الفصل الحادي عشر

في نحو الساعة العاشرة والنصف صباحَ يوم الإثنين كان جالسًا أمام كوب قهوةٍ يتصاعدُ البخار منه في مقهى كارينا. بدأ بمقهى كارينا لأنه عندما يفكر أحدٌ في القهوة بأي حالٍ فإنه يفكر في كارينا، برائحة القهوة المُحمَّصة المُنتشرة في الطابق السفليِّ في المكان ومشروب القهوة المُنتظر في الطابق العلوي بين الطاولات الصغيرة، وإذا كان سيطلُب كميات كبيرة من القهوة فلربما سيَحظى بنوعٍ جيد في حين أنه لا يزال بإمكانه أن يتذوَّقها.

كان يحمل صحيفة «أك-إيما» في يدِه وصورة الفتاة ظاهرةٌ إلى مرأى النادلات أثناء مرورهن، آمِلًا بدرجةٍ ما أنَّ اهتمامه بها ربما يجعل إحداهنَّ تقول: «تلك الفتاة اعتادت المجيء هنا كلَّ صباح.» ما أثار دهشتَه أن الصحيفة سُحبت بلطفٍ من قبضتِه، فرفَع بصرَه لأعلى ليرى أن النادلة تنظر إليه بابتسامةٍ لطيفة. وقالت: «ذلك إصدارُ يوم الجمعة.» ثم تابعت قائلة: «تفضَّل.» ثم قدَّمت له إصدارَ هذا الصباح من نفس الصحيفة.

شكَرها وأخبرها بأنه بينما سيُسعده الاطلاعُ على إصدار هذا الصباح يُحبِّذ أن يحتفظ بإصدار الجمعة. هل هذه الفتاة، هذه الفتاة على الصفحة الأولى من إصدار الجمعة، جاءت من قبلُ إلى هنا لتناول القهوة؟

«أوه، لا، كنَّا سنتذكَّرها لو أنها جاءت. كنا نتناقش جميعًا في تلك القضية يوم الجمعة. تخيَّل ضربها حتى كادت أن تموتَ مثلما حدث.»

«إذن فأنتِ تظنِّين أنهما فعَلا ذلك.»

بدَت متحيرة. «الجريدة قالت إنهما فعلا ذلك.»

«لا، الجريدة تنقل ما قالته الفتاة.»

بدا واضحًا أنها لم تفهم ما قيل. هذه كانت الديموقراطية التي نُقدِّسها.

«ليس لهم أن ينشروا قصةً مثل تلك إذا لم تكن حقيقية. قد يُكلفهم الأمر حياتهم. هل أنت مُحقق؟»

قال روبرت: «بدوام جزئي.»

«كم تتقاضى في الساعة مقابل ذلك؟»

«ليس ما يكفي على الإطلاق.»

«أجل، أفترضُ ذلك. أظن أنه ليس لدَيك نقابة. لا تحصل على حقوقك في هذا العالم إذا لم يكن لديك نقابة.»

قال روبرت: «صحيحٌ تمامًا. اسمحي لي بالحساب، من فضلك.»

«فاتورتك، أجل.»

في بالاس، أكبرُ وأحدث دُور السينما، شغل المطعم الطابق خلف البلكون، وكانت به سجاداتٌ طويلة للغاية لدرجة أن المرء قد يتعثَّر فيها، والإضاءة هادئة حتى إن جميع أغطية المائدة بدَت وكأنها متَّسخة. إحدى النادلات الضاجرات وهي فتاة جذَّابة ذات شعرٍ ذهبي، مع حاشية غير مستوية على تنورتها، وقطعة من العلكة في فكِّها الأيمن، أخذت طلَبَه دون حتى النظر إليه، وبعد خمسَ عشرة دقيقةً وضَعَت فنجانًا من مشروبٍ غير مركز أمامه من دون أن تسمح لعينَيها بالشرود تقريبًا في اتجاهه. وحيث إن روبرت في غضون الخمسَ عشرة دقيقةً كان قد اكتشف أن أسلوب تحاشي النظر إلى الزبائن هو أسلوب منتشر — على افتراض أنهنَّ جميعًا سيُصبحن نجماتِ سينما في العام بعد القادم، ولا يُتوقَّع منهن إبداءُ أي اهتمام بزبون قروي — دفع حساب المشروب الذي لم يتذوَّقه ثم انصرف.

في كاسيل، السينما الكبيرة الأخرى، لم يفتح المطعم حتى وقتِ ما بعد الظهر.

في فايولت — حيث اللونُ البنفسَجيُّ الفخم في كل مكان والستائر الصفراء — لم يكن أحدٌ قد رآها. سألهم روبرت صراحةً، مُتخلِّيًا عن كياسته.

في الأعلى عند جريفون ووولدرن، ذلك المتجر الكبير، كانت حينها ساعةُ الذروة فقالت النادلة: «لا تُزعجني!» قالت المديرة، وهي تنظر إليه بشكٍّ شارد: «نحن لا نُعطي معلوماتٍ أبدًا عن زبائننا.»

في أولد أوك — وهو مطعم صغير ومُظلم ولطيف — ناقشَت النادلاتُ العجوزات القضيةَ باهتمامٍ معه. وقُلن: «حبيبتي المسكينة. يا لها من تجرِبة قاسَتْها! مثل هذا الوجه اللطيف. إنها مجرد طفلة. حبيبتي المسكينة.»

في ألنسون — حيث الطلاء ذو اللون الكريمي والأرائكُ ذات اللون الوردي الضارب إلى الرمادي الموضوعة أمام الجدران — أوضَحوا أنه لم يسبق لهم أن سمعوا عن صحيفة «أك-إيما»، ولم يكن مُحتملًا أنَّ لديهم زبونًا ظهرَت صورتُه في مثل هذه الجريدة.

في هيف هو — حيث اللوحاتُ الجدارية عن البحر والنادلات اللاتي يرتدين بناطيلَ متَّسعة من تحت الركبتين — أعطت العاملات رأيهنَّ وكأنه رأيٌ بالإجماع، أن أيَّ فتاة تقبل بالتوصيل يجب أن تتوقَّع أن عليها السيرَ إلى المنزل.

في بريمروز — حيث الطاولاتُ العتيقة المُلَّمعة مع حصائر الرافيا والنادلات غير المُحترفات في ثيابهن الفضفاضة المزدانة بالزهور — كنَّ يُناقشن التداعياتِ الاجتماعيةَ لقلَّة العمالة المنزلية ونزوات عقول المراهقين.

في تي-بوت، لم تكن هناك طاولةٌ ليجلس عليها، ولا نادلةٌ على استعداد لخدمته؛ لكنَّ نظرةً ثانية على المكان المليء بالذباب جعلَته واثقًا أنَّه، من بين الاختيارات الأخرى، لم يكن ممكنًا لبيتي كين أن تأتيَ هنا.

في الساعة الثانية عشرة والنصف دلف إلى ردهة فندق ميدلاند، وطلب مشروبًا كحوليًّا. إلى حدِّ علمه كان قد غطَّى جميع أماكن الطعام المحتملة في وسط لاربورو ولم يكن أحدٌ قد تذكَّر رؤية الفتاة في أيٍّ من تلك الأماكن. وما كان أسوأ من ذلك، أنهم كلهم أجمَعوا على أنها لو ذهبَت هناك لكان من الممكن أن يتذكَّروها. كانوا قد أشاروا، عندما تشكَّك روبرت في ذلك، أن نسبةً كبيرة من زبائنهم في أي يومٍ هم زبائن دائمون؛ ولذلك فالزبائن العابرون يُصبحون لافِتين للنظر دون البقية، ويمكن ملاحظتُهم وتذكُّرهم تلقائيًّا.

بينما كان يضع ألبرت، وهو نادل شابٌّ بَدين، مشروبه أمامه، سأله روبرت، بحكم الاعتياد أكثر من كونه بملء إرادته: «أظن أنك لم ترَ هذه الفتاة قط في الردهة هنا، يا ألبرت؟»

نظر ألبرت إلى الصفحة الأولى من صحيفة «أك-إيما» وهز رأسه. «لا، يا سيدي. لا أتذكر ذلك. تبدو صغيرة، يا سيدي، إن جاز لي القول، على دخول ردهة فندق ميدلاند.»

قال روبرت، مُدققًا فيها: «ربما أنها لم تبدُ صغيرةً بالدرجة وهي ترتدي قبعة.»

توقَّف ألبرت وقال: «قبَّعة.» ثم وضع الصينية الصغيرة وأمسك بالصحيفة ليُدقق فيها: «انتظر لحظةً الآن. قبعة.» ثم تابع قائلًا: «أجل، بالطبع؛ تلك هي الفتاة ذات القبعة الخضراء!»

«أتقصد أنها جاءت هنا لشُرب القهوة؟»

«لا، لشرب الشاي.»

«الشاي!»

«أجل، بالطبع، تلك هي الفتاة. عجبًا لي أني لم أتبيَّن ذلك، كانت لدَينا تلك الصحيفةُ في خِزانة المُؤَن الجمعةَ الماضية وتناقشنا في الخبر ساعات! بالطبع مرَّ بعض الوقت منذ ذلك الحين، أليس كذلك؟ لا بد أن الأمر منذ نحو ستةِ أسابيع أو أكثر. كانت تأتي دائمًا في ساعةٍ مبكرة؛ في حدود الساعة الثالثة، عندما نبدأ في تقديم الشاي.»

وبهذا فإن ذلك هو ما فعَلَته. من الحماقة أنه لم يكن ليفهم ذلك. فهي ذهبَت في الصباح إلى السينما في الوقتِ الذي يُدفع فيه ثمنٌ أرخصُ للتذكرة — كان ذلك قبل الظهر تحديدًا — ثم تخرج في نحو الساعة الثالثة، وتتناول شايًا، وليس قهوة. لكن لمَ ميدلاند، حيث الشاي كان مشروبًا فندقيًّا لا مذاق له وغاليَ الثمن كالمعتاد، لمَّا كان بإمكانها التنعُّم بأصناف الكعك في أي مكانٍ آخر؟

«لاحظتُها لأنها كانت تأتي دائمًا وحدَها. أول مرة جاءت فيها ظننتُها كانت تنتظر أقاربَ لها. كانت تبدو أنها من ذلك النوع من الأطفال. كما تعرف؛ ملابس لطيفة بسيطة، وليس هناك ما يُميز هيئتها.»

«هل لك أن تتذكَّر ما كانت ترتديه؟»

«أجل. كانت دائمًا ترتدي الثيابَ نفسَها. قبعة خضراء وفستانًا متناسقًا معها تحت معطف رمادي شاحب. لكنها لم تُقابل أحدًا قط. ثم ذات يومٍ تودَّدت إلى الرجل الذي كان في الطاولة المجاورة. صُعِقتُ من ذلك.»

«تقصد أنه تودَّد إليها.»

«ألا تُصدق ذلك! لم يكن قد فكَّر فيها عندما جلس هناك. أؤكِّد لك، يا سيدي، لم تكن تبدو من ذلك النوع. كان المرء سيتوقَّع أن تظهر عمةٌ أو أمٌّ في أي لحظةٍ وتقول: «أعتذر أني أبقيتُكِ في انتظاري يا عزيزتي». لم تكن لتخطرَ ببالِ أي رجلٍ كاحتمالٍ وارد. غير معقول؛ إن الطفلة هي مَن بدَأَت. وكما لو كانت محترفة، دعني أُخبرك، يا سيدي، لمستوًى يرقى إلى أنها كانت قد أمضَت حياتها تتودَّد إلى الرجال. يا إلهي، أتصوَّر أني لم أرَها مرةً أخرى من دون قبعتها!» ثم حدق في تعجُّبٍ إلى الوجه المصوَّر.

«ما هيئة الرجل؟ هل تعرفه؟»

«لا، لم يكن أحدَ زبائننا الدائمين. له بشرةٌ سمراء. صغير السن. رجلُ أعمال مُهذَّب، أؤكد لك. أتذكر أني فوجئتُ قليلًا من ذَوقها؛ ولهذا لا أظن أنه كان مُستعدًّا لذلك كثيرًا، هذا ما خطر في بالي الآن.»

«ليس بإمكانك التعرفُ عليه مرة أخرى، إذن؟»

«ربما أستطيع، سيدي، ربما. لكن لا أستطيع القسَم. هل تنوي إخضاعي للقسم يا سيدي؟»

كان روبرت قد عرَف ألبرت منذ قرابة عشرين عامًا وقد وجده دائمًا شخصًا متحفظًا بامتياز. فقال: «الأمر على هذا النحو، يا ألبرت». وتابع: «هاتان مُوكلتان لديَّ.» ثم نقَر بإصبعه على صورة منزل فرنتشايز، فأطلق ألبرت صفيرًا بصوتٍ منخفض.

«وضعٌ عسير عليك يا سيد بلير.»

«أجل، كما تقول: وضع عسير. لكن على الأغلب بالنسبة إليهما. عسيرٌ بدرجةٍ لا تُصدَّق بالنسبة إليهما. لقد جاءت الفتاة ذاتَ يومٍ على نحوٍ غير متوقَّع برفقة الشرطة، إلى هاتَين اللتَين روَت عنهما هذه القصةَ الخيالية. حتى ذلك الحين لم تكن أيٌّ من السيدتَين قد رأتها من قبل. وقد تعاملت الشرطة مع الأمر بحكمةٍ للغاية، وتوصَّلَت إلى أنها ليس لدَيها من الأدلة ما يكفي لرفع القضية أمام المحكمة. ثم تسمع صحيفة «أك-إيما» عن الواقعة وتستغلُّ الوضع لصالحها، فتنتشر القصة في ربوع بريطانيا. ولا حماية على منزل فرنتشايز، بالطبع. والشرطة لا يمكن لها أن توفِّر رجالًا لحمايته حمايةً دائمة، وبهذا فإن بإمكانك أن تتخيَّل الحياة التي تعيشها تلك السيدتان. يقول ابنُ عمي الشابُّ، الذي مر عليهما الليلةَ الماضية قبل العشاء، إنه منذ وقت الغَداء فصاعدًا وصلَت مجموعةٌ من السيارات قادمة من لاربورو، فوقف هؤلاء الناس على الأسطح، أو رفعوا أنفسهم فوق السور ليُحدقوا النظر أو ليلتقِطوا صورًا فوتوغرافية. دخل نيفيل لأنه وصل في الوقت نفسِه الذي وصل فيه شرطي الدورية المسائية، لكن بمجرد أن انصرف، احتشدَت السيارات مرة أخرى. وظل الهاتف لا ينقطع عن الاتصال إلى أن طلبوا من مكتب السنترال ألا يُحوِّل أي مكالمات أكثرَ من ذلك.»

«هل انسحبَت الشرطة من القضية نهائيًّا، إذن؟»

«لا، لكن ليس بوُسعهم فعلُ أيِّ شيء لمساعدتنا. ما يبحثون عنه هو دليلٌ مؤيد لقصة الفتاة.»

«حسنًا، هذا مُستبعد تمامًا، أليس كذلك؟ أقصد مُستبعد لهم أن يتوصَّلوا إليه.»

«نعم. لكنك ترى الوضع الذي نحن فيه. لو لم نتمكن من اكتشاف أين كانت الفتاةُ أثناء تلك الأسابيع التي تقول إنها قضَتها في منزل فرنتشايز، فإن السيدتَين شارب ستُصبحان مُدانتَين دائمًا بشيءٍ لم تُتَّهما به حتى!»

«حسنًا، إذا كانت تلك هي الفتاة ذات القبعة الخضراء — وأثق في ذلك يا سيدي — فسأقول إنها ما يُطلَق عليه «تعربد» يا سيدي. كانت زبونة غيرَ معتادة للغاية بالنسبة إلى فتاة في ذلك العمر. متصنِّعة للبراءة.»

وكان بائع السجائر قد قال عن الطفلة بيتي: «متصنعة للبراءة.»

و«العربدة» كان حكم ستانلي على الوجه الذي التُقِطَت الصورة له بأنه يُشبه كثيرًا وجه «الفتاة التي كان قد رافقها في مصر.»

وكان النادل الصغير المُحنَّك قد استخدم كِلتا العبارتَين في رأيه عنها. الفتاة الخجولة في ثيابها «الأنيقة»، التي تأتي كل يومٍ وحدَها لتجلس في ردهة الفندق.

استيقظ الجانبُ اللطيف منه فقال: «ربما كانت مجرد رغبة طفولية لأن تُصبح «كبيرة».» لكنَّ حسَّه المنطقي استنكر ذلك. فكان بإمكانها أن تُصبح كبيرةً في ألنسون، وتأكل بشهيةٍ، وترى ملابسَ أنيقة في الآنِ ذاتِه.

ذهب لتناول الغداء داخل الفندق ثم قضى وقتًا كبيرًا من وقتِ ما بعد الظهر يُحاول الوصول إلى السيدة وين على الهاتف. لم يكن لدى السيدة تيلسيت هاتفٌ، وهو لم تكن لدَيه نية أن يُورط نفسه في محادثةٍ مع السيدة تيلسيت مرةً أخرى إذا قَدَر على ذلك. عندما أخفَق تذكَّر أن سكوتلاند يارد ربما بكل تأكيد، بأسلوبهم الدقيق، لديهم وصفٌ للملابس التي كانت ترتديها الفتاةُ عندما تغيَّبَت. وفي أقلَّ من سبع دقائق، صار لديه الوصف. قبعةٌ خضراء من اللباد، وفستان أخضرُ مُتناسِق من الصوف، ومعطف رمادي شاحبٌ به أزرار رمادية كبيرة، وجواربُ من حرير الرايون لونه رمادي مائلٌ إلى البنِّي وحذاء خفيف أسود وكعب متوسط.

حسنًا، على الأقل توصَّل إليه، ذلك المكان الذي بدأت منه الأحداث؛ نقطة بداية التحريات. فغمَرَته السعادة. جلس في الردهة وهو في طريقه للانصراف وكتب رسالةً عاجلة ليُخبر كيفين ماكديرموت أن الفتاة الشابة من إيلزبري لم تكن على القدْرِ نفسِه من الجاذبية مثلما قد كانت يوم الجمعة ليلًا؛ وكذلك ليُخبره، بالطبع — بين السطور — أن مكتب بلير وهيوارد وبينيت بإمكانه أن يمضيَ قُدمًا عندما يقتضي الأمر.

وجَّه السؤال إلى ألبرت، الذي كان يحوم حوله: «هل عادت في أي وقتٍ آخَر؟» ثم تابع قائلًا: «أقصد، بعد أن كانت قد «وجدَت رفيقها».»

«لا أتذكَّر أني رأيتُ على الإطلاق أحدًا منهما مرةً أخرى يا سيدي.»

إذن، الشخص الافتراضيُّ «س» لم يَعُد افتراضيًّا. لقد أصبح الشخصَ «س» بكلِّ وضوح. كان ممكنًا لروبرت أن يعود الليلة إلى منزل فرنتشايز منتصرًا. فقد طرح نظريةً، وتبيَّن أن النظرية حقيقة، وهو الذي أثبتَ أنها حقيقة. من المؤسِف، بالطبع، أن الرسائل التي تسلَّمتْها سكوتلاند يارد حتى ذلك الحينِ جميعها كانت مجردَ رسائل ذمٍّ مجهولة في سكوتلاند يارد على «تساهُلها» مع «الأثرياء»، ولا تُوجَد أيُّ مزاعمَ عن رؤية بيتي كين. من المُحبِط أن كل فرد قد حاوره ذلك الصباح صدَّق قصة الفتاة دون شك؛ وقد اندهَشوا وتحيَّروا، بالفعل عندما طلب منهم التفكير في أي وجهة نظر أخرى. «هكذا قالت الصحيفة.» لكن تلك أمورٌ بسيطة مقارنة بالسعادة التي شعر بها لوصولِه إلى نقطة البداية؛ ومن اكتشافه للشخص «س». لم يُصدق أن القدَر قد يكون قاسيًا لكي يُثبت أن بيتي كين افترقَت عن رفيقها الجديد في ميدلاند ولم ترَه قط مرةً أخرى. لا بد أن هناك امتدادًا لذلك الحدث الذي وقع في الردهة. فتاريخ الأحداث التي وقعَت في الأسابيع التالية يقتضي ذلك.

لكن كيف له أن يقتفيَ أثرَ رجل أعمالٍ شابٍّ مهذَّب ذي بشرة سمراء، كان قد شرب شايًا في ردهة فندق ميدلاند منذ قرابة ستة أسابيعَ مضَت؟! ورجال الأعمال من الشباب ذوي البشرة السمراء كانوا زبائنَ في فندق ميدلاند؛ وإلى الحدِّ الذي بإمكان روبرت أن يُلاحظه فإنهم جميعًا متشابهون تمامًا على أي حال. كان يخشى كثيرًا أن تكون هذه هي النقطةَ التي يجب عندها الانسحابُ وإحالةُ الأمر إلى مُحقِّق مُحترف. لم يكن لديه صورةٌ هذه المرة حتى تُساعده؛ ولا معلوماتٌ عن شخصية الرجل «س» أو عاداته، كما كان لدَيه في حالة الفتاة. ربما ستكون عمليةً مطوَّلة من التحرِّيات الصغيرة؛ وتلك مهمةُ خبيرٍ. كل ما كان بوُسعه أن يفعله في تلك اللحظة، حسَب تقديره، هو أن يحصل على قائمةٍ بالمُقيمين في فندق ميدلاند خلال الفترة المعنيَّة.

لذلك ذهب إلى المدير؛ وهو رجلٌ فرنسي أبْدَى سعادةً بالغة وتفهُّمًا لهذا الإجراء السرِّي، وكان متعاطفًا بشدةٍ تجاه السيدتَين المستاءتَين في منزل فرنتشايز، ومتشككًا على نحو مريح من الفتيات الصغيرات ذوات الوجه الهادئ والثياب الأنيقة، واللائي يبدون وكأنهنَّ يتصنَّعن البراءة. وأرسل أحدَ الموظفين حتى ينسخَ المُدخَلات من السجلِّ الكبير، وقدم لروبرت على سبيل الضيافة مشروبَ فاكهة مركَّزًا من خِزانته الشخصية. لم يكن روبرت مؤيدًا لذوق الفرنسيِّين في تناول جرعات حلوة صغيرة من مشروبات مجهولة في أوقاتٍ غريبة، لكنه تجرَّع ذلك الشيءَ بامتنان، ووضع القائمة التي أحضرها الموظفُ في جيبه مثلما يضعُ المرء جوازَ السفر في جيبه. فربما كانت قيمتها الفعلية لا تُساوي شيئًا، لكنها منحَته شعورًا لطيفًا باقتنائها.

وإذا توجَّب عليه أن يُحيل المهمة إلى محترف، فسيحصل ذلك المحترف على النقطة التي يجب أن يبدأ في التحرِّي عندها. لم يكن مرُجَّحًا أن الشخص «س» قد أقام في فندق ميدلاند في حياته؛ كان مُرجحًا أنه قد زاره فحسبُ لتناول الشاي ذاتَ يوم. وعلى الجانب الآخر، ربما كان اسمُه ضمن تلك القائمة التي في جيبه؛ تلك القائمة الطويلة على نحوٍ مُثير للهلع.

بينما كان يقود عائدًا إلى منزله قرَّر أنه لن يتوقفَ عند منزل فرنتشايز. لم يكن أمرًا لطيفًا أن يأتي بماريون إلى البوابة لمجرد أن يُنبئها بأخبارٍ كان من المُمكن إخبارُها بها على الهاتف. كان سيُخبر مكتبَ السنترال بمَن هو، وحقيقة أن المكالمة رسمية، وهما كانتا ستُجيبان عنها. ربما بحلول الغد ستكون الحشودُ المنهمرة قد فَتَر اهتمامُها بالمنزل، ويصبح آمنًا إزالةُ الحاجز الخشبي عن البوابة مرةً أخرى. لكنْ ساورَه شكٌّ في ذلك. لم يكن محتملًا من صحيفة «أك-إيما» اليوم أن يكون لها تأثيرٌ مُهدِّئ على عقول عامة الناس. صحيحٌ أنه غابت أيُّ عناوين رئيسية أخرى عنها في الصفحة الأولى؛ فكانت قضية منزل فرنتشايز قد نقَلَت نفسها إلى صفحة المراسلات. لكن كان مُستبعَدًا أن الرسائل التي اختارت صحيفةُ «أك-إيما» أن تنشرَها فيها — وكان ثلُثاها عن قضية منزل فرنتشايز — ستعمل على تهدئة الأمر. فكانت بمثابة كيروسين على نارٍ تتأجَّج على نحوٍ نشط تمامًا على أي حال.

سالكًا طريقه بعيدًا عن ازدحام لاربورو، عادت العباراتُ السخيفة لتتواردَ على ذهنه، فتعجَّب مرةً أخرى من الغل الذي أثارته تلك السيدتان في عقول الكُتَّاب. فانصبَّ الغضب والكراهية صبًّا على الورق، وسرى الحقد بلا رقيبٍ في الجُمَل التي كانت دون المستوى إلى حدٍّ كبير. كان عرضًا مذهلًا. وأحدُ الأمور الغريبة فيها هو الأمنيَّة العزيزة لكثيرٍ من أولئك المعارضين الحانقين ضدَّ العنف أن تُجلَد السيدتان المذكورتان حتى آخِر نفَسٍ لهما. وأولئك الذين لم يُريدوا جلد السيدتَين أرادوا إصلاح جهاز الشرطة. اقترَح أحدُ الكُتَّاب أنه يجب تخصيصُ صندوقٍ مالي من أجل الضحايا من الشباب المساكين المُتضرِّرين من عدم كفاءة الشرطة وتحيزها. واقترح آخرُ أنه ينبغي لكلِّ رجلٍ حسَنِ النية أن يكتب إلى عضو البرلمان التابع له عن الأمر، ويجعلوا حياته جحيمًا حتى تُنجز خطوة بشأن هذا الإخفاق الذي وقعَت فيه العدالة. لكنَّ كاتبًا آخَر سأل إن كان أحدٌ قد لاحظ التشابُهَ الواضح بين بيتي كين والقدِّيسة بيرناديت.

كانت هناك كلُّ المؤشرات التي تدلُّ على مولد جمهورٍ من المُعجَبين ببيتي كين، إذا كانت صفحةُ المراسلات لصحيفة «أك-إيما» اليوم تُمثل أيَّ معيارٍ. وتمنَّى ألا تُصبح النتيجة المُترتِّبة على ذلك هي الثأرَ من منزل فرنتشايز.

بينما كان يقتربُ من المنزل البائس، ازداد اضطرابًا؛ وتساءل إن كان يومُ الاثنين، أيضًا، قد قدَّم حصته من المشاهِدين. كان مساءً خلَّابًا، وشمسُ الغروب تُمِيل رُقعًا ذهبيةً من الضوء على حقول الربيع؛ مساءً مُغوِيًا حتى إلى لاربورو من أجل الخروج إلى الأجواء الشاحبة في ريف ميلفورد؛ ستصير معجزة إذا لم يكن منزل فرنتشايز، بعد المراسلات في صحيفة «أك-إيما»، هو قبلةَ الحجِّ المسائي. لكنه لمَّا صار على مرمى بصره وجد امتدادًا طويلًا من الطريق مهجورًا؛ ولمَّا صار أكثرَ قربًا عرَف السبب. عند بوابة منزل فرنتشايز، كان ثابتًا وجامدًا ولامعًا في ضوء المساء، جسد شرطي في زيِّه ذي اللون الأزرق الداكن والفِضي.

ابتهج أن هالم كان سخيًّا للغاية وأرسل شرطيًّا من قوته القليلة، فأبطأ روبرت السير لتبادُل التحيَّات؛ لكن التحية اختفَت من على شفتَيه. فعبر السور الطويل كاملًا، كُتب شعارٌ بحروفٍ كبيرة على ارتفاع ستِّ أقدام تقريبًا. فصرَخَت الحروف الكبيرة البيضاء بكلمة: «الفاشيتان!» ومرة أخرى على الجانب البعيد من البوابة: «الفاشيتان!»

قال الشرطيُّ بأسلوبِ تهديدٍ مهذَّب، عند اقتراب روبرت ببطءٍ وهو يُحدق: «ابتعد، من فضلك». ثم أضاف قائلًا: «غير مسموح بالتوقُّف هنا.»

خرج روبرت ببطءٍ من سيارته.

«أوه، سيد بلير. لم أتعرَّف عليك سيدي. أعتذر إليك.»

«أهذا طِلاء بالجير؟»

«لا يا سيدي؛ بل طلاءٌ على أعلى جودة.»

«يا إلهي!»

«بعض الأشخاص لا يكبرون أبدًا على ذلك.»

«على أي شيء؟»

«كتابةُ أشياءٍ على الجدران. لكن هناك أمر واحد؛ كان من الممكن أن يكتبوا أسوأَ من ذلك.»

قال روبرت متهكِّمًا: «إنهم كتبوا أسوأَ إهانةٍ عرَفوها». وأضاف: «أفترض أنك لم تُمسك بمن فعلوا ذلك؟»

«لا سيدي. أتيتُ مُسرعًا إلى دوريَّتي المسائية لأُبعد المتطفِّلين المُعتادين — أجل، كان حاضرًا العشراتُ منهم — ووجدتُ الجدران هكذا عندما وصلت. رجلان في سيارةٍ، إن كانت جميع التقارير صحيحة.»

«هل علمَت السيدتان شارب بذلك؟»

«أجل، كان عليَّ أن أدخل لأتحدثَ عبر الهاتف. أصبح لدَينا شفرةٌ الآن، بيننا وبين السيدتَين في منزل فرنتشايز. أربط منديلي في طرَف هراوتي ثم ألوِّح بها من أعلى البوابة عندما أريد التحدث إليهما. هل تريد الدخول إليهما يا سيدي؟»

«لا. لا، لا أظن بوجهٍ عام. سأطلب من مكتب البريد العام أن يسمحوا لي بالوصول إليهما عبر الهاتف. لا داعيَ لإحضارهما إلى البوابة. إن كان هذا الوضع سيستمر، فلا بدَّ أن يحصلا على مفاتيحَ للبوابة حتى أستطيع بذلك أن أحصلَ على نسخةٍ ثانية.»

«يبدو وكأنه سيستمرُّ بلا شك يا سيدي. هل رأيتَ صحيفة «أك-إيما» اليوم؟»

«أجل.»

قال الشرطي، فاقدًا رباطةَ جأشه عند التفكير في صحيفة «أك-إيما»: «يا إلهي! لو استمعت إليهم فستظن أننا لسنا إلا مجموعةً من المُتلهفين على المال! ومن عجَب العجاب أننا لسنا كذلك، في الحقيقة. ربما يُناسبهم بشكلٍ أفضلَ التحركُ للمطالبة برفع رواتبنا بدلًا من تشويه سُمعتنا في كلِّ مكان.»

قال روبرت: «أنت تعمل في جهةٍ محترمة، إذا كان في الأمر عزاءٌ لك.» ثم تابع قائلًا: «لا يُوجَد شيءٌ مستقر، أو محترم، أو جديرٌ بالثناء لم يشوهوا سُمعته من وقتٍ لآخَر. سأرسل شخصًا إما الليلةَ أو أول شيء سأفعله في الصباح ليفعلَ شيئًا حيالَ هذه … البذاءة. هل ستبقى هنا؟»

«قال السيرجنت عندما اتصلتُ به إن عليَّ البقاءَ حتى يحلَّ الظلام.»

«ألن يحضر شرطيٌّ آخرُ أثناء الليل؟»

«كلَّا يا سيدي. ليس هناك رجالٌ آخَرون من أجل ذلك. على أي حال، ستصبحان على ما يُرام عندما يغيب الضوء. الناس ستعود إلى منازلها. لا سيما الناس مِن لاربورو. فهم لا يُحبون الريف بمجرد أن يحلَّ عليها الظلام.»

تشكَّك في الأمر روبرت، الذي تذكَّر حينها مدى السكونِ الذي يُصبح فيه هذا المنزلُ المهجور. سيدتان، وحيدتان في ذلك المنزل الهادئ الكبير بعد حلول الظلام، ومع مشاعر الكراهية والعنف خارج السور تحديدًا — فلم يكن ذلك شعورًا مريحًا. البوابة كانت مُغلقة، لكن إذا كان بإمكان الناس أن يرفَعوا أنفسهم على السور حتى يجلسوا هناك وينهالوا بوابلٍ من الإهانات، فإنَّ بإمكانهم النزولَ بهذا القدر من السهولة إلى الجانب الآخَر في الظلام.

قال الشرطي، مُراقبًا وجْهَه: «لا تقلق يا سيدي.» ثم تابعَ قائلًا: «لا شيء سيحدُث لهما. هذه إنجلترا، رغم أي شيء.»

ذكَّره روبرت: «وهذه أيضًا إنجلترا التي ترعى «أك-إيما».» لكنه عاد إلى سيارته مرةً أخرى. ورغم أيِّ شيء، إنها إنجلترا، وإنه الريف الإنجليزي رغم ذلك، المعروف بأنه لا يتدخَّل فيما لا يَعنيه. لم تكن اليدُ التي كتبت على السور «الفاشيتان!» هي يد من الريف. من المشكوك فيه إذا كان الريفُ قد سمع هذا المصطلح قبل ذلك. يَستخدم الريف، عندما يريد توجيهَ إهاناتٍ، ألفاظًا ساكسونية أكثرَ قِدمًا.

كان الشرطيُّ مُحقًّا بلا شك؛ فما إن يحل الظلام حتى يعود كلُّ فردٍ إلى منزله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤