الفصل الثامن عشر

كان يوم الثلاثاء يومًا مشهودًا في الصحف.

الآن بعد أن صارت قضية فرنتشايز دعوى قضائيَّة، فلم تعُد ساحةُ النضال مفتوحةً أمام صحيفة «أك-إيما» أو مجلة «ذا ووتشمان» — رغم أن صحيفة «أك-إيما» لم تتوانَ في تذكير قُرَّائها السعداء أنه في التاريخ كذا وكذا كانت قد ذكرَت كذا وكذا، تصريح واضح ظاهره بريء لا غُبار عليه لكنه حافلٌ بتعليقات محظورة، ولم يُساور روبرت شكٌّ أنه في يوم الجمعة ستنسِب مجلة «ذا ووتشمان» فضلًا مماثلًا إلى نفسها، بتقديرٍ مُماثل. لكن باقي الصحف، التي لم تكن قد أبدت أيَّ اهتمامٍ إلى حدٍّ كبير بقضيةٍ لم يكن لدى الشرطة نيةٌ في المساس بها، أفاقت بصيحة فرَح لتُدْليَ بأنباءٍ عن القضية. حتى الصحف اليومية الأكثر رصانةً تناولَت ظهور السيدتَين شارب في المحكمة، بعناوين رئيسية على شاكلة: «قضية استثنائية»، و«تهمة غير معهودة». أما الصحف الأقلُّ تحفظًا فنشرَت أوصافًا كاملةً للأطراف الرئيسية في القضية، بما في ذلك قُبعة السيدة شارب، وملابس بيتي كين الزرقاء، وصورٌ لمنزل فرنتشايز، وهاي ستريت في ميلفورد، وصديقة بيتي كين من المدرسة، وأيُّ شيء آخَرَ له علاقة من قريبٍ أو بعيد.

لهذا أصاب الحزنُ قلبَ روبرت. فكلٌّ من صحيفة «أك-إيما» ومجلة «ذا ووتشمان»، كلٌّ بطريقته المختلفة، كانت قد وظَّفَت قضية فرنتشايز كحدثٍ مُثير. شيء ليُوظِّفوه من أجل مكاسبَ لحظية ثم يُسقِطوه في الغد. لكن القضية الآن صارت محلَّ اهتمامٍ قَومي، تتناوله أخبارُ جميع الجرائد من كل صنفٍ ولون من كورنوول وحتى كيثنيس، وأظهرَت الدلائلُ أنها صارت قضيةَ رأي عام.

انتابَه إحساسٌ بالقنوط لأول مرة. فالأحداث تُلاحِقه، ولا ملاذَ له. أخذت الأحداثُ تتراكم بعضُها فوق بعضٍ حتى بلغَت أوجًا مَهيبًا في محكمة نورتون ولم يكن بيدَيه ما يُقدِّمه إلى أوج تلك الأحداث؛ لا شيء على الإطلاق. أحسَّ بشعور رجلٍ رأى كومةً مُتكدسة من الصناديق الممتلئة تبدأ في الميل ناحيتَه ولا مأوى له ولا مُتَّكأ حتى يمنع هذا الانهيار.

صار رامسدن أكثرَ اقتضابًا على الهاتف، وأقلَّ تبشيرًا بالخير. كان رامسدن مُنزعجًا. «حائرًا» تلك الكلمة المستخدمة في قصص المخبرين التي تُحكى للصِّبية، ولم يكن لها أدنى صلةٍ بأليك رامسدن الحقيقي. وبهذا فكان رامسدن مُنزعجًا، وقليلَ الكلام، وكئيبًا.

النقطة الوحيدة المشرقة في الأيام التي تلَتْ جلسةَ المحكمة في ميلفورد كانت بفضل ستانلي، الذي طرقَ باب مكتبه صباح يوم الخميس، ودسَّ رأسه في الداخل، وعندما رأى روبرت يجلس وحيدًا دخل، دافعًا البابَ ليفتحه بيدٍ ويفتِّش في جيب زيِّ عمله باليد الأخرى.

قال: «صباح الخير.» وتابع: «أظن أنه عليك تولِّي تلك المسئولية. إن هاتَين السيدتَين في منزل فرنتشايز لا عقل لديهما. فهما تحتفظان بالجنيهات الورقية في أباريق الشاي والكتب وخِلافه. إذا كنتَ تبحث عن رقم هاتف فمن المرجَّح أن تجد عُملة ورقية بعشر شلنات موضوعةً أمام الصفحة التي بها عُنوان الجزار.» ومن ثَم أخرج لفةَ نقود ثم عدَّ بجِدٍّ على المكتب أمام روبرت اثنتي عشرة عملةً ورقية من فئة العشرة جنيهات.

قال: «مائة وعشرون جنيهًا.» وتابع: «مبلغٌ جيد، أليس كذلك؟»

قال روبرت، حائرًا: «لكن ما هذا المبلغ؟»

«كومينسكي.»

«كومينسكي؟»

«لا تقل إنك لم تُراهن عليه! بعد أن نصحَتنا السيدة العجوز بنفسها. هل تقصد أنك قد نسيتَ الأمر؟!»

«ستانلي، لم أتذكَّر حتى في الآونة الأخيرة أن هناك سباقًا مثل سباق جينيس. هل راهنتَ عليه إذن؟»

«راهنتُ على ستِّين ضِعفَ مبلغ المراهنة. وهذا المبلغ هو عُشر المكسب الذي أخبرتُها بأنه نصيبها، مقابل النصيحة.»

«لكن … العُشر؟ لا بد أنك كنتَ تراهن بتهوُّر يا ستانلي.»

«عشرون جنيهًا. ضعف الحد الأقصى المعتاد لي. وبيل حقق مكسبًا جيدًا أيضًا. سيُهدي زوجته معطفًا من الفراء.»

«فاز الحصان كومينسكي إذن.»

«فاز بفارق طول حصان ونصف بلِجام مُحكَم الشد، وكانت تلك نتيجةً غيرَ مُتوقَّعة!»

قال روبرت وهو يُرتب العملات الورقية بعضَها فوق بعض ويجمعها: «حسنًا، إذا سار الوضع من سيئٍ إلى أسوأ وانتهى الحال بهما إلى الإفلاس، فبإمكان السيدة العجوز دائمًا أن تُدير تجارةً رابحة بصفتها مُستشارةً في مراهنات سباق الخيل.»

نظر ستانلي في صمتٍ إلى وجهه لوهلة، بدا واضحًا في نبرة صوته حزنُه بشأن أمرٍ ما. وقال: «الوضع يسيرُ على نحوٍ سيئ نوعًا ما، أليس كذلك؟»

قال روبرت، مُستخدِمًا الأوصافَ الخاصة بستانلي: «عصيب.»

قال ستانلي، بعد لحظةِ توقُّف: «لقد حضَرَت زوجة بيل جلسة المحاكمة.» وتابع: «وقالت لا يمكن لها أن تُصدِّق تلك الفتاة حتى لو قالت لها بأن في الشلن اثنَي عشَر بنسًا.»

قال روبرت، متفاجئًا: «حقًّا؟ لمَ؟»

«إنها مهذبة تمامًا لدرجةٍ تجعلها غير واقعيَّة، كما قالت عنها. قالت إنه لم يسبق أنْ بدَت فتاةٌ في عمر الخامسة عشرة مهذبةً مثلما بدَت هي.»

«بلغَت السادسة عشرة الآن.»

«لا بأس، السادسة عشرة. قالت إنها في يومٍ من الأيام كانت في الخامسة عشرة من عمرها وكذلك جميع صديقاتها، وأن هذه الفتاة الأعجوبة البريئة لم تخدعها لحظةً.»

«لكن أخشى كثيرًا أنها ستخدع هيئةَ مُحلَّفين.»

«لن تخدع هيئة محلَّفين مكونةً كلُّها من النساء. أظن أنه لا سبيل لتدبير ذلك؟»

«لا نحتاج أقلَّ من تدابير هيرودس. ألا تريد أن تُعطيَ هذا المالَ بنفسك للسيدة شارب، بالمناسبة؟»

«ليس أنا. ستذهب أنت إلى هناك في وقتٍ ما اليوم، ويمكنك أن تُعطيها إيَّاه إن شئت. لكن انتبه خذ المال مرة أخرى ثم أودِعْه في البنك وإلا فسينتشلاه من المزهريات بعد سنوات ويتساءلان متى وضَعاه هناك.»

ابتسم روبرت وهو يضعُ المال في جيبه تزامنًا مع صوتِ وقْع أقدام ستانلي عند انصرافه. الناس دائمًا وأبدًا لا يمكن توقُّعُها. كان يظن أن ستانلي ستغمره السعادة عند عدِّ تلك العملات الورقية أمام السيدة العجوز. لكن بدلًا من ذلك غلَبه الخجَل. فقصة النقود في أباريق الشاي هي مجردُ قصة خيالية.

أخذ روبرت النقود معه إلى منزل فرنتشايز في وقتٍ ما بعد الظهر، وللمرة الأولى رأى الدموع في عينَي ماريون. وروى لهما القصة مثلما أخبره بها ستانلي — وذكَر أمر أباريق الشاي — واختتم قائلًا: «ومِن ثَم أنابني عنه كي أعطِيَكما النقود»؛ وعندئذٍ انهمرت الدموع من عينَي ماريون.

وقالت، بينما تُمسك بالعملات الورقية: «لِمَ اهتمَّ أن يُعطيها لنا؟» وتابعت: «فهو عادة ليس … ليس …»

«أعتقد أنه ربما أدرك أنكما في حاجةٍ إليها الآن، وأن ذلك سيجعل المسألة حساسةً بدلًا من كونها أمرًا واقعيًّا. عندما أسديتِ له النصيحة كنتِ تحديدًا السيدة شارب الثرية التي تعيش في منزل فرنتشايز، وكان سيدفع لكِ الأرباحَ علانيةً. لكنكما الآن سيدتان خرَجَتا بكفالة قدرها ٢٠٠ جنيه لكلِّ واحدةٍ منكما بناء على تعهُّدٍ شخصي، وبمبلغ مُماثل لأحد الضامِنين بالنيابة عن كل منكما؛ فضلًا عن الأتعاب التي ستُدفع للمحامي؛ ومن ثَم أنتما، حسبما أظن، وفق طريقة تفكير ستان لستما من الناس الذين يمكن للمرء تسليمُهما المالَ بسهولة.»

قالت السيدة شارب: «حسنًا، لم تُحقق كلُّ نصائحي هامشًا من الربح يصل إلى طول حصان ونصف في صالح الفائز. لكني لا أُنكِر أنه أسعدَني كثيرًا رؤيةُ هذه النسبة. كان هذا غايةً في اللطف منه.»

سألت ماريون بارتياب: «أيجب أن نحظى بنسبةٍ كبيرة مثل العشرة بالمائة؟»

قالت السيدة شارب برَصانةٍ: «كان ذلك هو الاتفاق.» وتابعَت: «ولولا نصيحتي له لكان قد خسر مبلغَ الرهان على الحصان بالي بوجي في هذه اللحظة. ما هو بالي بوجي، بالمناسبة؟»

قالت ماريون، مُتجاهلةً رحلةَ والدتها المعرفية: «سعيدة لمجيئك إلى هنا لأن شيئًا غيرَ مُتوقَّع قد حدث. لقد عادت إليَّ ساعتي.»

«أتقصدين أنكِ عثرتِ عليها؟»

«لا، إطلاقًا، لا. لقد أرسلَتْها إليَّ بالبريد. انظر!»

أخرجَت عُلبةً بيضاء صغيرة من الكرتون، مُتَّسخة للغاية، وبداخلها ساعتُها ذات وجه الإينامل الأزرق والغلاف الذي يُحيط بالساعة. كان الغلاف عبارة عن ورقةٍ رقيقة مربَّعة لونها ورديٌّ عليها خَتمٌ دائري مكتوبٌ فيه «صن فالي، ترانسفال»، وكان من الواضح أنها كانت تضع بداخل الورقة برتقالةً قبل أن تستخدِمها كغلاف. وعلى قُصاصة ورقةٍ ممزقة كُتبت بحروفٍ كبيرة متفرقة عبارة ترجمتها: «أنا لا أريدها على الإطلاق». كان أحد الحروف مكتوبًا على نحوٍ مُتقطع مثل حرفٍ صغير، مما يدل على أن مَن كتبها لا يُجيد القراءة والكتابة.

تساءلَت ماريون: «لِمَ في رأيك صارت مشمئزَّةً منها هكذا؟»

قال روبرت: «لا أظن لحظةً أنها كذلك.» وتابع: «لا أتخيَّل أن تلك الفتاة قد تتخلَّى عن أي شيءٍ طالته يداها.»

«لكنها فعلت ذلك. وأعادتها.»

«لا. بل أعادها شخصٌ ما. شخصٌ ما أصابه الخوف. شخص له بعض الضمير، أيضًا. لو أرادت روز جلين التخلُّص منها لألقَت بها في بركة، من دون التفكير ثانية. لكنَّ شخصًا ما يريد التخلُّص منها وإعادةَ الساعة إلى صاحبها في الآنِ نفسِه. وهذا الشخص لدَيه شعورٌ بالذنب وروحٌ خائفة. والآن مَن الذي قد يشعر بالذنب تجاهك في هذه اللحظة؟ جلاديس ريس؟»

«صحيح، أنت مُحقٌّ بالطبع بشأن روز. كان عليَّ أن أُفكر في ذلك. لم يكن محتملًا أبدًا أن تُعيدها. بل كانت ستطَؤها بقدمِها في أقربِ وقت. أتظن أنها ربما أعطتها إلى جلاديس ريس؟»

«ذلك ربما يفسر أمورًا كثيرة. ربما يُفسِّر كيف أحضرَتها روز إلى المحكمة حتى تؤيد قصة «صوت الصراخ». أقصد، لو أنها الشخص الذي تلقَّى الساعةَ المسروقة. عندما تُفكرين في الأمر، فربما كان لروز فرصةٌ ضئيلة لارتداء ساعةٍ لا بد أن أهل ستابلس كثيرًا ما رأَوها في رسْغك. ومن المرجَّح أكثر بكثيرٍ أنها تعاملت «بسخاء» مع الأمر خاطبةً وُدَّ صديقتها. «شيء بسيط اشتريته.» أين تسكن جلاديس ريس؟»

«لا أعلم أين تسكن؛ أظن في مكانٍ ما عند الجهة الأخرى من البلدة. لكنها جاءت إلى العمل لدى تلك المزرعة المنزوية فيما وراء ستابلس.»

«هل كان ذلك منذ مدة طويلة؟»

«لا أعرف. ولا أظن ذلك.»

«بهذا يمكنها ارتداءُ ساعة جديدة من غير أن يسألها أحد. أجل، أظن أنها جلاديس هي التي أعادت ساعتك. لو أن هناك شاهدًا مُترددًا خلال جلسة يوم الإثنين فإنها هي جلاديس. وإذا كانت مضطربةً إلى درجة إعادة مُتعلقاتك، فثمة أملٌ ضعيف يبدأ يلوح في الأفق.»

قالت السيدة شارب: «لكنها شهدَت زورًا.» وتابعَت: «حتى شخص أبلهُ مثل جلاديس ريس لا بد أن يكون لدَيه بصيصٌ من الوعي أن ذلك لا يُنظَر إليه بنظرة جيدة في محكمة بريطانية.»

«بوُسعها أن تدَّعي أنها ابتُزَّت كي تفعلَ هذا. إذا أوعز إليها أحدٌ بهذا الاتجاه.»

نظرَت إليه السيدة شارب. ثم سألت: «ألا يُوجَد شيءٌ في القانون الإنجليزي عن التلاعُب بالشهود؟»

«يُوجَد الكثير. لكني لا أقترح اتخاذَ أي خطوةٍ بشأن التلاعُب.»

«ما الذي تقترح فعله إذن؟»

«لا بد أن أُفكِّر بتمعُّن. فالموقف حسَّاس.»

«يا سيد بلير، إن تعقيدات القانون كانت دائمًا فوق إدراكي، ومن المحتمل دائمًا أن تظلَّ هكذا، لكنك لن تُلقِيَ بنفسك في السجن بتهمة إهانة المحكمة، أو شيءٍ أشبهَ بهذا، أليس كذلك؟ ليس بوُسعي تصورُ كيف سيُصبح الموقف الحاليُّ من دون مُساندتك.»

قال روبرت إنه لا نية لدَيه لأن يُلقي بنفسه في السجن لأي سببٍ كان. فهو محامٍ لا غبار عليه ذو سمعة لا تشوبها شائبةٌ وصاحب مبادئ سامية، وإنه لا داعيَ لخوفها على نفسها أو عليه.

قال: «لو كان بإمكاننا دحضُ شهادة جلاديس ريس في رواية روز فذلك سوف يُزعزع القضية بأكملها.» ثم أردف قائلًا: «إن أكثر الأدلة أهميةً بالنسبة إليهم هو أن روز قد نوَّهَت عن الصراخ من قبل أيِّ تلميحٍ بتوجيه التهمة إليكما. أظنُّ أنكما لم تتمكَّنا من ملاحظة وجه جرانت عندما كانت روز تعرض الدليل؟ لا بد أن عقلًا شديدَ التدقيق يصير عقَبةً كبيرة في قسم التحقيقات الجنائية. لا بد أنه يؤسِفه استنادُ القضية بأكملها إلى شخصٍ تشمئزُّ من الاقتراب منه. والآن عليَّ أن أعود. هل لي أن آخُذ معي العلبة الصغيرة من الكرتون وقُصاصة الورق المكتوب عليها؟»

قالت ماريون، وهي تضع قصاصة الورق في العلبة وتُعطيها له: «إنها براعةٌ منك استنتاجُ أن روز لم تكن لتُعيد الساعة. كان لا بد أن تصبح مُحققًا.»

«إما أن أكون كذلك أو أكون عرَّافًا. كل شيء يمكن استنتاجه من بُقعة البيض على الصديري. إلى اللقاء.»

قاد روبرت سيارته عائدًا إلى ميلفورد وعقله مُنشغلٌ بهذا الاحتمال الجديد. لم يكن حلًّا لمأزقهم، لكنه ربما طوقُ نجاة.

في المكتب وجد السيد رامسدن في انتظاره؛ وهو رجل طويل، شائب الشعر، نحيف، وكئيب.

«جئتُ لمقابلتك يا سيد بلير؛ لأن الأمر لا يمكن قوله بشكلٍ جيد على الهاتف.»

«خيرًا؟»

«سيد بلير، نحن نُبدِّد أموالك. هل صادف أن عرَفت عدد السكان ذوي البشرة البيضاء في العالم؟»

«لا، لا أعرف.»

«ولا أنا. لكن الشيء الذي تطلبه منِّي هو أن أتتبَّع مسار هذه الفتاة من بين السكان ذوي البشرة البيضاء في العالم. إنَّ خمسة آلاف من الرجال يعملون لمدة عام ربما لن ينجحوا في ذلك. وربما ينجح فيه رجلٌ واحد غدًا. المسألة مسألة حظٍّ بحت.»

«لكن الأمر سار دائمًا على هذا المنوال.»

«لا. في الأيام الأولى كانت الاحتمالات مقبولة. قُمنا بتغطية الأماكن البديهية. الموانئ، والمطارات، وأماكن السفر، وأفضل الأماكن المعروفة لقضاء «شهر العسل». ولم أُهدِر وقتَك أو مالك في أيِّ سفر. لديَّ معارفُ في جميع المدن الكبرى وفي الكثير من المدن الأصغر حجمًا كذلك، فأرسلتُ إليهم طلبًا مفاده: «ابحث ما إذا كان فلان وفلان أقاما في أحد الفنادق لدَيكم». وكان الجواب يأتي في غضون ساعاتٍ قليلة. ردودٌ من جميع أنحاء بريطانيا. حسنًا، بعد الانتهاء من ذلك، صِرنا أمام افتراضٍ صغير يُسمَّى باقي العالم. ولا أحب أن أُهدِر مالَكَ يا سيد بلير. لأن هذا ما ستصير النتيجة إليه.»

«هل أفهم من ذلك أنك تستسلم؟»

«لا أعتبر المسألة هكذا، بالضبط.»

«تظن أن من الواجب عليَّ أن أُخطرك بإعفائك من المهمة لأنك قد فشلت.»

توتر السيد رامسدن بدرجةٍ ملحوظة عند سَماعه كلمة «فشلت».

«المسألة هي مسألةُ إهدار قدرٍ من المال على احتمالٍ بعيد. هذا ليس عرضَ عمل، يا سيد بلير. وليست كذلك مجازفةً مبشِّرة.»

«حسنًا، أعتقد أنَّ لديَّ شيئًا من أجلك سيُسعدك، حسبما أظن.» ثم أخرج من جيبه العلبةَ الصغيرة من الكرتون. «أحد الشهود الذين مثلوا أمام المحكمة يوم الإثنين كانت فتاةً تُدعى جلاديس ريس. تُمثل دورها في تقديم دليلٍ على أن صديقتها روز جلين قد تحدثَت إليها عن أصوات الصراخ في منزل فرنتشايز قبل مدةٍ طويلة من إبداء الشرطة اهتمامًا بالمكان. قدَّمَت الدليل كما ينبغي، لكن وهي مُجبرة، كما لعلك تقول. كانت مضطربة، ومتردِّدة، وبدا واضحًا أنها كارهةٌ لذلك — على عكس صديقتها روز التي كانت في غاية المرح والاستمتاع. ألمحَ أحد زملائي المحليِّين إلى أن روز جاءت بها إلى هناك بالضغط، لكنه لم يَبدُ محتملًا حينها. مع ذلك، صباح هذا اليوم، أعيدَت الساعة التي سُرِقت من الآنسة شارب بالبريد في هذه العلبة، ومرفق بها رسالة مكتوبة. لم يكن لروز أن تكلِّف نفسها عناءَ إعادة الساعة؛ إذ ليس لها ضميرٌ من الأساس. ولم تكن لتكتبَ الرسالة؛ إذ ليس لدَيها رغبةٌ في الاعتراف بأيِّ شيء. والاستنتاج الحتمي، هو أن جلاديس هي مَن أُهدِيت إليها الساعة — حيث لم يكن بوُسع روز ارتداؤها من دون أن يكشفها أحدٌ على أي حال — وأنه بهذه الطريقة أقنعتها روز بتأييد أكاذيبها.»

توقف حتى يترك لرامسدن مجالًا للتعليق. فأومأ السيد رامسدن، لكنها كانت إيماءةً تعكس اهتمامًا.

«لا يمكننا الآن التعاملُ مع جلاديس بأي حُجةٍ من دون اتهامِنا بترويع الشهود. أقصد أنه من المستحيل إقناعُها بالتراجُع عن قصتِها أمام محكمة نورتون. كل ما بوُسعِنا أن نفعله هو التركيز على دفعها إلى الإدلاء بالحقيقة في المحكمة. على الأرجح بإمكان كيفين ماكديرموت فعلُ ذلك بقوة شخصيته والإلحاح بالأسئلة، لكني أشكُّ في ذلك، وعلى أي حال قد تُوقفه المحكمةُ قبل أن يصِل إلى مراده. ومن المحتمَل أن ينظروا إليه بارتيابٍ عندما يبدأ في مضايقة أحد الشهود.»

«أمِن المُحتمَل أن يفعلوا ذلك؟»

«ما أريد فعلَه هو أن أتمكنَ من تقديم هذه القصاصة المكتوب عليها إلى المحكمة بوصفها دليلًا. وأن أتمكَّن من تأكيد أن هذا الخطَّ هو خط جلاديس ريس. وبهذا الدليل على أنها هي من حصَلَت على الساعة المسروقة، بإمكاننا اقتراح أن روز ضغطَت عليها لتشهد بما هو غير حقيقي، ويُطمئنها ماكديرموت أنها إذا تعرَّضَت للابتزاز حتى تُقدِّم دليلَ زور فمن غير المحتمَل خضوعُها لعقوبة على ذلك، وحينها ستنهار وتعترف.»

«وبهذا تريد أنت نموذجًا من كتابة جلاديس ريس.»

«أجل. خطر هذا ببالي وأنا أفكر في الأمر الآن. لديَّ انطباع بأن عملها الحاليَّ هو أول عملٍ لها، وبهذا لا يمكن أن يكون قد مر وقتٌ طويل على مغادرتها المدرسة. ربما يمكن لمدرستها أن تُمدَّنا بنموذجٍ. أو تضَعنا، بحالٍ من الأحوال، على بداية الطريق. سيُصبح في صالحنا كثيرًا لو حصَلنا على عيِّنة من دون اللجوء إلى طرقٍ قد تُثير مشكلات. هل تظن أن بإمكانك فِعلَ شيء حيال ذلك؟»

قال رامسدن: «أجل، سأحصل لك على نموذج»؛ قالها كمن يقول: أعطِني مهمة معقولة، وستنفذ. «هل كانت الفتاة ريس ترتاد مدرسة هنا؟»

«لا، أظن أنها قدمَت من الجهة الأخرى للبلدة.»

«وهو كذلك، سأكتشف الأمر. وأين تعمل حاليًّا؟»

«في مكانٍ منعزل اسمه مزرعة برات، في الحقول على الجهة المقابلة من مزرعة ستابلس، ذلك المكان خلف منزل فرنتشايز.»

«وبالنسبة إلى تتبُّع مسار بيتي كين …»

«أليس هناك أيُّ شيء لا يزال بوُسعك فعله في لاربورو نفسها؟ أُدرِك أنه ليس بيدي أن أُعلِمك بشئون عملك، لكنها كانت بالفعل في لاربورو.»

«صحيح، ذلك المكان الذي اقتفَينا أثرَها فيه. في الأماكن العامة. لكن الشخص «س» ربما يعيش في لاربورو، رغم كلِّ ما نعرفه. ربما أنها تحديدًا ذهبَت لتختبئ هناك. في نهاية المطاف يا سيد بلير، فإن شهرًا — أو ما يُقارب الشهر — مدةٌ غريبة على اختفاءٍ مثلِ هذا. مثلُ هذا الاختفاء تتراوح مدتُه عادةً بين عطلة نهاية أسبوع وحتى عشرة أيام وليس أطولَ من ذلك. ربما أنها رافقَته إلى المنزل.»

«هل تعتقد أن ذلك ما حدث؟»

قال رامسدن ببطءٍ: «لا، إذا أردتَ رأيي بصراحةٍ يا سيد بلير، فإنه قد غاب عنَّا أن نبحث عنها في أحدِ المخارج.»

«المخارج؟»

«إنها غادرَت الريف، لكن بمظهر مُغاير تمامًا لدرجة أن تلك الصورة البريئة لا تُفصح عنها مطلقًا.»

«لِمَ بمظهر مغاير؟»

«حسنًا، لا أظن أنها مُنحت جوازَ سفر مزوَّرًا، بحيث من المفترض لها السفر بصفتها زوجته.»

«أجل، بالتأكيد. أظن أن ذلك بديهي.»

«ولم يكن بإمكانها أن تفعل ذلك وهي تبدو في صورتها الطبيعيَّة. لكن مع تصفيف شعرها لأعلى وبعضِ مساحيق التجميل، ستبدو مختلفةً تمامًا. ليس لديك فكرةٌ عن الاختلاف الذي يُحدِثه تصفيفُ الشعر لأعلى في امرأة. أولَ مرة رأيتُ فيها زوجتي بهذه الإطلالة لم أتعرَّف عليها. حيث جعَلَتها تبدو مختلفةً تمامًا، إذا أردتَ أن تعرف، لدرجة أني شعرتُ بخجلٍ كبير منها، وكان قد مضى على زواجنا عشرون عامًا.»

قال روبرت بحزن: «ذلك إذن ما تظن أنه حدث. أتوقع أنك مُحق.»

«لهذا السبب لا أريد أن أُهدر جنيهًا آخَر من مالك يا سيد بلير. إن البحث عن الفتاة التي تظهر في الصورة لن يفيدَ كثيرًا؛ لأن الفتاة التي نبحث عنها لم تبدُ مثلَ الصورة. لو كانت تبدو مثلها لتعرَّف الناس عليها من أول نظرة. في دُور السينما وخلافِها. تتبَّعنا أثرَها بسهولةٍ كافية في الوقت الذي أمضَته بمفردها في لاربورو. لكن منذ ذلك الحين فصاعدًا لا تُوجَد أي معلومة عنها بتاتًا. فصورتها لا تُفصح عنها لأي أحدٍ رآها بعد أن غادرت لاربورو.»

جلس روبرت يُشخبط على ورق نشَّاف فاخر جديد أحضرته الآنسة تاف. رسم شكلًا ذا خطوطٍ متعرِّجة؛ جميل وجذاب. «تعي ما يَعنيه هذا، أليس كذلك؟ أننا انتهينا.»

اعترض رامسدن، مُشيرًا إلى قصاصة الورق المكتوب عليها التي أُرفقت مع الساعة: «لكن لديك هذه.»

«هذه لن تُجْدي إلا في نقض دعوى الشرطة. لكنها لا تدحَضُ قصة بيتي كين. حتى تتمكنَ السيدتان شارب من التخلُّص من هذا الشيء يجب أن تُصبح أقوالُ الفتاة كاذبة. الفرصة الوحيدة أمامنا لنُحقِّق ذلك هي اكتشاف أين كانت خلال تلك الأسابيع.»

«أجل. فهمت.»

«أظن أنك تفقَّدتَ أصحاب الشركات الخاصة؟»

«المسافرون بالطائرات؟ أجل، بالطبع. انطبق الشيء نفسه على الطائرات. ليس لدَينا أيُّ صورة للرجل؛ لهذا ربما يكون واحدًا من بين المئات من أصحاب الشركات الخاصة الذين يوجَدون على متن الطائرة بصحبة رفيقاتٍ في ذلك الوقت المحدد.»

«أجل. انتهينا تمامًا. لا أتعجَّب كثيرًا من أن بِن كارلي كان مُبتهجًا.»

«أنت مُرهَق يا سيد بلير. كنتَ ولا تزال تمرُّ بوقتٍ مُزعج.»

قال روبرت بسخرية: «صحيح. قلَّما يتولى محامٍ ريفيٌّ عملًا كهذا يُثقل كاهلَيه.»

نظر رامسدن إليه بما يُفسَّر على وجه رامسدن بأنها ابتسامة. قال: «بالنسبة إلى محامٍ ريفي، فيبدو لي أنك لا تخطو خطواتٍ على نحوٍ سيئ يا سيد بلير. ليست سيئة بتاتًا.»

قال روبرت، مُبتسمًا بالفعل: «أشكرك.» أن يأتيَ ذلك على لسان أليك رامسدن فإن ذلك عمليًّا وسامُ جدارة منه.

«لن أسمح لهذا الأمر بأن يحطَّ من معنوياتك. ستحصل على وسيلةِ تأمين ضد أسوأ ما يحدث … أو ما سيحدث، عندما أحصل على ذلك الدليل المكتوب.»

طرح روبرت القلم الذي كان يُشخبط به. ثم قال بانفعالٍ مفاجئ: «لستُ مهتمًّا بالحصول على وسيلة تأمين.» ثم أردف قائلًا: «إنما أهتمُّ بإقامة العدل. لا طموح لديَّ في الحياة حاليًّا سوى في شيءٍ واحد. وهو إثبات بُطلان قصة بيتي كين في محاكمة علنية. وأن يكشف علنًا في حضورها عن الرواية الكاملة لما كانت تفعله خلال تلك الأسابيع وأن يدعمها شهودٌ لا غبار عليهم كما ينبغي. ما احتمالات أن نُحقق ذلك، في ظنك؟ وما — أخبِرني — ما الذي لم نحاول فيه بعدُ ومن المحتمل أن يساعدنا؟»

قال رامسدن، بنبرة جادة: «لا أعلم. ربما، الدعاء.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤