الفصل الثاني عشر

بينما دخل روبرت بسيارته نحو المرأب في سين لين وتوقَّف، نظر ستانلي، الذي كان يخلع زيَّ العمل خارج باب المكتب، إلى وجهه وقال: «هل خاب مَسعاك مرةً أخرى؟»

قال روبرت: «الأمر ليس رِهانًا. إنها طبيعةٌ بشرية.»

«إذا بدأتَ تشعر بالأسف على طبيعة البشر فلن يعودَ لديك وقتٌ لأيِّ شيء آخَر. هل كنتَ تُحاول تقويم أحدٍ؟»

«لا، كنتُ أُحاول الاستعانةَ بأحدٍ ليُزيل طلاءً من أحد الجدران.»

«أوه، عمل!» كانت نبرة ستانلي تُشير إلى أنَّ توقُّع قيام أحدٍ بمهمةِ عملٍ في تلك الأيام هو تفاؤلٌ إلى حدِّ السخف.

«كنتُ أحاول الوصول إلى شخصٍ ليُزيل شعارًا من على جدران منزل فرنتشايز، لكنهم جميعًا مشغولون فجأةً بدرجة غير عادية.»

توقَّف ستانلي عن خلع زيِّه. ثم قال: «شعار.» وأضاف: «أيُّ نوع من الشعارات؟» وبيل، الذي كان يسمع الحوارَ الدائر بينهما، أقحَم نفسَه من باب المكتب الضيق ليستمِع.

أخبرهما روبرت. «طلاءٌ أبيض على أعلى جودةٍ، هكذا يؤكِّد لي شرطيُّ الدورية.»

صفَّر بيل. أما ستانلي فلم ينطق بشيء؛ كان واقفًا وزيُّ عمله مخلوعٌ لأسفل حتى خصرِه ومكوَّم في طياتٍ حول رجلَيه.

سأل بيل: «مع مَن حاولت؟»

فأخبرهما روبرت. «لا يمكن لأيِّ أحدٍ منهم أن يفعل شيئًا الليلة، وغدًا في الصباح، يبدو أن جميع رجالهم سيذهبون باكرًا لقضاء أشغالٍ مهمة.»

قال بيل: «غير معقول». وتابع: «لا تُخبرني بأنهم يخشَون من الانتقام!»

«لا، إحقاقًا للحقِّ لا أعتقد أن الأمر هكذا. وأعتقد، رغم أنه لم يكن لأحدٍ أن يقولَ ذلك أبدًا لي، أنهم يظنُّون أن هاتين السيدتَين في منزل فرنتشايز تستحقَّان ذلك.» ساد الصمت لحظةً.

قال ستانلي، وهو يبدأ بتأنٍّ في سحبِ زيِّ عمله لأعلى ويرتدي النصفَ العُلوي منه مرةً أخرى: «عندما كنتُ مجنَّدًا في سلاح الإشارة الملكي، مُنحت جولةً حُرة في إيطاليا. استغرقَت قرابة عام. وفرَرتُ من الملاريا، والإيطاليين، والمتحزبين، ومن نقل الأمريكيين، ومن أشياءَ قليلةٍ أخرى مُزعجة. لكن أصابني رُهاب. وأصبح لديَّ نفور شديد من الشعارات على الجدران.»

سأل بيل: «ماذا سنستخدِم حتى نُزيله؟»

قال ستانلي، وهو يُغلق سحَّابه الأمامي: «ما فائدةُ أن تمتلك أفضلَ مَرأبٍ مُجهَّز وعلى أحدث مستوًى في ميلفورد، إذا لم يكن لدينا شيءٌ لنُزيل به هذه اللطخةَ من الطلاء؟»

سأل روبرت، متفاجئًا وسعيدًا: «أستحاولان حقًّا أن تفعلا شيئًا حيال الأمر؟»

ابتسم بيل ابتسامته الواسعة البطيئة. وقال: «رجلان أحدهما كان في سلاح الإشارة، والآخر من فيلق المهندسين الكهربائيين والميكانيكيين الملكيين، ومِقشَّتان. فماذا تريد أكثرَ من ذلك؟»

قال روبرت: «فليُبارِك الله لك.» وأضاف: «فليُبارك الله لكما. لا أطمح إلا في شيءٍ واحد هذه الليلة؛ ألا وهو أن أمحوَ ذلك الشِّعار من السور قبل موعد الإفطار غدًا. سآتي وأُساعدكما.»

قال ستانلي: «ليس ببدلة سافيل رو، أليس كذلك؟ وليس لدَينا زيًّا إضافيًّا من …»

«سأرتدي ملابسَ قديمة وسألحق بكما.»

قال ستانلي بتروٍّ: «انظر، لسنا في حاجةٍ إلى أيِّ مساعدة في مهمةٍ صغيرة كتلك. وإذا صِرنا في حاجةٍ إلى ذلك، فسنأخذ هاري.» كان هاري هو صبيَّ المرأب. «أنت لم تأكل بعدُ ونحن قد أكلنا، وقد سمعتُ أنه يُقال إن الآنسة بينيت لا تحبُّ أن تَتْلف وجباتُها اللذيذة. أعتقد أنك لن تُمانع إذا بدا السورُ ملطخًا، نحن مجرَّد عامِلَي مرأبٍ ذوَي نوايا طيبة، ولسنا عُمالَ ديكور.»

كانت المتاجر مغلقة أثناء سيره نحو هاي ستريت قاصدًا منزله رقم ١٠، وكان ينظر إلى المكان كغريبٍ يسير مُتمهِّلًا في يوم أحدٍ على الأرجح. كان قد ابتعَد عن ميلفورد مدةً طويلة خلال يومِه في لاربورو لدرجة أنه شعَر بأنه كان قد غاب عنها سنوات. استقبله هذا الهدوءُ المريح الذي يسودُ المنزل رقم ١٠ — الذي يختلف اختلافًا شاسعًا عن الصمت المميت لمنزل فرنتشايز — وخفَّف عنه. تسلَّلت من المطبخ رائحة خفيفة لتفاحٍ مشوي. ارتعش ضوءُ المدفأة على حائط غرفة الجلوس، الذي كان مرئيًّا من بابها المفتوح حتى نصفِه. وانبعثَ الدفءُ والأمان والراحة في موجةٍ لطيفة واحدة فغمَرَته.

شاعرًا بالذنبِ لاستئثاره بهذا الهدوء أثناء مدة الانتظار، أمسك بالهاتف حتى يتحدثَ إلى ماريون.

قالت: «أوه، ها أنت! ما ألطفَ هذا!» بعد أن أقنع مكتب البريد العام أخيرًا أن نواياه شريفة، والحماسة في صوتها التي أثرت فيه على نحوٍ غير مُتوقَّع — إذ إن عقله لا يزال منشغلًا بالطلاء الأبيض — سرَّت قلبَه وترَكَته مبهورًا لوهلةٍ. وتابعَت: «أنا في غاية السعادة. كنتُ أتساءل كيف بإمكاننا أن نتحدثَ إليك، لكني كنتُ أعرف أنك ستتصرَّف. أعتقد لا عليك سوى أن تقول فحسبُ إنك روبرت بلير ومكتب البريد العام سيمنحك مُطلق الحرية.»

فكَّر في أن هذه بالفعل صفاتها الحسنة. الامتنان الحقيقي في جملة «كنتُ أعرف أنك ستتصرف»، ثم اللمسة المبهجة في الجملة التي تبِعتها.

«أظنُّ أنك قد رأيتَ الزخرفة التي على سور منزلنا؟»

أجاب روبرت بالموافقة، لكن ليس لأحدٍ أن يفعل ذلك مرةً أخرى؛ لأنه مع مطلع الشمس ستكون قد أُزيلت.

«غدًا!»

«الرجلان اللذان يمتلكان المرأبَ الذي أستخدِمه قرَّرا أن يمحُوَاها الليلة.»

«لكن … هل لسبع خادمات بسبعِ مماسح …؟»

«لا أعلم؛ لكن ستانلي وبيل إذا عقَدا العزم على أن يفعلا ذلك، فسوف تُمحى. فقد رُبِّيا في مدرسةٍ لا تسمح بالفشل.»

«أيُّ مدرسة تلك؟»

«الجيش البريطاني. كما أني أحملُ إليكِ المزيدَ من الأخبار السارة؛ لقد تثبَّتُّ من حقيقة أن الشخص «س» موجود. لقد تناولَت الفتاةُ معه الشاي ذات يوم. تودَّدَت إليه في فندق ميدلاند، في الردهة.»

«تودَّدَت إليه؟ لكنها مجرد طفلة، وهذا … أوه، حسنًا، لقد اختلقت تلك القصة عنا، بالطبع. بعد هذا أيُّ شيء صار ممكنًا. كيف اكتشفتَ ذلك؟»

فأخبرَها.

قال، بعد أن انتهى من سرد الأحداث الطويلة التي وقعَت في المقاهي: «مررتِ بيومٍ سيئ في منزل فرنتشايز، أليس كذلك؟»

«أجل، انتابني شعور سيئٌ فعلًا. والأسوأ من المتجمهرين والسور كان البريد. فساعي البريد أعطاه للشرطة حتى تدخلها لنا. ليس معتادًا أن تُتَّهَم الشرطة بنشر مطبوعاتٍ مُسيئة.»

«أجل، أتصورُ أن الأمر لا بد أنه كان سيئًا تمامًا. لم يكن ذلك إلا أمرًا متوقَّعًا.»

«حسنًا، لدَينا القليل من الخطابات لدرجة أننا قرَّرنا مستقبلًا أننا سنُحرقها جميعًا من دون فتحها، إلا إذا تعرَّفنا على الخط الذي كُتبت به. لهذا تجنَّبِ استخدام الآلة الكاتبة إذا أردتَ مُراسَلتَنا.»

«لكن هل تعرفين خطِّي؟»

«أجل، كتبتَ لنا رسالة، لو تتذكَّر. الرسالة التي أحضرها نيفيل في عصر أحد الأيام. لك خط رائع في الكتابة.»

«هل رأيتِ نيفيل اليوم؟»

«لا، لكنَّ أحد الخطابات كانت منه. على الأقل، لم يكن خطابًا.»

«وثيقة من نوعٍ ما؟»

«لا، قصيدة.»

«أوه. وهل فهمتِها؟»

«لا، لكنَّ إيقاعها لطيف تمامًا.»

«هكذا أيضًا حال أجراس الدراجات.»

ظنَّ أنها ضحكَت قليلًا. وقالت: «من اللطيف أن يكتب أحد قصيدةً من أجلك». وأضافت: «لكن الأكثر لطفًا هو أن ينظِّف أحدهم لك جدار منزلك. أشكرك حقًّا على ذلك — أنت وهذين الشخصين اللذين اسمهما بيل وستانلي. إذا أردتَ أن تكون غايةً في العطف فربما بإمكانك أن تُحضر أو ترسِل لنا بعض الطعام غدًا؟»

قال، فزعًا من أنه لم يكن قد فكَّر في ذلك من قبل: «طعام!» يحدث ما حدث عندما تعيش حياةً تضعُ لك فيها العمةُ لين كلَّ شيءٍ أمامك، كل شيء ما عدا أن تُطعِمك الطعام في فمِك، فتفقدَ قدرتَك على التخيُّل. «أجل، بالطبع. نسيتُ أنكِ ربما لن تستطيعي التسوُّق.»

أضافت في عجالة: «الأمر لا يقف عند ذلك. فسيارة البقالة التي تمرُّ يوم الإثنين لم تأتِ اليوم. أو ربما …» أضافت بسرعة: «جاءت ولم تستطع لفْتَ انتباهِنا. على أي حال، سنكون ممتنِّين إليك كثيرًا لو أحضرتَ إلينا بعض الأشياء. أمعك قلم رصاص؟»

أمْلَته قائمةً بالأشياء، ثم سألَت: «لم نُطالع صحيفة «أك-إيما» اليوم. أكان هناك أيُّ شيء بخصوصنا؟»

«بعض الرسائل في صفحة المراسلات، هذا كل ما في الأمر.»

«جميعُها ضدنا، أظن ذلك.»

«أخشى أنه هكذا. سأُحضر نسخةً صباح الغد عندما أحضر البقالة، ويمكنكما الاطلاعُ عليها بأنفسكما.»

«أخشى أننا نستنفدُ قدرًا كبيرًا من وقتك.»

قال: «صار الأمر مسألةً شخصية معي.»

بدَت مُتشكِّكة: «شخصية؟»

«إن طموحي الوحيد في الحياة هو إثباتُ كذب بيتي كين.»

«أوه أوه، فهمت.» بدا صوتُها مرتاحًا بدرجةٍ ما، وبدرجةٍ أخرى — هل ربما؟ — محبطًا. وأضافت: «حسنًا، نتطلَّع إلى رؤيتك غدًا.»

لكنها سوف تراه قبل ذلك بمدة طويلة.

ذهب إلى الفراش مبكرًا، لكنه ظلَّ مستيقظًا مدة طويلة؛ يتدرَّب على محادثةٍ هاتفية كان ينوي أن يُجرِيَها مع كيفين ماكديرموت، ويفكر في طرقٍ مختلفة للتعامُل مع مشكلة الشخص «س»، ويتساءل ما إذا كانت ماريون نائمة، في ذلك المنزل القديم الساكن، أم أنها مُستيقظةٌ تُرهِف السمعَ لأي أصوات.

كانت غرفةُ نومه مُطلَّةً على الشارع، وفي منتصف الليل تقريبًا سمع صوتَ سيارة قادمة ثم توقفَت، وبعد بُرهة سمع من النافذة المفتوحة نداءً حذِرًا من بيل، لا يَعْدو كونه أكثرَ من همسٍ آتٍ من الحلق. «سيد بلير! أتسمعني، سيد بلير؟!»

كان أمام النافذة قبل النطق الثاني لاسمه.

همس بيل: «الحمد لله. كنتُ أخشى أن هذا الضوء ربما من غرفة الآنسة بينيت.»

«لا، فهي نائمةٌ في الجهة الخلفية. ما الأمر؟»

«هناك مشكلةٌ في منزل فرنتشايز. كان عليَّ الذَّهابُ إلى الشرطة لأن خطوط الهاتف انقطعَت. لكني ظننتُ أنك قد تُفضل استدعاءك؛ لهذا أنا …»

«ما نوع المشكلة؟»

«مخربون. سآتي إليك في طريقي للعودة. في غضون أربع دقائق تقريبًا.»

سأل روبرت، بينما كان جسدُ بيل الضخم يدخل السيارة مرةً أخرى: «هل ستانلي معهما؟»

«أجل، ستانلي رأسُه معصوب. سأعود خلالَ دقيقة.» ثم اختفَت السيارة بعيدًا في السكون المطبِق لهاي ستريت.

قبل أن ينتهيَ روبرت من ارتداء ملابسه سمع صوتَ «فووو» خافتًا يتجاوز نافذتَه، وأدرك أن الشرطة كانت بالفعل في طريقها. دون سرينات زاعقةٍ في الليل، ولا أنابيب العادم الصاخبة، ولا أي صوتٍ آخَر يعلو على صوت الريح في فصل الصيف بين أوراق الشجر كان القانون يسير في مساره المعتاد. بينما كان يفتح الباب الأمامي، بحذرٍ لئلا تستيقظ العمة لين (لا شيء غير صوت الأزيز الأخير كان من المحتمل أن يوقِظ كريستينا)، أوقف بيل سيارتَه أمام الرصيف.

قال روبرت، بينما كانا يَمضيان: «والآن أخبرني.»

«حسنًا، أنهينا تلك المهمةَ البسيطة على ضوء المصابيح الأمامية للسيارة — لم تُنجَر بأسلوبٍ احترافي، لكن كان الحال أفضلَ كثيرًا مما كانت عليه عند وصولنا — وعندئذٍ أطفأنا المصابيح، وبدَأنا في إعادة متعلَّقاتنا إلى مكانها. على مهلٍ؛ لم يكن هناك داعٍ إلى العجَلة وكانت ليلةً رائعة. وقد أشعلنا سيجارةً وكنَّا نُفكر في الانطلاق عندما سمعنا صوتَ تهشُّم زجاج من المنزل. لم يكن أحدٌ قد جاء إلى جانبنا بينما كنا هناك؛ لهذا علمنا أنه لا بد أن أحدًا حول الجوانب أو في الخلف. وصل ستانلي إلى داخل السيارة وأخذ مِصباحه اليدوي — كان مصباحي على المقعد لأني كنتُ أستخدمُه — ثم قال: «أنت تتفقَّد ذلك الاتجاهَ وأنا سأتفقَّد الآخر وسنُحاصرهم بيننا».»

«هل نجحتما في الدوران حول المنزل؟»

«حسنًا، لم يكن الأمر سهلًا. هناك سياجٌ نباتي يرتفع إلى نهاية السور. لم أكن أُحبِّذ أن أنجز ذلك بالملابس العادية، لكن في زيِّ العمل ليس عليك سوى أن تدفع بقوةٍ وتأمُلَ خيرًا. سار الوضع على نحوٍ جيدٍ مع ستانلي؛ فهو ممشوقُ القوام. لكن فيما عدا الاستناد على السياج النباتي حتى يسقط فلم يكن هناك طريق من أجلي. على أي حال، تمكنَّا من تجاوز المشكلة، وواصل كلُّ واحد منا عند كلِّ جانب، ثم وصلنا إلى الركن الخلفي، ثم التقينا في منتصف الجهة الخلفية من دون أن نرى نفسًا واحدة. ثم سمعنا مزيدًا من أصواتِ تهشُّم الزجاج، وأدركنا أنهم سيقضون الليلةَ في التسلية على ذلك. قال ستانلي: «ارفعني لأعلى، وسأُساعدك بعدي.» حسنًا، لم تكن اليدُ لتكفِيَني، لكن ما حدث هو أن مستوى الحقل في الخلف يرتفع حتى أعلى الجدار نوعًا ما — في الحقيقة أعتقد أنه ربما اقتُطع لبناء السور — وبذلك تمكَّنا من الصعود بسهولةٍ نوعًا ما. قال ستانلي إن كان لديَّ أيُّ شيء لأضربَ به مع مصباحي، فقلتُ له: نعم، لديَّ مفتاح ربط. قال ستانلي: «انسَ مفتاحك السخيف هذا، واستخدِم قبضة يدك الممتلئة؛ فإنها أكبر».»

«ماذا كان سيستخدم؟»

«الأسلوب القديم للعرقلة في رياضة الرجبي، هكذا قال. اعتاد ستانلي أن يكون لاعبًا بارعًا تمامًا في خطِّ المنتصف. على أي حال توجَّهنا في الظلام نحو صوتِ تحطيم الزجاج. بدا الأمر وكأنهم كانوا يقومون بجولة تكسيرٍ حول المنزل. نجحنا في الإمساك بهم بالقُرب من الركن الأمامي مرةً أخرى، فأضأنا مصباحَينا اليدوِيَّين. أعتقد أنه كان هناك سبعةٌ منهم. أكثر كثيرًا مما كنَّا قد توقَّعنا، على أي حال. أطفأنا المصباحَين في الحال، قبل أن يتمكَّنوا من ملاحظة أننا اثنان فقط، فجذبنا الأقربَ إلينا. وقال ستانلي: «خذ أنت هذا الرجل أيها السيرجنت»، وظننتُ حينها أنه يُلقِّبني برُتبتي كعادته القديمة، لكني أُدرك الآن أنه كان يُوهِمهم بأننا الشرطة. على أي حال تمكَّن بعضُهم من الهرب؛ لأنه رغم الشجار الدائر لم يكن ممكنًا أنَّ عدد مَن يتشاجرون معنا سبعة. ثم مِن دون أي مقدمات كان من الواضح، أن ثمة هدوءًا عمَّ المكان — لأننا أحدَثْنا جلَبةً شديدة — وأدركتُ أننا سمحنا لهم بالفرار، ثم قال ستانلي من مكانٍ ما على الأرض: «أمسِك أحدَهم يا بيل، قبل أن يعتلوا السور!» فذهبتُ وراءهم ومصباحي مُضاء. كان آخرهم يُساعده أحدٌ من فوق، فجذبتُ رِجلَيه وتشبَّثتُ بهما. لكنه رفس كالبغل، ولأن المصباح في يدي فقد انفلتَ من يدي مثل سمكة سلمون مُرقَّط وصعد قبل أن أتمكَّن من جذبه مرةً أخرى. ذلك قد أتى عليَّ؛ لأن الجهة الداخلية لهذا السور في الخلف أكثر ارتفاعًا عنه في الجانب الأمامي من المنزل. لهذا رجعتُ إلى ستانلي. كان لا يزال جالسًا على الأرض. حيث سدَّد أحدُهم إليه ضربةً عنيفة على رأسه بشيءٍ قال إنه زجاجة، ويبدو أنه شخصٌ وضيع. ثم خرجَت الآنسة شارب إلى الدرجة العُلوية من درجات السُّلَّم الأمامية، وسألت هل أُصيب أحدٌ؟ وقد استطاعت أن ترانا في ضوء المصباح. لهذا أدخلنا ستانلي — السيدة العجوز كانت هناك وقد أُضيء المنزل في هذا الوقت — وذهبتُ أنا إلى الهاتف، لكن الآنسة شارب قالت: «لا جدوى منه. لأنه مُعطَّل. حاولنا الاتصال بالشرطة عند وصولهم في البداية». لهذا قلتُ إني سأذهبُ لإحضارهم. وقلتُ إني أُفضِّل أن آتيَ بك أيضًا. لكن الآنسة شارب رفضَت؛ لأنك قد مررتَ بيومٍ مرهِقٍ وليس عليَّ أن أُزعجك. لكني ظننتُ أن من المفترض عليك الحضورَ في تلك اللحظة.»

«أنت مُحقٌّ تمامًا، يا بيل، من المفترض عليَّ ذلك.»

كانت البوابة مفتوحة على مِصراعَيها في وقت وصولهما، وسيارة الشرطة أمام الباب، وأغلبُ الغُرَف الأمامية مضاءة، والستائر تُرفرف برفقٍ في رياح الليل عند النوافذ المحطَّمة. في قاعة الاستقبال — التي اتضَح أن السيدتَين شارب تستخدِمانها كغرفة معيشة — كان ستانلي مصابًا بجرحٍ فوق حاجبِه طبَّبَته ماريون، وضابط الشرطة كان يأخذ الملاحظات، ومساعده يُنظم الأدلة. اتَّضح أن الأدلة تتألَّف من أنصاف قوالبِ طوب، وزجاجات، وقصاصات ورقٍ مكتوب عليها.

قالت ماريون عندما رفعَت بصرها لأعلى ورأت روبرت: «عجبًا يا بيل، أخبرتُك ألا تفعل ذلك.»

لاحظ روبرت مدى كفاءتها في التعامُل مع جُرح ستانلي؛ تلك السيدة التي وجدَت الطهو فوق قدراتها. وحيَّا ضابط الشرطة ثم انحنى ليتفحَّص الأدلة. وُجِدت مجموعةٌ كبيرة من المقذوفات وليس سوى أربع رسائل، وكان فحواها، بالترتيب: «ارحلا!»، «ارحلا وإلا سنُجبركما على ذلك!»، «فاجرتان دَخيلتان!»، «هذه ليست إلا عيِّنة مما سترَينه!»

قال ضابط الشرطة: «حسنًا، أعتقد أننا جمَعْنا كلَّ شيء.» وتابع: «والآن سنذهب ونفتش في الحديقة عن آثارِ أقدام أو أي قرائن ربما تكون هناك.» ثم نظر باحترافٍ إلى النعال التي حمَلها بيل وستانلي بِناءً على طلبه، ثم خرَج مع مساعده إلى الحديقة، عندما جاءت السيدة شارب بإبريقٍ يتصاعد البخار منه وفناجين.

وقالت: «آه يا سيد بلير.» وتابعت: «ألا تزالُ تجدُنا نستحقُّ الاهتمام؟»

كانت ترتدي ثيابًا كاملة — على عكس ماريون التي كانت تبدو على طبيعتها تمامًا ولا تُشبه جان دارك في روبها المنزلي القديم — ولم تؤثر فيها بكلِّ وضوحٍ تلك الأحداث، فتساءل روبرت عن نوع الأحداث التي قد تجعل السيدةَ شارب في حالة سيئة.

ظهر بيل بأعوادٍ من المطبخ وأشعل نارَ المدفأة الخامدة، والسيدة شارب صبَّت المشروبَ الساخن — كان قهوة لكن رفض روبرت تناولها؛ إذ إنه رأى ما يكفي من القهوة مؤخرًا حتى فقد رغبَته فيها — وبدأ الاحمرارُ يدبُّ في وجه ستانلي من جديد. وبعدما عاد الشرطيَّان من الحديقة كانت الغرفة قد اكتسبَت جوَّ حفلٍ عائلي، بالرغم من الستائر المرفرفة والنوافذ التي لم يَعُد لها وجود. لم يبدُ أن ستانلي أو بيل، كما لاحظ روبرت، قد وجَدا السيدتَين شارب غريبتَين أو مُعقدتَين؛ على النقيض فقد ظهَرتا مُسترخِيتَين وعلى راحتهما. ربما السبب أن السيدتَين شارب قد اعتبرتا الأمر مُسَلَّمًا به؛ فقبِلتا هذا الغزو من الدَّخيلِين كما لو أنه حدثٌ يومي. على أي حال، جاء بيل وبدأ في أعمال المرح الخاصة به كما لو أنه قد عاش في المنزل لسنوات، وستانلي مدَّ فنجانه حتى يحصل على المزيد من القهوة دون الانتظار أن يعرض عليه أحد. لا إراديًّا، فكَّر روبرت أن العمة لين لو كانت في مكانهما لكانت ستُصبح عَطوفة ونيقة وكانا سيجلسان على حافة المقاعد ويتذكَّران زيَّ عملهما المتَّسخ.

ربما كان تقبُّل الأمور على أنها من المسلَّمات هو ما قد جذب نيفيل.

سأل الضابط عندما دخلا مرة أخرى: «هل تنويان البقاء هنا يا سيدتي؟»

قالت السيدة شارب، وهي تصبُّ القهوة لهما: «بالطبع.»

قال روبرت: «لا.» وأضاف: «لا يجب أن تظلَّا هنا، حقًّا لا يجب. سأجد لكما فندقًا هادئًا في لاربورو، وفيه …»

«لم أسمع في حياتي أيَّ شيءٍ سخيفٍ أكثرَ من ذلك. بالطبع سنبقى هنا. ماذا يُهِم في وجود بعض النوافذ المكسَّرة؟»

قال الضابط: «الأمر ربما لا يتوقَّف عند النوافذ المكسورة. وأنتما مسئولية كبيرة على عاتقنا ما دُمتما هنا؛ مسئوليةٌ لم نؤهِّل عناصر الدورية حقًّا على التعامُل معها.»

«أعتذر إليك حقًّا أننا مصدرُ إزعاجٍ لك أيها الضابط. لم تكن نوافذنا لِتُرشَق لو كان الأمر بيدَينا، صدِّقْني. لكن هذا هو منزلنا، وهنا سنبقى. بعيدًا تمام البُعد عن أي مسألةٍ بشأن أخلاقيات العمل، فكم سيتبقى من منزلنا بحيث يمكننا أن نعود إليه إذا بقي خاويًا؟ أعتقد أنه إذا كان لدَيك عجزٌ في الرجال المنوطين بحراسة البشر، فبالطبع ليس لدَيك رجال لحراسة عَقارٍ شاغر.»

بدا الضابط محرجًا إلى حدٍّ ما، كما يبدو الناس غالبًا على هذا الحال عندما تتعامل معهم السيدةُ شارب. أقرَّ الضابط، بنبرةٍ مُتردِّدة: «حسنًا، هذا صحيح تمامًا يا سيدتي.»

«وذلك، في ظني، سيحسم أيَّ سؤالٍ بشأن مغادرتنا لمنزل فرنتشايز. أتريد سكَّرًا، أيها الضابط؟»

عاد روبرت إلى الموضوع عندما انصرفَت الشرطة، وكان بيل قد أحضر مكنسةً ومجرفة من المطبخ لكنسِ الزجاج المكسور في غرفةٍ بعد الأخرى. فشدَّد مرةً أخرى على أنه من الحكمة الإقامةُ في فندق بلاربورو، لكن لم تكن مشاعره ولا منطقه يؤيِّدان كلماتِه. فهو لم يكن ليرحلَ لو كان في مكان السيدتَين شارب؛ لذلك لم يكن ممكنًا أن يتوقَّع منهما ذلك، إلى جانبِ أنه أقرَّ بالمنطق السديد لوجهة نظر السيدة شارب عن مصير المنزل حالَ بقائه شاغرًا.

قال ستانلي، الذي كان قد مُنع من السماح له بكنس الزجاج لأنه صُنِّف على أنه مصابٌ قادر على السير: «ما تحتاجان إليه هو شخص مُقيم.» وتابع: «شخص مُقيم يحمل مُسدسًا. ما رأيكما إذا أتيتُ ونمت هنا في الليل؟ من دون تقديم وجبات، مجرد حارس ليلي نائم. جميعهم ينامون على أي حال، الحراس الليليُّون يفعلون ذلك.»

كان من الواضح من تعبير وجهيهما أن كِلا السيدتَين شارب قدَّرَتا حقيقةَ أن هذا إقرارٌ علني بالولاء، فيما صار بمثابة حربٍ محلية؛ لكنهما لم تُحرجاه بتقديم الشكر له.

سألت ماريون: «أليست لك زوجة؟»

قال ستانلي خجِلًا: «لستُ متزوِّجًا.»

أشارت السيدة شارب قائلة: «زوجتك — إن كانت لك زوجة — ربما قد تُوافِقك على النوم هنا وتدعم قرارك، لكني أشكُّ إن كان عملك سيكون بالمثل، يا سيد … إر … سيد بيترز.»

«عملي؟»

«أتخيل إذا اكتشَف زبائنُك أنك قد أصبحتَ حارسًا ليليًّا في منزل فرنتشايز فسيَقضون مصالحهم في أي مكانٍ آخر.»

قال ستانلي بارتياح: «لن يستطيع زبائني فِعل ذلك. لا يُوجَد مكانٌ آخر ليقضوا فيه مصالحهم. لينتش يُصبح ثملًا خمسَ ليالٍ من كل سبع، وبيجينز لا يعرفُ كيف يضع سلسلةَ الدراجة. على أي حال، لا أسمح لزبائني بأن يُمْلوا عليَّ ما أفعله في وقتِ فراغي.»

وعندما عاد بيل، أسنَد ستانلي حتى ينهض. بيل كان زوجًا وفيًّا ولم يكن الاحتمال مطروحًا أن ينام أبدًا في أي مكانٍ آخر غير المنزل. لكنْ بدا إليهما أن نوم ستانلي في منزل فرنتشايز حلٌّ طبيعي للمشكلة.

شعر روبرت بارتياحٍ شديد.

قالت ماريون: «حسنًا، إذا كنتَ ستحلُّ ضيفًا علينا في الليل فلا مانع أن تبدأ من الآن. أثقُ أن ذلك الرأس يشعر وكأنه ثمرةُ فجلٍ مؤلمة. سأذهب وأعِدُّ لك الفراش. هل تُفضل منظرًا يطلُّ جنوبًا؟»

قال ستانلي في حماسٍ شديد: «أجل. بعيد تمامًا عن المطبخ وإزعاج الراديو.»

«سأفعل ما في وسعي.»

ومن ثَم اتُّفِق على أن يُمرِّر بيل رسالةً قصيرة إلى باب مسكن ستانلي ليُفيد بأنه سيحضر في موعد الغداء كالمعتاد. قال ستانلي، مشيرًا إلى صاحبة المسكن: «لن تقلق عليَّ.» وأضاف: «لقد غبتُ عن المنزل عدةَ ليالٍ من قبل.» فالتقت عيناه بعيني ماريون وأضاف قائلًا: «أنقل السيارات بواسطة العبَّارة من أجل الزبائن؛ بإمكانك إنجازُ ذلك خلال وقت الليل في نصف المدة اللازمة.»

وأسدَلوا الستائر في جميع الغرف بالطابق الأرضيِّ لحمايةِ ما بداخلها حالَ سقوط أمطارٍ قبل الصباح، ووعَد روبرت بإحضار فنيِّ تركيب الزجاج في أقربِ وقتٍ ممكن. وقرَّر روبرت بينه وبين نفسه أن يستعين بخدمات شركةٍ مُتخصصة في هذا الشأن من لاربورو، وألا يُغامر بالتعرُّض لمجموعةٍ أخرى من الاعتذارات المهذبة في ميلفورد.

قال عندما خرجَت ماريون بصحبة بيل وروبرت لتُوصِد البوابة: «وسأفعل شيئًا بخصوص مِفتاح للبوابة؛ حتى يتسنَّى لي الحصولُ على نسخةٍ ثانية، وأُخلِّصَك من كونك حارسة للبوابة ومن أي شيءٍ آخر.»

بسَطَت يدَها إلى بيل أولًا. «لن أنسى أبدًا ما قد فعلتموه أنتم الثلاثة من أجلنا.» ثم أمالت رأسَها ناحية المنزل الذي تكسَّرت نوافذه، وقالت: «عندما أتذكَّر الليلة فليس هؤلاء الأغبياء هم مَن سأتذكَّرهم، لكن سأتذكَّركم أنتم الثلاثة.»

قال بيل بينما يستقلَّان السيارة في طريق عودتهما إلى المنزل في ليلة الربيع الهادئة: «هؤلاء الأغبياء هم سكانٌ محليُّون، أظنُّك على علمٍ بذلك.»

وافقه روبرت الرأي: «أجل. أدركتُ ذلك. فلم يكن لديهم أيُّ سيارةٍ، هذا سبب. وعبارة «فاجرتان دَخيلتان!» لها رائحةُ الريف المحافظ، مثل «فاشيتان!» التي لها رائحةُ مدينةٍ متقدمة.»

قال بيل بعض التعليقات عن التقدُّم.

«كنتُ مخطئًا عندما سمحتُ لنفسي بأن أقتنع بما قيل لي ليلة أمس. الرجل في الدورية كان واثقًا أن «الجميع سيعودون إلى منازلهم عندما يحلُّ الظلام»، لدرجة أني سمحتُ لنفسي بأن أُصدِّق ما قاله. لكن كان يجب عليَّ أن أتذكَّر تحذيرًا تلقَّيته عن مُطاردة الساحرات.»

لم يكن بيل منصتًا. وقال: «من الصعب أن تشعرَ بالأمان في منزلٍ بلا نوافذ.» وتابع: «تخيَّل منزلًا نُسِفت الجهة الخلفية منه، ولا باب ليُقفل عليه؛ يمكنك أن تعيش في سعادةٍ تمامًا في غرفةٍ أمامية ما دامَت نوافذها لا تزال قائمة. لكن من دون نوافذ حتى لو كان المنزل بأكمله سليمًا فسيُشعرك بانعدام الأمان.»

ذلك لم يكن تعقيبًا من شأنه أن يبثَّ في روبرت أي شعورٍ بالراحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤