الفصل الأول

كانت الساعة الرابعة في مساء يومٍ من فصل الربيع، وروبرت بلير يفكر في العودة إلى المنزل.

لم يكن المكتب ليُغلق بابَه حتى الساعة الخامسة، بالطبع. لكن عندما تكون أنت فرد عائلة بلير الوحيد، في مكتب بلير وهيوارد وبينيت، فستعود إلى المنزل وقتَما تعتقد أنك تشاء العودةَ إليه. وعندما يرتبط أغلبُ عملك بالوصايا، وإجراءات نقل الملكية، والاستثمارات، فيُصبح الإقبال على خدماتك محدودًا في ساعةٍ متأخرة من وقتِ ما بعد الظهر. وعندما تعيش في قرية ميلفورد، حيث يخرج آخرُ طردِ بريدٍ في الساعة الثالثة وخمسٍ وأربعين دقيقة، فإن اليوم يفقد أي زخمٍ كان قد اكتسبه مدةً طويلة قبل الساعة الرابعة.

لم يكن كذلك محتملًا أن يرنَّ هاتفه. فأصدقاؤه في لعبة الجولف ربما وصلوا في تلك اللحظة بين الحفرة الرابعة عشرة والسادسة عشرة. ولا أحد سيوجِّه إليه دعوةً على العشاء؛ لأن الدعوات على العشاء في ميلفورد لا تزال تُكتَب باليد ثم تُرسَل بالبريد. والعمة لين لن تتصلَ به لتطلُب منه السمك في طريق عودته إلى المنزل؛ لأن عصر اليوم هو موعدُها نصف الشهري مع السينما، وربما أنها في تلك اللحظة قد مرَّ عليها عشرون دقيقة من الفيلم، إذا صح القول.

لهذا جلس هناك، في هذا الجوِّ الداعي إلى الخمول في مساء أحدِ أيام فصل الربيع بقريةٍ صغيرة يُنصَب فيها سوق على نحوٍ مُنتظم، مُحدقًا في آخِر رُقعة من ضوء الشمس على مكتبه (وهو مكتب من خشب الماهوجني مُطعَّم بنُحاس أصفر كان جدُّه قد صدم العائلة لمَّا أحضره إلى المنزل من باريس) وفكَّر في العودة إلى المنزل. في تلك الرقعة من ضوء الشمس تستقر صِينيَّة شاي، وقد جرَت العادة في مكتب بلير وهيوارد وبينيت أنَّ الشاي ليس مُجردَ صِينيَّة معدنية مَطلية بالإينامل الأسود، وأي كوبٍ من المطبخ. في الساعة الثالثة وخمسين دقيقة بالتمام من كل يوم عمل كانت الآنسة تاف تحمل إلى مكتبه صِينيَّةً مطليَّة يُغطيها مفرشٌ أبيض أنيق، عليه فنجان شاي من الخزف الصيني المنقوش بنقشٍ أزرق، وعلى طبقٍ من نفس نوعية الفنجان، قطعتان من البسكويت؛ بسكويت بيتي بير في أيام الاثنين والأربعاء والجمعة، وبسكويت دايجستف في أيام الثلاثاء والخميس والسبت.

وبينما هو يتأمَّل الأمرَ في تلك اللحظة، بذهنٍ شارد، فكَّر كم أنه جسَّد استمرارية مكتب بلير وهيوارد وبينيت. حيث يتذكَّر وجود طقم الخزف الصيني هذا منذ زمن بعيد. والصِّينية التي، لمَّا كان صبيًّا صغيرًا، كان يستخدمها الطاهي في المنزل حتى يحمل فيها الخبزَ من المخبز، ثم انتشلَتها أمُّه الشابة وأحضرتها إلى المكتب لتُحمَل عليها الفناجين المنقوشة بنقشٍ أزرق. أما المفرش فقد جاء بعد سنواتٍ مع قدوم الآنسة تاف. الآنسة تاف هي نِتاج وقت الحرب؛ فهي أول سيدة تجلس على مكتبٍ في مكتب مُحاماة شهير في ميلفورد. وقد مثلَت الآنسة تاف ثورةً شاملة من حيث إنها نحيفة عزباء لها شخصية جادة وغير لبقة. لكن المكتب قد صمد في وجه الثورة بدون عناء، والآن، بعد ما يقرب من ربع قرنٍ، لا يمكن تصورُ أن الآنسة تاف، النحيفةَ الموقَّرة ذات الشعر الرمادي، قد مثلت أيَّ تأثير واسعِ النطاق. وكان، في الواقع، الإخلال الوحيد الذي أخلَّته بالنظام الروتيني العتيد هو تقديم مفرش للصينية. في منزل الآنسة تاف لا يُوضَع طعام قط مباشرةً على صينية؛ إذا استدعى الأمر، لا يُقدَّم أي كعك أبدًا مباشرة على طبقٍ؛ فلا بد من وضع مفرش صينية أو منديل مائدة. لهذا نظرت الآنسة تاف شزرًا إلى الصينية العارية. بل وقد ارتأت، علاوةً على ذلك، أن النقش المطليَّ على الصينية مُشتِّت، وغير مثير للشهية، و«غريب». ومن ثَمَّ في أحد الأيام أحضرَت مفرشًا من المنزل؛ كان أنيقًا، بلا نقْش عليه، وذا لون أبيض، باعتباره مناسبًا لشيء عُرضة للتآكل. ووالد روبرت، الذي كان قد أبدى إعجابَه بالصينية المطلية، نظر إلى المفرش الأبيض النظيف فأثَّر فيه توافقُ شخصية الآنسة تاف الشابَّة مع مصالح المكتب، فظل المفرش باقيًا، وصار الآن جزءًا لا يتجزأ من حياة المكتب مثله كمثل صناديق حفظ الوثائق، واللوحة النحاسية، والزكام السنوي الذي يُصيب السيد هيزيلتاين.

في الوقت الذي وقعَت عيناه على الطبق الأزرق حيث وضع البسكويت، انبعث في صدر روبرت شعورٌ غريب مرة أخرى. لم يكن لهذا الشعور أيُّ علاقة بقطعتَي بسكويت دايجستف؛ على الأقل، ليست علاقةً مادية. إنما كانت له علاقةٌ بحتمية روتين تقديم البسكويت؛ الحقيقة الراسخة بأن بسكويت دايجستف يُقدَّم يوم الخميس والبيتي بير يوم الإثنين. حتى السنة الأخيرة أو ما يُقاربها، لم يكن يرى عيبًا في هذه الحقيقة أو كونها راسخة. لم يُرِد قط أيَّ حياة أخرى سوى هذه الحياة؛ هذه الحياة اللطيفة الهادئة في المكان الذي قد نشأ فيه. وظلَّ لا يسعى إلى أي حياة أخرى. لكن لمرةٍ أو مرتَين مؤخرًا، جالت بخاطرِه فكرةٌ غريبة، لم يعهدها؛ خاطرة عارضة، وعفوية. إن جازت صياغتُها إلى أقرب معنًى ممكن، فهي: «هذا كل ما ستحصل عليه في حياتك». ومع هذه الخاطرة يأتي ذلك الانقباضُ اللحظي في صدره. على الأغلب انفعالُ هلَع؛ مثل اعتصار القلب ألمًا عند تذكُّر ما قد يُثيره في صدره موعدُ طبيبِ أسنان عندما كان في العاشرة من عمره.

ضايق وحيَّر هذا الشعور روبرت، الذي عدَّ نفسه شخصًا سعيدًا ومحظوظًا، وناضجًا في تلك اللحظة. لِمَ اقتحَمَته هذه الخاطرة الغريبة وأثارت هذا الانقباضَ المُحيِّر تحت أضلُعه؟ ماذا كان ينقصه في حياته ومن المفترض أن يفتقده رجلٌ؟

أهي الزوجة؟

لكن كان بإمكانه أن يتزوج لو أراد ذلك. على الأقل هو يظن أنه يقدر؛ كان في المنطقة الكثيرُ من الفتيات العازبات، ولم يُظهِرن دلائلَ على عدم الإعجاب به.

أهي الأم المُخلصة؟

لكن أي إخلاص ربما منحَته أمٌّ لن يكون أعظمَ مما قدَّمَته إليه العمةُ لين؛ العمة لين العزيزة المتيَّمة.

أهي الثروة؟

ما الشيء الذي اشتهَته نفسه من قبلُ وعجز عن شرائه؟ وإن لم يكن هذا هو مفهومَ الثروة، فهو لا يعلم ما هو مفهومها.

أهي الحياة المُثيرة؟

لكنه لم يكن يرغب أبدًا في أي إثارة. لا تُوجَد إثارة أعظم ممَّا يمنحه يومُ صيدٍ أو التعادل في لعبة الجولف عند الحفرة السادسة عشرة.

فماذا إذن؟

ما سبب خاطرة «هذا كل ما ستحصل عليه في حياتك»؟

ربما، ظن، وهو جالسٌ يُحدق في الطبق الأزرق حيث وضع البسكويت، بأن المسألة تحديدًا هي ميول منذ الطفولة بأن «ثمة شيءٌ مُبهر سيحدث غدًا» تظل لاشعوريًّا داخل المرء ما دامت هي قابلةً للتحقيق، وفقط بعد سنِّ الأربعين، عندما يُصبح من غير المُحتمل إشباعُ هذه الميول، تُقحم نفسها في العقل الواعي؛ كقطعةٍ مفقودة من الطفولة تصرخ لتلفتَ الانتباه إليها.

بلا شكٍّ هو، روبرت بلير، يأمُل من أعماق قلبه أن تستمرَّ حياته على ما هي عليه إلى أن يُفارق الحياة. كان قد علِم منذ أيام المدرسة أنه سينتقِل إلى العمل في مكتب المحاماة وسيرثُ والده في يومٍ من الأيام؛ كما نظَر بشفقةٍ حانية إلى الشباب الذين لم يكن لدَيهم وظيفةٌ في الحياة جاهزة من أجلِهم، ولم يكن لديهم في انتظارهم قرية ميلفورد، العامرة بالأصدقاء والذكريات، ولا دورٌ في استمرار التقاليد الإنجليزية مثلما أسهَم مكتب بلير وهيوارد وبينيت.

غاب أيُّ وجودٍ لعائلة هيوارد عن المكتب في أيامِنا هذه، لم يكن هناك أيُّ وجودٍ لأحدهم منذ عام ١٨٤٣، لكنَّ فتًى يافعًا من عائلة بينيت كان يَشغل الغرفة الخلفية في هذه اللحظة. وكلمة يَشغل هي التوصيف الدقيق؛ إذ كان مُستبعَدًا أنه يؤدي أي عملٍ؛ كان اهتمام نيفيل الرئيسي في الحياة هو كتابةَ قصائدَ على مستوًى من الأصالة والإبداع ليس بوُسعِ أحدٍ أن يفهمها غيره. استنكر روبرت القصائد لكنه تغاضى عن الخمول؛ إذ عجز عن نسيان أنه حين شَغَل الغرفة نفسَها كان يقضي وقته في ممارسة التسديد بعَصا الجولف في المقعد الجلدي ذي الذراعَين.

انزلَق ضوء الشمس بعيدًا عن حافَة الصينية وقرَّر روبرت أنه حان موعدُ الانصراف. إذا انصرف الآن فبإمكانه أن يسير إلى المنزل عبر هاي ستريت قبل أن يَحيد ضوءُ الشمس عن رصيف الجانب الشرقي؛ فإن السير عبر هاي ستريت في ميلفورد لا يزال أحدَ الأشياء التي تمنحه متعةً حقيقية. ليس لأن ميلفورد كانت واحدةً من الأماكن الجميلة. فلَربما تضاعفَ هذا الجمال حتى مائةِ مرة في أي مكانٍ في جنوب نهر ترينت. إنما السر في أناقتها الطبيعية التي صوَّرَت جمال الحياة في إنجلترا في آخر ثلاثِمائة عام. بداية من المنزل العتيق المُحاذي مع الرصيف الذي يضمُّ مكتب بلير وهيوارد وبينيت، الذي أُنشئ في السنوات الأخيرة من عهد تشارلز الثاني، ينساب هاي ستريت جنوبًا بمَيل بسيط — الطوب الجورجي، والخشب والجص الإليزابيثي، والحجر الفيكتوري، والزخارف الجصية على طراز عهد الوصاية على العرش — متجهًا إلى القصور الإدواردية المتوارية خلف أشجار الدردار عند طرَفه الآخر. هنا وهناك، بين الألوان الوردية والبيضاء والبُنيَّة، تظهر واجهةٌ من الزجاج الأسود، بارزةٌ بحدةٍ مثل رجل حديث العهد بالثراء في حفلٍ يرتدي ثيابًا مُبالغًا فيها، لكن الطُّرز الأنيقة للمباني الأخرى حدَّت من قُبحها. حتى الأعمال التجارية المتعددة كانت قد تعاملت برفقٍ مع ميلفورد. صحيحٌ أن البازار الأمريكي ذا اللونَين القرمزيِّ والذهبيِّ قد وقف مختالًا بوعده البرَّاق بعيدًا عند جهة الجنوب، ووجَّه إهاناتٍ يوميًّا إلى الآنسة ترولاف التي تُدير مقهًى على الطراز الإليزابيثي في الجهة المقابلة بدعمٍ من مخبوزات أُختها وسُمعة آن بولين. لكن مصرف ويستمنستر، بتواضعٍ غير معهود منذ أيام الاقتراض بفوائد باهظة، قد واءم مبنى ويفرز هول بما يتماشى مع احتياجاته من دون حتى ولو لمسة مِن الرخام؛ وآل سول، متعهدو بيع الأدوية بالجُملة، قد استحوَذوا على مبنى ويزدم العتيق واحتفَظوا بواجهته الطويلةِ المذهلة كما هي.

كان شارعًا صغيرًا أنيقًا، مُبهجًا، وحيويًّا، تُميزه أشجارُ الليمون المُقلَّمة التي تنمو من الرصيف؛ وقد أحبَّه روبرت بلير.

كان قد ضم قدمَيه أسفل منه تأهبًا للقيام، عندما رن هاتفه. في بِقاعٍ أخرى من العالم، يفهم المرء أن الهواتف صُمِّمت حتى ترن في المكاتب الخارجية، حيث يردُّ أحد المرءوسين على هذا الشيء ويستفسِر عن طلبك ثم يُخبرك أن تتكرَّم بالانتظار لحظاتٍ وسوف يجري «تحويلك» ثم تُصبح على اتصالٍ بالشخص المرادِ التحدثُ إليه. لكن هذا ليس في ميلفورد. لا شيء من هذا القبيل قد يُسمَح به في ميلفورد. ففي ميلفورد إذا اتصلتَ هاتفيًّا بجون سميث فأنت تتوقَّع أن يردَّ عليك جون سميث شخصيًّا. لذا عندما رن الهاتف في مساء أحدِ أيام فصل الربيع داخل مكتب بلير وهيوارد وبينيت، فإنه رنَّ على مكتب روبرت ذي الخشب الماهوجني المُطعَّم بالنحاس الأصفر.

دائمًا، بعد ذلك، كان روبرت يتساءل ماذا كان سيحدث لو أن الهاتف قد رنَّ متأخرًا بدقيقة واحدة. في غضون دقيقة واحدة، ستين ثانيةً لا وزنَ لها، كان سيأخذ معطفه من الشمَّاعة في الردهة، وينظر نظرةً سريعة على الغرفة المقابلة ليُخبر السيد هيزيلتاين بأنه سينصرف الآن ثم يخرج إلى ضوء الشمس الشاحب ويسير بعيدًا عبر الشارع. وكان السيد هيزيلتاين سيُجيب على هاتفه عندما رنَّ ويُخبر السيدة بأنه قد انصرف. وهي كانت ستُغلق الهاتف وتحاول الوصول إلى شخصٍ آخر. وكل ما أعقبَ ذلك كان سيُصبح بالنسبة إليه مجردَ مثار اهتمامٍ نظري.

لكن الهاتف رنَّ في الوقت المناسب؛ فمدَّ روبرت يدَه وأمسك بسماعة الهاتف.

سأل صوتُ سيدة: «هل هذا هو السيد بلير؟»؛ شعَر بأنه صوتٌ نسائي رنَّان لشخصٍ عادةً واثق من نفسه، لكنه صار في تلك اللحظة صوتًا لاهثًا أو مُتعجلًا. وتابعَت: «الحمد لله، يسرُّني كثيرًا أني لحِقتُ بك. كنتُ أخشى أن تكون قد انصرفتَ في نهاية اليوم. سيد بلير، أنت لا تعرفني. اسمي شارب، ماريون شارب. وأعيش مع والدتي في منزل فرنتشايز. ذلك المنزل الذي على طريق لاربورو، كما لعلك تعرف.»

قال بلير: «أجل، أعرفه.» كان يعرف ماريون شارب بالنظر، كما عرَف كل فردٍ في ميلفورد والمنطقة. فهي سيدة طويلة، نحيفة، لها بشرة داكنة، تبلُغ من العمر أربعين سنةً أو ما يُقارب ذلك، لديها ولَعٌ شديد بالأوشحة الحريرية اللامعة التي أبرزَت سُمرتها الغجَرية. وتقود سيارةً قديمة بالية، تُطلُّ منها كلَّ صباح بينما تجلس والدتُها العجوز ذاتُ الشعر الأبيض في الخلف، مُنتصبةَ الظهر وديعةً وغيرَ مُنسجمة وهي تُبدي اعتراضًا بشكلٍ أو بآخر في صمت. ويبدو الشكل الجانبي للسيدة شارب العجوز مثلَ لوحة أم ويسلر، وعندما تستدير بوجهها كاملًا، ويتكوَّن لديك انطباعٌ عن عينَيها الذكيتَين، الشاحبتَين، اللامُباليتَين، مثل عينَي النورس، تُصبح أشبهَ بعرَّافة. امرأة عجوز مزعجة.

تابع ذلك الصوت قائلًا: «أنت لا تعرف مَن أنا، لكني رأيتُك في ميلفورد، ويبدو أنك إنسانٌ ودود، وأنا أحتاج إلى مُحامٍ. أقصد، أحتاج إلى محامٍ الآن، في هذه اللحظة. إن المحاميَ الوحيد الذي تعاملنا معه في لندن — أقصد، مكتب محاماة لندني — وهو في الواقع ليس محاميَنا الخاص. لقد توارثنا التعاملَ معه بوصيةٍ فقط. لكني الآن في مأزق وأحتاج إلى دعمٍ قانوني، فتذكَّرتُك وظننتُ أن بإمكانك …»

بدأ روبرت حديثه قائلًا: «إن كان الأمر له صلةٌ بسيارتك …» إن كلمة «في مأزق» في ميلفورد يُقصَد بها أحدُ الأمرين: إما نزاع تِجاري، أو مخالفةٌ لقوانين المرور. وحيث إن القضية تخصُّ ماريون شارب، فربما كان الخيار الأخير، لكن ذلك لن يُمثِّل فارقًا؛ فالقضيتان لا تُمثلان مصدرَ اهتمامٍ على الأرجح لمكتب بلير وهيوارد وبينيت. كان سيُحيلها إلى كارلي، الشاب الألمعيِّ عند الطرَف الآخر من الشارع، الذي يستمتِع بالدعاوى القضائية وذاع صيتُه بقدرته على إخراج الشيطان بكفالةٍ من الجحيم. (قال شخصٌ ما، ذات ليلة في فندق روز آند كراون: «أخرِجوه بكفالة!» ثم أضاف قائلًا: «كان سيفعل أكثرَ من ذلك. كان سيجمع توقيعاتنا جميعًا على شهادة جيني من أجل الوغد العجوز.»)

«إن كان الأمر له صِلة بسيارتك …»

قالت، بنبرةٍ غامضة، وكأنه قد استعصى عليها في عالمها الحاليِّ أن تتذكَّر ما كانت تلك السيارة: «سيارة؟» ثم أردفَت قائلة: «آه، فهمت. لا، الأمر ليس له أيُّ صِلة بمثل ذلك. المسألة أكثر خطورة من ذلك بكثير. إنها شرطة سكوتلاند يارد.»

«سكوتلاند يارد!»

بالنسبة إلى ذلك المحامي والرجل الوقور الريفي، روبرت بلير، فإن سكوتلاند يارد غريبة مثل غرابة زانادو، أو هوليوود، أو الهبوط بالمظلات. وبصفته مواطنًا صالحًا، كانت علاقته مستقرةً مع الشرطة المحلية، وهناك انقطعت صلته بالجرائم. أقربُ مرةٍ كان قد سبق له أن ذهب إلى سكوتلاند يارد كانت ليلعبَ الجولف مع ضابط شرطة محلي؛ رجل دمِث الخلق كان يلعب مباراة متأنِّية، ومن وقتٍ لآخر بعد أن وصل إلى الحفرة التاسعة عشرة، كان يتوسَّع في الحديث عن أمور حمقاء قليلًا بشأن عمله.

قال الصوت سريعًا: «لم أقتُل أيَّ أحد، إن كان ذلك ما تفكر فيه.»

«المسألة هي: هل من المفترض أنكِ قتلتِ أحدًا؟» بصرف النظر عن الشيء المُفترض أنها قد ارتكبَته، فهذه القضية من نصيب كارلي بلا شك. فلا بد أن يُقصِيَها نحو كارلي.

«لا، القضية ليست قتلًا على الإطلاق. من المُفترض أني اختطفتُ شخصًا ما. أو احتجزته، أو شيء من هذا القبيل. ليس بوُسعي أن أشرح لك عبر الهاتف. على أي حالٍ أحتاج إلى شخصٍ الآن، في الحال، و…»

قال روبرت: «لكن لا أظن أني الشخص الذي تحتاجين إليه على الإطلاق.» ثم تابع قائلًا: «لا أعرف أيَّ شيءٍ عمليًّا عن القانون الجنائي. ومكتبي غير مؤهَّل للتعامُل مع قضية من ذلك النوع. الرجل الذي تحتاجين إليه …»

«لا أحتاج إلى محامٍ جنائي. أحتاج إلى صديق. شخص يقف بجانبي ويضمن ألا يجري معاملتي على نحوٍ غير عادل. أقصد، أن يُخبرني بما لا أحتاج إلى الإجابة عنه إن كنتُ لا أرغب في ذلك، شيء من ذلك القبيل. لا تحتاج إلى تدريبٍ في الجرائم حتى تفعل هذا، أليس كذلك؟»

«لا، لكن من الأفضل أن تُوكِّلي مُحاميًا معتادًا على قضايا الشرطة. محاميًا …»

«ما تحاول أن تُخبرني به أن هذا «ليس مجال اختصاصك»؛ هكذا الأمر، أليس كذلك؟»

قال روبرت سريعًا: «كلَّا، بالطبع كلَّا.» ثم تابع قائلًا: «أشعر بصراحة تامة أنك ستكونين أكثرَ حكمةً …»

فقاطعَته قائلة: «أتدري بمَ أشعر؟» ثم أردفَت قائلة: «أشعر وكأني شخصٌ يغرق في نهرٍ لأنه لا يستطيع سحب نفسه إلى الضفة، وبدلًا من أن تبسط إليَّ يدك، تُشير إلى أن الضفة الأخرى أفضلُ كثيرًا أن أتحرك إليها.»

سادت لحظة صمت.

ثم قال روبرت: «بل على العكس، بإمكاني أن أُقدِّم إليكِ خبيرًا ينتشلك من النهر؛ خبيرًا أفضل بالمقارنة بشخصي القليلِ الخبرة، أؤكد لكِ. بنجامين كارلي لدَيه معرفةٌ واسعة في الدفاع عن أشخاص مُتهمين أفضل من أي أحدٍ بين هنا و…»

«ماذا! ذلك الشاب الضئيل البغيض ذو البدلات المُقلَّمة!» ارتفع صوتها العميق وهي تقول ذلك وانفجر، ثم تبع ذلك لحظةُ صمتٍ أخرى. ثم قالت بصوتها المعتاد: «أعتذِر إليك، كان ذلك سخيفًا منِّي. لكن اعلم، عندما اتصلتُ بك للتوِّ لم يكن لظنِّي فيك أنك الأكثرُ براعةً في تلك الأمور» (ظن روبرت بداخله: «لم يكن لذلك، بالفعل») «إنما لأني كنتُ في مأزقٍ وأردتُ نصيحةَ شخصٍ يُشبهني. وأنت تُشبهني. يا سيد بلير، أرجوك أن تأتي. أحتاج إليك الآن. يُوجَد أفرادٌ من شرطة سكوتلاند يارد في المنزل هنا. وإذا شعرت أنك لا تريد الانخراط في هذه القضية، بإمكانك دائمًا أن تُحيله إلى شخصٍ آخر فيما بعد؛ أليس كذلك؟ لكن ربما لا يُوجَد أيُّ شيء لتنخرط فيه رغم كل ذلك. إذا تكرمتَ بالمجيء إلى هنا وأن «تباشر مصالحي» أو أيًّا كان ما تُسمِّيه، لساعةٍ واحدة، فربما ينتهي الأمر برُمته في سلام. أثِق أن هناك خطأً في مكانٍ ما. ألا يمكنك أن تتكرَّم وتفعل ذلك من أجلي؟»

على العموم ظن روبرت بلير أن ذلك في وسعه. فهو دمث الخلق لدرجة تمنعه من رفض أي مناشدةٍ مقبولة — وهي قد منحَته مهربًا إذا وجد الأمور صعبة. وهو، في واقع الأمر، وكما خطر في باله في تلك اللحظة، لم يُرِد أن يُلقي بها إلى بِن كارلي. رغم حماقتها بشأن البدلات المقلَّمة، تبيَّن له وجهةُ نظرها. إذا كنتَ قد ارتكبتَ فعلةً وأردتَ أن تنجوَ منها، فإن كارلي بلا شك هو هبةٌ من الله لك؛ أما إذا كنتَ مُتحيرًا ومتورطًا وبريئًا، فربما شخصية كارلي المُتعجرفة لم يُتوقَّع منها أن تُصبح ملجأً فوريًّا لطلب المساعدة.

رغم كل ذلك، تمنَّى وهو يضع سماعة الهاتف لو أن المظهر الخارجي الذي يظهر به أمام العالم كان مُنفِّرًا — ليكن كالفين أو كاليبان، لم يكن يبالي، ما دامت النساء الغريبات سيمتنعنَ عن الارتماء بأنفسهن في حمايته عند وقوعهن في مأزق.

فتساءل وهو يتَّجه إلى مَرأب السيارات في سين لين حتى يستقلَّ سيارته: تحت أي نوعٍ محتملٍ من المآزق قد يُصنَّف «الاختطاف»؟ هل هناك في القانون الإنجليزي مثلُ هذه الجريمة؟ ومَنْ ربما تهتمُّ باختطافه؟ أهو طفل؟ طفلٌ يُرجى من ورائه الحصول على مال؟ رغم ضخامة المنزل على طريق لاربورو فإنهما أعطتا انطباعًا بأن ليس لديهما سَعةٌ من المال. أم أنه طفلٌ ظنَّا أنه تلقَّى «معاملة قاسية» من أوصيائه الشرعيين؟ ذلك ممكن. كان للسيدة العجوز وجهٌ مُتعنِّت، إذا سبق له رؤية وجهٍ مثله من قبل، أما ماريون شارب نفسُها فكانت تبدو كما لو أن العصا هي عُكازها الطبيعي إن لم تَكُن العصا قد عفا عليها الزمان. حقًّا، كان مُرجحًا أنه عمل إنساني أحمق. الاحتجاز «بنيَّة منع الآباء، الأوصياء، وخلافهم، من الاحتفاظ بالطفل». تمنَّى لو أنه تذكَّر تفاصيل أكثرَ عن قضية هاريس وويلشير. لم تُسعفه الذاكرة أن يسترجع إن كانت جنايةً، مع فرض أشغالٍ شاقة في المستقبل القريب، أم أنها مجرد جُنحة. فقضيةٌ كقضية «الاختطاف والاحتجاز» لم تكن قد لَطَّخَت ملفات مكتب بلير، وهيوارد، وبينيت منذ ديسمبر ١٧٩٨، عندما اختَطف سكوير ليسوس، تحت تأثير نبيذ الكلاريت المَوسمي، الآنسةَ جريتون على حصانه من حفل في منزل جريتون وسار بها بعيدًا وسط السيول الجارفة، ولم يكن هناك شكٌّ على الإطلاق، بالطبع، في دافع ذلك السيد لارتكاب ذلك الحادث.

آه، حسنًا؛ كانا بلا شكٍّ على استعداد الآن للاستماع لصوت العقل نتيجة لفزعِهما من اقتحام شرطة سكوتلاند يارد لخُططهما. هو نفسه كذلك أفزعَه بدرجةٍ ما وجودُ شرطة سكوتلاند يارد. أكان الطفلُ ذا شأنٍ إلى هذه الدرجة حتى ينتفضَ له المركز الرئيسيُّ لشرطة لندن؟

في مكان ما في سين لين، وجد نفسَه في مواجهة الحرب المعتادة، لكنه حرَّر نفسه. (إن المُتخصِّصين في أصول اللغة، في حالة أنه أُثير فضولُك، يذكرون أن كلمة «سين» ما هي إلا تحويرٌ لكلمة «ساند» أي، الرمال، لكن أهل ميلفورد بكل تأكيدٍ أعلمُ بهذا الأمر؛ قبل أن تُبنى مساكن البلدية تلك على المُروج المنخفضة وراء القرية كان هذا الزقاق يُفْضي مباشرةً إلى مَمْشى العشاق في الغابة.) عبر الزقاق الضيِّق وقف، وجهًا لوجهٍ في عداوةٍ أزَلية، إسطبلٌ محلي لتأجير الخيول أمام أحدثِ مرأب سياراتٍ في القرية. كان يبثُّ المرأبُ الرعبَ في الخيول (هكذا ادَّعى إسطبل الخيول)، ويسد إسطبلُ الخيول الطريقَ دائمًا بحمولات التبن والعلف وأشياءَ أخرى من هذا القبيل (هكذا ادَّعى المرأب). علاوةً على ذلك، المرأب كان يُديره بيل برو، الذي عمل ضمن فيلق المُهندسين الكهربائيين والميكانيكيين الملكيِّين سالفًا، وستانلي بيترز، الذي عمل سالفًا في سلاح الإشارة الملَكي؛ أما ماتْ إليز العجوز، الذي عمل ضمن كتيبة فرسان الملك سالفًا، فقد اعتبرَهما نموذجًا ممثِّلًا لجيلٍ أجهَز على سلاح الفرسان وارتأى أنهما عارٌ على الحضارة.

في الشتاء، عندما كان روبرت يصطاد، سمع جانب سلاح الفرسان من القصة؛ ولبقية العام استمع إلى جانب سلاح الإشارة الملكي، بينما كانت سيارته تُمسَح، أو تُشحَّم، أو تزوَّد بالوقود، أو تُحضر له. وقد أراد سلاحُ الإشارة اليوم أن يعرف الفرق بين القذف والتشهير، وما قد يندرج على وجه الدقة تحت بند التشهير بشخصٍ. أيُعَدُّ تشهيرًا أن تقول على إنسانٍ بأنه كان «سمكريًّا يعمل مع علب صفيح ولا يُمكنه تمييزُ حبة الجوز من ثمرة البلوط»؟

قال روبرت في عُجالة، وهو يُدير المحرك: «لا أعرف يا ستان. عليَّ أن أُمعِن التفكير.» فانتظر حتى أعادت ثلاثة خيول مُستأجرة مُتعبة طفلَين بَدينَين وسائسًا من جولة العصر (قال ستانلي في الخلفية: «أتفهم ما أقصده؟») ثم انطلق بالسيارة قاصدًا هاي ستريت.

وعند الطرَف الجنوبي من هاي ستريت اختفَت المتاجر تدريجيًّا لتظهرَ منازلُ سكَنيَّة ترتكز عتباتُ أبوابها على الرصيف، ثم المنازل التي تتراجع مسافةَ خطوةٍ فتظهر أروقة تُفضي إلى أبوابها، ثم القصور بحدائقها ذات الأشجار، ثم، على نحوٍ مفاجئ تمامًا، الحقول والريف المفتوح.

كان ريفًا زراعيًا؛ أراضيَ تضمُّ عددًا لا حصر له من الحقول المُحاطة بسياجٍ من الشجيرات، وعددًا محدودًا من المنازل. ريف خِصْب، لكنه مهجور، بإمكان المرء أن يسافر قاطعًا ميلًا وراء ميل دون أن يلتقيَ بأي كائنٍ بشَري. ريف هادئ آمِن لم يطرأ عليه تغييرٌ قط منذ حروب الوردتَين، حقل مُسوَّر وراء حقلٍ مسوَّر آخَر، وخطُّ أفقٍ يختفي في خطِّ أفقٍ آخَر، دون توقُّفٍ لهذا المنوال. كانت أعمدةُ خطوط الهاتف والبرق فقط هي التي تكشف عن سَمْت القرن.

بعيدًا فيما وراء الأفق كانت تقع مدينة لاربورو. تُشتهر لاربورو بالدراجات، والأسلحة الصغيرة، ومسامير القصدير، ومتجر كوان كرانبيري صوص، وكثيرٌ من البشر الذين يعيشون متلاصِقين جنبًا إلى جنبٍ في منازلَ من طوبٍ أحمرَ قذِر؛ لكن يُوجَد بين بعضٍ منها مساحاتٌ خالية في حنين قديم إلى العُشب والأرض. لم يكن هناك في ريف ميلفورد ما يجذب جنسًا من البشر يريد مع عُشبه وأرضه كلًّا من المعالم التي تستحقُّ المشاهدة ومقاهيَ الشاي، وعندما تُصبح لاربورو في إجازة فإنها تصير على قلب رجلٍ واحد متجهةً إلى الغرب نحو التِّلال والبحر، فيظلُّ الامتداد العظيم للريف في الشمال والشرق مهجورًا وهادئًا ونظيفًا مثلما كان في الأيام التي كان يستخدم فيها شعار النبالة «صن إن سبليندور». كانت «كئيبة»، وهكذا أُنقِذَت من تلك اللعنة.

على بُعد ميلَين على طريق لاربورو كان يقع المنزل المعروفُ باسم فرنتشايز، والذي كان قائمًا على جانب الطريق، وبجواره كابينةُ هاتف على نحوٍ مفاجئ. في الأيام الأخيرة من عهد الوصاية على العرش كان رجلٌ قد اشترى الحقلَ المعروف باسم فرنتشايز، وبنى وسَطَه منزلًا أبيضَ تمامًا، ثم أحاط كلَّ شيءٍ بسورٍ متين مرتفع من الطوب به بوابة مزدوجة كبيرة، بارتفاع السور، في منتصف الأرض المُحاذية للطريق. لم يكن يُشبه أي شيءٍ في الريف. فلم يظهر في الخلف مَباني المزرعة، ولا بواباتٌ جانبية، ولا حتى في الحقول المحيطة. أما الحظائر فبُنِيَت خلف المنزل وفقًا لتلك الحقبة الزمنية، لكنها كانت داخلَ حدود السور. كان المكان فريدًا، ومنعزلًا، كلُعبة طفلٍ مُلقاة على جانب الطريق. وقد سكَنه بقدرِ ما كان بإمكان روبرت أن يتذكر مدةً طويلة رجلٌ عجوز؛ ومن المُحتمل أنه الرجل العجوز نفسُه، لكن حيث إن سكان منزل فرنتشايز كانوا يتسوَّقون دائمًا في هام جرين، تلك القرية التي تقع على جانب لاربورو ناحيتهم، فلم يكونوا قد شُوهدوا قطُّ في ميلفورد. وبعد ذلك أصبحت ماريون شارب ووالدتُها تُشكِّلان جزءًا من مشهد التسوُّق الصباحي في ميلفورد؛ ولهذا ظن الناسُ أنهما قد ورِثَتا منزلَ فرنتشايز عندما تُوفِّي الرجل العجوز.

تساءل روبرت كم سنةً قد أمضَتاها هناك. ثلاث سنوات؟ أربع سنوات؟

كان من الصعب الاعتقاد بأنهما كانتا جزءًا من الكِيان الاجتماعي لميلفورد. كانت السيدة وارن العجوز، التي اشترت أولَ قصرٍ من القصور المستظلَّة بأشجار الدردار في نهاية هاي ستريت منذ نحو خمسة وعشرين عامًا على أمل أن يكون الهواء في الداخل أفضلَ لالتهاب مفاصلها عن هواء البحر، لا يزال يُشار إليها «تلك السيدة التي من وايمث». (بالمناسبة، كانت من مدينة سوانيج الساحلية.)

ربما أن سيدتَي عائلة شارب، أيضًا، لم تكونا قد سعَتا إلى إقامة أي تواصُلٍ اجتماعي. كان لديهما حسٌّ غريب بأنهما مُكتفيتان بذاتهما. لكن سبق له أن رأى الابنةَ مرةً أو مرتَين في ملعب الجولف، تلعب (من المفترض بصفتها ضيفًا) مع الطبيب بورثويك. لم يختلف ضربُها للكرة مسافةً طويلة عن أي رجل، واستخدمَت رسغها البنيَّ النحيل كلاعبٍ مُحترف. وكان ذلك كلَّ ما عرَفه روبرت عنها.

وعندما توقف بسيارته أمام البوابة المزدوجة الحديدية الطويلة، وجد سيارتَين أُخريَين كانتا متوقِّفتَين هناك بالفعل. لم يحتجِ الأمر سوى إلى نظرةٍ واحدة على السيارة الأقرب — كانت عادية للغاية، وفي غاية الأناقة، والسرية — كي يُحدد هُويَّتَها. وتساءل وهو يخرج من سيارته، في أي دولةٍ أخرى من العالَم تُكلِّف قوة الشرطة نفسَها عناءَ أن تتحلى بالأدب والهدوء؟

ولمحَت عيناه السيارةَ الأخرى، فتبيَّن له أنها سيارةُ هالم؛ المُحقِّقِ المَحلي الذي لعب معه تلك المباراةَ المُتأنِّية في ملعب الجولف.

وقد جلس داخل سيارة الشرطة ثلاثةُ أشخاص: السائق، وفي الخلف سيدةٌ في منتصف العمر وشخصٌ آخر بدا أنه إما طفلة أو فتاةٌ صغيرة. نظر السائق إليه بنظرة الشرطة الفاترة، الشاردة، الفاحصة، ثم سحَب نظرته، لكنَّ الوجهَين في الخلف لم يتمكن من رؤيتهما.

كانت البوابة المزدوجة الحديدية الطويلة مغلقةً — لم يكن في وُسع روبرت أن يتذكر أنه قد رآها مفتوحةً قبل ذلك — ثم دفع روبرت أحد جانبي البوابة الثقيلَين فاتحًا إيَّاها بفضولٍ واضح. كانت الزينة الحديدية للبوابة الأصلية مُغطاة؛ للحفاظ على الخصوصية وفق الطراز الفيكتوري، بألواحٍ مُسطَّحة من حديد الزهر؛ والجدران كانت مُرتفعةً للغاية لدرجةٍ تَحول دون رؤية أيِّ شيء بالداخل؛ لذلك لم يكن قد رأى منزل فرنتشايز قط، باستثناء رؤية السطح والمداخن من مسافة بعيدة.

كان شعورُه الأول هو خيبة الأمل. ليس لأن حال المنزل يعكس أن مُصيبةً قد حلت، رغم وضوح ذلك؛ لكن لقُبحه التام. فإما أنه قد بُني في حقبةٍ مُتأخِّرة كثيرًا حتى حرَمَته من أن يأخذ حظَّه من الجمال المُميِّز لإحدى الحقب، أو أن مَن بناه كان ينقصه أن يتحلَّى بنظرةِ رجلٍ معماري. فقد استخدم نمط العصر، ولكن بدا واضحًا أن ذلك النمط لم يكن مألوفًا له. كل شيء كان يَعيبُه خطأٌ صغير: النوافذ في حجمٍ غير صحيح بفارقِ نصفِ قدَم، وبُنِيت في مكانٍ غير مناسب بفارقٍ لا يزيد كثيرًا؛ المدخل عرضُه غير صحيح، درَجات السُّلم بارتفاع غير صحيح. وبذلك فالنتيجة الأخيرة بدلًا من الشعور برضًا مقبول عن الحقبة التي بُني فيها، كان للمنزل نصيبٌ من نظرةِ تحديقٍ قاسية. نظرة مُعادية مُتسائلة. أثناء سيره عبر الفِناء حتى يصل إلى الباب الكئيب، أدرك روبرت بأي شيء قد ذكَّره: كلبٌ أفاقه فجأةً من نومه قدومُ رجل غريب، فاستند على رجلَيه الأماميَّتين، غيرَ مستقرٍّ في داخله ما إذا كان عليه الهجوم أم الاكتفاء بالنُّباح. فكان يحمل التعبيرَ نفسه كمَن يقول ماذا تفعل هنا؟

قبل أن يتمكَّن من دقِّ الجرس انفتح الباب، ولم تفتحه واحدةٌ من الخدم، بل ماريون شارب.

قالت وهي تمدُّ يدَها لتُسلِّم عليه: «رأيتُك قادمًا.» ثم تابعَت قائلة: «لم أُرد أن ترنَّ الجرس لأن والدتي تأخذ غفوةً في وقت العصر، وأتمنى أن نُنهي هذه المهمةَ قبل نُهوضها. فلا داعيَ لها أن تعرف أيَّ شيءٍ أبدًا عن الأمر. أشعر بامتنانٍ لمجيئك أكبرَ مما تُسعفني به الكلمات.»

غمغمَ روبرت بكلماتٍ، ولاحظَ أنَّ عينَيها، التي كان قد توقع أنَّ لها لونًا بُنيًّا غجَريًّا لامعًا، كانتا في الواقع بلونٍ بُندقي باهِت. قادته إلى الردهة، ولاحظ وهو يضع قبعته على خِزانةٍ أن السجادة المفروشة على الأرض كانت بالية.

قالت، وهي تدفع البابَ وتُوجِّهه إلى قاعة استقبال: «الشرطة في الداخل هنا.» كان روبرت يُحبذ لو يتحدَّث معها على انفرادٍ لوهلةٍ، ليُحدِّد وجهتَه؛ لكن الوقت تأخَّر كثيرًا على أن يقترحَ ذلك. وكان هذا السبيل الذي أرادته بكلِّ وضوح.

كان هالم يجلس على حافَة كرسيٍّ مشغولٍ من الخرز، وقد بدا عليه الارتباك. وبجانب النافذة، في أريحية تامة وعلى كرسي غايةٍ في الأناقة من تصميم هيبلوايت، جلس مُمثِّل شرطة سكوتلاند يارد وهو رجلٌ شاب بسيط يرتدي بدلة أنيقة.

أثناء نهوضهما، أحنى كلٌّ من روبرت وهالم رأسهما لتحية الآخَر.

قالت ماريون شارب: «أنت تعرف المُحقِّق هالم، أليس كذلك؟» ثم تابعَت قائلة: «وهذا هو ضابط التحريات جرانت، من مقر الشرطة المركزية.»

لفَت انتباهَ روبرت كلمةُ «الشرطة المركزية»، وتساءل. أَسَبق لها أن تعاملَت في آونةٍ ما مع الشرطة، أم أن المسألة هي أنها لم تستسِغ النبرة الحادَّة قليلًا لكلمة «سكوتلاند يارد»؟

صافحه جرانت، وقال:

«يسرُّني مجيئك، يا سيد بلير. ليس من أجل الآنسة ماريون شارب فقط وإنما من أجلي.»

«من أجلك؟»

«لم يكن بوُسعي أن أستكملَ الإجراءات كما ينبغي حتى تحصلَ الآنسة ماريون على شكلٍ من أشكال الدعم؛ دعم بصفةٍ وُديَّة إن لم تكن قانونية، لكن إن كان قانونيًّا، كان أفضلَ كثيرًا.»

«أتفهَّم ذلك. وما هي التهمة التي تُوجهونها إليها؟»

بدأ جرانت الحديث قائلًا: «نحن لا نُوجِّه إليها أي تهمة …»، لكن ماريون قاطعَته.

«من المفترض أني اختطفتُ شخصًا ما وأوسعتُه ضربًا.»

قال روبرت، مصدومًا: «أوسعتِه ضربًا؟»

قالت، بشيء من الاستمتاع بفداحة الجريمة: «ضربتُها ضربًا مبرحًا.»

«ضربتِها؟»

«فتاة. خارج البوابة في سيارةٍ الآن.»

قال روبرت، محاولًا أن يُعيد الحديث إلى مجراه الطبيعي: «أظنُّ من الأفضل أن نبدأ من بداية الأحداث.»

قال جرانت، بلطفٍ: «ربما من الأفضل أن أتولَّى توضيح الأمر.»

قالت الآنسة ماريون: «أجل. من فضلك افعَل ذلك. إنها قصتك في نهاية الأمر.»

تساءل روبرت إنْ كان جرانت قد أدرَك نبرة السخرية. واستعجب كذلك، قليلًا، من الهدوء الذي قد يحتملُ السخرية من أحد أفراد سكوتلاند يارد وهو جالسٌ على أحدِ أفضل الكراسيِّ لدَيها. لم تبدُ هي هادئةً أثناء حديثها على الهاتف، بل كانت مُندفعة، يغلب اليأسُ عليها. ربما كان حضورُ شخصٍ حليفٍ لها هو ما قد شدَّ من أزْرِها؛ أو ربما كانت قد استجمعَت قوتها.

بدأ جرانت حديثَه بأسلوب رجال الشرطة المقتضب قائلًا: «تحديدًا قبل عيد الفُصْح، فتاة تُدعى إليزابيث كين، كانت تعيش مع وصيَّيْها بالقُرب من مدينة إيلزبري، ذهبَت لقضاء إجازة قصيرة مع عمةٍ لها مُتزوجة وتعيش في مينشيل، وهي ضاحيةٌ من ضواحي لاربورو. ذهبت بالحافلة، لأن الحافلات على خط لندن-لاربورو تمرُّ بمدينة إيلزبري، وتمر أيضًا بضاحية مينشيل قبل أن تصلَ إلى لاربورو؛ وبذلك كان بإمكانها النزولُ من الحافلة في مينشيل ثم ستُصبح في منزل عمَّتها بعد السير لمدة ثلاث دقائق، بدلًا من دخول لاربورو وقطعِ الطريق إيابًا مرةً أخرى لو كانت فضَّلَت أن تُسافر بالقطار. وفي نهاية أحد الأسابيع تلقَّى وصيَّاها — السيد وين وزوجته — بطاقةً بريدية منها تُفيد بأنها تقضي وقتًا مُمتعًا وتنوي البقاء. ففَهِما ما قالته على أنها تقصدُ البقاء مدةَ إجازتها المدرسية، وهو ما يعني قضاءَ ثلاثة أسابيع أخرى. وعندما لم تظهر قبل اليوم الذي من المفترض أن تعود فيه إلى المدرسة، ظنَّا أنها فقط تتهرَّب من المدرسة فكتَبا خِطابًا إلى عمَّتِها حتى تُعيدها. أما العمة، فبدلًا من التوجُّه إلى أقربِ كابينة هاتفٍ أو مكتب برقيات، فقد فجَّرَت الخبرَ إلى السيد وين وزوجته في خطابٍ بريدي، بأن ابنة أخيها قد غادرت في طريقها للعودة إلى إيلزبري منذ أسبوعَين. كان تبادُل الخِطابَين قد استغرق تقريبًا أسبوعًا آخر، وبهذا فإنه عند الوقت الذي ذهب فيه الوصيَّان إلى الشرطة للإبلاغ عن الفتاة كانت هي قد صارت مفقودةً منذ أربعة أسابيع. فاتخذَت الشرطة الإجراءات المعتادة لكن قبل أن تَشرع في الإجراءات ظهرَت الفتاة. كانت تسير مُتوجهةً إلى منزلها بالقُرب من إيلزبري في ساعةٍ متأخرة من إحدى الليالي وهي لا ترتدي سوى فستانٍ وحذاء، وتظهر في حالة إنهاكٍ تام.»

سأل روبرت: «كم عمرُ الفتاة؟»

«خمسة عشر. ستة عشر تقريبًا.» فانتظر لحظةً حتى يرى إن كان روبرت لدَيه أي أسئلة أخرى، وبعد ذلك يكمل. (كان هذا كتقديرٍ من رجلِ قانون لرجل قانون أيضًا، هذا ما ظنه روبرت وامتنَّ له، وهو أسلوبٌ يُشبه الأسلوب الرصين لسيارة الشرطة التي تقف متخفِّيةً عند البوابة.) ثم أردف قائلًا: «قالت إنها تعرَّضَت إلى «خطفٍ» في إحدى السيارات، لكن كان ذلك كلَّ ما تحصَّل عليه أيُّ شخصٍ من معلوماتٍ منها خلال يومَين. ثم دخلَت في حالة شبهِ غائبة عن الوعي. وعندما تعافَت، بعد نحوِ ثمانية وأربعين ساعة، بدَءا في معرفة قصتها منها.»

«مَن هما؟»

«السيد وين وزوجته. الشرطة أرادت ذلك، بالطبع، فكانت تزداد انفعالًا عند أي إشارة إلى الشرطة؛ لذلك كان عليهم أن يحصلوا على القصة بطريقةٍ غير مباشرة. حيث أفادت بأنها بينما كانت تنتظر حافلةَ العودة عند مُفترق الطريق في مينشيل، توقفَت سيارة فجأةً عند الرصيف تستقلُّها سيدتان. وسألتها السيدة الشابَّة، التي كانت تقود السيارة، إن كانت تنتظر الحافلةَ وإن كان بإمكانهما توصيلُها.»

«هل كانت الفتاة بمفردها؟»

«نعم.»

«لمَ؟ ألم يُرافقها أحدٌ لتوديعها؟»

«عمُّها كان في العمل، وعمَّتُها كانت قد ذهبت لتتولَّى دور الأم الروحية في حفل تعميد.» ثم توقَّف مرةً أخرى حتى يسمح لروبرت بأن يطرح أسئلةً أخرى إن كان مُهتمًّا. «أخبرتهما الفتاة بأنها كانت تنتظر الحافلة المتجهة إلى لندن، فأخبَراها بأن الحافلة قد غادرت بالفعل. ونظرًا إلى أنها قد وصلَت إلى مُفترق الطرق ولم يتبقَّ حينها سوى وقتٍ بسيط، ولم تكن ساعتها دقيقة بالدرجة الكافية، فقد صدَّقت ما قالتاه. وبالفعل، كانت قد بدأت في التخوُّف، حتى قبل توقُّف السيارة، من أن الحافلة قد فاتتها. كانت قلقةً حِيال الأمر لأن الساعة كانت تقتربُ من الرابعة، وبدأت السماء تُمطر، والجوُّ يزداد ظُلمةً. وكانت السيدتان متعاطفتَين للغاية؛ ولذلك اقترَحتا بأنه لا بد أن تُوصِّلاها إلى مكانٍ ما لم تتمكَّن من سماع اسمه، وفيه بإمكانها أن تلحَق بحافلةٍ أخرى مُتجهةً إلى لندن خلال نصف ساعة. وافقَت بكلِّ امتنان واستقلت السيارة بجانب السيدة الأكبر سنًّا في المقعد الخلفي.»

طافَت صورةٌ في خيال روبرت عن السيدة شارب العجوز، وهي تجلس منتصبةً ومُخيفة، في مكانها المعتاد على المقعد الخلفيِّ من السيارة. ثم نظر إلى ماريون شارب، لكنَّ وجهها كان هادئًا. فهذه قصة كانت قد سمعَتها بالفعل.

«حجبَت الأمطارُ الرؤيةَ عن النوافذ، وكانت الفتاة تتحدَّث مع السيدة العجوز عن نفسها أثناء سيرهن في الطريق، وبذلك لم تسترعِ انتباهًا إلى المكان الذي يتَّجهنَ إليه. وعندما انتبهَت أخيرًا إلى الأماكن من حولها كان المساء خارجَ النوافذ قد صار حالكًا تمامًا، وبدا لها أنها قد سافرت مدةً طويلة. علَّقَت بشيء عن كونهما في غاية اللطف كي تتولَّيا توصيلَها إلى مكانٍ بعيدٍ عن طريقهما، فقالت السيدة الشابة، مُتحدثةً لأول مرة، إنه قد تصادف أنهن لسنَ بعيدًا عن طريقهما، بل العكس، فلدَيها مُتَّسعٌ من الوقت لتدخل وتحتسيَ فنجانًا من مشروبٍ ساخن معهما قبل أخذِها إلى مُفترَق الطرُق الجديد. ارتابت الفتاةُ من الأمر، لكن السيدة الشابة قالت إنه ليس من المفيد الانتظارُ عشرين دقيقةً في المطر بينما بإمكانها أن تحظى بالدفء، بعيدًا عن المطر وتتناول شيئًا في العشرين دقيقةً تلك؛ ووافقَت الفتاة على أن هذا يبدو منطقيًّا. في النهاية، نزلت السيدة الشابة من السيارة، وفتحَت ما تبيَّن للفتاة بأنها بواباتٌ لدخول السيارات، ثم اتجهت السيارة نحو منزلٍ كان يبدو حالكَ الظلام لدرجةٍ استحالت معها رؤيتُه. ثم أُخذت الفتاةُ إلى مطبخٍ كبير …»

كرَّر روبرت: «مطبخ؟»

«أجل، مطبخ. وضعت السيدة العجوز قهوةً باردة على المَوقد لتسخينها، في حينِ كانت السيدة الشابة تقطع بعض الشطائر. «شطائر من دون الشريحة العلوية» كما وصفَتها الفتاة.»

«شطائرُ من أصنافٍ باردة.»

«أجل. وبينما هُن يأكلن ويشربن، أخبرَتها السيدة الشابة بأنه ليس لديهما خادمةٌ في الوقت الحاليِّ وسألتها إن كانت ترغب في العمل خادمةً لحسابهما مدةً قصيرة. فأجابتها الفتاةُ بأن لا رغبة لدَيها في ذلك. حاوَلا إقناعها، لكنها تشبَّثَت برأيها بأنها لا يمكن أن تقبل بمثلِ هذا النوع من العمل أبدًا. فازداد وجهاهما تجهُّمًا أثناء حديث الفتاة، وعندما اقترَحا عليها لو أنها تصعد على الأقلِّ وترى مدى أناقة غرفة النوم التي ستَحْظى بها لو بقِيَت، أصابتها حيرةٌ شديدة منعَتها أن تفعل أيَّ شيء سوى أن ترضخَ لاقتراحهما. وتتذكَّر الفتاة أنها صعدَت أول مجموعة من درجات السُّلَّم والتي كانت مكسوَّةً بسجادة، والمجموعة الثانية من درجات السُّلَّم كان عليها ما وصفَته بأنه «شيء خشن» أسفل القدم، وكان ذلك كلَّ ما تذكَّرتْه حتى استيقظَت في الصباح على سريرٍ مُنخفض به عجَلات في عِلية ضيقة جرداءَ. لم تكن ترتدي سوى قميصِها الداخلي، واختفى أيُّ أثر لبقية ملابسها. وكان الباب مُقفلًا، ولم تتمكَّن من فتح النافذة الدائرية الصغيرة. في جميع الأحوال …»

قال روبرت، بانزعاج: «نافذة دائرية!»

لكن ماريون كانت هي مَنْ بادرَت بالرد عليه. فقالت، باهتمام: «نعم. نافذة دائرية في السطح بالأعلى.»

إذ إن آخِر ما فكَّر فيه لمَّا وصل إلى الباب الأماميِّ لمنزلها منذ دقائقَ معدودات هو أنه كم أُسِيء وضعُ النافذة الدائرية الصغيرة في سطح المنزل، وعندئذٍ بدا لروبرت أنه ليس تعليقًا مناسبًا. فترك جرانت مهلةً كالمعتاد على سبيل اللباقة، ثم أكمل حديثَه.

«بعد مدةٍ قصيرة وصلَت السيدة الشابة مع وعاءٍ من ثَريد الشوفان. رفضت الفتاةُ تناوُلَه وطلبَت إحضار ملابسها وإطلاق سراحها. فقالت السيدة الشابة بأنها ستأكله عندما يشتدُّ عليها الجوع بما يكفي ثم انصرفَت، وتركت ثريدَ الشوفان. وظلَّت الفتاة وحدها حتى المساء، عندما أحضرَت السيدة نفسُها الشايَ على صينيةٍ مع كعكٍ طازج وحاولَت إقناعها بأن تُجرِي مُحاوَلةً للعمل كخادمة. فرفضَت الفتاة مرةً أخرى، ولمدة عدة أيامٍ، طبقًا لروايتها، استمرَّ هذا الإقناع والترهيب بالتناوب، بين السيدتَين. بعد ذلك توصَّلت الفتاة إلى أنه إن كان بوُسعها كسرُ النافذة الدائرية الصغيرة، فربما تتمكَّن من التسلُّل إلى الخارج على السطح، المُحصَّن بسورٍ منخفض، ثم لَفْت انتباه أحد المارَّة، أو أحد التُّجَّار الزائرين، إلى مأزقها. ولسوء الحظ، لم يكن لدَيها أيُّ أدواتٍ سوى كرسي، وقد نجحَت فقط في شرخ الزجاج قبل أن تعترضَها السيدة الشابة، في غضبٍ عارم. فانتزعَت الكرسيَّ من الفتاة وأوسعتها ضربًا به حتى انقطعَت أنفاسها. فانصرفَت السيدة، وهي تحمل الكرسيَّ معها، وظنَّت الفتاة أن ذلك كان نهايةَ العقاب. في غُضون دقائق معدودات عادت السيدة الشابة ومعها ما تظنُّ الفتاةُ أنه كان سوطًا للكلب فضربتها به حتى أُغشي عليها. في اليوم التالي ظهرت السيدة العجوز وهي تحمل في يدِها مجموعةً من مُلاءات الفراش وقالت إنها إذا لم تكن ترغب في العمل فعلى الأقل يمكنها الخياطة. وإن امتنعَت عن الخياطة، فلا طعام لها. لكنها كانت شديدةَ العناد وامتنعَت عن الخياطة ولهذا لم يُقدَّم طعام لها. في اليوم التالي هُدِّدت بالضرب مرةً أخرى إن امتنعت عن الخياطة. لذلك رتَقَت الفتاةُ بعض المُلاءات وقُدِّم لها يَخني للعشاء. ظل هذا الاتفاقُ قائمًا بعض الوقت، لكن إن كانت خياطتها غيرَ مُتقنة أو غيرَ كافية، فإنها تُضرَب أو تُحرَم من الطعام. وذات مساء أحضرَت لها السيدة العجوز الوعاءَ المعتاد من اليخني وانصرفَت تاركةً الباب غيرَ مقفل. فانتظرت الفتاة، وفي ظنِّها أنه فخٌّ سينتهي بها إلى ضربٍ آخر، لكنها في النهاية جازفَت بالخروج إلى العتبة. ولم تسمع أيَّ صوتٍ، فنزلت عبر درجات السلَّم التي من دون سجاد. ثم نزلَت إلى درجات السلَّم الثانية ووصلت إلى العتبة الأولى. صار بوُسعها في تلك اللحظة أن تسمع السيدتَين تتحدثان في المطبخ. فتسللَت ونزلت عبر آخر درجاتٍ من السلَّم وهُرعت إلى الباب. لم يكن مقفلًا فأسرعت إلى الخارج كما هي في جُنح الليل.»

سأل روبرت: «وهي ترتدي قميصها الداخلي؟»

«نسيت أن أذكر أنهما قد أعادتا لها فستانها بدلًا من القميص الداخلي. حيث لم يتوفَّر بالعِلية أيُّ مصدر تدفئة، ومع تركها بلا شيء سوى قميص داخلي فكان مُرجحًا لها أن تموت.»

قال روبرت: «إن كانت حقًّا قد حُبست بالعِلية.»

وافقه المحققُ بلطفٍ: «إن كانت، على حدِّ قولك، قد حُبست في العِلية.» ومن دون أن يترك مهلتَه المُعتادة على سبيل اللباقة أردفَ قائلًا: «وهي لا تتذكَّر كثيرًا مما حدث بعد ذلك. وتقول، إنها سارت مسافةً كبيرة في الظلام. اتَّضح أنه طريقٌ سريع لكن لم تُقابل أي سيارات أو بشَرٍ عليه. ثم، على طريق رئيسي، بعد مدةٍ، رآها سائقُ شاحنة في ضوء المصباح الأمامي فتوقف ليُوصِّلها. كانت منهكةً بشدة، لدرجة أن النعاس غلَبَها في الحال. أفاقت من نومِها لمَّا حُمِلت لتقفَ على قدمَيها على جانب الطريق. كان سائقُ الشاحنة يَسخر منها ويقول بأنها تُشبه دُمية من نشارة الخشب فقدت الحشو بداخلها. بدا أن الوقت لا يزال في وقت الليل. فقال سائقُ الشاحنة إن ذلك هو المكان الذي قالت إنها تُريد النزولَ فيه، ثم قاد الشاحنةَ منصرفًا. وبعد قليلٍ تعرَّفَت على الناصية. حيث تبعد مسافةً تقلُّ عن مِيلَين من منزلها. سمعَت عقارب الساعة تُعلن عن الحادية عشرة. وفي مدةٍ وجيزة قبل منتصَف الليل وصلَت إلى منزلها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤