلًا أن يفضل وحي المسيحية في نظره إلى الطبيعة على وحي أساطير اليونان، وله أن يقول: إن المسيحية قد ردت إلى الطبيعة ما بها من صمت عميق يحنو على النفس فيرفعها إلى الله، بينما ملأ اليونان حنايا الطبيعة بآلهة وربات استقرت بكل غابة وكل نبع وكل جبل وكل يَمٍّ، حتى لم تعد الطبيعة معبدًا مقدسًا، بل حظيرة لكائنات غريبة. ولهيجو أن يدعو إلى الرومانتزم، ولغيره أن يدعو إلى غير الرومانتزم من المذاهب المعروفة في أوروبا والتي نرجو أن تنشأ عندنا يومًا ما جماعات تدعو إلى مثلها وتقتتل في سبيلها عن إيمان.

وهناك نقد الأدباء والمفكرين الذي نسميه وصفيًّا؛ لأنه يتناول التراث الأدبي الذي خلفه الكُتَّاب والشعراء السابقون والمعاصرون، وكل نقد من هذا النوع نقد تقريري، كما رأينا في المقال السابق، وهنا نصل إلى مشكلة النقد الأساسية.

وذلك لأنه من حقنا أن نتساءل: هل من الممكن أن نستقري مما بين أيدينا من أمهات المؤلفات الأدبية أصولًا عامة للأدب على نحو ما استقرى النحويون قواعد اللغة من الاستعمال، أو استقرى الفلاسفة المنطق من مقولات اللغة؟ وهبنا استقرينا أصولًا كهذه أتراها متحكمة فيما ينتج الأدباء اليوم أو سينتجون في الغد على نحو ما تتحكم قواعد اللغة أو المنطق في تعبيرنا أو تفكيرنا؟ وهل من الخير للأدب أن نقبل هذا القياس، بل هل من الممكن أن نقبله؟

والواقع أن لدينا طائفة من المبادئ قد استقراها النقَّاد بالفعل في كل فرع من فروع الأدب، ومرد الكل إلى أرسطو في كتابيه عن «الشعر» و«الخطابة». ولكنه لسوء الحظ قد حدث في الأدب ما حدث في اللغة؛ إذ جنح الناس إلى اتخاذ تلك المبادئ — التي كانت في الأصل مجرد ملاحظات — كقواعد آمرة على نحو ما نفعل في قواعد اللغة؛ إذ نحاول أن نتخذ عِنانًا يُثني عن كل تطور، فيه لا شك إثراء للغة، كما أنه في طبائع الأشياء باعتبار اللغة أداة يستخدمها أحياء دائمو التقدم أو على الأقل التغير.

هنا يظهر سخف أصول النقد المدعاة. ولكن ذلك لا يذهب بكل قيمتها، فنحن لا نستطيع أن نتجاهل كل ما جرى عليه كبار الكُتَّاب، كما لا نستطيع أن نتجاهل كل قواعد اللغة وإلا كنا جهلة، نخفي جهلنا وكسلنا خلف حرية باطلة ندعيها، فنفسد حياتنا بالعبث بأداة تفاهمنا وإدخال الاضطراب في أصولها. بل نحن نذهب إلى أبعد من ذلك، فنرى في تلك الأصول الأدبية عونًا على الخلق وادخارًا للطاقة، ولا أدل على ذلك من أن الشعر نفسه، وهو أخص ما تمتاز به الآداب — هو أكثر فنونها خضوعًا للقواعد، ولكم من شاعر يحدثك عما وقع عليه من صور رائعة، أو عبارات دالة بفضل ضرورة القافية مثلًا أو استقامة الوزن.

وإذن، فهناك قواعد تؤيدها أمهات الآثار الأدبية التي خلَّفها كبار الأدباء، ولهؤلاء من القداسة ما يحملنا على احترام ما صدروا عنه من أصول، ولا مَعْدِلَ لنا إن أردنا أن نصل إلى مثل ما وصلوا إليه عن أن نهتدي بهم، ولكن على شريطة أن نميز بين عنصرين في الأدب:
  • (١)

    عنصر التجربة البشرية.

  • (٢)

    عنصر الصياغة، ننظر فيها على ضوء الأصول الأدبية.

وأنا أميز بين التجربة البشرية وصياغتها وبالصدر حرج؛ وذلك لأننا مضطرون إلى التمييز اضطرارًا وإن كان الواقع أن بين العنصرين تداخلًا قويًّا، يكاد يكون وحدة في كثير من الأحيان، فالعنصر الشخصي الذي يميز كل أدب عن غيره من مظاهر نشاطنا الروحي كثيرًا ما يكون في الصياغة.

ومع هذا يجب أن نفهم التجربة البشرية في ذاتها، وهذا الفهم ليس بالهين؛ إذِ الأمر بين الكاتب والقارئ أشبه ما يكون بأمر الأواني المستطرقة، فنحن لا نفهم عن الغير إلا إذا اتصلت نفوسهم بنفوسنا. وفهمنا محدود بقدرتنا على الاستجابة، بل كثيرًا ما نخطئ فهم ما نقرأ لأننا نحمِّله فوق ما تستطيع أن توحي به ألفاظه، أو نرى فيه ما لم يخطر ببالِ قائله إن لم نجد بمعانيه وفق هوانا حتى لكأننا نقرأ ما برءوسنا لا ما تقع عليه أعيننا. وفي كل هذا ولا ريب إثراء للآثار الأدبية، ولكنه أيضًا موضع خطر قد يبلغ أحيانًا مبلغ السفسطة الباطلة، وهذه مشكلة تستحق أن نقف عندها قليلًا.

وفي الحق أني لا أعرف أصدق من كلمة للأديب الإنجليزي إيليوت Eliot يقول فيها: «إنه لم يؤثر في الآداب القديمة شيء قدر ما أثرت الآداب الحديثة.» وتلك ظاهرة عمَّت على الشرق والغرب، ففي فرنسا مثلًا رأينا ناقدًا كبيرًا كبرونتيير Brunetiere يطبق نظرية التطور اللاحقة على الأدب السابق، فيحاول أن يثبت أن أنواعه المختلفة قد صدر بعضها عن بعض، كما صدر في وَهْم دارون الإنسان عن القرد، فيقول: إن مادة الشعر الرومانتيكي هي مادة الخطابة الدينية في القرن السابع عشر، لما شاهده من حديث الشعراء الرومانتيكي عن بؤس الحياة وفنائها المستمر وما شاكل ذلك، في نغمة حارة تشبه من قريب أو بعيد نغمة الخطابة.

والأمر عندنا أخطر، فها هو الأستاذ العقاد يقحم النظريات الفلسفية التي تقوم كمذاهب ذات أسس نظرية عميقة شاملة في ميدان الأدب، فيكتب فصولًا طويلة ليدلل على أن أبا العلاء قال بالاشتراكية أو ببقاء الأصلح وما إلى ذلك، مما قد يدل على براعة الناقد، ولكنه لا يغني شيئًا عن فهمنا لنفسية أبي العلاء ومأساته التي صدر عنها في كل ما كتب من شعر إحساس أو فكرة.

ولقد يلقي الأستاذ أمين الخولي محاضرات عامة عن أبي العلاء، فيأتي الجزء الأول منها مستندًا إلى مسلمات غير ثابتة، فهو يفترض أن المفكر الحق هو من يسير في حياته وفق تفكيره، وأبو العلاء لم يفعل ذلك؛ وإذن فهو ليس مفكرًا حقيقيًّا. وهذا قول مردود لما هو معروف عن تاريخ الفلاسفة، أمثال بيكون وسينيك مثلًا من تناقض واضح بين حياتهم وتفكيرهم، ولما هو ثابت بداهةً من أننا لا نسير في الحياة بعقولنا، بل بقوًى دفينة، أغلبها عضوي المصدر، ولكم من مرة نأتي الشر ونحن نعلم أنه شر ولا نستطيع أن نمسك عنه، وهو يحرر قوائم بتناقض أبي العلاء في كل نواحي المعرفة وسبلها، ثم يخلص من ذلك في النصف الثاني من بحثه إلى أن كل ما كتبه أبو العلاء، إن هو إلا خواطر شاعر، وأن مصدر تناقضه هو «مركب نقص» قال به فرويد منذ سنين فلم يأتِ بجديد، وإنما أسرف فيما كانت تعلم الإنسانية من حق منذ قرون، وعممه واتخذ منه مذهبًا. وأتى الأستاذ الخولي فطبقه على أبي العلاء، فيا عجبًا! ولِمَ يدفع هذا المركب أبا العلاء إلى اعتزال الحياة، بينما دفع بشارًا مثلًا إلى المغامرة فيها باستهتار لم نعهده حتى في المبصرين؟

وللدكتور طه حسين كتابان عن أبي العلاء؛ أولهما: «ذكرى أبي العلاء» وهو كتاب طه حسين الشاب الذي كان لا يزال في حماسته الأولى لمناهج البحث العلمي وأقسام الفلسفة، وهو يُعد قريب عهد بالثقافة الأزهرية التي تحرص على محفوظها تستعيره لأداء ما تريد لجمال ما تستشهد به من منقولٍ نثرًا كان أو شعرًا، وفي هذا ما يدعو إلى الانصراف عن مجاراة فكرتنا الأصلية لنمهد للشاهد، فهو منذ المقالة الأولى يريد أن يلم بعصر أبي العلاء، وفقًا لمناهج البحث الحديث «إلمامة الطغرائي بالجزع، تلك التي تمناها لتنقع غلته وتشفي علته، ولتثلج فؤاده وتفيض على نفسه العافية والسلام:

لعل إلمامة بالجزع ثانية
يدب منها نسيم البرء في عللي»

وهو يلم به إلمامة مهما تكن قليلة قصيرة المدى فهي شاملة الخير موفورة النفع عظيمة الغناء:

أَلِمَّا بِمَيٍّ قبل أن تطرح النوى
بنا مطرحًا أو قبل بينٍ يزيلها
فإن لا يكن إلا تعلل ساعة
قليلًا فإني نافع لي قليلها

وهذا كلام جميل وشعر جميل، يدل على ذوق أدبي مرهف، ولكنه ليس من مقتضيات مناهج البحث الحديثة. وما نترك الجزء الأول من الكتاب الذي يلم فيه المؤلف بعصر أبي العلاء وتاريخ حياة أبي العلاء لنصل إلى فلسفة أبي العلاء وشعر أبي العلاء، حتى نجد طائفة من التقاسيم المدرسية التي تقف عند الشكل دون أن تمس الصميم. فهو يدرس شعره في أبواب من مدح وفخر ووصف ورثاء ونسيب ودرعيات ولزوميات، ثم ينتقل إلى نثره بما فيه من نقد وسخرية وخيال ومهارة لغوية، فيتحدث عنه حديثًا موجزًا غير وافٍ، حتى إذا انتهى إلى فلسفته اصطنع لدراستها تقسيم المسلمين للفلسفة إلى أربعة أقسام؛ القسم الأول: الفلسفة الطبيعية أو العلم الأدنى، والثاني: الفلسفة الرياضية أو العلم الأوسط، والثالث: الفلسفة الإلهية أو العلم الأعلى، والرابع: الفلسفة العملية. ثم يتحدث عن كل تلك الأقسام عند أبي العلاء فيورد شعره في المادة والزمان والمكان، وتناهي الأبعاد، ثم الله والجبر والروح والتناسخ والجن والملائكة والنبوات والبعث وأصل الإنسان والغرائز والدنيا والعدم والزواج والمرأة والسياسة والاقتصاد والحيوان والعزلة. وما نظن دراسة كهذه تستطيع أن تنتهي إلى فهم أبي العلاء، ذلك الفهم الرائع الذي انتهى إليه نفس المؤلف في كتابه الآخر الذي ألفه حديثًا، وقد تمت خبرته واتسعت آفاقه، كتاب «مع أبي العلاء في سجنه»، ولكم يخيل إلينا أن كتاب «ذكرى أبي العلاء» أشبه ما يكون بقطعة من الأثاث، تامة التركيب معدة الأدراج أتى المؤلف فملاها، مع أن أبا العلاء لم يكد يثبت على رأي، وإن ثبت فعلى إحساسه بالألم، ولكن طغيان المعرفة الأولى بالفلسفة هو الذي وجه المؤلف تلك الوجهة المدرسية الشكلية.

ونحن بعد ذلك لا نجد في هذا الكتاب عن «رسالة الغفران» العظيمة الخطر في أدبنا العربي شيئًا يذكر، لا عن وحدة تأليفها، ولا عن فكرتها وروحها، ولا عن طرق الأداء فيها. وأما الكتاب الثاني لنفس المؤلف فهو فيما أعتقد خير ما كُتب عن أبي العلاء؛ وذلك لأنه لا يقف عند التفاصيل والأقسام المدرسية التي تفسد وحدة أبي العلاء، بل يتناوله كتجربة بشرية، يقصها بأسلوب جميل ووسائل روائية تغرينا بالقراءة، ولكننا هنا نقع على خطر آخر؛ وذلك لأن المؤلف لم يكد يخلص من طغيان النظرة التعليمية التي ظهرت في أوائل حياته، حتى ضرب في آفاق الثقافة الأوروبية، يحاول في إيمان أن يدخلها في مجرى تفكيرنا، وهذا اتجاه نافع نحن في أشد الحاجة إليه، ولكن على أن نستخدمه في حذر، وألا نسرف في الركون إليه. وأوضح ما يظهر هذا الإسراف في مقارنات المؤلف، ومن هنا لا بد من الوقوف عند هذه الناحية لما لها من عظيم التأثير في توجيه أدبنا الحديث، ولما لهذا المنهج من خطورة.

وأول ما نلاحظ هو عدم التفرقة بين البحث عن المؤثرات وبين إقامة المقارنات، فهو عندما يعرض للمقارنة بين الشاعر اللاتيني لوكريس وأبي العلاء؛ ينكر طبعًا أن يكون أبو العلاء قد عرف لوكريس أو سمع به، ولكنه يعود فيقرر أن لوكريس لم يكن إلا تلميذًا لأبيقور، ويقرر أن العرب قد عرفوا فلسفة أبيقور، وإذن من المعقول أن يكون هناك تشابه بين لوكريس وأبي العلاء وهو يتلمس هذا الشبه في مسائل جزئية وأفكار، في أدب أبي العلاء ما يؤيدها وفيه ما يناقضها، لما هو معروف من أن أبا العلاء لم يثبت قط على رأي. ونحن لم نعرف كيف تأثر أبو العلاء بالفلسفة الأبيقورية، ونحن نعجب من مقارنة لوكريس بأبي العلاء، لما هو معروف من أن للوكريس فلسفة ثابتة مستقرة متماسكة الأجزاء، فلسفة تقريرية في كل مشكلة عرض لها، بينما أبو العلاء رجل ابتلاه الله بمحنة بلبلت أفكاره فلم يؤمن بغير «النعمى والبؤس» وما عدا ذلك فكل شعره ونثره من وحي الساعة ووفقًا لحالته النفسية التي لم يترك لها الألم اطرادًا، فالمقارنة بينهما لا يمكن أن تنعقد. بل إن ما أورده المؤلف من اتفاق على بعض الجزئيات يخيل إلينا أنه غير ثابت، ولنضرب مثلًا بالعلة الغائية (ص٢٣٢ وما بعدها)، فالمؤلف يقول عن لوكريس: إنه ينكر العلة الغائية؛ إذ إن الأعضاء، كما يقول لوكريس «قد أوجدت غايتها ولم توجد هي لتحقيق هذه الغايات.» ومع ذلك نجد في الكتاب السادس من «طبائع الأشياء» للوكريس في الأبيات (١٠٢٣ وما بعده) ما ترجمته «عند كل كائن إحساس بما يستطيع أن يستخدم فيه ملكاته، فالعجل الصغير حتى قبل أن تبرز قرونه بجبهته إذا استثير يحاول استخدامها فيهدد خصمه ويطارده وقد حنى رأسه، وكذلك صغار الفهود والأسود تدافع عن نفسها بمخالبها وأنيابها قبل أن تنمو لها مخالب وأنياب، وأما الطيور بكل أنواعها فتراها تركن إلى ريش أجنحتها طالبة إليها عونًا لم تقو عليه بعد.» ونحن لا نناقش نظرية أبيقور على العموم، ولكن أليس من الواضح أن عبارات لوكريس هذه تدل على وجود العلة الغائية، وعلى أن تلك العلة هي سبب خلق الأعضاء لا العكس؟ والمؤلف يستدل على إنكار أبي العلاء للعلة الغائية بقوله في «الفصول والغايات»: «يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدميه ويسمع الأصوات بيده وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه ويشم الروائح بمنكبه ويمشي إلى الغرض على هامته.» ولست أرى هنا دخلًا للعلة الغائية التي تربط بين العضو ووظيفته، وإنما هنا حديث عن قدرة الله الذي كان يستطيع لو أراد سبحانه أن يجعل من أبي العلاء مبصرًا، وفي القرآن ما يمكن أن يوحي بمثله يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ (النور:٢٤) … إلخ. فما العلاقة هنا بين أبي العلاء وفلسفة أبيقور أو لوكريس؟ وهل هناك نفع من وراء هذه المقارنة أو داعٍ إليها أو حقيقة لها؟ والمؤلف يبني على ذلك نتائج كثيرة تدل على مهارة في التفكير والعرض، ولكني أخشى ألا تلاقي حقيقة أبي العلاء النفسية، كما لا تلاقي حقيقة فلسفة لوكريس أو روحه.

وهناك بعد اتجاه عند نقادنا طالما حيَّر اللب، فهم دائمًا يحاولون البحث عن أوجه شبه في مقارناتهم، وهذا اتجاه خاطئ، فالنفوس لا يمكن أن تتشابه، بل إن نفس الفكرة يعبر عنها أديبان فتكتسب من لون نفسيهما ومن الروابط بعوالم الحس والنفس الأخرى ما يجعلها أصيلة عند كل أديب منهما، على نحو ما تتكون أحاديثنا المختلفة من نفس ألفاظ اللغة الشائعة بيننا، بل على نحو ما تتكون تلك ذاتها من الحروف الهجائية المحصورة العدد، ومع ذلك تتنوع أفكارنا إلى غير حدٍّ كما تتنوع ألفاظ اللغة رغم انحصار وحداتها المكونة.

وهناك عدة أبحاث حول أبي العلاء صادرة عن نفس هذا الاتجاه، منها مقارنة حامد الصواف في كتابه عن عمر الخيام بين عمر وأبي العلاء، ومقارنة قسطاكي حمصي في كتابه «منهل الوراد في علم الانتقاد» بين دانتي وأبي العلاء، ومقارنة الأستاذ علي أدهم في مجلة «الهلال» بين أبي العلاء وشوبنهور.

وكل تلك الأبحاث على اختلافها في الإصابة بعيدة فيما أحسب عن الحقيقة النفسية الثابتة وعن تمايز النفوس تمايزًا لا يمكن أن ينال منه — بخاصة في النفوس الأصيلة — أي وحدة في الجنس أو الزمان أو المكان أو الثقافة، أو غير ذلك مما زعمه «تين» وغير «تين» من النقَّاد الشكليين، الذين فهموا كل شيء غير أصالة النفوس واختلاف طرق انفعالها بما يحيطها من ناس وأشياء، بل بما يدور في حناياها من حس أو شعور أو فكر.

(٣) أبو العلاء و«رسالة الغفران»

رسالة الغفران مجموعة من أصداء محنة أبي العلاء، بحيث لا يمكن فهمها ما لم ننفذ إلى معنى تلك التجربة البشرية التي عاشها أبو العلاء، وأن ندرك نتائجها الخطيرة في إحساسه وتفكيره، وفهم تلك التجربة على وجهها الصحيح هو أهم عمل للناقد؛ وذلك لأن التفسير والبحث عن العوامل التي أثرت في حياة الكاتب أو الشاعر لا يمكن أن ينتهي إلى شيء نهائي، فقد يبصرنا العلماء بما في حياة أبي العلاء من مؤثرات، ومع ذلك يظل دائمًا شيء لا يمكن تفسيره، هو أصالة الأديب التي تتلخص في كيفية انفعاله بتلك المؤثرات، وهذا هو السبب في أن نرى ناقدًا كالدكتور طه حسين يعرض لما كان من تفاوت أثر المحنة عند أبي العلاء وبشار، فلا يجد تعليلًا غير ما يسميه «غريزة أبي العلاء الوحشية»، ومن الواضح أن هذا التفسير لا يغني لما فيه من دور؛ إذ ما نريد أن نفهمه هو سبب تلك الوحشية التي تميز بها.

وإذن، فمحاولة الفهم خير من محاولة التفسير، وعلى أساس هذا الفهم يستقيم النقد أو يعوج، والذي لا شك فيه أن الكثير من النقد الوصفي لم ينجح في أداء رسالته لعجز أصحابه عن كل فهم صحيح لنفوس من ينقدون، بله روح العصر أو الأدب الذي يعرضون له، فالمرء لا يستطيع أن يتذوق الأدب اليوناني مثلًا ما لم يبدأ فيخلق لنفسه روحًا يونانية قديمة بقراءة ما خلفوا من آثار أدبية وتاريخية، حتى يتشبع بروحهم فتتداعى خواطره وإحساساته على نحو ما كانت تتداعى عندهم.

والأمر كذلك في أدبنا العربي القديم فالناقد ذو الخيال القادر على تصور حياة العرب والإحساس بها قدرة الممثل الجيد على أن يحيا الدور الذي يلعب، يستطيع أن يدرك ما في بكاء الديار عند هؤلاء القوم الرُّحَّل من جمال وصدق لا أعرف لهما مثيلًا في أدبنا، ومع ذلك كم نرى من أحمق يسخر من هذا البكاء، بل كم من ناقد لا يرى فيه إلا مجرد تمهيد لأغراض الشعر عند العرب، وهذا نظر فقير لحقائق العربي النفسية، أو قل قصور عن فهم تجارب الغير.

والواقع أن النقد ليس بالمهمة الهينة، ولا هو في مقدور كل إنسان؛ إذ لا بد لمن يريد أن يحاوله أن يكون غنيًّا بتجارب الحياة غنًى يذهب بما في النفس من جمود، بحيث تستطيع أن تخرج من محيطها لتعيش بالخيال في محيط جديد، وهذا يحتاج إلى مرونة نفسية لا تُكتسب إلا بأحد أمرين: إما بالتجارب المباشرة، وإما بالمران الطويل على فهم تجارب الغير كما يقصها الأدباء.

ولقد ضرب النقَّاد عندنا في فهم روح أبي العلاء كل مضرب، وفي الجزء الثالث من «رسالة الغفران» طبعة الأستاذ كامل الكيلاني آراء عديدة لكثير من كبار مفكرينا وأدبائنا، ولكنهم في الغالب لم يخضعوا أنفسهم لمنطوق أدبه، بل أتاه كل منهم بفكرة سابقة في مسألة من المسائل التي يثيرها. وهذا موضع الداء عندنا وأكبر دليل على أننا لا نزال بعيدين عن النضج الأدبي المنشود، الذي يخضع للفن وينتزع منه مدلوله بدلًا من أن يملي عليه رأيًّا كونته لنا من قبل ثقافتنا الإسلامية أو مطالعتنا في كتب الأوروبيين.

فبين يدي الآن رأي للأستاذ عبد الوهاب النجار، يقرر فيه أن أبا العلاء «كان متين الدين قوي اليقين، وأنه كان شديد الوطأة على منتحلي التقوى المتظاهرين بالدين والتصوف»، وأنه «لم يقصد بالدين هزؤًا ولا سخرية، وإنما هو شيء جر إليه الخيال الشعري وأملاه حب الإغراب في التصوير.»

ومن الواضح أن رحمة الله واسعة، وأن أبا العلاء في غير حاجة إلى هذا الدفاع قدر حاجتنا نحن إلى فهم محنة ذلك الرجل ومشاركته إياها لنثرى ونفيد.

وكذلك الأمر في رأي ذلك المفكر الروحي الأستاذ فريد وجدي، فهو يصدر فيه عن فكرة سابقة عن حقيقة الإيمان يحاول أن يطبقها على أبي العلاء دون أن يبصرنا بكيفية استقرائه لها من أدبه، فهي كالقالب يريد أن يصب فيه إيمان أبي العلاء أراد أبو العلاء أو لم يرد، وذلك حيث يقول: «إذا كان التدين هو الخضوع لصورة ذهنية تنتحل صفات علوية منتزعة من الصفات البشرية، والتأمل في الرذائل خوفًا من عقاب، والتحلي بالفضائل طمعًا في ثواب، والتقليد في العبادات والمعاملات، وإهمال أحكام العقل والنظر، والجمود على حالة نفسية لا تتغير، والاستعصاء على ناموس الترقي، قلنا: إذا كان التدين هو تقمص هذه الروح، فإن أبا العلاء لم يكن متدينًا. ولكن إذا كان التدين — على ما نفهمه اليوم من معنى الإسلام — هو محو كل صورة ذهنية وتعريض صفحتي العقل والقلب للوجود المطلق رجاء أن ترتسم عليها الحقيقة تحميها الشكوك من عبث الخيالات، والثورة على كل تقليد يناقض بداهة العقل، وعلى كل نظام لا يوافق سنن الطبيعة، واستشعار الروعة من المجهول الضخم الذي يحيط بنا من كل مكان، والترفع عن الدنايا؛ لأنها لا تتفق وكرامة الإنسان، وإحالة الحاجات البدنية إلى أدنى حدودها، قلنا: إذا كان التدين هو هذا، فإن أبا العلاء كان من أعمق الناس تدينًا.» وهذا كلام جميل، ولكنه لا يتفق مع روح الإسلام ولا مع روح أي دين آخر؛ لأن الدين تصديق وشعائر، كما هو حالة نفسية ومبادئ أخلاقية، وهو لا يتفق مع نفسية أبي العلاء، وإنما هو فهم خاص للأستاذ وجدي يريد أن يمليه على أبي العلاء.

والأمر أغرب في الخصومة التي نشبت بين الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد، والعقاد يبدأ فيؤكد — فيما يعلم — أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته في الأولمب والهاوية. وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيرًا ما تدهشنا لجرأتها. ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسانية، عرفها اليونان قبل لوسيان، وعرفها العرب قبل أبي العلاء. والكل يعلم ما في أساطير اليونان من وصف لنزول أورفيوس إلى العالم الآخر ليسترد منه زوجته أوريديس، والكل يعلم وصف هوميروس لرحلة أوليس، ووصف فرجيلوس شاعر «الإنيادة» لرحلة إنيوس بذلك العالم. كما نعلم جميعًا أشعار المتصوفة في أحلام يقظتهم ونومهم، ومن تلك الرحلات الرائع الجميل، كوصف الحارث بن أسد المحاسبي في «التوهم» الذي نشره المستشرق الدكتور أربري، وصدَّر له الأستاذ أحمد أمين بك. وفي عصر مقارب لعصر أبي العلاء كتب ابن شهيد رسالة «التوابع والزوابع» المنشورة بكتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» (ج١، ص٢١٠)، وهي شديدة الشبه برسالة الغفران. ومع ذلك يؤكد العقاد أن فكرة رسالة الغفران لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان (؟) وهو يخلص من ذلك إلى الحكم على الرسالة بأنها «نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شائق، وفن طريف، وفكرة لبقة، وفذلكة جامعة لأشتات من نكات النحو واللغة، وأما أن ينظر إليها كأنها نفحة من نفحات الوحي الشعري على مثال ما نعرف من القصائد الكبرى التي يفتن في تمثيلها الشعراء، والقصص التي يخترعونها اختراعًا، أو ينظر إليها كأنها عمل من أعمال توليد الصور وإلباس المعاني المجردة لباس المدركات المحسوسة، فليس ذلك حقًّا.»

وهذا كلام غريب يستند إلى مسلمات لا يُعلم من سلَّم بها، وما نعلم أن الأرض قد أنجبت كُتَّابًا يخترعون القصص اختراعًا، كما لا نظن أن أبا العلاء لم يتصور مواقف وأوضاعًا حسية عديدة تحمل ما بنفسه من سخرية. ورد الدكتور طه يجادل العقاد في قدرة الخيال أهي خالقة أو معيدة، وما كان أغنانا عن هذه الخصومة بأن نتناول النص نبين ما فيه دون الرجوع إلى «فلسفة علم النفس».

وكذلك الأمر في مشكلتي «تشاؤم أبي العلاء» و«سخرية أبي العلاء».

ففي «مطالعات» الأستاذ العقاد عدة مقالات عن المعري، ولكن موضع الداء هو دائمًا ما ذكرت من إقحام كُتَّابنا لآراء كونوها من مطالعاتهم في الكتب الأوروبية على أدبنا إقحامًا، بدلًا من الخضوع لذلك الأدب والصبر على فهمه واستخلاص ما به في تواضع وإخلاص. فالعقاد يبدأ بتقرير تشاؤم أبي العلاء (ص٧٠ وما بعدها)، مع أن التشاؤم هو ما نريد أن نعلم لونه ونتائجه. ونحن بعدُ نعلم أن التشاؤم مصدره اتساع الشُّقَّة بين الأمل والواقع؛ أي بين قدرتنا وبين ما نبغي، ولكننا نعلم أن نتائجه تتفاوت في النفوس، فهي عند رجل كأبي العلاء قد تبلغ حد اليأس. واليأس قد يريح بعض النفوس، كما قد يحطم أخرى، واليأس قد يصرف إلى نوع من السخرية أشبه ما تكون بحساسية العقل. وهنا نلمس الاتجاه الصحيح نحو فهم محنة أبي العلاء ككل، وهو ما كنا نبغيه من نقادنا، ولكنهم لم يفعلوا مكتفين بتعميمات لا غناء فيها.

وكذلك أمر السخرية، فقد تحدث عنها العقاد، كما ذكر الدكتور طه حسين أنه أول من لفت الأنظار إليها في «رسالة الغفران»، ولكننا لا نخرج من حديثهما بفهم واضح لتلك السخرية أو تمييز لها عما يشابهها من اتجاهات النفس، وعلة ذلك فيما أحسب هي افتقارنا إلى المفارقات الدقيقة. ولنوضح قليلًا ما نقصد إليه في التشاؤم وفي السخرية.

فالتشاؤم قد يكون تشاؤمًا عقليًّا وليدًا لنظرة فلسفية للوجود وما فيه من قوانين كتشاؤم شوبنهور، وهذا لا يعنينا؛ لأننا لسنا من الطموح بحيث نمتد بضعفنا العقلي إلى الحكم على العالم بأنه خير العوالم الممكنة أو أسوؤها، ولنترك ذلك للفلاسفة يبنون العالم كما يريدون. وإنما يعنينا تشاؤم الأدباء، وتلك صفتهم الغالبة حتى كُتَّاب الكوميديا منهم، وإن تفاوتت ألوان ذلك التشاؤم. فشعراء الرومانتيكية كلهم متشائمون لما في حسهم من إرهاف يبالغ في الشعور بوقع محن الحياة، وعجز الإرادة البشرية عن كبح جماح الأمل. ولقد يولد أحدهم من أصل شريف، ثم تأتي أحداث الحياة فتعطل من قواه وتذهب بأمنه وما كان يبغي من مجد، كما فعلت الثورة الفرنسية بشاتوبريان، فإذا به حزين «يتثاءب الحياة» بدلًا من أن يحياها، وهذا النوع من الاتجاه أقرب إلى الحزن منه إلى التشاؤم.

ومن الشعراء أمثال الشاعر الإيطالي «ليوباردي» من تقعد به آفات الجسد عن المغامرة في الحياة كما يريد، فإذا به يصيح: «إنه ليس إلا جذعًا نخرًا يحس ويتألم.» ومنهم أمثال أبي العلاء ممن نزلت بهم محنة لا فرار منها فأصابهم ما يشبه اليأس من الحياة فتبرموا بها في ضرب من الاستهتار العقلي الذي يلهو بكل فكرة وكل عقيدة وكل عاطفة؛ لأن اليأس لا يستطيع غير ذلك. ومنهم من استهتر عملًا فغامر والتمس اللذات في غير حياء ولا تعفف كبشار، وكان هذا أيضًا مظهرًا ليأسه. والأمر بعد سيان، فاستهتار العقل واستهتار العمل مردهما واحد، ونحن بعد لا ندري إلى أي حد نسمي هذا تشاؤمًا وهو أقرب ما يكون إلى الثورة.

هناك إذن حزن وهناك ألم وهناك يأس وهناك ثورة، ولكل هذه مظاهره، وهي تختلف عن التشاؤم الذي هو توقع دائم لأسوأ الفروض، وتغليب لجانب الشر في الأشياء والناس على جانب الخير فيها. وفي تفكير أبي العلاء شيء من هذا، ولكنه ليس صفته الغالبة، التي نراها في يأسه العقلي الذي يرى إمكان كل رأي ولا يكاد يجزم في شيء برأي، وفي يأسه العاطفي الذي لم يعرف يقينًا غير اليقين بألمه؛ لمحنته التي لا ذنب له فيها.

والسخرية كذلك ألوان نفسية لا عداد لها، فلا أقل من أن نميز بين ما نستطيع التمييز بينه منها. فهناك «روح العبث» المعروفة بالهيومر Humour، وهي غير التهكم sarcasme وغير السخرية بمعناها الدقيق ironie وغير الضحك le comique، فلكل منها مصدره النفسي ولكل منها دوره في حياتنا.

ولجورج ديهامل في كتابه «دفاع عن الأدب» عدة أسطر عميقة يتحدث فيها عن «الهيومر» ويميز بينه وبين ما ليس منه؛ إذ يقول: «إن روح الهيومر تختلف عن روح الإضحاك، فالإضحاك يرمي إلى إثارة الضحك بأسلوب خاص ولغة خاصة، بحيث يصعب أن يستعمل في التراجيديا مثلًا، وهو غير المرح الخالص الذي هو حالة نفسية عارضة يطول أو يقصر دوامها، وليست لها قدرة على الكشف عن حقائق النفس.» وعنده «أن الهيومر نوع من التغير في الضياء، يمكننا من أن نرى الشيء في كافة مظاهره، ولقد يكون بين بعض تلك المظاهر تناقض، بفضله تكتسب تلك المظاهر دلالتها، وفي الهيومر نوع من الخفر والتحفظ وتمالك النفس لا يعرفه الهزل الصريح.» ثم إن «الهيومر استعداد طبيعي في نفس صادقة لا تصدف عن أن تعرف كل ما ترى وأن تقول كل ما ترى وأن تقول كل ما تعرف»؛ أي إنه — على حد قول ديهامل — حيلة نفسية نتخذها للعبارة عن كل ما نريد أن نعبر عنه في خفر وتحفظ، وتلك صفة من صفات أبي العلاء البارزة.

وأما السخرية والتهكم فالفرق بينهما مرده إلى طبائع النفوس، فمن الناس من يسخر من آلامه ليهون حملها عليه، فهي حالة نفسية هادئة أميل إلى الطبع الفلسفي منها إلى طبع الشعراء. وأما التهكم فيصدر عن النفوس العنيفة التي لا ترحم حمق الغير أو جهله فتتهكم منه، فالسخرية أغلب ما تكون من النفس وإليها وإن امتدت إلى الغير ففي رفق، بينما التهكم سلاح قوي ضد الآخرين.

وكل هذه طرق مختلفة للعبارة عن مكنون نفوسنا، الذي لا نريد العبارة عنه عبارة مباشرة، فمن الكُتَّاب أمثال موليير من يضحك من الناس ليقوِّم من اعوجاجهم، ومنهم أمثال شارلي شابلن ممن يضحكنا ليثير شجوننا ورفقنا بضعفاء الناس، ثم ثورتنا على الظالمين منهم، وهناك من أمثال فيجارو الذي يضحك انتقامًا لنفسه وخوفًا من أن يبكي من محنه، ومنهم من ضحكه نقد اجتماعي مُرٌّ لظواهر لا يعرف لها علاجًا، ومن هذا النوع ضحك ربليه Rabelais.

ومن الواضح أن ما نسميه سخرية أبي العلاء ليست شيئًا من كل هذا، وإنما هي عبث يأس، عبث رجل استوى عنده كل شيء؛ لأنه لا يؤمن بغير ألمه، بل ولا يستطيع بطبعه أن يعبر عن هذا الألم إلا في خفر وحياء.

وهكذا يتضح أمامنا الآن بعض الوضوح، أن ما في نفسية أبي العلاء مما يسميه نقادنا تشاؤمًا وسخرية ونسميه ثورة وعبثًا مردهما إلى ما ابتلي به من محنة نزلت فلاقت مزاجًا خاصًّا أنتج ما بين أيدينا من أدبه، ولنصور تلك النفسية كما نفهمها:

يخيَّل إليَّ مفتاح فهمنا لنفسية أبي العلاء ليس في شعره ولا في «الفصول والغايات»، وإنما هو في رسائله لداعي الدعاة؛ حيث يناقش مشكلة الخير والشر، وإرادة الله لهذا الشر أو عدم إرادته. ومن الواضح أنه لم يحرك هذه المشكلة في نفسه غير محنة عماه. ولقد عنَّت مشكلة الشر ومصدره، وإمكان الإفلات منه أو عدم الإمكان أبا العلاء طوال حياته، ولقد انتهى به الأمر إلى اليأس من الفهم؛ ولهذا غلب عليه التفكير الأخلاقي أكثر من التفكير العقلي. ولقد انتهى إلى الشك في كل شيء والاعتقاد بإمكان كل شيء عقليًّا، ليأسه من كل شيء وثقته من عدم إمكان أي شيء عمليًّا. إنه لم يستطع أن يدرك لمحنته حكمة، لِمَ لَمْ يُخلق أو يُترك بصيرًا كغيره؟ ثم من أراد به هذا الشر؟ أهو الله الذي هو سبحانه خير مطلق؟ ثم أما لهذه المحنة من نهاية؟

عللاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفاني

فأي غرابة أن تساوره الشكوك في كل شيء، حتى في الله والأديان، بل في ذلك العقل نفسه الذي عجز عن أن يحل مشكلة الشر فيحمل إلى نفسه الرضا بما قسم له؟! وعنده أن العقل أداة هدم لا يقين:

إذا رجع اللبيب إلى حِجاه
تهاون بالمذاهب وازدراها
فخذ منها بما أدَّاه لب
ولا يغمسك جهل في صراها
وهت أديانهم من كل وجه
فهل عقل يشد به عراها؟

ثم قوله:

اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
دِين وآخر دَيِّنٌ لا عقل له

وإذا كان قد ركن إلى يقين في حياته، فهو لا ريب لم يكن يقين عقل بل يقين حس:

وقال أناس ما لأمر حقيقة
فهل أثبتوا أن لا شقاء ولا نعمى؟!
وشكَّك في الإيجاب والنفي معشر
حيارى جرت خيل الضلال بهم سعيا
فنحن وهم في مزعم وتشاجر
ويعلم رب الناس أكذبنا زعما

إيمانه إذن إيمان بالشقاء والنعمى، شقاؤه هو ونعمى الغير، وذلك لا ريب إيمان سلبي خليق بأن يحطم النفس لا أن يقودها إلى اليقين، ومتى ولَّد الألمُ الإيمانَ؟ والألم سخط وحيرة وتبلبل وضجر، بينما الإيمان اطمئنان وسكون ورضًا وأمان، حتى لتكاد تحس بين الأمرين تناقضًا تامًّا.

يئس أبو العلاء من كل يقين، فاعتزل الحياة والناس رهينًا لمحبسيه أو لمحابسه الثلاثة.

وبذلك أُسدل ستار عليه في حياته العملية، ولكن بقيت حياته الروحية تعمل ما لم يستطع تحقيقه فعلًا من معالجة الحياة والضرب فيها، واتخذ نشاطه العملي ذلك اللون من العبث الذي جاءت «رسالة الغفران» أحد مظاهره.

(٤) «رسالة الغفران»

وقال أناس ما لأمر حقيقة
فهل أثبتوا أن لا شقاء ولا نعمى؟!

بهذا البيت تتركز — فيما أحسب — مأساة أبي العلاء النفسية، على أن نفهم منه أنه هو ذلك الرجل الذي يؤمن بأنه «ما لأمر حقيقة»، وإن آمن «بالشقاء والنعمى»، بل بالشقاء فحسب؛ إذ إنه عرف الألم، وأما السرور فطالما تساءل عن سره:

أعِن باكيًا لجَّ في حزنه
وسلْ ضاحك القوم: مِمَ ابتهج؟

وهو يؤمن بأن الموت حق:

يكرُّ الحول بعد الحول عني
وتلك مصارع الأقوام حولي
كأني بالألى حفروا لجاري
وقد أخذوا المعاول وانْتَحَوْا لِي

فيفزع:

يهال التراب على من ثوى
فآهٍ من النبأ الهائل

فإذا اطمأن فلحديث إحساسه:

متى غدوت ببطن الأرض مضطجعًا
فثَمَّ أفقد أوصابي وأمراضي

أو:

متى ألقَ من بعد المنية أسرتي
أُخَبِّرْهُمُ أني خلصت من الأسر

وهكذا جاء يقين أبي العلاء يقينًا حسيًّا، فهو لا يثق بغير ما تستشعر نفسه، وهو يقين سلبي: يقين بالألم، يقين بالموت، يقين بالخلاص من أسره ومن ألمه، ثم شك فيما عدا ذلك؛ أي في كل ما يحدثنا به العقل أو النقل، سيان في ذلك حديث عقلنا أو حديث عقول الغير، وأيًّا كان مصدر ذلك النقل.

وسر هذه المأساة هو ما ذكرت في المقال السابق من عجز أبي العلاء عن فهم حكمة ما ابتلي به من محنة، مع إحساسه القوي بوقعها في نفسه؛ يقين من الألم وعجز عن الفهم، هذا هو مصدر الحالة النفسية التي تحكمت في كل ما كتب.

نزلت بالرجل محنة العمى، وهو المرهف الحس المعتز بملكاته، فتألم ألمًا مبرحًا، ويئس من الإفلات منها، ثم حاول أن يجد في فهم سرها عزاء، فيئس من الفهم أيضًا، ولكأني به يتساءل في فزع: ولِمَ ابتُليت دون غيري؟ وهل لم يكن من الممكن أن أكون بصيرًا كسواي؟ وطغت الممكنات على تفكيره، فانتهت به إلى ذلك الاستهتار العقلي الذي يفسر الكثير من متناقضاته، كما نجده في أساس ذلك العبث الذي يطالعنا في رسالته.

والذي لا شك فيه أن طول الإحساس بالألم والعجز عن الخلاص منه أو التسليم بحكمته خليق بأن يقود إلى نوع من اليأس العقلي يردد كل رأي ولا يؤمن بأي رأي، وقد امحت قيود الواقع التي تحكم تفكيرنا وتقضي فيه بالصحة أو البطلان. وهذا ضرب عنيف من الثورة العقلية كم سِيق إليه رجال ممن يعجزون عن تغيير الواقع فيرفضونه، وكأن لا وجود له، وقد ذهب إيمانهم بكل شيء وبكل أحد؛ لأن قوة إحساسهم بالألم لا تدع في نفوسهم فراغًا لغيره.

لم يستطع أبو العلاء أن يرضى بالواقع، فرفضه في ثورة عنيفة لم تجتحْ واقعه هو فحسب، بل اجتاحت كل واقع، وضرب بعقله الجريح في عالم الممكنات، وقد أرهف الألم تفكيره، فإذا به عابث، والعبث أكبر مظاهر حساسية العقول.

ألا تذكر قوله في «الفصول والغايات»: «يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه ويسمع الأصوات بيده وتكون بنانه مجاري دمعه ويجد الطعام بأذنه ويشم الروائح بمنكبه ويمشي إلى الغرض على هامته»، وكأني بنجوى نفسه تهمس: «وإن صح ذلك فلِمَ لم يتركني بصيرًا؟» و«فنيت بنفسه، بيض الأماني والظلام ليس بفان»، فتزعزع إيمانه بكل ممكن، وكيف يؤمن والواقع يثقله؟ وإذا عزت الممكنات أحالها ألم الواقع ضربًا من العبث نجد فيه عيدًا من أعياد الذكاء ننتقم به من كل المحن.

وفي جنة أبي العلاء من هذه الممكنات أنواع في تصورها نفسه أكبر ثورة على حقائق الإيمان، فكيف بها وقد أحالتها روح العبث نسبًا تتقابل فتفتر لها الشفاه، فهذا أعشى قيس وقد أصبح «شابًّا غرانقًا وصار عشاه حورًا، وانحناء ظهره قوامًا.» وهؤلاء عوران قيس الخمسة «لم يرَ ابن القارح أحسن من عيونهم في أهل الجنان.» وهذا زهير الشيخ الفاني «شاب كالزهرة الجنية كأنه ما لبس جلباب هرم ولا تأفف من البرم.» بل إن الجارية توفيق السوداء لتستبدل بسوادها بياضًا أنصع من الكافور.

ومن عجب أن يصير الناس إلى هذا التغيير في جنة دخلها أسد القاصدة لافتراسه عيينة بن أبي لهب، كما دخلتها حية رضابها أصبح أفضل من الدرياق؛ لأنها حفظت القرآن إذ سكنت في دنيانا دار الحسن البصري وطال استماعها تلاوته للكتاب، بل دخلها «أخنس ذيال لأنه كان يروض في بعض القفار فمر به ركب مؤمنون قد كرى١ زادهم، فصرعوه واستعانوا به على السفر، فعوضه الله بأن أسكنه في الخلود»، ثم «علج وحشي ما التلف عنده بمخشى، إذا صاده صائد بمخلب وكان إهابه له كالسلب، فباعه في بعض الأمصار، فاتخذ منه غرب٢ شُفي بمائه الكرب، وتطهر بنزيعه الصالحون فشملته بركة من أولئك، فدخل الجنة يرزق فيها بغير حساب.» وليست تلك جنة القرآن التي يعاود المؤمنون فيها شبابهم وجمال أجسامهم ولَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ، وإنما هي ممكنات يعبث بها عقل أبي العلاء المضنى، وقد أتاحت النهز لذلك العبث ذكريات الأدب، بل تداعي الألفاظ، كَحَوَرِ الأعشى وبياض السوداء وما إلى ذلك مما لا حصر له في كل ما كتب المعري، وفي الحق إن جنة أبي العلاء مثلها كلها مثل الحور العين التي حدث عنها أحد الملائكة ابن القارح قائلًا: «إنها على ضرب خلقه الله في الجنة لم يعرف غيرها، وضرب نقله من الدار العاجلة لما عمل من الأعمال الصالحة»، فهي مزيج عجيب من ماضي العرب وجنة الخلد، وفي ذلك الماضي، كما في حقائق الجنة ما يمكن أبا العلاء من أنواع من الممكنات، في نسبها وقلبها للأوضاع — بما يحوط ذلك من منحى الدراما وواقعية الحديث — ما يمكن لروحه العابثة، فلقد نرى فيها أحمد بن يحيى وقد غسل قلبه من الحقد على محمد بن يزيد فصارا يتصافحان ويتوافيان، وسيبويه وقد رحضت سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة الكسائي وأصحابه لما فعلوا به في مجلس البرامكة، فهم كما جاء في الكتاب العزيز: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ. بينما نرى النابغة الجعدي والأعشى يتشاجران، كما يتشاجر الشعراء، وتبلغ الخصومة بهم حد الإقذاع وكأنما قد «نزفوا٣ فيصيح الجعدي بالأعشى: اسكت يا ضل ابن ضل، فأقسم أن دخولك الجنة من المنكرات، ولكن الأقضية جرت كما شاء الله، لَحَقُّكَ أن تكون في الدرك الأسفل من النار، ولقد صلي بها من هو خير منك، ولو جاز الغلط على رب العزة لقلت إنك قد غُلط بك.»

وهكذا يتصافى من احتدمت بينهم الخصومة بدنيانا، بينما يتقاتل من لم يرد عنهما اقتتال، وهكذا دأب أبي العلاء المتصل، حتى لتراه يصرف عدي بن زيد إلى ما ألف في دنياه من قنص، رغم ما في الجنة من متع وخيرات وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ، كما يأبى الهذلي إلا أن يحتلب ناقة مطلقة قيضها الله بقدرته إرضاء لهوى نفسه التي لا تتذوق إلا ما اعتادت رغم ما في الجنة من أنهار من لبن، حتى إذا أصاب ما يريد صاح أنِ الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الأعراف:٤٣).

وعند أبي العلاء أنه ما دمنا قد رفضنا الواقع وثرنا على ظلمه حتى تحرر العقل من حكمه «فليس ثمة شيء على قدرة ربنا بعزيز»، بل قدرة خياله هو وعبثه الجريح، فللنفوس أن ينتزع غلها أو يعود وللجنة أن تضم خيار البشر أو الوحوش، ولسكانها أن ينعموا بلذاتها أو يعودوا إلى ما ألفوا من قنص واحتلاب، بل للهذلي أن يحمد الله على أن هداه إلى حليبه وأن يرى في ذلك الحليب تلكم الجنة التي يورثها المؤمنون، فالأمر كله عبث «وما لأمر حقيقة».

بل للكائنات أن تتناسخ، كما يحلو للتصور ويمكن من العبث، فإذا مر بابن القارح رف من الإِوَزِّ انتفضنَ فصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنة وبأيديهن المزاهر وأنواع ما يلتمس من الملاهي، بل لشجر الجوز أن يينع لوقته ثم يساقط عددًا لا يحصيه إلا الله، وتنشق كل واحدة منه عن أربع جوار يرقن الرائين، يرقصن على أبيات منسوبة للخليل، كما يعبر طاوس من طواويس الجنة يسر من رآه حسنًا، فيشتهيه أبو عبيدة مصوصًا٤ فيكون كذلك في صفحة من الذهب، فإذا قضى منه الوطر انضمت عظامه بعضها إلى بعض، ثم يصير طاوسًا كما بدأ، فتقول الجماعة: «سبحان من يحيي العظام وهي رميم»: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة:٢٦٠).

ولقد يكون في هذا ما يتفق مع ما قال به الهنود أو اليونان من تناسخ علم به أبو العلاء، ولكن الوقوف عند هذا الفهم لا يرينا من نفسية أبي العلاء إلا شكلها الخارجي، وأما صميمها فهو فيما أعتقد من إيمان بالألم يقابله يأس من اليقين العقلي، وثورة على الواقع، وعبث بالممكنات، وفي هذا جماع حقيقته النفسية.

وتلك تجربة أبي العلاء لا يغني في فهمها منهج ولا أصول للنقد؛ لأن النفوس كما قلنا ليست قطرات ماء أو أوراق شجر يمكن أن يشابه بعضها بعضًا، وإنما هي حقائق فريدة تُحس أكثر مما تدرك.

فأبو العلاء لا يشبه أحدًا على الإطلاق، فلقد التمس له النقاد أشباهًا من لوكريس إلى أناتول فرانس إلى دانتي إلى ملتون إلى شوبنهور إلى الخيام، وليس في كل ما كتب إلا ضروب من التجوز وإغفال لدقيق المفارقات؛ إذ أين إيمان دانتي وملتون من يأس أبي العلاء؟ وأين تقريرات لوكريس من عبث رجلنا الفكري؟ وأين تشاؤم شوبنهور الفلسفي من ثورته العاطفية؟ وأين سخرية أناتول فرانس من استهتاره؟

ثم كيف تنعقد مقارنة بين الخيام والمعري، والخيام رجل عاف الحياة لطول ما انغمس في خمرها، حتى إذا هفت نفسه إلى الفناء المطلق أحسسنا فيه لساعتنا عدميًّا واعيًا بما يفعل، صادفًا عن ملل: «ملك يا إلهي وجودي وضيق صدري وفراغ يدي، يا من يجعل من العدم وجودًا أخرجني من عدمي بحرمة وجودك»، بينما أبو العلاء رجل لم ينصرف عن متع الحياة إلا لأن خيارها «قد خنس عنه» فالتمس في أعياد الذكاء عزاءً عن الحرمان.

وواجب النقد فيما أحسب هو فهم تجارب الكُتَّاب والشعراء فهمًا نفسيًّا لا تحده أصول ولا يمليه علم، وإنما نستعين بالعلم وبالأصول عند دراسة صياغة ما كتبوا.

و«رسالة الغفران» من هذه الناحية ليست «كتوهم» المحاسبي الذي يطلب إلى قارئه أن يتصور ما هو صائر إليه من نعيم أو عذاب في آيات القرآن وأحاديث النبي مما يبصرنا بوقعها في النفوس، إن لم يبصرنا بمجسماتها على وجه التحديد، وهي ليست كخلق العالم وخروج آدم من الجنة، كما فعل ملتون في «فردوسه المفقود»، بل ولا تصويرًا شعريًّا للعالم الآخر، كما يحدثنا الإسلام، وإنما هي حيلة أدبية تجمع كما قلنا بين بعض حقائق الدار الأخرى وبين أدباء وكُتَّاب العرب، كما يحدثنا عنهم التاريخ.

وأبو العلاء يفكر أو يعبث بكل هذا معتمدًا على ما يحفظ، يهيئ له المناسبات، بحيث إن وحدة تأليفه لا تلوح في غير تداعي الألفاظ، أو على الأكثر تداعي المعاني لروابط شكلية أكثر منها داخلية.

وهذه الحقيقة أظهر ما تكون في هيكل الرسالة، فلقد بدأ المعري بأن نقل ابن القارح إلى الجنة رأسًا بفضل كلمه الطيب الذي يستطيع أن يصعد به إلى السماء، وهناك لقي من لقي من شعراء، حتى إذا كان بينه وبين أحد عوران قيس حوار يسأل فيه ابن القارح أعور قيس عن بعض أبياته، فلا يذكرها مدعيًا أن وقفة الحشر قد أنسته كل شيء، ذكَّره ابن القارح بما نسي، فيعجب الرجل من عدم ذهاب ذاكرة ابن القارح مع أنه قد مر بلا ريب بالحشر وبالصراط قبل أن يصل إلى الجنة. وهنا يحتال أبو العلاء فيعود إلى ما كان يجب أن يبدأ به فيدفع ابن القارح إلى سرد قصته الممتعة على عبور الصراط وكأنه في سبيل العبور بالفعل، ثم يعود به إلى الجنة ومنها إلى الأعراف يشرف من عليائها على أهل النار، وفي النهاية يرجع ثانية إلى الجنة. وبهذا ينتهي الجزء الأول من الرسالة وهو الذي يعنينا، إذِ الجزء الثاني رد على رسالة ابن القارح عن الزندقة والزنادقة.

وفي الحق أن من الروايات ما يبدؤه كُتَّابه من منتصف القصة، بل أحيانًا من نهايتها دون أن ينال ذلك من جمال القصص إن لم يزده تشويقًا، ولكن هذا ممكن عندما يكون للقصة موضوع واحد يفسر بعض أجزائه البعض الآخر، وأما في «رسالة الغفران»؛ حيث الأمر كله أمر مناظر مختلفة وحوادث متفرقة، ومقابلات شتى بين أمكنة متعددة وأشخاص متباينين، فنظام يلوح مهشمًا.

نعم، إن دانتي قد أسرف في تنظيم «كوميدياه» وأَمَلَّ بعض الملل بتقاسيمه المنطقية التي عهدها كل رجال القرون الوسطى، فجعل كلًّا من الجحيم والمطهر والجنة تسع طبقات، كما جعل من وصفه لكل منها ثلاثًا وثلاثين أغنية لولوع المسيحيين بالعدد ثلاثة ومضاعفاته، تقديسًا لثالوثهم الإلهي. ولكن أبا العلاء بدوره قد أهمل وحدة التأليف إهمالًا تامًّا، بل نحن لا نظن أنه قد قصد إلى شيء من هذا، وإنما هي كما ذكرت مجموعة من تداعي ما يحفظ، ولعله في هذه الرسالة قد كفَّر عما في «لزومياته» و«فصوله وغاياته» من تنظيم وتقييد أضنياه أكثر مما يضنيان القارئ اليوم.

ومع هذا فنحن لا نتخذ من انعدام الوحدة سبيلًا للحط من قدر هذه الرسالة الممتعة؛ إذ فيها من الصفات الأخرى ما يحتفظ لها بقيمتها من ناحية الصياغة، فوق ما بها من ألوان نفسية، ولنفصل ذلك في إيجاز.

نعم، إن الرسالة عارية عن تلك القيم الرمزية التي تشهد لدانتي بالعبقرية، والكل يعلم كيف افتنَّ الشاعر الإيطالي في وصف وتصوير أنواع العذاب والنعيم مقيمًا رابطة بين عمل من يَصْلَى العذاب أو ينعم بالنعيم وبين ما هو فيه من ذلك، على نحو ما نرى العواصف تتقاذف أصحاب الشهوات وسط النيران، أو المنتحرين يُقضى عليهم بأن يحيوا حياةً أبدية سجينين داخل الأشجار التي استحالت قشراتها أسيجة منيعة. وفي القرآن بعض هذا كقوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (التوبة: ٣٤-٣٥)، ولكن أبا العلاء لم يفكر في شيء من ذلك.

ومع هذا، فثمة خصائص أخرى تُكسب «الرسالة» من الخفة والحياة ما لم يتوفر لكوميديا دانتي، فهناك تلك الواقعية التي تطالعنا في الحوار وفي المشاهد فتقربنا من حياة العرب الخشنة، كما نألفها في كتب التاريخ والأدب؛ مما يجدد لذة القارئ … وفي قنص عدي بن زيد واحتلاب الهذلي للناقة، أمثلة جيدة لما نقول. وهنالك عنصر التمثيل بما يحمل من حركة وحوار يخالطهما العبث فتفتر الشفاه ويستيقظ الانتباه، وفي قصة عبور الصراط مثل رائع لذلك، حتى لتكاد تكون مهزلة صغيرة متماسكة كأروع ما كتب مؤلفو المسرح. وهل أبلغ في الهزل من أن نرى في يوم الحشر الذي تشيب من هوله النواصي شيخًا أبيض اللحية مرسلها كابن القارح يُصاح به وسط الجموع: «يا علي بن منصور، يا علي بن منصور! يا قاضي حلب»؟! أو أن نراه على الصراط وقد عجز عن عبوره فحملته إحدى جواري الجنة زقفونة» على نحو ما يفعلون في «كفر طاب»؟! وهناك أخيرًا العبث الذي يعتمد على التناقض والإسراف في النسب يستعين بها الكاتب على أداء كل ما يعرف وما يريد أن يقول في تقية بل في خفر.

وتلك فيما أحسب أهم وسائل أبي العلاء الفنية نضيفها إلى الحالة النفسية التي سيطرت عليه فنخرج بنوع من الفهم، إن لم يكن مطابقًا لحقيقة تلك الرسالة فهو مقارب قربًا أرجو أن يدنيها من القُرَّاء.

(٥) مساجلات جورجياس المصري

كتب الأستاذ العقاد في العدد ٤٦٧ من «الرسالة» تحت عنوان «مساجلات» يقول: «نُبِّهتُ إلى كلمة لأديب يكتب في «الثقافة» بتوقيع «محمد مندور» قال فيها عني بصدد الكلام عن أبي العلاء و«رسالة الغفران»: «والعقاد يبدأ فيؤكد — فيما يعلم — أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير «لوسيان» في محاوراته في الألمب والهاوية، وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيرًا ما تدهشنا لجرأتها، ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسانية: عرفها اليونان قبل لوسيان، وعرفها العرب قبل أبي العلاء.»

وأنا أحمد الله؛ إذ نُبِّهَ الأستاذ إلى كلمة محمد مندور هذا، فالعقاد رجل لديه ما يشغله عن «الثقافة» وعن محمد مندور، وهو منهمك في قراءة أمهات كتب الأدب التي وجد فيها أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته، فأنَّى له بقراءة «الثقافة»، وما هي بشيء إلى جوار عيون الأدب، ومن هو محمد مندور، ليقرأ له وهو مأخوذ بسحر لوسيان؟!

و«محمد مندور» يَسرُّه أن يُنَبَّهَ العقاد قبل أن يبدأ في مناقشته إلى تتمة جملته، كما هي بالثقافة (عدد ١٧٦): «والكل يعلم ما في أساطير اليونان من وصف لنزول أورفيوس إلى العالم الآخر ليسترد منه زوجته أوريدس، والكل يعلم وصف هوميروس لرحلة أوليس، ووصف فرجيلوس شاعر الإنيادة لرحلة أينيوس بذلك العالم. كما نعلم جميعًا أشعار المتصوفة في أحلام يقظتهم ونومهم، ومن تلك الرحلات الرائع الجميل كوصف الحارث بن أسد المحاسبي في «التوهم» الذي نشره المستشرق آربري وصدَّر له الأستاذ أحمد بك أمين. وفي عصر مقارب لعصر أبي العلاء كتب ابن شهيد رسالة «التوابع والزوابع» المنشورة بكتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» (ص٢١٠)، وهي شديدة الشبه برسالة الغفران، ومع ذلك يؤكد العقاد أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان!»

وهذا فيما أظن كلام لا يستطيع العقاد ولا غير العقاد أن يدفعه، فهو يؤكد أن أديبًا لم يسبق أبا العلاء في وصف الرحلة إلى العالم الآخر غير لوسيان، ونحن نقول له: بل سبقه هوميروس وفرجيلوس و… فما الرأي إذن؟ وهل يقبل الأستاذ العقاد — وهو العالم بكل تراث الإنسانية الروحي المقدر لقيمته — أن نمحو من الوجود كل هؤلاء الفطاحل ليصح ما أكده؟ ألا ليتنا نستطيع ذلك لنرضي كبرياء العقاد، وإن كان قد وضعه في غير موضعه.

وبعد، فليس يضير العقاد أن يجهل وصف هوميروس أو فرجيلوس لرحلة كهذه، إذ لو علم العقاد بكل شيء لفقد أهم صفة يتميز بها جميع البشر بله الأدباء منهم وهي صفة الإنسانية، ونحن جميعًا نجهل أشياء كثيرة وسنجهل أشياء كثيرة، ولو أضفنا أعمارًا إلى عمرنا ولو بذلنا جهد الرهبان في التحصيل. وإنما يضير العقاد ككاتب يجب أن يحترم كرامة العقل أن يصدر في محاجته للغير عن منهج معيب.

لم يردَّ العقاد على ما وجهته إليه، بل نقل الحديث إلى وجود الجنة والنار قبل أبي العلاء وقبل لوسيان «على نحو ما يرى أن لندن كانت موجودة قبل رحلات المسافرين إليها»، وهذه سقطة ما كان يليق برجل كالعقاد أن يلجأ إليها في كبرياء المتعالي. وموضع الجدل ليس وجود النار والجنة، بل ولا علم الناس بهما، بل وصف الرحلة إليهما وفيهما وصفًا أدبيًّا فنيًّا على نحو ما فعل هوميروس وغيره ممن ذكرنا.

ولقد كان العقاد يستطيع أن يغالط كما كان يفعل جورجياس كبير السوفسطائيين عند اليونان على نحو أرقى من هذا النحو، ألا ليته قال مثلًا: إن اللغة كانت موجودة قبل وضع نحوها، وأن الطبيعة كانت قائمة قبل استنباط قوانينها، وأن العقل كان يعمل قبل صياغة المنطق، وأن المنطق أقدم وأصدق وأنبل من السفسطة! ولو أنه فعل لوجدنا في مغالطاته جلالًا، وأما أن «لندن وباريس وبلاد الأفيال» كانت موجودة قبل الرحلات إليها فهذه حقيقةً مغالطةٌ تافهة، كنت أود أن يترفع عنها.

أسرف العقاد إذن على نفسه وعلى القُرَّاء عندما أكد أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يَسبق أبا العلاء إليها غيرُ لوسيان، وهذه المسألة لا تقبل الدفع.

فلنتركها إذن لما هو أهم وهو منهج العقاد في التفكير، كما يطالعنا من رده، وتلك مسألة يضطرنا العقاد إلى أن نثيرها لا بصدد حديثه عن أبي العلاء فحسب بل بوجه عام.

سمعت العقاد يومًا يناظر في الأثر الذي يمكن أن تحدثه الثقافة الأجنبية فينا فيقول: «إن الكتاب الأمريكي لا يمكن أن يجعلنا أمريكيين وإلا لجعلتنا التفاحة الأمريكية أمريكيين!» وهذا مثل الكثير مما كتب العقاد، فسبيله هو «المغالطة» ثم «القياس الفاسد».

ألا تراه كيف ينقل الحديث من الرحلة الأدبية في العالم الآخر إلى وجود ذلك العالم وتصور الناس له؟ وهذه هي «المغالطة». ثم ينتقل إلى قياس وجود العالم الآخر في الواقع أو في خيال البشر وجودًا مستقلًّا سابقًا على وصف ذلك العالم في الأدب، بوجود باريس ولندن وبلاد الأفيال وجودًا مستقلًّا سابقًا على رحلة المسافرين إلى تلك البلاد، وهذا هو «القياس الفاسد».

ووجه الفساد في كلا القياسين هو انعقاده بين أشياء مادية وأخرى روحية فالتفاحة ليست كتابًا وإلا لكانت عقولنا معدات، ولندن ليست الجنة ولا باريس النار والسفر إليهما ليس وصفًا أدبيًّا للعالم الآخر نزوره بخيالنا.

والمغالطة خطرها بيِّن، ومن نافلة القول أن نقف عندها.

بقي القياس فاسدًا وغير فاسد. ومن الثابت أن المنطق الشكلي كله لا القياس فحسب لا يمكن أن يوصل إلى الكشف عن حقيقة جديدة، وإنما تعمل الأقيسة في الحقائق المعروفة، فإذا كان القياس صحيحًا انتهى إلى إفحام مناظرنا، ولا أقول إلى إقناعه؛ لأن الإقناع إحساس وتسليم قلبي، وأما الإفحام فانعقاد للسان أو شلل للعقل، وهذا هو الجدل. وإذا كان القياس فاسدًا فتلك هي السفسطة التي لا تقنع ولا تفحم ولا تليق بالإنسان على أي نحو.

وإنما نكشف الحقائق بالخيال وبالقلب، وتلك ملكات لا أحس لها بوجود فيما يكتب العقاد.

انظر إليه في رده كيف يقول: «إن الجمع بين المعري ولوسيان مبحث يصح النظر فيه والاستفادة منه»، وتلك لعمري مقارنة عجيبة، وأنا لا أرى أصلًا أي شبه بين أبي العلاء ولوسيان، بل ولا بين أبي العلاء وأي كاتب آخر، وذلك لإيماني بأن النفوس لا يمكن أن تتشابه أصالتها، وقد بيَّنت ذلك ولن أعود إليه.

واتجاه العقاد الخاطئ واضح في كل مقارناته. والذي أفهمه من المقارنة هي أن تكون، إما مقارنة تأثر نبغي منها إيضاح أخذ كاتب عن آخر، والمنهج الصحيح في هذا هو أن تثبت قراءة هذا الكاتب لذاك وتأثره به تاريخيًّا؛ إذ لا يكفي مجرد التوافق على فكرة أو صورة، والجمع بين أبي العلاء ولوسيان لا يمكن أن يكون على هذا النحو. أو «مقارنة فهم»، وذلك بأن نجمع بين كاتب وآخر لنفهم كليهما على ضوء ما اختلفا فيه تبعًا لاختلاف منحاهما النفسي رغم وحدة الموضوع الذي يتحدثان فيه أو المصدر الذي يأخذان عنه، وهذا ما لم يفعله العقاد، وإنما فعل — وفعل دائمًا — أن حاول التماس أوجه شبه بين أناس وأشياء من السذاجة أن نجمع بينها، فهو طورًا يقول بأن أبا العلاء قد كان اشتراكيًّا وطورًا أنه قد أخذ بمبدأ النشوء والارتقاء وبقاء الأصلح «الفصول». وهذه محاولات باطلة، فأبو العلاء لم يحلم بشيء من هذا، ومذاهب الاشتراكية والنشوء غير بيت من الشعر أو جملة منثورة. وإنه لتعسف باطل أن يزج العقاد بتلك الكلمات الضخمة في معرض الحديث عن شاعر مسكين كأبي العلاء.

وشاء العقاد إلا أن يختم حديثه بتذكيرنا بقوله عن «رسالة الغفران»: «أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل ذلك معروفًا موصوفًا؟ أي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهودًا للناس مألوفًا؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان …»

وهذا كلام لا علاقة له أصلًا بموضع المناقشة فهو لا يدل في شيء على «أن فكرة الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبق أبا العلاء إليها غير لوسيان»، وإنما يدل على فكرة الجنة وأوصاف الجنة كانت معروفة عند الناس، كما وردت في الديانات والكتب المقدسة، وأما أنها لم تستخدم في الأدب قبل أبي العلاء إلا عند لوسيان فهذا ما لم يرد عليه العقاد.

ثم إن هذه الجملة في ذاتها تأكيد آخر من تأكيدات العقاد غير المقبولة، فأبو العلاء لم يعرف الجنة، كما كان الناس يعرفونها أو يتصورونها، والجانب الهام من جنته هو دنيانا أو على الأصح دنيا العرب؛ إذ إنه قد نقل الدنيا إلى الآخرة، وقد جُمعت تلك الدنيا بتاريخها الطويل في صعيد واحد، فهناك ترى الهذلي يحلب ناقته، وابن القارح محمولًا زقفونة على الصراط، وابن عدي يصيد، والأعشى في عينه حور، وكل أولئك أشياء لم يكن يعرفها أحد عن الجنة، بل لا يتصورها مجرد تصور، وما هي من الجنة كما وصفها القرآن في شيء.

ويضيف العقاد تذكيرنا بقوله: «إنها رحلة قديمة ولكن أبا العلاء أعادها علينا كأنه قد خطا خطواتها بقدميه، وروى لنا أحاديثها كأنما هو الذي ابتدعها أول مرة …» وموضع البحث هو كما قلت وأكرر، أن نعرف مدى قِدم تلك الرحلة ومَن سبقه إليها، أهو لوسيان فقط أم لوسيان وغير لوسيان ممن ذكرنا.

والآن لم يبقَ لدي إلا أن أترك للقارئ الحكم على طريقة الأستاذ العقاد في توجيه الخطاب من «لا يا شيخ!» إلى أمثال ذلك مما أمسك قلمي عن الرد بمثله، فهذا أمر سهل.

١  نفد.
٢  دلو.
٣  من قوله تعالى: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ؛ أي: يجنون.
٤  طعامًا على طريقة خاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤